من تفسير وتأملات الآباء الأولين
الإنجيل بحسب يوحنا
الجزء الثاني
أصحاحات 9- 21
الاصحاح التاسع
تفتيح عيني المولود أعمى
نور العالم
رأينا في الأصحاح السابق السيد المسيح يعلن لليهود أنه
نور العالم (٨:١٢). جاء لكي يفضح الظلمة ويبددها، فينتزع السالكين فيها، ويحملهم
إلى نور مجده. لقد صار أبناء إبليس (٨: ٤٤) يحتاجون إلى المحرر الحقيقي ليهبهم
استنارة داخلية، ويتهللوا مع إبراهيم أبيهم بيوم الرب العجيب (٨: ٥٦). الآن وقد
أرادوا رجمه فاختفى عنهم ظهر لكي يهب البصر للمولود أعمى، ربما بعد أيامٍ أو شهورٍ
قليلة من الحوار السابق. كان يلزمهم أن يتلامسوا مع واهب البصر، ليدركوا أنه واهب
البصيرة أيضًا.
لم يرد في العهدين القديم والجديد تفتيح عيني مولود
أعمى سوى في هذا الأصحاح، وقد ورد في العهد الجديد عن عطية النظر للعميان كأحد
أعمال المسيا المنتظر: "ويسمع في ذلك اليوم الصم أقوال السفر، وتنظر من
القتام والظلمة عيون العمي" (إش ٢٩: ١٨)، "حينئذ تنفتح عيون العمي وآذان
الصم تتفتح" (إش ٣٥: ٥)، كما قيل عن عبد الرب (الكلمة المتجسد): "أنا
الرب قد دعوتك بالبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح
عيون العمي" (إش ٤٢: ٦-٧). ويسبح المرتل الرب قائلاً: "الرب يفتح أعين
العمي" (مز ١٤٦: ٨).
وكأن الإنجيليين وهم يشيرون إلى تفتيح أعين العميان،
خاصة هذا المولود أعمى يعلنون تحقيق النبوات خلال شخص يسوع بكونه المسيا المنتظر،
الرب الذي يفتح الأعين الداخلية للقلب مع العيون الجسمية. فيه قد تحققت النبوات،
حيث تمم أعمالاً لا يمكن أن يمارسها غير الله نفسه، أو باسم الرب.
شفاء المولود أعمى يعلن عن شخص السيد أنه جاء يفتح
البصيرة الداخلية، لكي يتعرف المؤمنون على أسرار الله. وفى نفس الوقت يفضح عمى
القيادات المرائية المتعجرفة التي لم تستطع أن تكتشف عماها الروحي وخطاياها!
مع أهمية هذه الآية الفريدة من جهة خلق عيني مولود
أعمى إلاَّ أن الإنجيلي لم يذكر لنا اسم الأعمى، ولا أورد تفاصيل كثيرة عنها إنما
قدم الحوارات المتبادلة بخصوص هذه الآية، خاصة أحاديث السيد المسيح مع التلاميذ
ومع الأعمى نفسه كما مع الفريسيين. فإن ما يشغل ذهن الإنجيلي ليس إبراز ما في
الآية من عملٍ معجزي فائق، وإنما في تمتع البشرية بعمل المسيح الإلهي في حياتهم
وأفكارهم.
لقد استخدم التراب في خلقة العينين ليؤكد أنه الخالق
المخلص، أما طلبته من الأعمى أن يغتسل في بركة سلوام ليؤكد الحاجة إلى مياه
المعمودية لننعم باستنارة الروح القدس خلال الميلاد الجديد. لقد طرد اليهود
المتمتع بالاستنارة ليجد له موضعًا لدى السيد المسيح، مسيح المطرودين والمرذولين.
إن كان البعض من الشعب قد أدرك عماه وأيضًا كثير من
الأمم فإن هذين الفريقين أفضل من الفريسيين الذين مع عماهم ادعوا أنهم مبصرون.
بادعائهم هذا صاروا في غباوة بلا رجاء، أما العشار والزانية فإذ اعترفا بعماهما
انفتح أمامهما باب الرجاء ليتمتعا ببصيرة فائقة وينعما بالحياة الأبدية في المسيح
يسوع.
خلال هذا العمل أمكن للبصيرة أن تتدرج في معرفة شخص
ربنا يسوع:
v
إنسان يُدعى يسوع [11].
v
إنه نبي [17].
v
إنسان من عند اللَّه [33].
v
ابن الإنسان السماوي [35].
v
مستحق للسجود والعبادة بكونه الرب [38].
يقرأ هذا الاصحاح في "أحد التناصير" لأنه
يرتبط بسرّ المعمودية، بكونها استنارة للبصيرة الداخلية.
1 - شفاء الأعمى 1-7.
2 - حوارات بعد الشفاء
أ. حوار بين الجيران والأعمى ٨ - ١٢.
ب. حوار بين الفريسيين والأعمى ١٣ - ١٧.
ج. حوار بين الفريسيين ووالدي الأعمى ١٨ - ٢٣.
د. حوار ثان بين الفريسيين والأعمى ٢٤ - ٣٤.
ه. حوار بين المسيح والأعمى ٣٥ - ٣٨.
و. حوار بين المسيح والفريسيين ٣٩ - ٤١.
1 - شفاء الأعمى
"وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته". [1]
إن كان السيد المسيح قد اجتاز في وسط القيادات
اليهودية واختفى منهم لأنهم حملوا حجارة لكي يرجموه (٨: ٥٩)، نراه يجتاز بجوار
أعمى مسكين يستعطي، فيتطلع إليه لا كما يتطلع الآخرون إليه، إنما بروح الحب
والترفق. إنها صورة حية للسيد المسيح الذي رفضه اليهود المعتزين بالهيكل، ليسير
كما في الشوارع يطلب الأمم. إنهم عاجزون عن رؤيته لأنهم بلا نبوات ولا شريعة إلهية
ولا رموز؛ إنهم أشبه بالمولود أعمى، مكانه الطريق، فقير يستعطي في حالة بؤس. وكما
يقول أيوب البار: "لِمَ يعطي لشقي نور، وحياة لمُريّ النفس" (أي ٣: ٢٠).
لم يذكر الإنجيلي أين كان مجتازًا ولا إلى أين يذهب،
لكنه إذ كان مجتازًا كحامل للآلام رأى هذا المولود أعمى. وكان فقيرًا يستعطى، في
مكانٍ معين، حيث يقدم له بعض المحسنين عطاءً لكي يعيش.
كان معروفًا في المدينة أنه مولود أعمى، ولم يسأله
الشخص ولا من هم حوله، ولا حتى تلاميذ السيد من أجل تفتيح عينيه، ربما لأنه لم
يتوقع أحد حدوث ذلك.
تطلع إليه ربنا يسوع لكي يجده الأعمى المسكين، وكما
جاء في إشعياء: "أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وُجدت من الذين لم يطلبونني. قلت
هأنذا لأمة لم تُسمى باسمي" (إش ٦٥: ١). بادر بالحب، فأحبنا قبل أن نعرفه،
وكما يقول الرسول: "عُرفتم من الله" (غلا ٤: ٩).
v إذ
هو مملوء حبًا نحو الإنسان، مهتم بخلاصنا، ويريد أن يبكم أفواه الأغبياء لم يتوقف
عن العمل من جانبه مع أنه لم يوجد من يبالي به. وإذ يعرف النبي ذلك قال: "كي
تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت" (مز ٥١: ٤). لذلك هنا عندما رفضوا كلماته
السامية، قائلين أن به شيطان، وحاولوا قتله، ترك الهيكل وشفى الأعمى، مُسكنًا من
ثورتهم بغيابه، وصانعًا المعجزة ليهدئ من قسوتهم وعنفهم، مثبتًا الحقائق. صنع
معجزة غير عادية، بل حدثت لأول مرة. يقول الذي شُفي: "منذ الدهر لم يُسمع أن
أحدًا فتح عيني مولود أعمى" [٣٢]. ربما فتح البعض أعين عميان، أما مولود أعمى
فلم يحدث قط. أما بخروجه من الهيكل تقدم للعمل عمدًا فواضح من هذا، أنه هو الذي
رأى الأعمى، ولم يأتِ الأعمى إليه. بغيرة تطلع إليه، وقد أدرك تلاميذه هذا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v
هذا الأعمى هو الجنس البشري، لأن هذا العمى وجد له موضعًا في الإنسان الأول
بالخطية، هذا الذي نحن جميعنا نلنا أصلنا، ليس من جهة الموت فحسب، بل ومن جهة
الشر. فإن كان عدم الإيمان هو عمى، والإيمان استنارة، فمن وجده المسيح مؤمنًا عند
مجيئه؟ فإن ذاك الرسول الذي تنسب نفسه لعائلة الأنبياء يقول: "كنا بالطبيعة
أبناء الغضب كالباقين أيضًا" (اف ٢: ٣)... فإن كان الشر قد وجد له جذوره
فينا، فإن كل إنسانٍ ولد أعمى ذهنيًا. لأنه إن كان يرى فعلاً، فلا يحتاج إلى قائد.
