تفسير الاصحاح رقم 1
أية 1 : يَعْقُوبُ، عَبْدُ اللَّهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يُهْدِي السَّلاَمَ إِلَى الاِثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ.
عبد : تعنى خادم بلا حقوق، معتمدأً إعتماداً كلياً على سيده فى طاعة كاملة ولم يذكر الرسول نسبه حسب الجسد للرب يسوع بل يدعو نفسه عبداً له. مع أنه كان من حقه أن يقول "يعقوب أخو الرب" وهكذا فعلت العذراء حين قالت "هوذا أنا أمة الرب" بعد أن قال لها الملاك أنها أم الرب. والعبد كان بحسب الناموس يحصل على حريته بعد سبع سنين عبودية، ولكن إن أحب سيده الذى وجده يعطف عليه يقول لسيده سأستمر عبداً لك بحريتى أنا وزوجتى وأولادى العمر كله فلن أجد من يعطف على مثلك. وبهذا المفهوم يستعبد يعقوب نفسه للرب فليس أحن منه ولا من يعوله سواه. هذا لمن إكتشف شخص الرب فهو بحريته يستعبد نفسه له. ومن عرف الرب حقيقة سيعرف أن العبودية له تحرر أما العبودية لأى شخص آخر فهى تذل (المال والجنس...الخ)، فمن يستعبد لأى شئ آخر لا يستطيع أن يتحرر منه، أما من يُستعبد للرب فهو حر، وبحريته يستطيع أن يترك الرب وقتما يشاء. من إكتشف شخص الرب ومحبته يترك له حرية التصرف فى نفسه وزوجته وفى أولاده وفى كل ماله. كيف لا يحب لهذه الدرجة من رأى الآب يفتح أحضانه له كإبن، والإبن يعطيه نفسه على الصليب ويقبله كعروس والروح القدس يجعله هيكلاً يسكن فيه. فيعقوب احب الرب لدرجة أنه يستعبد نفسه له أى يترك للرب كل التصرف فى حياته وكل ماله. ولكن كم أقرباء بالجسد للمسيح وقد رفضوه وأهانوه (مر3: 21). لذلك فإن إفتخرنا فلا نفتخر بالجسد والقرابة الجسدية بل بعبوديتنا للمسيح (2كو5: 15،16)
عبدالله والرب يسوع = هنا يساوى يعقوب بين الله والرب يسوع
الرب يسوع = الرب فى السبعينية هو يهوة.
أية 2 :- اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ،
تجارب متنوعة = مرض / موت / خسائر مادية / فشل دنيوى / إضطهاد...
وكان المسيحيون حينئذ يعانون من إضطهاد اليهود الذى بدأ بإستشهاد إسطفانوس وهكذا قال السيد المسيح "طوبى للمطرودين من أجل البر".
كل فرح = أى النهاية القصوى للفرح أو عدم تقبل أى شئ غير الفرح فلا مكان سوى للفرح، أى لاشئ يفرحنى سوى ذلك. ولاحظ تطابق هذه الاية الإنجيلية مع طقس الكنيسة. فالكنيسة تصلى بالطقس الفرايحى إبتداء من أول توت، عيد الشهداء حتى عيد الصليب. فالإستشهاد والصليب كله فرح فى طقس الكنيسة.
تقعون = فى اليونانية لا تعنى السقوط أو االدخول فى تجارب وإنما تعنى حلول التجارب وإحاطتها بالإنسان من الخارج مثل رجل وقع بين لصوص. كأن التجارب تحاصر هذا الإنسان من كل ناحية (فى العمل والأسرة والجيران...). فالرسول لا يتكلم عن التجارب التى تنبع من داخل النفس (أى الخطايا) بل التى تحل بنا من الخارج. ومايدفعنا للفرح أنها شركة صليب مع المسيح، ومن يشترك فى الألم والصليب يشترك معه فى مجده (2كو 6: 9) + (رو8: 17) + (كو1 :24) + (2كو1: 5) + (فى 3: 12).
ياإخوتى = فهم عائلة واحدة، عائلة الله، وكلنا أعضاء فيها، نلنا البنوة والإتحاد بالمسيح فى المعمودية، ورأس العائلة هو المسيح المتألم، مما يجعلنا نقبل الألم فى تسليم بل بكل فرح، لإذ نشترك مع من أحبنا فى ألامه. وهناك فرق كبير بين التسليم والإستسلام. فالإستسلام هو كمن وقع فى يد أسد فهو يستسلم لأنه غير قادر على المقاومة، أما التسليم فهو أننى أضع حياتى فى يد من يحبنى ولا يصنع لى سوى الخير. هو إله حنون يخطط لخلاص نفسى وكل مايصنعه هو لهذا الهدف.
لماذا نفرح فى التجارب
1. عادة ما يأتى الشيطان ليهمس فى أداننا وقت التجارب بأن الله قاسى، لا يحبنا إذ سمح بهذه الألام لنا، ولكن الشيطان كذاب وأبو الكذاب يو8: 44 ولنعلم أن :-
2. الله إستمر فى خلقة العالم ألاف الملايين من السنين ليجد آدم جنة يحيا فيها.
3. الألم دخل للعالم بسبب خطية آدم وليس بسبب قسوة الله "أنا إختطفت لى قضية الموت... وطبعاً إختطفت لى قضية الألم".
4. إذاً الآلم ليس غضب من الله وكراهية وإلا فهل كان الله غاضباً على المسيح وعلى بولس وعلى الطفل أبانوب.
5. قيل عن المسيح أن الله يكمل رئيس خلاصهم بالألام (عب 2: 10) ومن هنا نفهم أن الألم صار وسيلة للكمال. ولكن الألم يكمل المسيح أى ليصير المسيح مثلى فى كل شئ مختبراً الألم، أما الألم لى أنا فيكملنى لأننى ناقص وخاطئ.
6. المسيح جاء ليتألم معى ويشترك معى فى الألم علامة محبة منه. والمسيح كإله قدير "حول العقوبة لى خلاصاً" فصار الألم طريق الكمال وبالتالى طريق السماء. ببساطة صار الألم لإصلاح العيوب التى فى فأكمل.
7. الله إستخدم الألم مع أيوب لينزع من داخله خطية كانت ستحرمه من السماء والله إستخدم الألم مع بولس ليحميه من الكبرياء، حتى لا يسقط فيه.
8. صار الألم (والتجارب) كمشرط الجراح الذى ينزع من داخلنا حب الخطايا والميول المنحرفة، فكل منا تسكن الخطية فيه، لذلك ترك المسيح الألم لنا بعد الفداء (رو 7).
9. الشيطان فى كذبه يستغل معاناتى من الألم ويشتكى الله بأنه قاس، ويخفى عن عينى محبته فى تكوين العالم لأجلى، ولا يذكرنى سوى بالألم.
10. هناك تعليم خاطئ، أن الله يجربنى ليعلم ما فى قلبى !! ولكن هذا خطأ. فالله فاحص القلوب والكلى ولا يحتاج لأن يجربنى حتى يعرف ما فى داخلى. بل هو يسمح بالتجارب لأكمل، فهو صانع خيرات "من تألم فى الجسد كف عن الخطية" (1بط 4: 1)، "وبضيقات كثيرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22). وهذا التعليم الخاطئ كم سبب من ألام لأناس ظنوا أن الله يجربهم ليعرف ما فى قلوبهم.
11. الله له أدوات يكمل بها الإنسان فهو يعطى عطايا مادية وبركات مادية وروحية تفرح الإنسان ويسمح فى نفس الوقت بألام فهى طريق الكمال. وكلاهما (العطايا والألام) هى طريق السماء. فكل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله (رو8 : 28).
12. المشكلة الأساسية هى أننا مولودين بالخطية "بالخطية ولدتنى أمى"، "والخطية ساكنة فى جسدى" (رو 7 : 17) وفى داخلنا عصيان وتمرد على الله. وأشهر إنحراف فى داخلنا هو محبة العالم والتلذذ به ونسيان الله وتركه. بل تحول العالم بدلاً من أن يكون أداة نحيا بها ليكون إله نسعى وراءه. لذلك فمحبة العالم عداوة لله (يع 4 : 4) صرنا نتعبد للعالم، ولا نعرف طريقاً للذة سوى العالم وشهواته، ولم نعد نعرف أن الله قادر أن يشبعنا ويعطينا لذات روحية تسمو على اللذات العالمية. بل نسينا الله فصارت محبة العالم عداوة لله.
ولذلك سمح الله بالألام أن تستمر... ولكن هل الألام تنقى ؟ حاشا بل التنقية هى بدم المسيح "دم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية" (1 يو 1 : 7)، "والمتسربلون بثياب بيض فى السماء غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم فى دم الخروف" (رؤ 7 : 14) إذا ما فائدة الضيقة :
1. بها نزهد فى محبة العالم.
2. نرتمى فى حضن المسيح فيطهرنا دمه من كل خطية.
أما من يجرى وراء العالم فكيف يطهره دم المسيح.
التجارب هى فطام عن العالم، هى كأم تضع مراً على إصبع طفلها حتى لا يضعه فى فمه.
والعجيب أن الله لا يتركنى وسط التجارب، بل يعطينى عزاء وصبراً لأتحمل، وهذا ما قالته عروس النشيد شماله (التجارب) تحت رأسى ويمينه (تعزياته) تعانقنى (نش 2 : 6). وهنا نجيب على السؤال لماذا نفرح فى التجارب :
1. علامة حب من الله فمن يحبه الرب يؤدبه (عب 12 : 6). وبهذا يجذبنا الله من محبة العالم.
2. طالما سمح الله بالتجارب فهو ينوى أن يخلصنى من طبيعتى الساقطة والإنحرافات التى فى داخلى. فالفرح هو لأننى سأكمل بها وهى طريقى للسماء.
3. طالما هى شركة ألم مع المسيح فهى شركة مجد. إذا هى طريقى للمجد.
4. بها تزداد تعزياتنا. ولكن لماذا لا نتعزى ؟
أ. من لا يتعزى هو من شك فى محبة الله وصدق خداع الشيطان أن التجربة علامة عداوة من الله. فقرر أن يتصادم مع الله، وإمتنع عن الصلاة، لأن الله قاسى ولا يريد أن يستمع لى ويخرجنى من التجربة. مثل هذا الإنسان تجده يشتكى الله دائماً أمام الناس، ويتصور أن الله يحب الناس كلها إلا هو. هو صدق خداع إبليس.
ب. إمتنع عن الصلاة وطلب تعزيات الله.
5. والحل
أ. أن يصدق هذا الإنسان أن الله يحبه وبالتجارب يكمله ويعده للسماء.
ب. أن يؤمن بالله، ليس بأن الله واحد، فهذه حتى الشياطين تؤمن بها بل بأن الله صانع خيرات.
ت. يقف ليصلى طالباً التعزيات، ويقول لله " أنا أثق أن ما تسمح به هو للخير ولكنى لست فاهم، ولكنك لا تخطىء فيما تسمح به يا رب.
6. التجارب لها هدف هام جداً. فبها نكتشف يد الله القدير. ربما بالخيرات المادية والروحية نكتشف الله الحنون، ولكن بالتجارب نكتشف يد الله القوية التى تستطيع أن تخرجنى من الضيقة.
تردد هذا السؤال عبر الكتاب المقدس لماذا الألم للأبرار ؟ قاله أيوب وأرمياء وأساف (مزمور 73). وهذا سؤال الفلاسفة عبر العصور. وهنا يعقوب يقول بل نفرح فى الألم لأنه تحول إلى وسيلة للخلاص. وإذا فهمنا هذا لن نقول "لماذا أتت التجارب" بل نقول "لماذا لا تأتى التجارب" والفاهم يقول "لماذا لست أنا المجرب" ولا يقول "لماذا أنا المجرب يا رب".
الألم دخل للبشرية بسبب خطيتى. والمسيح فى محبته جاء ليشترك معنا فى ألامنا، ويقول لنا الأن إحتملوا معى بعض الألام " أما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة " قال الأنبا بولا " من يهرب من الضيقة يهرب من الله ".
وقال أبونا بيشوى كامل " من ليس له صليب فليبحث له عن صليب، نفس بلا صليب كعروس بلا عريس ".
وبولس الرسول بالرغم من كل ألامه كان يقمع جسده ويستعبده، فهو يبحث عن صليب فوق صليب. فمن فهم مفهوم الصليب يجرى وراءه.