وإذ كان يحتاج إلى من يقوده وينيره، فهو إذن أعمى منذ مولده.
القديس أغسطينوس
"فسأله تلاميذه قائلين:
يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟" [2]
خرج السيد المسيح من الهيكل (يو ٨: ٥٩)، وكان في رفقته
تلاميذه الذين لم يتركوه في تجاربه، فتمتعوا بالتعرف عليه، ونالوا خبرات جديدة
فائقة. لاحظوا أن عينيه تتطلعان إلى الأعمى المسكين، ولم تكن نظرات عادية، بل
نظرات عمل مملوءة حبًا. فتحولت نظراتهم هم أيضًا إلى المولود الأعمى، وعوض السؤال
من أجله لشفائه قدموا استفسارًا عن علة ميلاده أعمى.
v إن
قلت: من أين جاءوا بهذا السؤال؟ أجبتك: لما شفي السيد المسيح المفلوج قبلاً قال
له: "ها أنت قد برئتk فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14). فهؤلاء إذ خطر
ببالهم أن ذاك قد أصاب الفالج جسده لأجل خطاياه، إلا أن هذا القول لا ينبغي أن
يُقال عن هذا الأعمى، لأن من مولده هو أعمى. فهل أخطأ والداه؟ ولا هذا القول يجوز
أن يُقال، لأن الطفل لا يتكبد العقوبة من أجل أبويه... لقد تحدث التلاميذ هنا لا
ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حيرة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
كان القول الرباني (المنسوب للربيين) المشهور:
"ليس موت بدون خطية، ولا ألم بدون شر". وقد حاول الربيون تبرير ذلك بما
ورد في حز ١٨: ٢٠؛ مز ٨٩: ٣٢. وقد ثبت هذا القول في أذهان اليهود، من بينهم تلاميذ
السيد المسيح الذين لم يسألوا إن كان هذا العمي بسبب الخطية أم لا، ففي نظرهم هذا
أمر لا يحتاج إلى سؤال أو مناقشة، إنما جاء السؤال عمن أخطأ حتى حلت الكارثة
المرعبة بهذا الشخص. ما أربك التلاميذ أنه كيف يكون قد أخطأ قبل ولادته حتى يُولد
هكذا، ألعل هذا بسبب خطية والديه؟ وما ذنبه هو مادامت الخطية ارتكبها أحد
الوالدين؟
لقد اعتقد البعض أن نفس الإنسان قد تكون أخطأت قبل أن
تلتحف بالجسد، كما اعتقد العلامة أوريجينوس أن البعض يعانون آلامًا قبل أن يمارسوا
خطأ بعد ولادتهم. ولعل البعض اعتمد على المنطق البشري لتبرير العدالة الإلهية، كيف
يُولد أناس فقراء وآخرين أغنياء، أو يولد شخص حاد الذكاء وآخر ينقصه الذكاء، أو شخص
قوي البنية وآخر مصاب بأمراض كثيرة. هذا وقد اعتمد البعض على تأكيد إمكانية ارتكاب
الخطأ قبل الولادة مما قيل عن يعقوب وعيسو وهما في الرحم: "وتزاحم الولدان في
بطنها" (تك ٢٥: ٢٢).
وجاء في كتابات الربيين عما يحل بالأبناء بسبب أخطاء
الوالدين. قال أحدهم في التزام الرجل ألا يحملق في امرأة: "من يتطلع إلى عقب
امرأة سيولد له أطفال معوقين". وقال آخر أن هذا يحدث لمن يعاشر زوجته أثناء
الطمث. وقال آخر أن من يمارس العلاقات الزوجية أثناء وجود دم (فترة الطمث) سيكون
له أطفال يعانون من مرض الصرع. وقد وردت أقوال مشابهة كثيرة تبرز في اقتناع
الربيين بأن أخطاء الوالدين يُعاقبون عليها بتشوهات خلقية في أبنائهم، يعاني منها
الأبناء مدى الحياة.
هذا يوضح أن ما قاله التلاميذ لم يكن من وحي خيالهم،
بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليهود خلال تعاليم الربيين وكتاباتهم.
يظن البعض أن التلاميذ سمعوا عن بعض الأفكار
الفيثاغورية Pythagrean التي كانت تنادي
بالوجود السابق للنفس. ولعل الفريسيون حملوا ذات الفكر عندما قالوا للمولود:
"في الخطايا وُلدت أنت بجملتك" [٣٤].
تعتقد كثير من الشعوب الآسيوية في تناسخ الأرواح، ولا
تزال الهندوسية تهتم أن تحدد خطية الشخص التي ارتكبها حين كان في جسم آخر قبل
ميلاده. اقتبس العلامة أوريجينوس عن كتاب العبرانيين غير القانوني حديثا ليعقوب
يقول فيه: "أنا ملاك الله، أحد الرتب الأولى للأرواح. يدعوني الناس يعقوب،
وأما اسمي الحقيقي الذي يعطيني الله إياه فهو إسرائيل. يعتقد أفلاطون أن الهواء
مملوء بالأرواح، والبعض بسبب نزعاتهم الطبيعية الحيوية يربطون أنفسهم بأجسام،
والآخرون يبغضون مثل هذا الاتحاد".
"أجاب يسوع:
لا هذا أخطأ ولا أبواه،
لكن لتظهر أعمال الله فيه". [3]
عوض إدانة المولود أعمى أو والديه وجَّه السيد المسيح
أنظار تلاميذه إلى عناية الله الفائقة وخطته الخفية، فقد سمح بالعمى لكن يهب هذا
المولود أعمى البصيرة الروحية، ولكي يشهد للحق الإلهي أمام القيادات اليهودية
العنيفة ويمجد الله.
لم يقل السيد المسيح أن هذا الأعمى لم يخطئ، ولا أيضًا
أبواه لم يخطئا، فكل البشرية تسقط في الخطية. لكن ما يعاني منه هذا الأعمى ليس
بسبب خطية معينة ارتكبها هو أو والداه. ما يليق بالتلاميذ كما بالمؤمنين أن
ينشغلوا بأعمال الله وخطته نحو كل إنسان ليتمتع بالبصيرة الداخلية، ويتعرف على
أسرار الله، وينال شركة المجد الأبدي.
يد الله عاملة على الدوام وسط الضيقات كما في الأفراح،
تحت كل الظروف الله يريد خلاصنا. فالمؤمنون لم ينالوا وعدًا بألا تحل بهم ضيقات أو
آلام كغيرهم من سائر البشر، إنما بالعكس يتعرضون لضيقات أكثر. لكن ما يعزيهم هو
إدراكهم لخطة الله في كل شيء، وتمتعهم بالنعمة الإلهية التي لهم فيها كل الكفاية.
هذا ما وعدنا به الله كما قيل لبولس الرسول: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف
تكمل" (٢ كو ١٢: ٩).
لا يعرف المؤمن الشكوى وسط التجارب لأن عيناه مسمرتان
على أبوة الله الحانية، وقلبه منفتح على إدراك خطة الله نحوه.
v
المسيح هو المخلص، بعمل الرحمة صنع ما لم يعطه في الرحم. الآن عندما لم يعطِ ذاك
الأعمى عينين لم يكن ذلك عن خطأ فيه (الخالق) بالتأكيد، وإنما للتأجيل من أجل صنع
المعجزة... "لا هذه أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه"... إنه لم
يعطه ما كان يمكنه أن يعطيه؛ إنه لم يعطه ما عرف أنه سيعطيه حين تكون هناك حاجة
إلى ذلك.
لم يكن العمى بسبب خطية والديه ولا بسبب خطاياه هو
"لكن لتظهر أعمال الله فيه"، فإننا نحن جميعًا حين وُلدنا كنا مرتبطين
بالخطية الأصلية، ومع ذلك لم نُولد عميانًا. على أي الأحوال ابحث بحرص فإننا
وُلدنا عميان. فمن لم يولد أعمى؟ أقصد عمى القلب. ولكن الرب يسوع الذي خلق الاثنين
يشفي الاثنين.
القديس أغسطينوس
v
قول السيد المسيح عن الأعمى: "لا هذا أخطأ ولا أبواه"، ليس مبرئًا
لأبويه من الخطايا، لأنه لم يقل على بسيط ذات القول: "لا هذا أخطأ ولا
أبواه"، لكنه أكمل: "لكن لتظهر أعمال الله فيه". لأن هذا الأعمى قد
أخطأ هو ووالداه، إلا أن عماه هذا ليس بسبب هذا. لأنه لا يجوز أن يُعاقب أحد إذا
أخطأ آخر، فقد أزال هذا الوهم بلسان حزقيال النبي إذ قال: "وكان إليّ كلام
الرب قائلاً: ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا
الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد أن
تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كل النفوس هي لي، نفس الآب كنفس الابن، كلاهما لي
النفس التي تخطئ هي تموت" (حز 18: 1-4). هذا وقد قال موسى النبي: "لا
يُقتل الآباء عن الأبناء، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته
يُقتل" (تث 24: 16).
فإن قال قائل: فكيف قال الرب لموسى النبي: "لأني
أنا الرب إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من
مبغضي" (خر 20: 5)؟ فنقول له: إن هذه القضية ليست كلية، لكنها إنما قيلت عن
أناسٍ من الذين خرجوا من مصر، فالذي يقول هذا معناه: لما خرج اليهود من مصر وصاروا
بعد رؤيتهم لآيات وعجائب أشر من والديهم وأجدادهم الذين لم يشاهدوا مثل هذه
العجائب، سيقاسون المصائب نفسها التي قاساها أولئك إذ قد تجاسروا على هذه الأعمال
نفسها.
v
يقول هذا ليس كمن يشير إلى أنهم لم يخطئوا، فإن كل من هذا الإنسان ووالديه قد
أخطأوا، لكن عماه ليس بسبب هذا... وإنما لكي يُعلن مجد الله فيه. يقول قائل: لماذا
يعاني من أجل مجد الله؟ أي ظلم، أخبرني؟ فإنه ماذا لو أن لم يخلقه نهائيًا؟ لكنني
أقول: لقد نال نفعًا بعماه، إذ نال شفاءً لبصيرته الداخلية. أي نفع لليهود بأعينهم
إذ صارت دينونتهم أعظم، فإنهم رأوا وكانوا عاجزين؟ أي ضرر أصاب هذا الرجل من عجزه،
فإنه بهذا انفتحت عيناه؟ لذا فشرور الحياة الحاضرة ليست شرورًا، ولا الخيرات هي
صلاح. الخطيئة وحدها هي شر، أما العجز فليس شرًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
كتب القديس جيروم إلى كاستريتوس Castrutius of Pannonia يعزّيه على عماه
الجسدي:
v إذ
أكتب إليك الآن أسألك ألا تتطلع إلى البلوى الجسدية التي حلّت بك ظانًا أنها بسبب
الخطية... أما نرى أعدادًا كبيرة من الوثنيين واليهود والهراطقة وأصحاب أفكار
مختلفة يتمرغون في وحل الشهوة، ويسبحون في الدم في عنفٍ أكثر من الذئاب المفترسة
وكالحدأة الخاطفة، ومع هذا لم يحل هذا الوباء إلى مساكنهم؟ إنهم لا يصابون مثل
غيرهم، ويزدادون وقاحة ضد اللَّه، ويرفعون وجوههم حتى إلى السماء. ومن الجانب
الآخر نحن نعرف أن القديسين يصابون بأمراضٍ وآلامٍ وأعواز... إن ظننت أن عماك سببه
الخطية، وأن المرض الذي غالبًا ما يستطيع الأطباء أن يشفوه شهادة على غضب اللَّه،
إذن فأنت تحسب اسحق خاطئًا، إذ أصيب بعمى كامل حتى خُدع، وهو يعطي البركة لمن لم
يكن يود أن يعطيه. نتهم يعقوب بالخطية الذي اظلمّ نظره، فلم يعد يرى إفرايم ومنسّى
(تك 1:48)، مع أنه بعينه الداخلية وروحه النبوية استطاع أن يرى المستقبل البعيد
وأن المسيح قادم من السبط الملوكي (تك 1:49).
القديس جيروم
لا يليق بالمؤمن وقد أدرك أسرار الله الفائقة أن يدين
أحدًا أو يحسب ما يحل بالآخرين عقوبة إلهية لخطايا خفية، إذ يستخف بهم حتى وإن
كانت خطاياهم ظاهرة. لقد سقط اليهود في ذلك فحسبوا البار، الذي بلا خطية، أنه
يتألم ويُصلب عن شر أو تجديف ارتكبه. يقول المرتل: "لأن الذي ضربته أنت هم
طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون" (مز ٦٩: ٥٦). ويقول إشعياء النبي:
"نحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا،
مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا" (إش ٥٣: ٤ - ٥).
"ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار،
يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل". [4]
كانت لحظات حاسمة حين تطلع رب المجد يسوع إلى المولود
أعمى. إنها ليست لحظات لشفاء عيني المولود أعمى فحسب، وإنما للكشف عن شخص السيد
المسيح أنه نور العالم واهب البصيرة الداخلية، ومع هذا لم يستطع أحد أن يكتشف ما
وراء هذا العمى. لم يكن ممكنًا حتى تلك اللحظات لتلاميذ السيد المسيح أن يقرأوا
ويفهموا كتاب العناية الإلهية، لكنه جاء الوقت فيما بعد لإدراك هذا السرّ الإلهي،
وللتعرف علي العمل الإلهي الفائق.
إنه لم يتقدم للعمل لإبراز قدرته على صنع عجائب، وإنما
ليمارس أعمال أبيه الذي أرسله. لم يقل أمارس الأعمال التي أمرني بها أبي، وإنما
يمارس ذات أعمال أبيه. ويلاحظ هنا الآتي:
أولاً: جاء إلى العالم لمهمة عمل، يحقق إرادة أبيه في
طاعة كاملة كابن الإنسان، وهي ذات إرادة الابن. لهذا فمن يطيع، إنما يشارك مسيحنا
طبيعة الطاعة.
ثانيًا: يمارس ذات عمل الآب، وهذا ما يؤكده السيد
المسيح في إنجيل يوحنا في وحدة العمل الإلهي، كما سنرى في عبارات قادمة واضحة.
ثالثًا: بروح الحب للبشرية والطاعة والوحدة مع الآب
يجد مسرة في تحقيق هذا العمل، بل والتزام محبة، إذ يقول: "ينبغي أن
أعمل".
رابعًا: يعمل مادام نهار قبل أن يتحرك اليهود بالحقد
والكراهية لقتل السيد المسيح. فترة خدمته هي فرص للعمل الظاهر حتى وإن كان الوقت
سبتًا. هذه دعوة لنا للتحرك بالعمل، وانتهاز كل ساعات عمرنا لئلا ينتهي نهار عمرنا
ولا نحقق رسالتنا. لقد وهبنا الله النهار للعمل (مز ١٠٤: ٢٢-٢٣)، لذا يليق بنا ألا
نلهو في نهار عمرنا ولا نفسده، بل نجاهد في طاعة لله أبينا حتى متى حل المساء صار
لراحتنا.
خامسًا: يدعونا نحن أيضًا أن نعمل به ومعه، وكما يقول
الرسول: "العاملان مع الله" (١ كو ٣: ٩). ففي العمل معه راحة وكرامة
ومجد، نشترك معه في العمل مادمنا في الحياة قبل أن يحل الليل.
v
ماذا تعني تلك الكلمات؟ ما هي النتائج المترتبة عليها؟ كثيرة. لأن ما يقوله هو نوع
من هذا: مادام نهار حيث يمكن للشعب أن يؤمن بي، مادامت هذه الحياة لازالت قائمة
يلزمني أن أعمل. يأتي ليل، بمعنى أنه في المستقبل حيث لا يقدر أحد أن يعمل. لم
يقل: "أنا لا أقدر أن أعمل"، بل "لا يقدر أحد أن يعمل"، بمعنى
انه لا يعود يوجد إيمان ولا أعمال ولا توبة.
v
لماذا دعا بولس هذه الحياة "ليلاً"؟ (رو ١٣: ١٢) وهنا دعاها السيد
"نهارًا""؟ إنه لا يتحدث بما يعارض المسيح، إنما يقول نفس الشيء،
وإن كان ليس في الكلمات لكن في المعنى. إنه يقول: "قد تناهى الليل وتقارب
النهار". دعا الوقت الحاضر ليلاً، لأنه يقرنه بالنهار المقبل. دعا المسيح
المستقبل "ليلاً" لأنه لا يوجد مكان لأعمال التوبة والإيمان والطاعة في
العالم المقبل إن أُهملت خطية ما هنا. أما بولس فيدعو الحياة الحاضرة ليلاً لأن من
يستمر في شره وعدم إيمانه فهو في ظلمة. فإذ يوجه الحديث إلى المؤمنين قال:
"قد تناهى الليل وتقارب النهار"، إذ يلزمهم أن يتمتعوا بذاك النور؛ إنه
يدعو الحياة القديمة ليلاً. "فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور".