أية 3 : - عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً.
إمتحان إيمانكم = إمتحان لا تعنى أن الله لا يعرف إيماننا فيمتحننا لكى يعرف، بل الله يعرف فهو فاحص القلوب والكلى، لكن نحن لا نعرف ما هى طبيعة إيماننا والله بهذا الإمتحان يكشف لنا طبيعة ونوعية إيماننا. هكذا سأل المسيح فيليبس " من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء، وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (يو 6 : 5 – 7) فلقد كان إيمان فيليبس ضعيفاً، والسيد أراد أن يظهر له هذا الضعف ليصلح من إيمانه. فالله يمتحن إيماننا ليظهر ضعفات إيماننا ويظهر لنا إيماننا المشوه من جهة الله، وأخطائنا الإيمانية، ويكشف عن معرفتنا المشوهة من جهة المسيح فالتجارب لازمة لتظهر نوعية إيماننا. فهناك من يتصادم مع الله مع أول تجربة، وهناك من لا يثق فى غفران المسيح ويظل مثقل بالذنوب ومع كل تجربة يظن أن الله ينتقم منه فيزداد إبتعاداً عن الله. وماذا أفعل لو إكتشفت ضغف إيمانى أو أن معلوماتى عن الله مشوهة ؟ هناك حل واحد... المخدع على أن أتعلم أن أدخل مخدعى وأصلى وأدرس كتابى المقدس وأعطى للروح القدس فرصة ليحكى لى ويعرفنى بمن هو المسيح "هذا يأخذ مما لى ويخبركم" (يو 16 : 14). وإصلاح الإيمان فى منتهى الأهمية، فبدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب 11 : 6). وهذا سبب آخر للفرح بالتجربة، أنها ستكشف لى حالة إيمانى المريضة فأذهب لحجرتى لأسمع صوت الروح القدس الذى يصحح ويشفى إيمانى، ويعطينى ثقة ومحبة لشخص المسيح. إذا التجارب التى يسمح بها الله لابد أنها ستصلح شيئاً فى داخلى. لكن لابد من الصبر والقبول وعدم التذمر حتى تؤتى التجربة بثمارها. أما التذمر فيعطل عمل الله.
ينشىء صبراً = التجارب المتلاحقة مع رؤية يد الله القدير تجعل الإيمان يزداد. وهذا ما حدث مع داود، فلقد كانت له خبرات سابقة مع أسد ودب قتلهم وهذا أعطاه إيمان قوى وقف به أمام جلياط. لذلك فالتجارب المتلاحقة مع الشكر وعدم التذمر تزيد الإيمان. والإيمان يولد صغيراً وينمو، لذلك قال التلاميذ للسيد "زد إيماننا " (لو 17 : 5) وإيمان أهل تسالونيكى كان ينمو (2 تس 1 : 3) وبولس الرسول يقول أن الإيمان ينمو بالشكر وعدم التذمر (كو 2 : 7) ومع التجارب تزداد التعزيات التى يعطيها الله كمسكن للألام حتى نحتمل التجربة ومع زيادة الإيمان ومع التعزيات ينشأ الصبر. فالصبر ليس صبر الخضوع والإستسلام وليس هو شجاعة بشرية ولكن عطية إلهية نتيجة إيمان ينميه الله وتعزيات يعطيها الله (2 كو 1 : 5). ولذلك تعلمنا الكنيسة الشكر فى كل حين وعلى كل حال. ولكن الصبر حقاً هو عطية من الله ولكن الجهاد البشرى المطلوب هو الشكر مع عدم التذمر حتى نحصل على هذه العطية.
أية 4 : - وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.
ولماذا نصبر، ولماذا يعطينا الله صبراً وما فائدته ؟ أن نكون تامين وكاملين فكما رأينا أن فائدة التجارب أن نصبح كاملين. إذاً حتى نكمل علينا أن نصبر على التجربة حتى تأتى بثمارها وتكمل. فنحن مولودين بالخطية، لنا طبيعة متمردة عاصية، نحب العالم وهذا عداوة لله، والله يعالج كل هذا بأنه يسمح ببعض التجارب حتى نزهد فى محبة العالم ولا نتعلق به بل نشتاق للسمائيات ونبدأ نتذوق لذتها محتقرين لذة الأرضيات وبهذا نكمل. هذا هو العمل التام للصبر أن نكمل. لكن علينا أن لا نتذمر وسط التجربة بل نشكر عالمين أن كل ما يسمح به الله هو للخير ولبنياننا وحتى نتزين بالفضائل وحتى ننال إكليلاً أبدياً (1 بط 5 : 10). أما التذمر فهو يوقف ويعطل عمل الله ويوقف تعزيات الله التى بها نحتمل التجربة.
أية 5 : - وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ.
إن كان أحد تعوزه حكمة = الحكمة هى معرفة هدف الله من التجارب وأنها للفائدة وحتى نكمل، وأن الله يحبنا جداً، بل هو طاقة محبة متجهة لنا نحن البشر. أما الجهل فهو أن نشعر أن الله يكرهنى إذ سمح ببعض الألام. والحكمة إذاً أن نتقبل الألام بشكر وصبر وبدون تذمر. والله سيعطى لمن يطلب هذه الحكمة حتى يفهم دون أن يعيره بسبب ضعفه وجهله وخطاياه السابقة ومن يعطيه الله حكمة سيفهم إرادة الله من التجربة ويفرح بها ويعلم أنها للخير.
أية 6 : - وَلَكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ.
بإيمان = ما الذى يمنع الله من الإستجابة لصلواتنا ؟ عدم الإيمان. والإرتياب فى وعود الله. وهذه خطية أن لا نثق فى الله (مر 11 : 24) لأن هذا المرتاب يكون متردداً بين حالة الإيمان والثقة بالله وحالة عدم الإيمان بل الإعتماد على حكمته البشرية التى تقوده للتذمر على الله، وهذا تجده مرة يصلى ومرة يمتنع عن الصلاة نهائياً ظاناً أن الله لا يستجيب، تجده مرة يذهب للكنيسة ومرات لا يذهب فلماذا يذهب والله لا يستجيب. هذا يشبه موجاً من البحر تخبطه الريح.
التجارب هنا شبهها بالريح التى تدفع الموجة فتصطدم بالصخور وتتحول إلى رذاذ. والموج بطبيعته أنه يرتفع وينخفض وبهذا يشبه المرتاب الذى يعلو إيمانه يوماً وينخفض يوماً أخر. أما لو كان إيمانه ثابتاً فسيكون كالبحر الهادىء ولا يتحول إلى رذاذ. وماذا أفعل لو كان إيمانى ضعيفاً ؟ هنا نفعل كما فعل هذا الرجل ذو الإيمان الضعيف حين سأله السيد أتؤمن ؟ فقال أؤمن يا سيد فأعن عدم إيمانى. فهل تركه السيد ؟ لا بل شفى إبنه وبهذا حقق طلبه وشفى عدم إيمانه. فلنقف أمام الله وعوضاً عن التصادم مع الله بسبب التجربة، لنصلى "أعن عدم إيمانى".
أية 7 : - فَلاَ يَظُنَّ ذَلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ.
هذا المرتاب لن يحصل على شىء من الله، وحين يصلى تكون صلاته بلا نفع.
أية 8 : - رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.
رجل ذو رأيين = أى لم يسلم الأمر لله بالكامل. متقلقل = لم تثبته الحكمة الإلهية فهو يشك فى الله وفى محبته، هذا يكون بلا حكمة.
أية 9 : - وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ.
ربما يقصد بالأخ المتضع الفقير الذى سلبوا أمواله أثناء الإضطهاد، أو يقصد به أى مجرب مضطهد من أعداء أقوياء. على هذا المسكين أن لا يخجل من مسكنته، بل يفتخر بإرتفاعه = فهو فى ألمه صار شريك ألام مع المسيح وبالتالى شريك أمجاد مع المسيح، وارث للمجد، وهذا هو الإرتفاع الحقيقى.
أية 10 :- َأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ.
وأما الغنى = وهنا لم يقل الأخ حتى لا يظنوا أنه يداهن الأغنياء بسبب غناهم. والمسيحى عليه أن لا يفتخر بغناه أو مركزه فى المجتمع، فكل ما فى العالم إما سيزول أو سنتركه ونموت. على الغنى أن يشعر أن كل مالديه هو لاشئ. بل هو إذا أتى لصليب المسيح ودمه الغافر سيشعر أن كل شئ لديه هو تفاهة بجانب ذلك الدم الثمين، وحينئذ لن يفتخر بما لديه بل بدم المسيح الذى سفك لأجله وكان سبباً فى الأمجاد الحقيقية المعده له فى السماء. إذاً على الغنى أن يتضع ويشبه سيده الذى أخلى ذاته لأجله (2كو10: 17). ونفس المفهوم قاله أرميا (9: 23). وإذا اتضع وأدرك أن العالم باطل وأنه لا شىء، فعليه أن يفتخر إذ أنه أدرك الحقيقة. فالعالم كزهر العشب يزول = إشارة لعدم يقينيه الغنى ولذبول الأغنياء وسط مسراتهم (مثال لذلك بيلشاصر).
أيه 11 :- لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هَكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ.
يشبه الغنى بزهر الشعب الذى ييبس ويسقط ويفنى جمال منظره هكذا فالغِنى أيضاً إلى زوال. ولاحظ أن هذا المنظر معتاد لأهل فلسطين، حيث تغطى أزهار شقائق النعمان منحدرات التلال فى الصباح، ولكن ما أن تظهر الشمس وتهب الرياح الحارة حتى تجف هذه الأزهار وتجمع للوقود، وهكذا أمجاد وأموال هذا العالم. والشمس تشير للتجارب، فالشمس التى تعطى حياة للزروع هى نفسها التى تجفف وتفنى جمال زهر العشب. وبنفس المفهوم فالتجارب تزيد المؤمنين بريقاً، وتهلك المتكلين على غناهم فيذبلون فى طرقهم.
أية 12 :- طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ "إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ" الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ.
طوبى للرجل الذى يحتمل التجربة = لأن من يحتمل يتدرب على حياة التسليم ويكتسب الصبر وينمو روحياً ويكمل، ويتفابل مع المسيح المتألم ويزداد معرفة بشخص المسيح فيحبه ويختبر التعزيات السماوية وينتظر بشوق ورجاء إكليل أبديته والمجد المعد له = إكليل الحياة = إستعارة من البطولات الرياضية، وهذا الأكليل هو لمن يغلب (2كو12: 1). لأنه إذا تزكى = تزكى أى تنقى من محبة العالم التى هى عداوة لله فكانت التجارب له هى كالنار التى تصفى الذهب من الشوائب، صارت نافعه له (1بط1: 7). هذا إذا إحتملها بصبر ودون تذمر.
أية 13 :- لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً.
يعقوب يكلم أناساً واقعين تحت تجارب عنيفة من اليهود. ويقول لهم أن التجارب هى علامة حب من الله وأنها تكمل، وتزع الفساد الداخلى وبها نستعد للسماء ولهذا نفرح بها. والله يعطى صبر وتعزيات تكون كمسكن (بنج) حتى تتم عملية نزع الفساد بنجاح. ثم يتطرق يعقوب لنوع آخر من التجارب ناشئ عن شهوات داخلية وخطايا. ويقول أنه على الإنسان الذى يجرب من تجارب خاطئة كهذه ألا ينسب هذه التجارب لله، كما لو أن الله هو الذى يدفع الإنسان لإرتكاب الشرور أو الخطيئة. وهذا الإتهام يهين الله. هنا يعقوب يرد على هرطقة إنتشرت أيامه تقول أن الله هو سبب التجارب الشريرة، فهو يجرب الناس بالشرور.
إذاً التجارب نوعان :-
1. ما يسمح به الله لنمونا وتزكيتنا ولوقايتنا من الشرور لنكمل.
2. ما هو من الشيطان أو من الخطية الساكنة فينا.
وعلينا إحتمال الأولى بصبر ومقاومة الثانية، ومن يغلب فى الإثنين يكلل.