القديس يوحنا الذهبي الفم
هكذا إذ يوجه السيد المسيح حديثه إلى غير المؤمنين
يحسب حياتهم هنا نهارًا إن قورنت بحياتهم في العالم المقبل. الآن وقت يمكن لهم أن
يتمتعوا بنور شمس البرٍّ في أعماقهم بالإيمان الحي والتوبة الصادقة؛ أما في العالم
العتيد فتحيط بهم الظلمة، حيث لا مجال للرجوع إلى المخلص وتقديم توبة. أما الرسول
بولس فيوجه حديثه إلى المؤمنين حاسبًا حياتهم الماضية ليلاً حيث كانوا يسلكون في
أعمال الظلمة، وقد حان وقت الرحيل إلى العالم المقبل حيث يتمتعون بنور المسيح
الأبدي، الذي أمامه تحسب الحياة هنا أشبه بليلٍ دامس.
v يا
اخوة، إن وضعنا في الاعتبار عقوبتنا الموروثة، فالعالم كله أعمى. وقد جاء المسيح
واهب الاستنارة، لأن الشيطان هو الذي يسبب العمى. لقد جعل كل البشرية مولودين
عميانًا، ذاك الذي خدع الإنسان الأول. ليجروا نحو واهب الاستنارة. ليجروا ويؤمنوا
ويتقبلوا الطين الذي من البصاق... ليغسلوا وجوههم في بركة سلوام... هوذا سلوام،
أغسل وجهك، اعتمد، حتى تستنير وترى يا من كنت قبلاً لا ترى.
v
أولا: افتح عينيك لمن قال: "جئت لكي أعمال الذي أرسلني" (راجع يو ٩: ٤).
الآن يقف الأريوسي في الحال ويقول: "هنا كما ترى لم يفعل المسيح أعماله هو بل
أعمال الآب الذي أرسله"... هل هذه الأعمال ليست أعماله؟ ماذا يقول الذي هو
نفسه سلوام، المُرسل نفسه، الابن نفسه، الابن الوحيد، الذي تشتكي له مقللاً من
شأنه؟ ماذا يقول: "كل ما للآب هو لي" (يو ١٦: ١٥)... فإنه لم يقل:
"كل ما للآب قد أعطاني". مع أنه حتى إن قال هذا يظهر أيضًا مساواته
له... اسمع في موضع آخر: "وكل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي" (يو
١٧: ١٠). التساِؤل ينتهي، فإن ما للآب والابن هو كما باتفاقٍ واحدٍ، فلا تُدخل
شقاقًا. ما يدعوه "أعمال الآب" هي أعماله هو، فإن ما هو لك فهو لي...
"لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك (وبنفس الطريقة)" (يو ٥: ١٩).
القديس أغسطينوس
يقدم لنا السيد المسيح نفسه مثالاً، بل ونائبًا عنا،
حتى متى اختفينا فيه نمارس ذات عمله بذات روحه. لم يكن محتاجًا إلى جهاد، لأنه
يعمل عمل أبيه بكل مسرة داخلية بالرغم من المقاومة المستمرة ممن حوله. إنه ينبغي
أن يعمل حتى خلال اتحادنا به، لا نكف عن الجهاد والشعور بالالتزام بالعمل قبل أن
يحل بنا ليل الموت وينتهي نهار زماننا على الأرض.
"مادمت في العالم فأنا نور العالم". [5]
يعمل السيد المسيح مادام الوقت نهار، أي مادام يمكننا
أن نتمتع بأعماله الخلاصية، لأنه إذ ينتهي النهار ويحل ليل القبر لا يمكن الانتفاع
بعد بأعماله، حيث لا مجال لتوبتنا ورجوعنا إليه. في نهار حياتنا يشرق علينا بكونه
"نور العالم"، شمس البرّ الذي ينير نفوسنا وأذهاننا وكل أعماقنا.
سبق فأعلن أن عمله هو إشراق نوره على الجالسين في
الظلمة (يو ٨: ١٢)، فهو شمس البرّ واهب الاستنارة والشفاء خلال أشعة حبه أو تحت
جناحيه. كرأس للكنيسة يحول مؤمنيه إلى "نورٍ للعالًم" ليس لهم إلاَّ أن
يحترقوا بنار الحب الإلهي من أجل الآخرين.
قال هذا لنؤمن بأنه يتحدث عن التجسد، فإنه مادام هو إنسان. إنه في هذا العالم إلي
حين، لكنه بكونه الله يوجد في كل الأزمنة. يقول في موضع آخر: "هاأنذا معكم كل
الأيام وإلي كمال الدهر" ( مت 28:20).
القديس أمبروسيوس
v هنا
يُظهر انه حتى بعد الصليب يهب رعايته الحانية للأشرار، ويجذب كثيرين إليه. فإنه لا
يزال الوقت نهار [4]. ولكن بعد هذا فسيقطعهم تمامًا. يعلن عن هذا بقوله:
"مادمت في العالم فأنا نور العالم". [5]. كما قال لآخرين: "مادام
لكم النور آمنوا بالنور" (يو 12 :36).
القديس يوحنا الذهبي الفم
الابن الوحيد الجنس هو نور ليس فقط للعالم، بل ولكل خليقة علوية.
القديس كيرلس الكبير
يُلقب "نور العالم" (يو ٩: ٥) لأجل عمله في إنارة العالم، الذي فيه هو
النور.
ويُدعى القيامة إذ ينزع عن للذين يقتربون إليه بإخلاص
ما هو ميت ويقيم فيهم خبرة الحياة.
وبسبب أعمال أخرى دُعي "الراعي" (يو ١٠: ١١،
١٢)، والمعلم (يو ١٣: ١٣)، والملك (زك ٩: ٩؛ مت ٢١: ٥؛ يو ١٢: ١٥)، والسهم المختار
(مز ٤٤: ٦؛ إش ٤٩: ٢)، والعبد (إش ٤٩:٣)، بالإضافة إلى الشفيع والكفارة (١ يو ٢: ١
- ٢؛ رو ٣: ٢٥)، كما يدعى أيضًا اللوغوس، إذ ينزع عنا كل ما هو غير عاقل alogon، ويجعلنا بحق كائنات عاقلة نعمل كل شيء
لمجد الله، حتى الأكل والشرب (١ كو ١٠: ٣١)، فنتمم الأعمال العامة والكاملة في
الحياة لمجد الله، وذلك بسبب التعقل. إن كنا بالشركة معه نقوم ونستنير، وأيضًا
يرعانا ويدبر حياتنا، فمن الواضح أننا أيضًا نصير عاقلين بطريقة إلهية عندما يحطم
فينا كل ما هو ليس عاقل irrational وما هو ميت بكونه هو الكلمة والقيامة (يو ١: ١، ١١:
٢٥).
العلامة أوريجينوس
v ما
هو ذاك الليل الذي متى حل لا يقدر أحد أن يعمل؟ اسمعوا ما هو هذا النهار، وعندئذ
ستفهمون ما هو الليل... دعوه هو يخبرنا: "مادمت في العالم فأنا نور
العالم" [٥]. انظروا هو نفسه النهار. دع الأعمى يغسل عينيه في النهار، لكي
يرى النهار... إذن سيكون ليل من نوع ما هو عدم معرفة الشخص لي؛ حيث لا يكون بعد
المسيح هناك، فلا يقدر أحد أن يعمل.
v
إنه ليل الأشرار، ليل أولئك الذين سيُقال لهم في النهاية: "ابعدوا إلى النار
الأبدية المعدة لإبليس وملائكته".
الآن يعمل الإيمان بالحب، فإن كنا الآن نعمل - فيكون
الآن نهارًا - إذ المسيح حاضر هنا.