الله غير مجرب بالشرور = أى أن الله قدوس وسماوى، مرتفع تماماً عن صنف الشرور، منزه عن كل شر، وكله خير. ولن ندرك كمالاته طالما كنا فى الجسد. وهولا يشعر بأى جذب للشر بل يكرهه تماماً. لذلك هو لا يجرب أحداً بالشرور بالخطايا. فهو لا يتلذذ بالخطايا ولا بسقوط أحد فيها. المعنى أن الله لا يتعامل فى هذا الصنف. لكن مصدرالخطايا هو أنا وشهواتى وإبليس وليس الله. الله خلقنا فى أحسن صورة ولم يخلق فينا عواطف أو دوافع شريرة،ونحن فى آدم انحرفنا والأن ننحرف بإرادتنا. ولكن من يريد أن يسلم عواطفه ومشاعره لله يقدسها له. أما إبليس فهو شرير ومجرب بالشرور بقصد إهلاكنا.
الأيات 14، 15 :- وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ.، ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً.
إذا حدث أن إنساناً ما قد لحقت به تجارب شريرة، فعليه أن يدرك أن هذا يرجع إليه لا إلى الله، وأن مصدر هذه التجارب هو شهوته التى إنجذب بها وإنخدع ومال إليها. علينا إذن أن لانبحث عن سبب التجارب الشريرة خارج دائرتنا، بل نبحث فى قلوبنا. فأى شر لن يضرنا ما لم يجد ترحيباً فى الداخل.
إنخدع=الكلمة الأصلية تعنى أكل الطعم.
إنجذب = الأصل أننا فى حضن الله ثابتين فى المسيح، ومن يقبل الخطية ينجذب من الأحضان الإلهية، فلا شركة للنور مع الظلمة، هو ينجذب من ملجأه الحصين إذ خبا له الشيطان السم فى العسل فتصور أن الشر لذيذ. ولنلاحظ أننا تحت قوتى جذب. فالنعمة (قوة عمل الروح القدس فى) تجذب من ناحية، والشر يحاول أن يجذب ويخدع مستغلاً ضعف طبيعتنا. وعدو الخير يقوم بإثارتنا بمثيرات داخلية وخارجية من ملذات حسية وملذات العالم وكراماته وأحزانه، ولكن هذه كلها مهما إشتدت ليس لها قوة الإلزام، بل هى خادعة لكيما يخرج الإنسان من حصانة الله. ولكن لا ننسى أن قوة جذب النعمة أقوى من قوة جذب الخطية (يع4: 6). والمسيح ينادى على خرافه ويستميلهم إليه (يو 10: 27). والقرار قرارى أنا وحدى، أن أبقى فى حضن الله وفى خطيرته أو أخرج فأصبح خروفاً ضالاً منجذباً من شهوته. وإستخدم يعقوب هنا صورة رائعة ليشرح ما يحدث. فهو قد صور الشهوة على أنها إمرأة ساقطة تحاول أن تغوينى لأقع فى حبائلها. ولو قبلت عرضها أى قبلت الفكر وبدأت أخطط لكيفية تنفيذه فكأننى إتحدت به وصرنا واحداً، أى صرت واحداً مع المرأة وإتحدت معها وبهذا صارت المرأة حبلى. وإذا خرجت الخطية لحيز التنفيذ فكأن المرأة ولدت، وماذا ولدت ؟ موتاً.
روعة هذا التصوير أن الشهوة منفصلة عن الإنسان، والإنسان حر فى أن يقبل غوايتها أو يرفضها. أنا شىء وشهوتى شىء آخر وبإرادتنا نتحد أو نظل منفصلين. وهناك قوة جبارة تحفظنى هى النعمة. إذاً داخلى ميول خاطئة لكن أنا غير متحد بها إلا لو إنخدعت وإنجذبت وبدأت أخطط لها.
إذاً هناك مراحل ثلاث للخطية :-
1. مرحلة الفكر، مجرد فكرة خطرت ببالى، فكرة ألقاها الشيطان. وهذه ليست خطية إذا رفضتها وصرخت لله أن ينجينى من هذا الفكر. هنا المرأة أى الشهوة تحاول خداعى، ومن يرفض لا تصير عليه خطية. هذا ما قاله الأباء أن الإنسان غير مسئول عن الطيور التى تطير أمام عينيه، لكنه مسئول عنها لو عششت فى رأسه. أى عملت لها عشاً فى رأسه، أى انجذب الإنسان للفكر وأعجب به وبدأ يتلذذ به ويخطط لتنفيذه. ومن يصارع الخطية فى طورها الأول يتخلص منها بسهولة (علامة الصليب يرشمها مع الصراخ بصرخة خفية داخلية وبإسم يسوع وبشفاعة القديسين) أما لو تركها الإنسان للطور الثانى أو الثالث فيكون هذا بإرادته، ويكون هنا من الصعب التخلص منها. فى هذا الطور يحاول عدو الخير أن يثير حواس الإنسان وفكره وذاكرته لمحاولة جذبه لإسقاطه.
2. الشهوة إذا حبلت تلد خطية = هذا هو الطور الثانى. هنا حدث نوع من الإتحاد مع المرأة (بين الإنسان وشهوته). رأينا المسيح ينادى على خروفه حتى لا يخرج. لكن المسيح يحترم حرية الإنسان، فإن لم يشأ الإنسان أن يسمع وخرج، يبدأ الطور الثانى أو المرحلة الثانية، وفيها يسلم الإنسان إرادته للشهوة. هنا يشبه الرسول الشهوة بإمرأة زانية تجذب الإنسان إليها وتخدعه، وإذ يقبلها ويتجاوب معها يتحد بها، فتحبل ويتكون جنين فى بطنها الذى هو الخطية. هنا الخطية لم تحدث حتى الآن. ولكن بدأ الإنسان يتلذذ بأفكاره الخاطئة وترك لها العنان وإتخذ قراراً بتنفيذها، ويخطط لتنفيذها.
3. والخطية إذا كملت تنتج موتاً = هنا خرجت الخطية لحيز التنفيذ أى تم تنفيذ الخطية وهذه هى المرحلة الثالثة أو الطور الثالث. هنا إكتمل نمو الجنين وولدت إبناً هو الموت، فالخطية تحمل فى طياتها جرثومة الموت. وأجرة الخطية موت.
الأيات 16، 17 : - لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ.، كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ.
لا تضلوا = أى لا تصدقوا الهرطقة المنتشرة بأن الله مجرب بالشرور. بل علينا أن ننسب لله كل خير يأتى علينا، فهو صانع خيرات. فهو أبى الأنوار = الأنوار هى كلمة فلكية تشير للكواكب المنيرة. فالله لا يخلق سوى النور، أما الظلمة فالله لم يخلقها بل هى إنعدام النور. والنور هنا إشارة لصلاح الله وخيريته، وأنه المصدر الوحيد لكل نور طبيعى أو أخلاقى. إذا الله ليس مصدراً للشرور ولا يعرف كيف يصنع شراً فى قلب أحد.
وإذا كان الله هو مصدر كل نور وكل صلاح وكل خير، فعلينا أن لا ننسب لأنفسنا أى خير أو صلاح نحن فيه، فكل عطية صالحة مصدرها الله. وهذا ما قاله بولس الرسول " إذا كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ " (1 كو 4 : 7).
وليس عنده تغيير أو ظل دروان = وهذا أيضاً تعبير فلكى. ففى الفلك هناك تغيير ناشىء عن دوران الكواكب، فيحدث ليل ونهار، شتاء وصيف أما الله فلا يتغير أبداً ولا يبدل مشيئته ومخططاته التى هى نور وصلاح دائم. أما الدوران والتردد فهو فينا نحن. الله لا يتغير بمعنى أن إرادته نحونا دائماً مقدسة. لا نرى منه سوى إرادة مقدسة وخير وحب وصلاح وطهارة. إذا لا يعقل أن نرى منه تجارب شريرة. وخلال أشعة محبته المعلنة فى عطاياه الروحية والزمنية يجذب أنظارنا وينير عقولنا فنراه ونحبه.
أية 18 : - شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ.
شاء = إرادة الله أن الجميع يخلصون (1 تى 2: 4). والله صنع هذا الخلاص أولاً بأنه خلقنا ولما سقطنا فدانا وصرنا نولد ولادة ثانية = شاء فولدنا بكلمة الحق إن أشرف عطية حازها الإنسان أننا بالرب يسوع كلمة الحق الذى مات عنا بالجسد وقام ووهبنا بروحه القدوس أن نولد لله ولادة جديدة روحية بالمعمودية. فهل بعد كل هذا الحب والإرادة الخيرة نحونا يقول إنسان أن الله مجرب بالشرور. وبهذه الولادة التى بها نتحد بالرب يسوع (رو 6 : 5) نصير باكورة من خلائقة والباكورة مقدسة لله أى مكرسة له ومخصصة له. إذا فنحن نصيب الله المكرس له. كما كانت الباكورات تقدس للهيكل، هكذا نحن صرنا قدساً للرب. وهذا تم بالمعمودية والميرون. وهذا يعنى أنه طالما صار الجسد مقدساً فليس من حقى أن أخطىء به.
والمسيح هو باكورتنا، ونحن المسيحيين باكورة العالم كله. كان المسيح باكورة إذ قدم قرباناَ وذبيحة، فهل نقبل أن نكون ذبائح حية وقدوة للعالم.
إنتقل الرسول من الحديث عن التجارب الخارجية كمصدر فرح وتطويب للصابرين إلى الجهاد ضد التجارب الداخلية أى التحفظ من الخطية، ثم عناية الله بنا وتقديم كل إمكانية لنا معلناً حبه فيما وهبنا إياه أن نكون أولاداً له... لكن ما موقفنا الآن نحن كأولاد الله... هذا ما يحدثنا عنه الرسول بصورة عملية فيما يأتى. والرسول يستعرض هنا بعض صور التجارب المختلفة :-
1. التسرع فى الكلام.
2. الغضب.
3. النجاسة.
4. خداع النفس.
5. نسيان الكلمة.
6. إنفلات اللسان.
ثم يستعرض العلاج :-
1. الشبع بالإنجيل ليصير مغروساً فى القلب.
2. العمل بالإنجيل وتنفيذ وصاياه الحية.
3. إفتقاد اليتامى والأرامل والتحفظ من الدنس الموجود فى العالم.
أية 19 : - إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي الاِسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي الْغَضَبِ،
هنا نرى وصايا خاصة بالتعامل مع الناس.
مسرعاً فى الإستماع. مبطئاً فى التكلم = هنا يعالج الرسول عيب خطير فى حوارنا مع بعضنا البعض. فنحن لا نعطى فرصة لمن يريد أن يتكلم حتى يعبر عن نفسه، بل نقاطعه لنعلن رأينا نحن، كأن الجميع لا يفهمون شيئاً وأنا وحدى الذى أفهم فهناك من يريد أن يثبت ذاته فى أى حديث ويتكلم كمن لا يوجد غيره.
وهنا نسمع الطريقة الصحيحة للحوار. أن نعطى للمتكلم فرصة كافية ولا نقاطع المتكلم، عموماً من يسمع للناس بهدوء لن يخطئ فى الرد عليهم.
ويقصد ايضاً الرسول أن نستمع لشكوى الناس من ألامهم. فهناك من يتألم ولا يجد من يستمع إليه، فلنستمع لمن يتكلم بوداعة، ونفتح قلوبنا للناس. عموماُ فالذى تعلم من المسيح تجده لا يتكلم كثيراً بل يعمل كثيراً. ولنبطئ الحديث عن حقائق الإيمان خصوصاً وسط من يعلمون. فمن يتكلم كثيراً يخطئ، ومن يتسرع فى الكلام يخطئ (أم 29: 20). وقال القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك " كثيراً ما تكلمت وندمت وأما عن الصمت فلم أندم قط ". حسن للإنسان أن يشهد للحق لكن كثرة الكلام والتسرع فيه يكشفان عن نفس خائرة ضعيفة تخفى ضعفها وراء المظهر. لكن الكتاب يعلمنا أنه " للسكوت وقت وللتكلم وقت (جا3: 7). ومارإسحق يحدثنا عن الصمت بأنه ليس هو عدم الكلام بل إنشغال القلب فى حديث سرى مع الرب يسوع لذلك هناك :-
1. صمت مقدس فيه يصمت الفم ليتكلم القلب مع الله. هذا معنى "صلوا بلا إنقطاع".
2. صمت باطل فيه من يصمت الفم دون أن ينشغل القلب بالله.
3. صمت شرير فيه يصمت الفم وينشغل الداخل بالشر.