اسمعوا وعده، ولا تظنوا أنه غائب. إنه بنفسه قال:
"ها أنا معكم". إلى متى؟ ليتنا لا نقلق نحن الأحياء؛ حيث هذا ممكن إذ
نكون في أمان كامل بكلمته في الأجيال القادمة.
إنه يقول: "هذا أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء
الدهر" (مت ١٨: ٢٠). يوجد وقت للعمل وآخر لنوال الأجرة، فإن الرب سيكافئ كل
واحدٍ حسب أعماله (مت ١٦: ٢٧).
مادمتم تعيشون اعملوا... فسيأتي ليل مرعب يغشى الأشرار
في ثناياه. الآن كل غير مؤمن يموت يدخل في ليلٍ، حيث لا يوجد عمل يمكن أن يُفعل.
في ذلك الليل كان الغني يحترق ويتألم ويعترف، لكنه لم ينل أية راحة. لقد حاول أن
يفعل صلاحًا إذ قال لإبراهيم: "يا أبي إبراهيم، أرسل لعازر إلى اخوتي ليخبرهم
ما يحدث هنا، لئلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هنا" (راجع لو ١٦: ٢٧-٢٨).
يا له من إنسان شقي! عندما كنت عائشًا كان وقت للعمل،
الآن أنت في ليلٍ، حيث لا يقدر إنسان أن يعمل.
القديس أغسطينوس
"قال هذا وتفل على الأرض،
وصنع من التفل طينًا،
وطلى بالطين عيني الأعمى". [6]
طريقة شفاء المولود أعمى فريدة، فمن المعروف أن الطين
يفسد العين السليمة، فكيف يصنع من التفل طينًا ليطلي به عيني المولود أعمى؟ ولماذا
لم ينتظر ليشفيه خفية حتى لا تهيج القيادات الدينية؟ وأيضًا لم ينتظر حتى يعبر
السبت ليشفيه؟
أولاً: يؤكد السيد المسيح أنه يتمم عمله بحسب فكره
الإلهي وليس حسب رغبتنا ووسائلنا البشرية.
ثانيًا: ما يشغله هو وهب الأعمى بصرًا لعينيه، وبصيرة
لقلبه، دون اهتمام بمقاومة القيادات اليهودية له.
ثالثًا: لم ينتظر حتى يعبر السبت، لأن السبت هو يوم
الراحة، فتستريح نفس المسيح بالعمل الإلهي واهب الاستنارة والراحة للغير.
رابعًا: يقدم نفسه مثلاً ألا نؤجل عمل الخير إلى الغد،
بل ننتهز كل فرصة لنسرع إلى عمل الخير لئلا لا توجد هذه الفرصة في الغد.
خامسًا: صنع من التفل طينًا وطلى عينيه بيديه، ليؤكد
أن سرّ القوة في المسيح نفسه، وفي عمل يديه. كل ما يصدر عن المسيح فيه قوة وحياة
واستنارة، فإن يده قديرة.
v
لاحظوا أنه عندما أراد أن يشفيه نزع عماه بأمرٍ يزيد العمى، إذ وضع طينًا.
v
أخذ ترابًا من الأرض وذلك بنفس الطريقة هو يخلق (آدم). حقًا لو أنه قال: "أنا
هو الذي أخذ ترابًا من الأرض وشكل الإنسان"، لكان الأمر شاقًا وبغيضًا على
سامعيه أن يحتملوه. لكنه إذ أظهر الأمر خلال العمل الواقعي لا يقف شيء أمامه. لذلك
إذ أخذ ترابًا ومزجه باللعاب يًعلن مجده الخفي. فإنه ليس بالمجد الهين أن يؤمنوا
أنه صانع الخليقة.
v إن
سألت: لِم لم يستعمل السيد المسيح ماءً في الطين الذي أصلحه، بل استعمل لعابه؟
أجبتك: لكى لا يُنسب الشفاء إلى الينبوع، بل لكى تعرف أن القوة الظاهرة من فمه هي
التي أبدعت عيني الأعمى وفتحتهما.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الإنجيل بحسب يوحنا
الجزء الثاني
أصحاحات 9- 21
الاصحاح التاسع
تفتيح عيني المولود أعمى
نور العالم
رأينا في الأصحاح السابق السيد المسيح يعلن لليهود أنه
نور العالم (٨:١٢). جاء لكي يفضح الظلمة ويبددها، فينتزع السالكين فيها، ويحملهم
إلى نور مجده. لقد صار أبناء إبليس (٨: ٤٤) يحتاجون إلى المحرر الحقيقي ليهبهم
استنارة داخلية، ويتهللوا مع إبراهيم أبيهم بيوم الرب العجيب (٨: ٥٦). الآن وقد
أرادوا رجمه فاختفى عنهم ظهر لكي يهب البصر للمولود أعمى، ربما بعد أيامٍ أو شهورٍ
قليلة من الحوار السابق. كان يلزمهم أن يتلامسوا مع واهب البصر، ليدركوا أنه واهب
البصيرة أيضًا.
لم يرد في العهدين القديم والجديد تفتيح عيني مولود
أعمى سوى في هذا الأصحاح، وقد ورد في العهد الجديد عن عطية النظر للعميان كأحد
أعمال المسيا المنتظر: "ويسمع في ذلك اليوم الصم أقوال السفر، وتنظر من
القتام والظلمة عيون العمي" (إش ٢٩: ١٨)، "حينئذ تنفتح عيون العمي وآذان
الصم تتفتح" (إش ٣٥: ٥)، كما قيل عن عبد الرب (الكلمة المتجسد): "أنا
الرب قد دعوتك بالبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح
عيون العمي" (إش ٤٢: ٦-٧). ويسبح المرتل الرب قائلاً: "الرب يفتح أعين
العمي" (مز ١٤٦: ٨).
وكأن الإنجيليين وهم يشيرون إلى تفتيح أعين العميان،
خاصة هذا المولود أعمى يعلنون تحقيق النبوات خلال شخص يسوع بكونه المسيا المنتظر،
الرب الذي يفتح الأعين الداخلية للقلب مع العيون الجسمية. فيه قد تحققت النبوات،
حيث تمم أعمالاً لا يمكن أن يمارسها غير الله نفسه، أو باسم الرب.
شفاء المولود أعمى يعلن عن شخص السيد أنه جاء يفتح
البصيرة الداخلية، لكي يتعرف المؤمنون على أسرار الله. وفى نفس الوقت يفضح عمى
القيادات المرائية المتعجرفة التي لم تستطع أن تكتشف عماها الروحي وخطاياها!
مع أهمية هذه الآية الفريدة من جهة خلق عيني مولود
أعمى إلاَّ أن الإنجيلي لم يذكر لنا اسم الأعمى، ولا أورد تفاصيل كثيرة عنها إنما
قدم الحوارات المتبادلة بخصوص هذه الآية، خاصة أحاديث السيد المسيح مع التلاميذ
ومع الأعمى نفسه كما مع الفريسيين. فإن ما يشغل ذهن الإنجيلي ليس إبراز ما في
الآية من عملٍ معجزي فائق، وإنما في تمتع البشرية بعمل المسيح الإلهي في حياتهم
وأفكارهم.
لقد استخدم التراب في خلقة العينين ليؤكد أنه الخالق
المخلص، أما طلبته من الأعمى أن يغتسل في بركة سلوام ليؤكد الحاجة إلى مياه
المعمودية لننعم باستنارة الروح القدس خلال الميلاد الجديد. لقد طرد اليهود
المتمتع بالاستنارة ليجد له موضعًا لدى السيد المسيح، مسيح المطرودين والمرذولين.
إن كان البعض من الشعب قد أدرك عماه وأيضًا كثير من
الأمم فإن هذين الفريقين أفضل من الفريسيين الذين مع عماهم ادعوا أنهم مبصرون.
بادعائهم هذا صاروا في غباوة بلا رجاء، أما العشار والزانية فإذ اعترفا بعماهما
انفتح أمامهما باب الرجاء ليتمتعا ببصيرة فائقة وينعما بالحياة الأبدية في المسيح
يسوع.
خلال هذا العمل أمكن للبصيرة أن تتدرج في معرفة شخص
ربنا يسوع:
v
إنسان يُدعى يسوع [11].
v
إنه نبي [17].
v
إنسان من عند اللَّه [33].
v
ابن الإنسان السماوي [35].
v
مستحق للسجود والعبادة بكونه الرب [38].
يقرأ هذا الاصحاح في "أحد التناصير" لأنه
يرتبط بسرّ المعمودية، بكونها استنارة للبصيرة الداخلية.
1 - شفاء الأعمى 1-7.
2 - حوارات بعد الشفاء
أ. حوار بين الجيران والأعمى ٨ - ١٢.
ب. حوار بين الفريسيين والأعمى ١٣ - ١٧.
ج. حوار بين الفريسيين ووالدي الأعمى ١٨ - ٢٣.
د. حوار ثان بين الفريسيين والأعمى ٢٤ - ٣٤.
ه. حوار بين المسيح والأعمى ٣٥ - ٣٨.
و. حوار بين المسيح والفريسيين ٣٩ - ٤١.
1 - شفاء الأعمى
"وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته". [1]
إن كان السيد المسيح قد اجتاز في وسط القيادات
اليهودية واختفى منهم لأنهم حملوا حجارة لكي يرجموه (٨: ٥٩)، نراه يجتاز بجوار
أعمى مسكين يستعطي، فيتطلع إليه لا كما يتطلع الآخرون إليه، إنما بروح الحب
والترفق. إنها صورة حية للسيد المسيح الذي رفضه اليهود المعتزين بالهيكل، ليسير
كما في الشوارع يطلب الأمم. إنهم عاجزون عن رؤيته لأنهم بلا نبوات ولا شريعة إلهية
ولا رموز؛ إنهم أشبه بالمولود أعمى، مكانه الطريق، فقير يستعطي في حالة بؤس. وكما
يقول أيوب البار: "لِمَ يعطي لشقي نور، وحياة لمُريّ النفس" (أي ٣: ٢٠).
لم يذكر الإنجيلي أين كان مجتازًا ولا إلى أين يذهب،
لكنه إذ كان مجتازًا كحامل للآلام رأى هذا المولود أعمى. وكان فقيرًا يستعطى، في
مكانٍ معين، حيث يقدم له بعض المحسنين عطاءً لكي يعيش.
كان معروفًا في المدينة أنه مولود أعمى، ولم يسأله
الشخص ولا من هم حوله، ولا حتى تلاميذ السيد من أجل تفتيح عينيه، ربما لأنه لم
يتوقع أحد حدوث ذلك.
تطلع إليه ربنا يسوع لكي يجده الأعمى المسكين، وكما
جاء في إشعياء: "أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وُجدت من الذين لم يطلبونني. قلت
هأنذا لأمة لم تُسمى باسمي" (إش ٦٥: ١). بادر بالحب، فأحبنا قبل أن نعرفه،
وكما يقول الرسول: "عُرفتم من الله" (غلا ٤: ٩).
v إذ
هو مملوء حبًا نحو الإنسان، مهتم بخلاصنا، ويريد أن يبكم أفواه الأغبياء لم يتوقف
عن العمل من جانبه مع أنه لم يوجد من يبالي به. وإذ يعرف النبي ذلك قال: "كي
تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت" (مز ٥١: ٤). لذلك هنا عندما رفضوا كلماته
السامية، قائلين أن به شيطان، وحاولوا قتله، ترك الهيكل وشفى الأعمى، مُسكنًا من
ثورتهم بغيابه، وصانعًا المعجزة ليهدئ من قسوتهم وعنفهم، مثبتًا الحقائق. صنع
معجزة غير عادية، بل حدثت لأول مرة. يقول الذي شُفي: "منذ الدهر لم يُسمع أن
أحدًا فتح عيني مولود أعمى" [٣٢]. ربما فتح البعض أعين عميان، أما مولود أعمى
فلم يحدث قط. أما بخروجه من الهيكل تقدم للعمل عمدًا فواضح من هذا، أنه هو الذي
رأى الأعمى، ولم يأتِ الأعمى إليه. بغيرة تطلع إليه، وقد أدرك تلاميذه هذا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v
هذا الأعمى هو الجنس البشري، لأن هذا العمى وجد له موضعًا في الإنسان الأول
بالخطية، هذا الذي نحن جميعنا نلنا أصلنا، ليس من جهة الموت فحسب، بل ومن جهة
الشر. فإن كان عدم الإيمان هو عمى، والإيمان استنارة، فمن وجده المسيح مؤمنًا عند
مجيئه؟ فإن ذاك الرسول الذي تنسب نفسه لعائلة الأنبياء يقول: "كنا بالطبيعة
أبناء الغضب كالباقين أيضًا" (اف ٢: ٣)... فإن كان الشر قد وجد له جذوره
فينا، فإن كل إنسانٍ ولد أعمى ذهنيًا. لأنه إن كان يرى فعلاً، فلا يحتاج إلى قائد.
وإذ كان يحتاج إلى من يقوده وينيره، فهو إذن أعمى منذ مولده.
القديس أغسطينوس
"فسأله تلاميذه قائلين:
يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟" [2]
خرج السيد المسيح من الهيكل (يو ٨: ٥٩)، وكان في رفقته
تلاميذه الذين لم يتركوه في تجاربه، فتمتعوا بالتعرف عليه، ونالوا خبرات جديدة
فائقة. لاحظوا أن عينيه تتطلعان إلى الأعمى المسكين، ولم تكن نظرات عادية، بل
نظرات عمل مملوءة حبًا. فتحولت نظراتهم هم أيضًا إلى المولود الأعمى، وعوض السؤال
من أجله لشفائه قدموا استفسارًا عن علة ميلاده أعمى.
v إن
قلت: من أين جاءوا بهذا السؤال؟ أجبتك: لما شفي السيد المسيح المفلوج قبلاً قال
له: "ها أنت قد برئتk فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14). فهؤلاء إذ خطر
ببالهم أن ذاك قد أصاب الفالج جسده لأجل خطاياه، إلا أن هذا القول لا ينبغي أن
يُقال عن هذا الأعمى، لأن من مولده هو أعمى. فهل أخطأ والداه؟ ولا هذا القول يجوز
أن يُقال، لأن الطفل لا يتكبد العقوبة من أجل أبويه... لقد تحدث التلاميذ هنا لا
ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حيرة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
كان القول الرباني (المنسوب للربيين) المشهور:
"ليس موت بدون خطية، ولا ألم بدون شر". وقد حاول الربيون تبرير ذلك بما
ورد في حز ١٨: ٢٠؛ مز ٨٩: ٣٢. وقد ثبت هذا القول في أذهان اليهود، من بينهم تلاميذ
السيد المسيح الذين لم يسألوا إن كان هذا العمي بسبب الخطية أم لا، ففي نظرهم هذا
أمر لا يحتاج إلى سؤال أو مناقشة، إنما جاء السؤال عمن أخطأ حتى حلت الكارثة
المرعبة بهذا الشخص. ما أربك التلاميذ أنه كيف يكون قد أخطأ قبل ولادته حتى يُولد
هكذا، ألعل هذا بسبب خطية والديه؟ وما ذنبه هو مادامت الخطية ارتكبها أحد
الوالدين؟
لقد اعتقد البعض أن نفس الإنسان قد تكون أخطأت قبل أن
تلتحف بالجسد، كما اعتقد العلامة أوريجينوس أن البعض يعانون آلامًا قبل أن يمارسوا
خطأ بعد ولادتهم. ولعل البعض اعتمد على المنطق البشري لتبرير العدالة الإلهية، كيف
يُولد أناس فقراء وآخرين أغنياء، أو يولد شخص حاد الذكاء وآخر ينقصه الذكاء، أو شخص
قوي البنية وآخر مصاب بأمراض كثيرة. هذا وقد اعتمد البعض على تأكيد إمكانية ارتكاب
الخطأ قبل الولادة مما قيل عن يعقوب وعيسو وهما في الرحم: "وتزاحم الولدان في
بطنها" (تك ٢٥: ٢٢).
وجاء في كتابات الربيين عما يحل بالأبناء بسبب أخطاء
الوالدين. قال أحدهم في التزام الرجل ألا يحملق في امرأة: "من يتطلع إلى عقب
امرأة سيولد له أطفال معوقين". وقال آخر أن هذا يحدث لمن يعاشر زوجته أثناء
الطمث. وقال آخر أن من يمارس العلاقات الزوجية أثناء وجود دم (فترة الطمث) سيكون
له أطفال يعانون من مرض الصرع. وقد وردت أقوال مشابهة كثيرة تبرز في اقتناع
الربيين بأن أخطاء الوالدين يُعاقبون عليها بتشوهات خلقية في أبنائهم، يعاني منها
الأبناء مدى الحياة.
هذا يوضح أن ما قاله التلاميذ لم يكن من وحي خيالهم،
بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليهود خلال تعاليم الربيين وكتاباتهم.