والأهم من كل هذا أن نكون مستعدين لسماع كلمات الرب يسوع فى إنجيله. فهل يمكن أن نهرب من إنشغالات العالم، ونخصص كل يوم وقتاً لنسمع فيه كلمة الله ونجلس عند قدميه كما فعلت مريم. ونسمع عظات تتكلم عن المسيح.
مبطئأً فى الغضب = الله طويل الأناة بطئ الغضب، وعلى أولاده أن يتشبهوا به. فهل يستطيع إنسان غضوب أن يبشر ويكون سبباً فى إنتشار إسم المسيح.
أية 20 :- لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ.
الإنسان الغضوب يعطل عمل الله الذى كله بر، سواء مع نفسه أو مع الآخرين وهذا معنى لايصنع بر الله. فهو لا يقدر فى لحظات غضبه أن يقف للصلاة ولا أن يسبح الله كما قال القديس أغسطينوس. بل يسبب أحقاد الآخرين ضد المسيحية. راجع (أم 22 :24+ 29: 22 + 15: 18). عموماً فألتأنى أحسن علاج للغضب.
أية 21 :- لِذَلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ.
إطرحوا = بمعنى إخلعوا الثياب الوسخة أى أرفضوا التفكير فى الشرور والجلوس فى أماكن الشر. تخلصوا من كل شر حتى لو ظهر أمام العالم أنه مساير لروح العصر.
فإقبلوا = حرف الفاء يشير أنه حين نترك الشر سنتقبل الكلمة المغروسة.
فالقلب المملوء شراً ليس فيه مكان لأفكار الخير وحين نترك الشر نقبل كلمة الله.
الكلمة = هى كلمة الله فى الكتب المقدسة. وهذه الآية تتفق مع مثل الزارع. فالبذرة هى كلمة الله. والظروف المواتية لنموها هى القلب النقى الأمين الخالى من كل شر ونجاسة (أحجار وشوك) وأحقاد. وقبولنا لكلمة الله سيكون له ثمار كثيرة.
ومن ضمن النجاسات والشرور التى يجب أن نطرحها عنا الغضب حتى نستطيع أن نقبل كلمة الله. فى وداعة. فالثائر الغضوب لا يمكن أن يقبل كلمة الله.
والرسول يكلم أناساً مؤمنين ومع هذا يقول لهم قادرة أن تخلص نفوسكم = ولم يقل خلصت نفوسكم. لأن الخلاص أمر مستمر يعيش فيه المؤمن كل أيام غربته وليس أمراً حدث وإنتهى. لاحظ أن الرسول ينصحنا بأن نخضع لكلمة الله بروح الوداعة وليس بروح العجرفة.
أية 22 :- وَلَكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ.
تفسير هذه الأية فى (رو2: 13) " لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون " وفى تشبيه السيد المسيح لمن يسمع ولا يعمل تجده فى (مت 7: 26، 27). وفى الأيات التالية نجد تشبيه الرسول نفسه لمن يسمع ولا يعمل.
الأيات 23، 24 :- لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعاً لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِراً وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ،، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ.
من يسمع الكلمة ولا يعمل بها يشبهه الرسول هنا بمن يرى وجه خلقته فى مرآة و يرى العيوب التى فى وجهة (قذارة مثلاً)، وبالرغم ممارآه فهو يمضى دون أن يصلح شيئاً من عيوبه. بل يظل طوال النهار يفكر فى وسامته وينسى العيوب التى كانت فيه. والكتاب المقدس هو كمرآة تكشف خفايا الروح وتظهر لنا خطايانا حتى نندم عليها ونقدم عنها توبة، المهم هو محاولة ترك الخطية وليس سماع الكلمة فقط وهكذا نستمع لعظات نكتشف فيها عيوبنا وسرعان ما نغادر المكان وننسى ما سمعناه من تعليم أو وعظ. ومعنى ذلك أن الإكتفاء بالاستماع لكلمة الله دون العمل بها لا يعمق الكلمة فى داخلنا. ومن مثل السيد المسيح (مت 7 : 26، 27) نفهم أنه حين نعمل أى نحاول تنفيذ ما سمعناه يكون هذا هو الأساس الصخرى الذى يحفظ البيت من السقوط. أو هو الذى يثبت كلمة الله فى داخلنا. وبدون العمل تنسى كلمة الله ويضيع تأثيرها تماماً كمن يبنى بيته على الرمال فلا يجد ما يرتكز عليه.
إن تنفيذ الوصية والعمل بها يجعلنا نختبر المسيح ونعرفه حقيقة، ومن يعرفه سيرفض أفكار الشيطان عنه بأن المسيح قاس إذا هبت رياح التجارب.
أية 25 :- وَلَكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ - نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ - وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعاً نَاسِياً بَلْ عَامِلاً بِالْكَلِمَةِ، فَهَذَا يَكُونُ مَغْبُوطاً فِي عَمَلِهِ.
من إطلع = نظر بتفرس وتأمل وبحث وإجتهاد، ليس كمن ينظر فى مرآة بطريقة سطحية ويمضى وللوقت ينسى ماهو. بل ينظر ويدقق ليرى عيوبه ويستمع للوصايا وينفذها ليصلح من عيوبه.
الناموس الكامل = بالمقارنة مع ناموس موسى الذى كان ناقصاً ولم يصل بأى أحد للكمال، مثلاً كل ما وصل إليه "لا تزن". لذلك جاء المسيح "لا لينقض الناموس بل ليكمل" ويقول من نظر لإمرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه.
ناموس الحرية = بالمقارنة مع ناموس موسى الذى كان مؤد بنا إلى المسيح (غل 3: 24) هو إذن كان للتأديب أى يفرض على ما لا أريد أن أعمله. هو أوامر على من يسمعها أن ينفذها وإلا يعاقب فهو ناموس عبودية. اما ناموس المسيح فهو وصايا مكتوبة بالروح القدس على القلوب، ومن كتبت على قلبه ينفذها عن حب سكبه الروح القدس فى قلبه (رو5: 5) + (يو14: 23) + (أر31: 33) أما ناموس موسى فكان مكتوباً على ألواح حجرية خارج القلب. اما الروح القدس فحول القلب الحجرى إلى قلب لحم (حز 11 : 19). والمحبة التى يسكبها الروح القدس تحول القلب الحجرى إلى قلب لحم فيطيع الوصية لا عن خوف بل عن حرية، حباً فى المسيح، لذلك هو ناموس كامل يخاطب من ولد من الله بطبيعة جديدة تشتمل على رغبات وأشواق بحسب كلمة الله. هذه الولادة ترقى طبيعة الإنسان وتنميها وتكملها. بل أن الإنسان الداخلى فينا والذى هو على صورة المسيح بحريته يختار طريق المسيح فالمسيح داخلنا. وبهذه الطبيعة نعمل الأعمال الصالحة ومشيئة الله ونتشبه به فى صفاته لأننا صرنا أبناءه. لقد حررنا المسيح بقوة الدم من سلطان الخطية ووهبنا حرية الأبناء. بهذا تصير كلمة الله بالنسبة لنا عملية فلا يكون الواحد منا بعد ذلك
سامعاً ناسياً بل كلمة الله ثابته فيه. فى أعماق نفسه الداخلية. هذا العمل يهب لنا عذوبة رغم صعوبة الوصية، إذ نحمل نيرها لا بتذمر كعبيد أذلاء، ولا من أجل المنفعة كأجراء، بل نفرح بها كأبناء يتقبلون وصية أبيهم. ومن هو هكذا أى يفعل هذا العمل يكون مغبوطاً فى عمله هذا.
أية 26 :- إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هَذَا بَاطِلَةٌ.
ظهرت هرطقة فى أيام يعقوب، غالباً كانت بسبب فهم خاطئ لرسالة رومية كما قال بطرس الرسول (2بط3: 15، 16). وهذه الهرطقة قالت أنه طالما نحن قد أمنا بالمسيح فلنفعل ما يحلو لنا، وسنناقش هذا فى الإصحاح التالى. ولكن فى هذه الأية والأية التالية يعلمنا الرسول يعقوب أن الإيمان وحده لا يكفى بل يظهر أهمية أعمالنا وأن أعمالنا تظهر نوعية إيماننا. وهنا يقدم يعقوب صورة للتدين الحقيقى والتدين الظاهرى الكاذب. والله الذى يكشف أعماق القلب يعرف الحقيقة. فالبعض ظنوا أنه لا حاحجة لضبط لسانهم بدعوى أن القلب طيب وأن العبادة بالروح وليس باللسان. والرسول يقول لا فبداية كل شئ هو اللسان وقارن مع إصحاح (3) فاللسان هو الدفة التى تقود السفينة أى الحياة كلها ولكن السيد المسيح يقول من فضلة القلب يتكلم اللسان (مت12: 34). ولنفهم هذا فلنتصور أن القلب هو خزان يمتلئ بكل ما يوضع فيه عن طريق فتحاته. وفتحات هذا الخزان (العيون /الأذان / اللسان / الأفكار) وتصور معى أنسان كل كلامه بطال (نجاسه مثلاً) فالقلب سيمتلئ نجاسة، ومن فضلة القلب يتكلم اللسان، وحينما يتكلم بكلام نجاسة يزداد القلب إمتلاء بالنجاسة. لذلك نسمع هنا أن من يعمل هذا يخدع قلبه. فمن يتكلم كلام بطال ملأ قلبه كلام بطال. إذن من لا يضبط لسانه يخدع قلبه فبينما يظن أنه دين إلا أن ديانته باطلة، وقد لوث حياته كلها وقاد السفينة للخطر، لذلك فنحن سوف نعطى حساباً عن كل كلمة بطالة نقولها (بطالة أى فارغة بلا معنى). فالكلام البطال يملأ القلب بكلام بطال فتصير حياتنا باطلة. وكلام التذمر يملأ الحياة مراراً وتصير الحياة كلها فى تصادم مع الله. إذن الكلام البطال خداع للقلب.
والقلب المقصود به ينبوع الأفكار والعين الداخلية المدركة للأمور وموضع الفرح والحزن الداخلى وكل المشاعر والعواطف، وأهداف الإنسان وإتجاهاته وتصميماته (مز 33 : 11) + (إش 6 : 10) + (نش 3 : 11) + (حز 11 : 21). إذن من الواجب أن ألجم لسانى ولا أنطق بأى كلمة لا معنى لها وليس لها هدف مهم بناء. والعكس فمن يعلم نفسه لغة التسبيح والشكر تصبح حياته كلها سلام وفرح.
سأل أخ شيخاً "يا أبى إنى أشتهى أن أحفظ قلبى" فقال له الشيخ "كيف يمكنك أن تحفظ قلبك وفمك الذى هو باب القلب مفتوح سايب".
أية 27 : - اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ.
الديانة الطاهرة هى... إفتقاد اليتامى = ولم يقل إنها الإيمان أى الإيمان النظرى، أو بعض الممارسات الطقسية دون أعمال. وهذا ليس إستهتاراً بالإيمان لكن كشف للجانب العملى للإيمان وتأكيداً للأعمال المرتبطة بالإيمان. والله أقام نفسه أباً للأيتام وقاضى للأرامل (مز 68 : 5) فمن كانت ديانته طاهرة يلزمه أن يمتثل بأبيه.
إفتقاد = زيارة ومعونة وتعزية.
حفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم = دنس العالم أى عاداته الخاطئة.
ولكى يحدث هذا فلابد من عمل نعمة الله فينا. ولكى تعمل فينا نعمة الله علينا أن نرحم الآخرين (إفتقاد اليتامى) ليرحمنا الله. لذلك هو بدأ بإفتقاد اليتامى والأرامل ثم تحدث عن حفظ الإنسان نفسه بلا دنس. إذن فلنرحم المحتاج حتى لو كان هذا ضد رغبتنا. لنرحم فيما هو قليل فيرحمنا الله فى الكثير. وإذ يحفظ الإنسان نفسه بلا دنس لا يعطى لإبليس أى حق ملكية فيه وبهذا تبقى النفس مقدسة للرب وحده.
ونلاحظ أننا لن نستطيع أن نعمل هذا ولا ذاك سوى بإيمان حى. فالمؤمن الحيقى سيرحم أخوه ولا يبخل عليه. وهو حركة الرحمة ستأتى من الإيمان الداخلى.
أية 1 : يَعْقُوبُ، عَبْدُ اللَّهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يُهْدِي السَّلاَمَ إِلَى الاِثْنَيْ عَشَرَ سِبْطاً الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ.