يظن البعض أن التلاميذ سمعوا عن بعض الأفكار
الفيثاغورية Pythagrean التي كانت تنادي
بالوجود السابق للنفس. ولعل الفريسيون حملوا ذات الفكر عندما قالوا للمولود:
"في الخطايا وُلدت أنت بجملتك" [٣٤].
تعتقد كثير من الشعوب الآسيوية في تناسخ الأرواح، ولا
تزال الهندوسية تهتم أن تحدد خطية الشخص التي ارتكبها حين كان في جسم آخر قبل
ميلاده. اقتبس العلامة أوريجينوس عن كتاب العبرانيين غير القانوني حديثا ليعقوب
يقول فيه: "أنا ملاك الله، أحد الرتب الأولى للأرواح. يدعوني الناس يعقوب،
وأما اسمي الحقيقي الذي يعطيني الله إياه فهو إسرائيل. يعتقد أفلاطون أن الهواء
مملوء بالأرواح، والبعض بسبب نزعاتهم الطبيعية الحيوية يربطون أنفسهم بأجسام،
والآخرون يبغضون مثل هذا الاتحاد".
"أجاب يسوع:
لا هذا أخطأ ولا أبواه،
لكن لتظهر أعمال الله فيه". [3]
عوض إدانة المولود أعمى أو والديه وجَّه السيد المسيح
أنظار تلاميذه إلى عناية الله الفائقة وخطته الخفية، فقد سمح بالعمى لكن يهب هذا
المولود أعمى البصيرة الروحية، ولكي يشهد للحق الإلهي أمام القيادات اليهودية
العنيفة ويمجد الله.
لم يقل السيد المسيح أن هذا الأعمى لم يخطئ، ولا أيضًا
أبواه لم يخطئا، فكل البشرية تسقط في الخطية. لكن ما يعاني منه هذا الأعمى ليس
بسبب خطية معينة ارتكبها هو أو والداه. ما يليق بالتلاميذ كما بالمؤمنين أن
ينشغلوا بأعمال الله وخطته نحو كل إنسان ليتمتع بالبصيرة الداخلية، ويتعرف على
أسرار الله، وينال شركة المجد الأبدي.
يد الله عاملة على الدوام وسط الضيقات كما في الأفراح،
تحت كل الظروف الله يريد خلاصنا. فالمؤمنون لم ينالوا وعدًا بألا تحل بهم ضيقات أو
آلام كغيرهم من سائر البشر، إنما بالعكس يتعرضون لضيقات أكثر. لكن ما يعزيهم هو
إدراكهم لخطة الله في كل شيء، وتمتعهم بالنعمة الإلهية التي لهم فيها كل الكفاية.
هذا ما وعدنا به الله كما قيل لبولس الرسول: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف
تكمل" (٢ كو ١٢: ٩).
لا يعرف المؤمن الشكوى وسط التجارب لأن عيناه مسمرتان
على أبوة الله الحانية، وقلبه منفتح على إدراك خطة الله نحوه.
v
المسيح هو المخلص، بعمل الرحمة صنع ما لم يعطه في الرحم. الآن عندما لم يعطِ ذاك
الأعمى عينين لم يكن ذلك عن خطأ فيه (الخالق) بالتأكيد، وإنما للتأجيل من أجل صنع
المعجزة... "لا هذه أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه"... إنه لم
يعطه ما كان يمكنه أن يعطيه؛ إنه لم يعطه ما عرف أنه سيعطيه حين تكون هناك حاجة
إلى ذلك.
لم يكن العمى بسبب خطية والديه ولا بسبب خطاياه هو
"لكن لتظهر أعمال الله فيه"، فإننا نحن جميعًا حين وُلدنا كنا مرتبطين
بالخطية الأصلية، ومع ذلك لم نُولد عميانًا. على أي الأحوال ابحث بحرص فإننا
وُلدنا عميان. فمن لم يولد أعمى؟ أقصد عمى القلب. ولكن الرب يسوع الذي خلق الاثنين
يشفي الاثنين.
القديس أغسطينوس
v
قول السيد المسيح عن الأعمى: "لا هذا أخطأ ولا أبواه"، ليس مبرئًا
لأبويه من الخطايا، لأنه لم يقل على بسيط ذات القول: "لا هذا أخطأ ولا
أبواه"، لكنه أكمل: "لكن لتظهر أعمال الله فيه". لأن هذا الأعمى قد
أخطأ هو ووالداه، إلا أن عماه هذا ليس بسبب هذا. لأنه لا يجوز أن يُعاقب أحد إذا
أخطأ آخر، فقد أزال هذا الوهم بلسان حزقيال النبي إذ قال: "وكان إليّ كلام
الرب قائلاً: ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا
الحصرم، وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا يقول السيد الرب لا يكون لكم من بعد أن
تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كل النفوس هي لي، نفس الآب كنفس الابن، كلاهما لي
النفس التي تخطئ هي تموت" (حز 18: 1-4). هذا وقد قال موسى النبي: "لا
يُقتل الآباء عن الأبناء، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته
يُقتل" (تث 24: 16).
فإن قال قائل: فكيف قال الرب لموسى النبي: "لأني
أنا الرب إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من
مبغضي" (خر 20: 5)؟ فنقول له: إن هذه القضية ليست كلية، لكنها إنما قيلت عن
أناسٍ من الذين خرجوا من مصر، فالذي يقول هذا معناه: لما خرج اليهود من مصر وصاروا
بعد رؤيتهم لآيات وعجائب أشر من والديهم وأجدادهم الذين لم يشاهدوا مثل هذه
العجائب، سيقاسون المصائب نفسها التي قاساها أولئك إذ قد تجاسروا على هذه الأعمال
نفسها.
v
يقول هذا ليس كمن يشير إلى أنهم لم يخطئوا، فإن كل من هذا الإنسان ووالديه قد
أخطأوا، لكن عماه ليس بسبب هذا... وإنما لكي يُعلن مجد الله فيه. يقول قائل: لماذا
يعاني من أجل مجد الله؟ أي ظلم، أخبرني؟ فإنه ماذا لو أن لم يخلقه نهائيًا؟ لكنني
أقول: لقد نال نفعًا بعماه، إذ نال شفاءً لبصيرته الداخلية. أي نفع لليهود بأعينهم
إذ صارت دينونتهم أعظم، فإنهم رأوا وكانوا عاجزين؟ أي ضرر أصاب هذا الرجل من عجزه،
فإنه بهذا انفتحت عيناه؟ لذا فشرور الحياة الحاضرة ليست شرورًا، ولا الخيرات هي
صلاح. الخطيئة وحدها هي شر، أما العجز فليس شرًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
كتب القديس جيروم إلى كاستريتوس Castrutius of Pannonia يعزّيه على عماه
الجسدي:
v إذ
أكتب إليك الآن أسألك ألا تتطلع إلى البلوى الجسدية التي حلّت بك ظانًا أنها بسبب
الخطية... أما نرى أعدادًا كبيرة من الوثنيين واليهود والهراطقة وأصحاب أفكار
مختلفة يتمرغون في وحل الشهوة، ويسبحون في الدم في عنفٍ أكثر من الذئاب المفترسة
وكالحدأة الخاطفة، ومع هذا لم يحل هذا الوباء إلى مساكنهم؟ إنهم لا يصابون مثل
غيرهم، ويزدادون وقاحة ضد اللَّه، ويرفعون وجوههم حتى إلى السماء. ومن الجانب
الآخر نحن نعرف أن القديسين يصابون بأمراضٍ وآلامٍ وأعواز... إن ظننت أن عماك سببه
الخطية، وأن المرض الذي غالبًا ما يستطيع الأطباء أن يشفوه شهادة على غضب اللَّه،
إذن فأنت تحسب اسحق خاطئًا، إذ أصيب بعمى كامل حتى خُدع، وهو يعطي البركة لمن لم
يكن يود أن يعطيه. نتهم يعقوب بالخطية الذي اظلمّ نظره، فلم يعد يرى إفرايم ومنسّى
(تك 1:48)، مع أنه بعينه الداخلية وروحه النبوية استطاع أن يرى المستقبل البعيد
وأن المسيح قادم من السبط الملوكي (تك 1:49).