عبد : تعنى خادم بلا حقوق، معتمدأً إعتماداً كلياً على سيده فى طاعة كاملة ولم يذكر الرسول نسبه حسب الجسد للرب يسوع بل يدعو نفسه عبداً له. مع أنه كان من حقه أن يقول "يعقوب أخو الرب" وهكذا فعلت العذراء حين قالت "هوذا أنا أمة الرب" بعد أن قال لها الملاك أنها أم الرب. والعبد كان بحسب الناموس يحصل على حريته بعد سبع سنين عبودية، ولكن إن أحب سيده الذى وجده يعطف عليه يقول لسيده سأستمر عبداً لك بحريتى أنا وزوجتى وأولادى العمر كله فلن أجد من يعطف على مثلك. وبهذا المفهوم يستعبد يعقوب نفسه للرب فليس أحن منه ولا من يعوله سواه. هذا لمن إكتشف شخص الرب فهو بحريته يستعبد نفسه له. ومن عرف الرب حقيقة سيعرف أن العبودية له تحرر أما العبودية لأى شخص آخر فهى تذل (المال والجنس...الخ)، فمن يستعبد لأى شئ آخر لا يستطيع أن يتحرر منه، أما من يُستعبد للرب فهو حر، وبحريته يستطيع أن يترك الرب وقتما يشاء. من إكتشف شخص الرب ومحبته يترك له حرية التصرف فى نفسه وزوجته وفى أولاده وفى كل ماله. كيف لا يحب لهذه الدرجة من رأى الآب يفتح أحضانه له كإبن، والإبن يعطيه نفسه على الصليب ويقبله كعروس والروح القدس يجعله هيكلاً يسكن فيه. فيعقوب احب الرب لدرجة أنه يستعبد نفسه له أى يترك للرب كل التصرف فى حياته وكل ماله. ولكن كم أقرباء بالجسد للمسيح وقد رفضوه وأهانوه (مر3: 21). لذلك فإن إفتخرنا فلا نفتخر بالجسد والقرابة الجسدية بل بعبوديتنا للمسيح (2كو5: 15،16)
عبدالله والرب يسوع = هنا يساوى يعقوب بين الله والرب يسوع
الرب يسوع = الرب فى السبعينية هو يهوة.
أية 2 :- اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ،
تجارب متنوعة = مرض / موت / خسائر مادية / فشل دنيوى / إضطهاد...
وكان المسيحيون حينئذ يعانون من إضطهاد اليهود الذى بدأ بإستشهاد إسطفانوس وهكذا قال السيد المسيح "طوبى للمطرودين من أجل البر".
كل فرح = أى النهاية القصوى للفرح أو عدم تقبل أى شئ غير الفرح فلا مكان سوى للفرح، أى لاشئ يفرحنى سوى ذلك. ولاحظ تطابق هذه الاية الإنجيلية مع طقس الكنيسة. فالكنيسة تصلى بالطقس الفرايحى إبتداء من أول توت، عيد الشهداء حتى عيد الصليب. فالإستشهاد والصليب كله فرح فى طقس الكنيسة.
تقعون = فى اليونانية لا تعنى السقوط أو االدخول فى تجارب وإنما تعنى حلول التجارب وإحاطتها بالإنسان من الخارج مثل رجل وقع بين لصوص. كأن التجارب تحاصر هذا الإنسان من كل ناحية (فى العمل والأسرة والجيران...). فالرسول لا يتكلم عن التجارب التى تنبع من داخل النفس (أى الخطايا) بل التى تحل بنا من الخارج. ومايدفعنا للفرح أنها شركة صليب مع المسيح، ومن يشترك فى الألم والصليب يشترك معه فى مجده (2كو 6: 9) + (رو8: 17) + (كو1 :24) + (2كو1: 5) + (فى 3: 12).
ياإخوتى = فهم عائلة واحدة، عائلة الله، وكلنا أعضاء فيها، نلنا البنوة والإتحاد بالمسيح فى المعمودية، ورأس العائلة هو المسيح المتألم، مما يجعلنا نقبل الألم فى تسليم بل بكل فرح، لإذ نشترك مع من أحبنا فى ألامه. وهناك فرق كبير بين التسليم والإستسلام. فالإستسلام هو كمن وقع فى يد أسد فهو يستسلم لأنه غير قادر على المقاومة، أما التسليم فهو أننى أضع حياتى فى يد من يحبنى ولا يصنع لى سوى الخير. هو إله حنون يخطط لخلاص نفسى وكل مايصنعه هو لهذا الهدف.
لماذا نفرح فى التجارب
1. عادة ما يأتى الشيطان ليهمس فى أداننا وقت التجارب بأن الله قاسى، لا يحبنا إذ سمح بهذه الألام لنا، ولكن الشيطان كذاب وأبو الكذاب يو8: 44 ولنعلم أن :-
2. الله إستمر فى خلقة العالم ألاف الملايين من السنين ليجد آدم جنة يحيا فيها.
3. الألم دخل للعالم بسبب خطية آدم وليس بسبب قسوة الله "أنا إختطفت لى قضية الموت... وطبعاً إختطفت لى قضية الألم".
4. إذاً الآلم ليس غضب من الله وكراهية وإلا فهل كان الله غاضباً على المسيح وعلى بولس وعلى الطفل أبانوب.
5. قيل عن المسيح أن الله يكمل رئيس خلاصهم بالألام (عب 2: 10) ومن هنا نفهم أن الألم صار وسيلة للكمال. ولكن الألم يكمل المسيح أى ليصير المسيح مثلى فى كل شئ مختبراً الألم، أما الألم لى أنا فيكملنى لأننى ناقص وخاطئ.
6. المسيح جاء ليتألم معى ويشترك معى فى الألم علامة محبة منه. والمسيح كإله قدير "حول العقوبة لى خلاصاً" فصار الألم طريق الكمال وبالتالى طريق السماء. ببساطة صار الألم لإصلاح العيوب التى فى فأكمل.
7. الله إستخدم الألم مع أيوب لينزع من داخله خطية كانت ستحرمه من السماء والله إستخدم الألم مع بولس ليحميه من الكبرياء، حتى لا يسقط فيه.
8. صار الألم (والتجارب) كمشرط الجراح الذى ينزع من داخلنا حب الخطايا والميول المنحرفة، فكل منا تسكن الخطية فيه، لذلك ترك المسيح الألم لنا بعد الفداء (رو 7).
9. الشيطان فى كذبه يستغل معاناتى من الألم ويشتكى الله بأنه قاس، ويخفى عن عينى محبته فى تكوين العالم لأجلى، ولا يذكرنى سوى بالألم.
10. هناك تعليم خاطئ، أن الله يجربنى ليعلم ما فى قلبى !! ولكن هذا خطأ. فالله فاحص القلوب والكلى ولا يحتاج لأن يجربنى حتى يعرف ما فى داخلى. بل هو يسمح بالتجارب لأكمل، فهو صانع خيرات "من تألم فى الجسد كف عن الخطية" (1بط 4: 1)، "وبضيقات كثيرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله" (أع 14: 22). وهذا التعليم الخاطئ كم سبب من ألام لأناس ظنوا أن الله يجربهم ليعرف ما فى قلوبهم.
11. الله له أدوات يكمل بها الإنسان فهو يعطى عطايا مادية وبركات مادية وروحية تفرح الإنسان ويسمح فى نفس الوقت بألام فهى طريق الكمال. وكلاهما (العطايا والألام) هى طريق السماء. فكل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله (رو8 : 28).
12. المشكلة الأساسية هى أننا مولودين بالخطية "بالخطية ولدتنى أمى"، "والخطية ساكنة فى جسدى" (رو 7 : 17) وفى داخلنا عصيان وتمرد على الله. وأشهر إنحراف فى داخلنا هو محبة العالم والتلذذ به ونسيان الله وتركه. بل تحول العالم بدلاً من أن يكون أداة نحيا بها ليكون إله نسعى وراءه. لذلك فمحبة العالم عداوة لله (يع 4 : 4) صرنا نتعبد للعالم، ولا نعرف طريقاً للذة سوى العالم وشهواته، ولم نعد نعرف أن الله قادر أن يشبعنا ويعطينا لذات روحية تسمو على اللذات العالمية. بل نسينا الله فصارت محبة العالم عداوة لله.
ولذلك سمح الله بالألام أن تستمر... ولكن هل الألام تنقى ؟ حاشا بل التنقية هى بدم المسيح "دم يسوع المسيح إبنه يطهرنا من كل خطية" (1 يو 1 : 7)، "والمتسربلون بثياب بيض فى السماء غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم فى دم الخروف" (رؤ 7 : 14) إذا ما فائدة الضيقة :
1. بها نزهد فى محبة العالم.
2. نرتمى فى حضن المسيح فيطهرنا دمه من كل خطية.
أما من يجرى وراء العالم فكيف يطهره دم المسيح.
التجارب هى فطام عن العالم، هى كأم تضع مراً على إصبع طفلها حتى لا يضعه فى فمه.
والعجيب أن الله لا يتركنى وسط التجارب، بل يعطينى عزاء وصبراً لأتحمل، وهذا ما قالته عروس النشيد شماله (التجارب) تحت رأسى ويمينه (تعزياته) تعانقنى (نش 2 : 6). وهنا نجيب على السؤال لماذا نفرح فى التجارب :
1. علامة حب من الله فمن يحبه الرب يؤدبه (عب 12 : 6). وبهذا يجذبنا الله من محبة العالم.
2. طالما سمح الله بالتجارب فهو ينوى أن يخلصنى من طبيعتى الساقطة والإنحرافات التى فى داخلى. فالفرح هو لأننى سأكمل بها وهى طريقى للسماء.
3. طالما هى شركة ألم مع المسيح فهى شركة مجد. إذا هى طريقى للمجد.
4. بها تزداد تعزياتنا. ولكن لماذا لا نتعزى ؟
أ. من لا يتعزى هو من شك فى محبة الله وصدق خداع الشيطان أن التجربة علامة عداوة من الله. فقرر أن يتصادم مع الله، وإمتنع عن الصلاة، لأن الله قاسى ولا يريد أن يستمع لى ويخرجنى من التجربة. مثل هذا الإنسان تجده يشتكى الله دائماً أمام الناس، ويتصور أن الله يحب الناس كلها إلا هو. هو صدق خداع إبليس.
ب. إمتنع عن الصلاة وطلب تعزيات الله.
5. والحل
أ. أن يصدق هذا الإنسان أن الله يحبه وبالتجارب يكمله ويعده للسماء.
ب. أن يؤمن بالله، ليس بأن الله واحد، فهذه حتى الشياطين تؤمن بها بل بأن الله صانع خيرات.
ت. يقف ليصلى طالباً التعزيات، ويقول لله " أنا أثق أن ما تسمح به هو للخير ولكنى لست فاهم، ولكنك لا تخطىء فيما تسمح به يا رب.
6. التجارب لها هدف هام جداً. فبها نكتشف يد الله القدير. ربما بالخيرات المادية والروحية نكتشف الله الحنون، ولكن بالتجارب نكتشف يد الله القوية التى تستطيع أن تخرجنى من الضيقة.
تردد هذا السؤال عبر الكتاب المقدس لماذا الألم للأبرار ؟ قاله أيوب وأرمياء وأساف (مزمور 73). وهذا سؤال الفلاسفة عبر العصور. وهنا يعقوب يقول بل نفرح فى الألم لأنه تحول إلى وسيلة للخلاص. وإذا فهمنا هذا لن نقول "لماذا أتت التجارب" بل نقول "لماذا لا تأتى التجارب" والفاهم يقول "لماذا لست أنا المجرب" ولا يقول "لماذا أنا المجرب يا رب".
الألم دخل للبشرية بسبب خطيتى. والمسيح فى محبته جاء ليشترك معنا فى ألامنا، ويقول لنا الأن إحتملوا معى بعض الألام " أما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة " قال الأنبا بولا " من يهرب من الضيقة يهرب من الله ".
وقال أبونا بيشوى كامل " من ليس له صليب فليبحث له عن صليب، نفس بلا صليب كعروس بلا عريس ".
وبولس الرسول بالرغم من كل ألامه كان يقمع جسده ويستعبده، فهو يبحث عن صليب فوق صليب. فمن فهم مفهوم الصليب يجرى وراءه.
أية 3 : - عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً.
إمتحان إيمانكم = إمتحان لا تعنى أن الله لا يعرف إيماننا فيمتحننا لكى يعرف، بل الله يعرف فهو فاحص القلوب والكلى، لكن نحن لا نعرف ما هى طبيعة إيماننا والله بهذا الإمتحان يكشف لنا طبيعة ونوعية إيماننا. هكذا سأل المسيح فيليبس " من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء، وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (يو 6 : 5 – 7) فلقد كان إيمان فيليبس ضعيفاً، والسيد أراد أن يظهر له هذا الضعف ليصلح من إيمانه. فالله يمتحن إيماننا ليظهر ضعفات إيماننا ويظهر لنا إيماننا المشوه من جهة الله، وأخطائنا الإيمانية، ويكشف عن معرفتنا المشوهة من جهة المسيح فالتجارب لازمة لتظهر نوعية إيماننا. فهناك من يتصادم مع الله مع أول تجربة، وهناك من لا يثق فى غفران المسيح ويظل مثقل بالذنوب ومع كل تجربة يظن أن الله ينتقم منه فيزداد إبتعاداً عن الله. وماذا أفعل لو إكتشفت ضغف إيمانى أو أن معلوماتى عن الله مشوهة ؟ هناك حل واحد... المخدع على أن أتعلم أن أدخل مخدعى وأصلى وأدرس كتابى المقدس وأعطى للروح القدس فرصة ليحكى لى ويعرفنى بمن هو المسيح "هذا يأخذ مما لى ويخبركم" (يو 16 : 14). وإصلاح الإيمان فى منتهى الأهمية، فبدون إيمان لا يمكن إرضاؤه (عب 11 : 6). وهذا سبب آخر للفرح بالتجربة، أنها ستكشف لى حالة إيمانى المريضة فأذهب لحجرتى لأسمع صوت الروح القدس الذى يصحح ويشفى إيمانى، ويعطينى ثقة ومحبة لشخص المسيح. إذا التجارب التى يسمح بها الله لابد أنها ستصلح شيئاً فى داخلى. لكن لابد من الصبر والقبول وعدم التذمر حتى تؤتى التجربة بثمارها. أما التذمر فيعطل عمل الله.
ينشىء صبراً = التجارب المتلاحقة مع رؤية يد الله القدير تجعل الإيمان يزداد. وهذا ما حدث مع داود، فلقد كانت له خبرات سابقة مع أسد ودب قتلهم وهذا أعطاه إيمان قوى وقف به أمام جلياط. لذلك فالتجارب المتلاحقة مع الشكر وعدم التذمر تزيد الإيمان. والإيمان يولد صغيراً وينمو، لذلك قال التلاميذ للسيد "زد إيماننا " (لو 17 : 5) وإيمان أهل تسالونيكى كان ينمو (2 تس 1 : 3) وبولس الرسول يقول أن الإيمان ينمو بالشكر وعدم التذمر (كو 2 : 7) ومع التجارب تزداد التعزيات التى يعطيها الله كمسكن للألام حتى نحتمل التجربة ومع زيادة الإيمان ومع التعزيات ينشأ الصبر. فالصبر ليس صبر الخضوع والإستسلام وليس هو شجاعة بشرية ولكن عطية إلهية نتيجة إيمان ينميه الله وتعزيات يعطيها الله (2 كو 1 : 5). ولذلك تعلمنا الكنيسة الشكر فى كل حين وعلى كل حال. ولكن الصبر حقاً هو عطية من الله ولكن الجهاد البشرى المطلوب هو الشكر مع عدم التذمر حتى نحصل على هذه العطية.
أية 4 : - وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.
ولماذا نصبر، ولماذا يعطينا الله صبراً وما فائدته ؟ أن نكون تامين وكاملين فكما رأينا أن فائدة التجارب أن نصبح كاملين. إذاً حتى نكمل علينا أن نصبر على التجربة حتى تأتى بثمارها وتكمل. فنحن مولودين بالخطية، لنا طبيعة متمردة عاصية، نحب العالم وهذا عداوة لله، والله يعالج كل هذا بأنه يسمح ببعض التجارب حتى نزهد فى محبة العالم ولا نتعلق به بل نشتاق للسمائيات ونبدأ نتذوق لذتها محتقرين لذة الأرضيات وبهذا نكمل. هذا هو العمل التام للصبر أن نكمل. لكن علينا أن لا نتذمر وسط التجربة بل نشكر عالمين أن كل ما يسمح به الله هو للخير ولبنياننا وحتى نتزين بالفضائل وحتى ننال إكليلاً أبدياً (1 بط 5 : 10). أما التذمر فهو يوقف ويعطل عمل الله ويوقف تعزيات الله التى بها نحتمل التجربة.
أية 5 : - وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ.
إن كان أحد تعوزه حكمة = الحكمة هى معرفة هدف الله من التجارب وأنها للفائدة وحتى نكمل، وأن الله يحبنا جداً، بل هو طاقة محبة متجهة لنا نحن البشر. أما الجهل فهو أن نشعر أن الله يكرهنى إذ سمح ببعض الألام. والحكمة إذاً أن نتقبل الألام بشكر وصبر وبدون تذمر. والله سيعطى لمن يطلب هذه الحكمة حتى يفهم دون أن يعيره بسبب ضعفه وجهله وخطاياه السابقة ومن يعطيه الله حكمة سيفهم إرادة الله من التجربة ويفرح بها ويعلم أنها للخير.
أية 6 : - وَلَكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ.
بإيمان = ما الذى يمنع الله من الإستجابة لصلواتنا ؟ عدم الإيمان. والإرتياب فى وعود الله. وهذه خطية أن لا نثق فى الله (مر 11 : 24) لأن هذا المرتاب يكون متردداً بين حالة الإيمان والثقة بالله وحالة عدم الإيمان بل الإعتماد على حكمته البشرية التى تقوده للتذمر على الله، وهذا تجده مرة يصلى ومرة يمتنع عن الصلاة نهائياً ظاناً أن الله لا يستجيب، تجده مرة يذهب للكنيسة ومرات لا يذهب فلماذا يذهب والله لا يستجيب. هذا يشبه موجاً من البحر تخبطه الريح.
التجارب هنا شبهها بالريح التى تدفع الموجة فتصطدم بالصخور وتتحول إلى رذاذ. والموج بطبيعته أنه يرتفع وينخفض وبهذا يشبه المرتاب الذى يعلو إيمانه يوماً وينخفض يوماً أخر. أما لو كان إيمانه ثابتاً فسيكون كالبحر الهادىء ولا يتحول إلى رذاذ. وماذا أفعل لو كان إيمانى ضعيفاً ؟ هنا نفعل كما فعل هذا الرجل ذو الإيمان الضعيف حين سأله السيد أتؤمن ؟ فقال أؤمن يا سيد فأعن عدم إيمانى. فهل تركه السيد ؟ لا بل شفى إبنه وبهذا حقق طلبه وشفى عدم إيمانه. فلنقف أمام الله وعوضاً عن التصادم مع الله بسبب التجربة، لنصلى "أعن عدم إيمانى".
أية 7 : - فَلاَ يَظُنَّ ذَلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ.
هذا المرتاب لن يحصل على شىء من الله، وحين يصلى تكون صلاته بلا نفع.
أية 8 : - رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.
رجل ذو رأيين = أى لم يسلم الأمر لله بالكامل. متقلقل = لم تثبته الحكمة الإلهية فهو يشك فى الله وفى محبته، هذا يكون بلا حكمة.
أية 9 : - وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ.
ربما يقصد بالأخ المتضع الفقير الذى سلبوا أمواله أثناء الإضطهاد، أو يقصد به أى مجرب مضطهد من أعداء أقوياء. على هذا المسكين أن لا يخجل من مسكنته، بل يفتخر بإرتفاعه = فهو فى ألمه صار شريك ألام مع المسيح وبالتالى شريك أمجاد مع المسيح، وارث للمجد، وهذا هو الإرتفاع الحقيقى.
أية 10 :- َأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ.
وأما الغنى = وهنا لم يقل الأخ حتى لا يظنوا أنه يداهن الأغنياء بسبب غناهم. والمسيحى عليه أن لا يفتخر بغناه أو مركزه فى المجتمع، فكل ما فى العالم إما سيزول أو سنتركه ونموت. على الغنى أن يشعر أن كل مالديه هو لاشئ. بل هو إذا أتى لصليب المسيح ودمه الغافر سيشعر أن كل شئ لديه هو تفاهة بجانب ذلك الدم الثمين، وحينئذ لن يفتخر بما لديه بل بدم المسيح الذى سفك لأجله وكان سبباً فى الأمجاد الحقيقية المعده له فى السماء. إذاً على الغنى أن يتضع ويشبه سيده الذى أخلى ذاته لأجله (2كو10: 17). ونفس المفهوم قاله أرميا (9: 23). وإذا اتضع وأدرك أن العالم باطل وأنه لا شىء، فعليه أن يفتخر إذ أنه أدرك الحقيقة. فالعالم كزهر العشب يزول = إشارة لعدم يقينيه الغنى ولذبول الأغنياء وسط مسراتهم (مثال لذلك بيلشاصر).
أيه 11 :- لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هَكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ.
يشبه الغنى بزهر الشعب الذى ييبس ويسقط ويفنى جمال منظره هكذا فالغِنى أيضاً إلى زوال. ولاحظ أن هذا المنظر معتاد لأهل فلسطين، حيث تغطى أزهار شقائق النعمان منحدرات التلال فى الصباح، ولكن ما أن تظهر الشمس وتهب الرياح الحارة حتى تجف هذه الأزهار وتجمع للوقود، وهكذا أمجاد وأموال هذا العالم. والشمس تشير للتجارب، فالشمس التى تعطى حياة للزروع هى نفسها التى تجفف وتفنى جمال زهر العشب. وبنفس المفهوم فالتجارب تزيد المؤمنين بريقاً، وتهلك المتكلين على غناهم فيذبلون فى طرقهم.
أية 12 :- طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ "إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ" الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ.
طوبى للرجل الذى يحتمل التجربة = لأن من يحتمل يتدرب على حياة التسليم ويكتسب الصبر وينمو روحياً ويكمل، ويتفابل مع المسيح المتألم ويزداد معرفة بشخص المسيح فيحبه ويختبر التعزيات السماوية وينتظر بشوق ورجاء إكليل أبديته والمجد المعد له = إكليل الحياة = إستعارة من البطولات الرياضية، وهذا الأكليل هو لمن يغلب (2كو12: 1). لأنه إذا تزكى = تزكى أى تنقى من محبة العالم التى هى عداوة لله فكانت التجارب له هى كالنار التى تصفى الذهب من الشوائب، صارت نافعه له (1بط1: 7). هذا إذا إحتملها بصبر ودون تذمر.
أية 13 :- لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَداً.
يعقوب يكلم أناساً واقعين تحت تجارب عنيفة من اليهود. ويقول لهم أن التجارب هى علامة حب من الله وأنها تكمل، وتزع الفساد الداخلى وبها نستعد للسماء ولهذا نفرح بها. والله يعطى صبر وتعزيات تكون كمسكن (بنج) حتى تتم عملية نزع الفساد بنجاح. ثم يتطرق يعقوب لنوع آخر من التجارب ناشئ عن شهوات داخلية وخطايا. ويقول أنه على الإنسان الذى يجرب من تجارب خاطئة كهذه ألا ينسب هذه التجارب لله، كما لو أن الله هو الذى يدفع الإنسان لإرتكاب الشرور أو الخطيئة. وهذا الإتهام يهين الله. هنا يعقوب يرد على هرطقة إنتشرت أيامه تقول أن الله هو سبب التجارب الشريرة، فهو يجرب الناس بالشرور.
إذاً التجارب نوعان :-
1. ما يسمح به الله لنمونا وتزكيتنا ولوقايتنا من الشرور لنكمل.
2. ما هو من الشيطان أو من الخطية الساكنة فينا.
وعلينا إحتمال الأولى بصبر ومقاومة الثانية، ومن يغلب فى الإثنين يكلل.
الله غير مجرب بالشرور = أى أن الله قدوس وسماوى، مرتفع تماماً عن صنف الشرور، منزه عن كل شر، وكله خير. ولن ندرك كمالاته طالما كنا فى الجسد. وهولا يشعر بأى جذب للشر بل يكرهه تماماً. لذلك هو لا يجرب أحداً بالشرور بالخطايا. فهو لا يتلذذ بالخطايا ولا بسقوط أحد فيها. المعنى أن الله لا يتعامل فى هذا الصنف. لكن مصدرالخطايا هو أنا وشهواتى وإبليس وليس الله. الله خلقنا فى أحسن صورة ولم يخلق فينا عواطف أو دوافع شريرة،ونحن فى آدم انحرفنا والأن ننحرف بإرادتنا. ولكن من يريد أن يسلم عواطفه ومشاعره لله يقدسها له. أما إبليس فهو شرير ومجرب بالشرور بقصد إهلاكنا.
الأيات 14، 15 :- وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ.، ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتاً.
إذا حدث أن إنساناً ما قد لحقت به تجارب شريرة، فعليه أن يدرك أن هذا يرجع إليه لا إلى الله، وأن مصدر هذه التجارب هو شهوته التى إنجذب بها وإنخدع ومال إليها. علينا إذن أن لانبحث عن سبب التجارب الشريرة خارج دائرتنا، بل نبحث فى قلوبنا. فأى شر لن يضرنا ما لم يجد ترحيباً فى الداخل.
إنخدع=الكلمة الأصلية تعنى أكل الطعم.
إنجذب = الأصل أننا فى حضن الله ثابتين فى المسيح، ومن يقبل الخطية ينجذب من الأحضان الإلهية، فلا شركة للنور مع الظلمة، هو ينجذب من ملجأه الحصين إذ خبا له الشيطان السم فى العسل فتصور أن الشر لذيذ. ولنلاحظ أننا تحت قوتى جذب. فالنعمة (قوة عمل الروح القدس فى) تجذب من ناحية، والشر يحاول أن يجذب ويخدع مستغلاً ضعف طبيعتنا. وعدو الخير يقوم بإثارتنا بمثيرات داخلية وخارجية من ملذات حسية وملذات العالم وكراماته وأحزانه، ولكن هذه كلها مهما إشتدت ليس لها قوة الإلزام، بل هى خادعة لكيما يخرج الإنسان من حصانة الله. ولكن لا ننسى أن قوة جذب النعمة أقوى من قوة جذب الخطية (يع4: 6). والمسيح ينادى على خرافه ويستميلهم إليه (يو 10: 27). والقرار قرارى أنا وحدى، أن أبقى فى حضن الله وفى خطيرته أو أخرج فأصبح خروفاً ضالاً منجذباً من شهوته. وإستخدم يعقوب هنا صورة رائعة ليشرح ما يحدث. فهو قد صور الشهوة على أنها إمرأة ساقطة تحاول أن تغوينى لأقع فى حبائلها. ولو قبلت عرضها أى قبلت الفكر وبدأت أخطط لكيفية تنفيذه فكأننى إتحدت به وصرنا واحداً، أى صرت واحداً مع المرأة وإتحدت معها وبهذا صارت المرأة حبلى. وإذا خرجت الخطية لحيز التنفيذ فكأن المرأة ولدت، وماذا ولدت ؟ موتاً.
روعة هذا التصوير أن الشهوة منفصلة عن الإنسان، والإنسان حر فى أن يقبل غوايتها أو يرفضها. أنا شىء وشهوتى شىء آخر وبإرادتنا نتحد أو نظل منفصلين. وهناك قوة جبارة تحفظنى هى النعمة. إذاً داخلى ميول خاطئة لكن أنا غير متحد بها إلا لو إنخدعت وإنجذبت وبدأت أخطط لها.
إذاً هناك مراحل ثلاث للخطية :-
1. مرحلة الفكر، مجرد فكرة خطرت ببالى، فكرة ألقاها الشيطان. وهذه ليست خطية إذا رفضتها وصرخت لله أن ينجينى من هذا الفكر. هنا المرأة أى الشهوة تحاول خداعى، ومن يرفض لا تصير عليه خطية. هذا ما قاله الأباء أن الإنسان غير مسئول عن الطيور التى تطير أمام عينيه، لكنه مسئول عنها لو عششت فى رأسه. أى عملت لها عشاً فى رأسه، أى انجذب الإنسان للفكر وأعجب به وبدأ يتلذذ به ويخطط لتنفيذه. ومن يصارع الخطية فى طورها الأول يتخلص منها بسهولة (علامة الصليب يرشمها مع الصراخ بصرخة خفية داخلية وبإسم يسوع وبشفاعة القديسين) أما لو تركها الإنسان للطور الثانى أو الثالث فيكون هذا بإرادته، ويكون هنا من الصعب التخلص منها. فى هذا الطور يحاول عدو الخير أن يثير حواس الإنسان وفكره وذاكرته لمحاولة جذبه لإسقاطه.
2. الشهوة إذا حبلت تلد خطية = هذا هو الطور الثانى. هنا حدث نوع من الإتحاد مع المرأة (بين الإنسان وشهوته). رأينا المسيح ينادى على خروفه حتى لا يخرج. لكن المسيح يحترم حرية الإنسان، فإن لم يشأ الإنسان أن يسمع وخرج، يبدأ الطور الثانى أو المرحلة الثانية، وفيها يسلم الإنسان إرادته للشهوة. هنا يشبه الرسول الشهوة بإمرأة زانية تجذب الإنسان إليها وتخدعه، وإذ يقبلها ويتجاوب معها يتحد بها، فتحبل ويتكون جنين فى بطنها الذى هو الخطية. هنا الخطية لم تحدث حتى الآن. ولكن بدأ الإنسان يتلذذ بأفكاره الخاطئة وترك لها العنان وإتخذ قراراً بتنفيذها، ويخطط لتنفيذها.
3. والخطية إذا كملت تنتج موتاً = هنا خرجت الخطية لحيز التنفيذ أى تم تنفيذ الخطية وهذه هى المرحلة الثالثة أو الطور الثالث. هنا إكتمل نمو الجنين وولدت إبناً هو الموت، فالخطية تحمل فى طياتها جرثومة الموت. وأجرة الخطية موت.
الأيات 16، 17 : - لاَ تَضِلُّوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ.، كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ.
لا تضلوا = أى لا تصدقوا الهرطقة المنتشرة بأن الله مجرب بالشرور. بل علينا أن ننسب لله كل خير يأتى علينا، فهو صانع خيرات. فهو أبى الأنوار = الأنوار هى كلمة فلكية تشير للكواكب المنيرة. فالله لا يخلق سوى النور، أما الظلمة فالله لم يخلقها بل هى إنعدام النور. والنور هنا إشارة لصلاح الله وخيريته، وأنه المصدر الوحيد لكل نور طبيعى أو أخلاقى. إذا الله ليس مصدراً للشرور ولا يعرف كيف يصنع شراً فى قلب أحد.
وإذا كان الله هو مصدر كل نور وكل صلاح وكل خير، فعلينا أن لا ننسب لأنفسنا أى خير أو صلاح نحن فيه، فكل عطية صالحة مصدرها الله. وهذا ما قاله بولس الرسول " إذا كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ " (1 كو 4 : 7).
وليس عنده تغيير أو ظل دروان = وهذا أيضاً تعبير فلكى. ففى الفلك هناك تغيير ناشىء عن دوران الكواكب، فيحدث ليل ونهار، شتاء وصيف أما الله فلا يتغير أبداً ولا يبدل مشيئته ومخططاته التى هى نور وصلاح دائم. أما الدوران والتردد فهو فينا نحن. الله لا يتغير بمعنى أن إرادته نحونا دائماً مقدسة. لا نرى منه سوى إرادة مقدسة وخير وحب وصلاح وطهارة. إذا لا يعقل أن نرى منه تجارب شريرة. وخلال أشعة محبته المعلنة فى عطاياه الروحية والزمنية يجذب أنظارنا وينير عقولنا فنراه ونحبه.
أية 18 : - شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ.
شاء = إرادة الله أن الجميع يخلصون (1 تى 2: 4). والله صنع هذا الخلاص أولاً بأنه خلقنا ولما سقطنا فدانا وصرنا نولد ولادة ثانية = شاء فولدنا بكلمة الحق إن أشرف عطية حازها الإنسان أننا بالرب يسوع كلمة الحق الذى مات عنا بالجسد وقام ووهبنا بروحه القدوس أن نولد لله ولادة جديدة روحية بالمعمودية. فهل بعد كل هذا الحب والإرادة الخيرة نحونا يقول إنسان أن الله مجرب بالشرور. وبهذه الولادة التى بها نتحد بالرب يسوع (رو 6 : 5) نصير باكورة من خلائقة والباكورة مقدسة لله أى مكرسة له ومخصصة له. إذا فنحن نصيب الله المكرس له. كما كانت الباكورات تقدس للهيكل، هكذا نحن صرنا قدساً للرب. وهذا تم بالمعمودية والميرون. وهذا يعنى أنه طالما صار الجسد مقدساً فليس من حقى أن أخطىء به.
والمسيح هو باكورتنا، ونحن المسيحيين باكورة العالم كله. كان المسيح باكورة إذ قدم قرباناَ وذبيحة، فهل نقبل أن نكون ذبائح حية وقدوة للعالم.
إنتقل الرسول من الحديث عن التجارب الخارجية كمصدر فرح وتطويب للصابرين إلى الجهاد ضد التجارب الداخلية أى التحفظ من الخطية، ثم عناية الله بنا وتقديم كل إمكانية لنا معلناً حبه فيما وهبنا إياه أن نكون أولاداً له... لكن ما موقفنا الآن نحن كأولاد الله... هذا ما يحدثنا عنه الرسول بصورة عملية فيما يأتى. والرسول يستعرض هنا بعض صور التجارب المختلفة :-
1. التسرع فى الكلام.
2. الغضب.
3. النجاسة.
4. خداع النفس.
5. نسيان الكلمة.
6. إنفلات اللسان.
ثم يستعرض العلاج :-
1. الشبع بالإنجيل ليصير مغروساً فى القلب.
2. العمل بالإنجيل وتنفيذ وصاياه الحية.
3. إفتقاد اليتامى والأرامل والتحفظ من الدنس الموجود فى العالم.
أية 19 : - إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي الاِسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي الْغَضَبِ،
هنا نرى وصايا خاصة بالتعامل مع الناس.
مسرعاً فى الإستماع. مبطئاً فى التكلم = هنا يعالج الرسول عيب خطير فى حوارنا مع بعضنا البعض. فنحن لا نعطى فرصة لمن يريد أن يتكلم حتى يعبر عن نفسه، بل نقاطعه لنعلن رأينا نحن، كأن الجميع لا يفهمون شيئاً وأنا وحدى الذى أفهم فهناك من يريد أن يثبت ذاته فى أى حديث ويتكلم كمن لا يوجد غيره.
وهنا نسمع الطريقة الصحيحة للحوار. أن نعطى للمتكلم فرصة كافية ولا نقاطع المتكلم، عموماً من يسمع للناس بهدوء لن يخطئ فى الرد عليهم.
ويقصد ايضاً الرسول أن نستمع لشكوى الناس من ألامهم. فهناك من يتألم ولا يجد من يستمع إليه، فلنستمع لمن يتكلم بوداعة، ونفتح قلوبنا للناس. عموماُ فالذى تعلم من المسيح تجده لا يتكلم كثيراً بل يعمل كثيراً. ولنبطئ الحديث عن حقائق الإيمان خصوصاً وسط من يعلمون. فمن يتكلم كثيراً يخطئ، ومن يتسرع فى الكلام يخطئ (أم 29: 20). وقال القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك " كثيراً ما تكلمت وندمت وأما عن الصمت فلم أندم قط ". حسن للإنسان أن يشهد للحق لكن كثرة الكلام والتسرع فيه يكشفان عن نفس خائرة ضعيفة تخفى ضعفها وراء المظهر. لكن الكتاب يعلمنا أنه " للسكوت وقت وللتكلم وقت (جا3: 7). ومارإسحق يحدثنا عن الصمت بأنه ليس هو عدم الكلام بل إنشغال القلب فى حديث سرى مع الرب يسوع لذلك هناك :-
1. صمت مقدس فيه يصمت الفم ليتكلم القلب مع الله. هذا معنى "صلوا بلا إنقطاع".
2. صمت باطل فيه من يصمت الفم دون أن ينشغل القلب بالله.
3. صمت شرير فيه يصمت الفم وينشغل الداخل بالشر.
والأهم من كل هذا أن نكون مستعدين لسماع كلمات الرب يسوع فى إنجيله. فهل يمكن أن نهرب من إنشغالات العالم، ونخصص كل يوم وقتاً لنسمع فيه كلمة الله ونجلس عند قدميه كما فعلت مريم. ونسمع عظات تتكلم عن المسيح.
مبطئأً فى الغضب = الله طويل الأناة بطئ الغضب، وعلى أولاده أن يتشبهوا به. فهل يستطيع إنسان غضوب أن يبشر ويكون سبباً فى إنتشار إسم المسيح.
أية 20 :- لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ.
الإنسان الغضوب يعطل عمل الله الذى كله بر، سواء مع نفسه أو مع الآخرين وهذا معنى لايصنع بر الله. فهو لا يقدر فى لحظات غضبه أن يقف للصلاة ولا أن يسبح الله كما قال القديس أغسطينوس. بل يسبب أحقاد الآخرين ضد المسيحية. راجع (أم 22 :24+ 29: 22 + 15: 18). عموماً فألتأنى أحسن علاج للغضب.
أية 21 :- لِذَلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ.
إطرحوا = بمعنى إخلعوا الثياب الوسخة أى أرفضوا التفكير فى الشرور والجلوس فى أماكن الشر. تخلصوا من كل شر حتى لو ظهر أمام العالم أنه مساير لروح العصر.
فإقبلوا = حرف الفاء يشير أنه حين نترك الشر سنتقبل الكلمة المغروسة.
فالقلب المملوء شراً ليس فيه مكان لأفكار الخير وحين نترك الشر نقبل كلمة الله.
الكلمة = هى كلمة الله فى الكتب المقدسة. وهذه الآية تتفق مع مثل الزارع. فالبذرة هى كلمة الله. والظروف المواتية لنموها هى القلب النقى الأمين الخالى من كل شر ونجاسة (أحجار وشوك) وأحقاد. وقبولنا لكلمة الله سيكون له ثمار كثيرة.
ومن ضمن النجاسات والشرور التى يجب أن نطرحها عنا الغضب حتى نستطيع أن نقبل كلمة الله. فى وداعة. فالثائر الغضوب لا يمكن أن يقبل كلمة الله.
والرسول يكلم أناساً مؤمنين ومع هذا يقول لهم قادرة أن تخلص نفوسكم = ولم يقل خلصت نفوسكم. لأن الخلاص أمر مستمر يعيش فيه المؤمن كل أيام غربته وليس أمراً حدث وإنتهى. لاحظ أن الرسول ينصحنا بأن نخضع لكلمة الله بروح الوداعة وليس بروح العجرفة.
أية 22 :- وَلَكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ.
تفسير هذه الأية فى (رو2: 13) " لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون " وفى تشبيه السيد المسيح لمن يسمع ولا يعمل تجده فى (مت 7: 26، 27). وفى الأيات التالية نجد تشبيه الرسول نفسه لمن يسمع ولا يعمل.
الأيات 23، 24 :- لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ سَامِعاً لِلْكَلِمَةِ وَلَيْسَ عَامِلاً، فَذَاكَ يُشْبِهُ رَجُلاً نَاظِراً وَجْهَ خِلْقَتِهِ فِي مِرْآةٍ،، فَإِنَّهُ نَظَرَ ذَاتَهُ وَمَضَى، وَلِلْوَقْتِ نَسِيَ مَا هُوَ.
من يسمع الكلمة ولا يعمل بها يشبهه الرسول هنا بمن يرى وجه خلقته فى مرآة و يرى العيوب التى فى وجهة (قذارة مثلاً)، وبالرغم ممارآه فهو يمضى دون أن يصلح شيئاً من عيوبه. بل يظل طوال النهار يفكر فى وسامته وينسى العيوب التى كانت فيه. والكتاب المقدس هو كمرآة تكشف خفايا الروح وتظهر لنا خطايانا حتى نندم عليها ونقدم عنها توبة، المهم هو محاولة ترك الخطية وليس سماع الكلمة فقط وهكذا نستمع لعظات نكتشف فيها عيوبنا وسرعان ما نغادر المكان وننسى ما سمعناه من تعليم أو وعظ. ومعنى ذلك أن الإكتفاء بالاستماع لكلمة الله دون العمل بها لا يعمق الكلمة فى داخلنا. ومن مثل السيد المسيح (مت 7 : 26، 27) نفهم أنه حين نعمل أى نحاول تنفيذ ما سمعناه يكون هذا هو الأساس الصخرى الذى يحفظ البيت من السقوط. أو هو الذى يثبت كلمة الله فى داخلنا. وبدون العمل تنسى كلمة الله ويضيع تأثيرها تماماً كمن يبنى بيته على الرمال فلا يجد ما يرتكز عليه.
إن تنفيذ الوصية والعمل بها يجعلنا نختبر المسيح ونعرفه حقيقة، ومن يعرفه سيرفض أفكار الشيطان عنه بأن المسيح قاس إذا هبت رياح التجارب.
أية 25 :- وَلَكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ - نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ - وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعاً نَاسِياً بَلْ عَامِلاً بِالْكَلِمَةِ، فَهَذَا يَكُونُ مَغْبُوطاً فِي عَمَلِهِ.
من إطلع = نظر بتفرس وتأمل وبحث وإجتهاد، ليس كمن ينظر فى مرآة بطريقة سطحية ويمضى وللوقت ينسى ماهو. بل ينظر ويدقق ليرى عيوبه ويستمع للوصايا وينفذها ليصلح من عيوبه.
الناموس الكامل = بالمقارنة مع ناموس موسى الذى كان ناقصاً ولم يصل بأى أحد للكمال، مثلاً كل ما وصل إليه "لا تزن". لذلك جاء المسيح "لا لينقض الناموس بل ليكمل" ويقول من نظر لإمرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه.
ناموس الحرية = بالمقارنة مع ناموس موسى الذى كان مؤد بنا إلى المسيح (غل 3: 24) هو إذن كان للتأديب أى يفرض على ما لا أريد أن أعمله. هو أوامر على من يسمعها أن ينفذها وإلا يعاقب فهو ناموس عبودية. اما ناموس المسيح فهو وصايا مكتوبة بالروح القدس على القلوب، ومن كتبت على قلبه ينفذها عن حب سكبه الروح القدس فى قلبه (رو5: 5) + (يو14: 23) + (أر31: 33) أما ناموس موسى فكان مكتوباً على ألواح حجرية خارج القلب. اما الروح القدس فحول القلب الحجرى إلى قلب لحم (حز 11 : 19). والمحبة التى يسكبها الروح القدس تحول القلب الحجرى إلى قلب لحم فيطيع الوصية لا عن خوف بل عن حرية، حباً فى المسيح، لذلك هو ناموس كامل يخاطب من ولد من الله بطبيعة جديدة تشتمل على رغبات وأشواق بحسب كلمة الله. هذه الولادة ترقى طبيعة الإنسان وتنميها وتكملها. بل أن الإنسان الداخلى فينا والذى هو على صورة المسيح بحريته يختار طريق المسيح فالمسيح داخلنا. وبهذه الطبيعة نعمل الأعمال الصالحة ومشيئة الله ونتشبه به فى صفاته لأننا صرنا أبناءه. لقد حررنا المسيح بقوة الدم من سلطان الخطية ووهبنا حرية الأبناء. بهذا تصير كلمة الله بالنسبة لنا عملية فلا يكون الواحد منا بعد ذلك
سامعاً ناسياً بل كلمة الله ثابته فيه. فى أعماق نفسه الداخلية. هذا العمل يهب لنا عذوبة رغم صعوبة الوصية، إذ نحمل نيرها لا بتذمر كعبيد أذلاء، ولا من أجل المنفعة كأجراء، بل نفرح بها كأبناء يتقبلون وصية أبيهم. ومن هو هكذا أى يفعل هذا العمل يكون مغبوطاً فى عمله هذا.
أية 26 :- إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هَذَا بَاطِلَةٌ.
ظهرت هرطقة فى أيام يعقوب، غالباً كانت بسبب فهم خاطئ لرسالة رومية كما قال بطرس الرسول (2بط3: 15، 16). وهذه الهرطقة قالت أنه طالما نحن قد أمنا بالمسيح فلنفعل ما يحلو لنا، وسنناقش هذا فى الإصحاح التالى. ولكن فى هذه الأية والأية التالية يعلمنا الرسول يعقوب أن الإيمان وحده لا يكفى بل يظهر أهمية أعمالنا وأن أعمالنا تظهر نوعية إيماننا. وهنا يقدم يعقوب صورة للتدين الحقيقى والتدين الظاهرى الكاذب. والله الذى يكشف أعماق القلب يعرف الحقيقة. فالبعض ظنوا أنه لا حاحجة لضبط لسانهم بدعوى أن القلب طيب وأن العبادة بالروح وليس باللسان. والرسول يقول لا فبداية كل شئ هو اللسان وقارن مع إصحاح (3) فاللسان هو الدفة التى تقود السفينة أى الحياة كلها ولكن السيد المسيح يقول من فضلة القلب يتكلم اللسان (مت12: 34). ولنفهم هذا فلنتصور أن القلب هو خزان يمتلئ بكل ما يوضع فيه عن طريق فتحاته. وفتحات هذا الخزان (العيون /الأذان / اللسان / الأفكار) وتصور معى أنسان كل كلامه بطال (نجاسه مثلاً) فالقلب سيمتلئ نجاسة، ومن فضلة القلب يتكلم اللسان، وحينما يتكلم بكلام نجاسة يزداد القلب إمتلاء بالنجاسة. لذلك نسمع هنا أن من يعمل هذا يخدع قلبه. فمن يتكلم كلام بطال ملأ قلبه كلام بطال. إذن من لا يضبط لسانه يخدع قلبه فبينما يظن أنه دين إلا أن ديانته باطلة، وقد لوث حياته كلها وقاد السفينة للخطر، لذلك فنحن سوف نعطى حساباً عن كل كلمة بطالة نقولها (بطالة أى فارغة بلا معنى). فالكلام البطال يملأ القلب بكلام بطال فتصير حياتنا باطلة. وكلام التذمر يملأ الحياة مراراً وتصير الحياة كلها فى تصادم مع الله. إذن الكلام البطال خداع للقلب.
والقلب المقصود به ينبوع الأفكار والعين الداخلية المدركة للأمور وموضع الفرح والحزن الداخلى وكل المشاعر والعواطف، وأهداف الإنسان وإتجاهاته وتصميماته (مز 33 : 11) + (إش 6 : 10) + (نش 3 : 11) + (حز 11 : 21). إذن من الواجب أن ألجم لسانى ولا أنطق بأى كلمة لا معنى لها وليس لها هدف مهم بناء. والعكس فمن يعلم نفسه لغة التسبيح والشكر تصبح حياته كلها سلام وفرح.
سأل أخ شيخاً "يا أبى إنى أشتهى أن أحفظ قلبى" فقال له الشيخ "كيف يمكنك أن تحفظ قلبك وفمك الذى هو باب القلب مفتوح سايب".
أية 27 : - اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ.
الديانة الطاهرة هى... إفتقاد اليتامى = ولم يقل إنها الإيمان أى الإيمان النظرى، أو بعض الممارسات الطقسية دون أعمال. وهذا ليس إستهتاراً بالإيمان لكن كشف للجانب العملى للإيمان وتأكيداً للأعمال المرتبطة بالإيمان. والله أقام نفسه أباً للأيتام وقاضى للأرامل (مز 68 : 5) فمن كانت ديانته طاهرة يلزمه أن يمتثل بأبيه.
إفتقاد = زيارة ومعونة وتعزية.
حفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم = دنس العالم أى عاداته الخاطئة.
ولكى يحدث هذا فلابد من عمل نعمة الله فينا. ولكى تعمل فينا نعمة الله علينا أن نرحم الآخرين (إفتقاد اليتامى) ليرحمنا الله. لذلك هو بدأ بإفتقاد اليتامى والأرامل ثم تحدث عن حفظ الإنسان نفسه بلا دنس. إذن فلنرحم المحتاج حتى لو كان هذا ضد رغبتنا. لنرحم فيما هو قليل فيرحمنا الله فى الكثير. وإذ يحفظ الإنسان نفسه بلا دنس لا يعطى لإبليس أى حق ملكية فيه وبهذا تبقى النفس مقدسة للرب وحده.
ونلاحظ أننا لن نستطيع أن نعمل هذا ولا ذاك سوى بإيمان حى. فالمؤمن الحيقى سيرحم أخوه ولا يبخل عليه. وهو حركة الرحمة ستأتى من الإيمان الداخلى.