القديس جيروم
لا يليق بالمؤمن وقد أدرك أسرار الله الفائقة أن يدين
أحدًا أو يحسب ما يحل بالآخرين عقوبة إلهية لخطايا خفية، إذ يستخف بهم حتى وإن
كانت خطاياهم ظاهرة. لقد سقط اليهود في ذلك فحسبوا البار، الذي بلا خطية، أنه
يتألم ويُصلب عن شر أو تجديف ارتكبه. يقول المرتل: "لأن الذي ضربته أنت هم
طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون" (مز ٦٩: ٥٦). ويقول إشعياء النبي:
"نحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا،
مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا" (إش ٥٣: ٤ - ٥).
"ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار،
يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل". [4]
كانت لحظات حاسمة حين تطلع رب المجد يسوع إلى المولود
أعمى. إنها ليست لحظات لشفاء عيني المولود أعمى فحسب، وإنما للكشف عن شخص السيد
المسيح أنه نور العالم واهب البصيرة الداخلية، ومع هذا لم يستطع أحد أن يكتشف ما
وراء هذا العمى. لم يكن ممكنًا حتى تلك اللحظات لتلاميذ السيد المسيح أن يقرأوا
ويفهموا كتاب العناية الإلهية، لكنه جاء الوقت فيما بعد لإدراك هذا السرّ الإلهي،
وللتعرف علي العمل الإلهي الفائق.
إنه لم يتقدم للعمل لإبراز قدرته على صنع عجائب، وإنما
ليمارس أعمال أبيه الذي أرسله. لم يقل أمارس الأعمال التي أمرني بها أبي، وإنما
يمارس ذات أعمال أبيه. ويلاحظ هنا الآتي:
أولاً: جاء إلى العالم لمهمة عمل، يحقق إرادة أبيه في
طاعة كاملة كابن الإنسان، وهي ذات إرادة الابن. لهذا فمن يطيع، إنما يشارك مسيحنا
طبيعة الطاعة.
ثانيًا: يمارس ذات عمل الآب، وهذا ما يؤكده السيد
المسيح في إنجيل يوحنا في وحدة العمل الإلهي، كما سنرى في عبارات قادمة واضحة.
ثالثًا: بروح الحب للبشرية والطاعة والوحدة مع الآب
يجد مسرة في تحقيق هذا العمل، بل والتزام محبة، إذ يقول: "ينبغي أن
أعمل".
رابعًا: يعمل مادام نهار قبل أن يتحرك اليهود بالحقد
والكراهية لقتل السيد المسيح. فترة خدمته هي فرص للعمل الظاهر حتى وإن كان الوقت
سبتًا. هذه دعوة لنا للتحرك بالعمل، وانتهاز كل ساعات عمرنا لئلا ينتهي نهار عمرنا
ولا نحقق رسالتنا. لقد وهبنا الله النهار للعمل (مز ١٠٤: ٢٢-٢٣)، لذا يليق بنا ألا
نلهو في نهار عمرنا ولا نفسده، بل نجاهد في طاعة لله أبينا حتى متى حل المساء صار
لراحتنا.
خامسًا: يدعونا نحن أيضًا أن نعمل به ومعه، وكما يقول
الرسول: "العاملان مع الله" (١ كو ٣: ٩). ففي العمل معه راحة وكرامة
ومجد، نشترك معه في العمل مادمنا في الحياة قبل أن يحل الليل.
v
ماذا تعني تلك الكلمات؟ ما هي النتائج المترتبة عليها؟ كثيرة. لأن ما يقوله هو نوع
من هذا: مادام نهار حيث يمكن للشعب أن يؤمن بي، مادامت هذه الحياة لازالت قائمة
يلزمني أن أعمل. يأتي ليل، بمعنى أنه في المستقبل حيث لا يقدر أحد أن يعمل. لم
يقل: "أنا لا أقدر أن أعمل"، بل "لا يقدر أحد أن يعمل"، بمعنى
انه لا يعود يوجد إيمان ولا أعمال ولا توبة.
v
لماذا دعا بولس هذه الحياة "ليلاً"؟ (رو ١٣: ١٢) وهنا دعاها السيد
"نهارًا""؟ إنه لا يتحدث بما يعارض المسيح، إنما يقول نفس الشيء،
وإن كان ليس في الكلمات لكن في المعنى. إنه يقول: "قد تناهى الليل وتقارب
النهار". دعا الوقت الحاضر ليلاً، لأنه يقرنه بالنهار المقبل. دعا المسيح
المستقبل "ليلاً" لأنه لا يوجد مكان لأعمال التوبة والإيمان والطاعة في
العالم المقبل إن أُهملت خطية ما هنا. أما بولس فيدعو الحياة الحاضرة ليلاً لأن من
يستمر في شره وعدم إيمانه فهو في ظلمة. فإذ يوجه الحديث إلى المؤمنين قال:
"قد تناهى الليل وتقارب النهار"، إذ يلزمهم أن يتمتعوا بذاك النور؛ إنه
يدعو الحياة القديمة ليلاً. "فلنخلع أعمال الظلمة، ونلبس أسلحة النور".
القديس يوحنا الذهبي الفم
هكذا إذ يوجه السيد المسيح حديثه إلى غير المؤمنين
يحسب حياتهم هنا نهارًا إن قورنت بحياتهم في العالم المقبل. الآن وقت يمكن لهم أن
يتمتعوا بنور شمس البرٍّ في أعماقهم بالإيمان الحي والتوبة الصادقة؛ أما في العالم
العتيد فتحيط بهم الظلمة، حيث لا مجال للرجوع إلى المخلص وتقديم توبة. أما الرسول
بولس فيوجه حديثه إلى المؤمنين حاسبًا حياتهم الماضية ليلاً حيث كانوا يسلكون في
أعمال الظلمة، وقد حان وقت الرحيل إلى العالم المقبل حيث يتمتعون بنور المسيح
الأبدي، الذي أمامه تحسب الحياة هنا أشبه بليلٍ دامس.
v يا
اخوة، إن وضعنا في الاعتبار عقوبتنا الموروثة، فالعالم كله أعمى. وقد جاء المسيح
واهب الاستنارة، لأن الشيطان هو الذي يسبب العمى. لقد جعل كل البشرية مولودين
عميانًا، ذاك الذي خدع الإنسان الأول. ليجروا نحو واهب الاستنارة. ليجروا ويؤمنوا
ويتقبلوا الطين الذي من البصاق... ليغسلوا وجوههم في بركة سلوام... هوذا سلوام،
أغسل وجهك، اعتمد، حتى تستنير وترى يا من كنت قبلاً لا ترى.
v
أولا: افتح عينيك لمن قال: "جئت لكي أعمال الذي أرسلني" (راجع يو ٩: ٤).
الآن يقف الأريوسي في الحال ويقول: "هنا كما ترى لم يفعل المسيح أعماله هو بل
أعمال الآب الذي أرسله"... هل هذه الأعمال ليست أعماله؟ ماذا يقول الذي هو
نفسه سلوام، المُرسل نفسه، الابن نفسه، الابن الوحيد، الذي تشتكي له مقللاً من
شأنه؟ ماذا يقول: "كل ما للآب هو لي" (يو ١٦: ١٥)... فإنه لم يقل:
"كل ما للآب قد أعطاني". مع أنه حتى إن قال هذا يظهر أيضًا مساواته
له... اسمع في موضع آخر: "وكل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي" (يو
١٧: ١٠). التساِؤل ينتهي، فإن ما للآب والابن هو كما باتفاقٍ واحدٍ، فلا تُدخل
شقاقًا. ما يدعوه "أعمال الآب" هي أعماله هو، فإن ما هو لك فهو لي...
"لأنه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك (وبنفس الطريقة)" (يو ٥: ١٩).
القديس أغسطينوس
يقدم لنا السيد المسيح نفسه مثالاً، بل ونائبًا عنا،
حتى متى اختفينا فيه نمارس ذات عمله بذات روحه. لم يكن محتاجًا إلى جهاد، لأنه
يعمل عمل أبيه بكل مسرة داخلية بالرغم من المقاومة المستمرة ممن حوله. إنه ينبغي
أن يعمل حتى خلال اتحادنا به، لا نكف عن الجهاد والشعور بالالتزام بالعمل قبل أن
يحل بنا ليل الموت وينتهي نهار زماننا على الأرض.
"مادمت في العالم فأنا نور العالم". [5]
يعمل السيد المسيح مادام الوقت نهار، أي مادام يمكننا
أن نتمتع بأعماله الخلاصية، لأنه إذ ينتهي النهار ويحل ليل القبر لا يمكن الانتفاع
بعد بأعماله، حيث لا مجال لتوبتنا ورجوعنا إليه. في نهار حياتنا يشرق علينا بكونه
"نور العالم"، شمس البرّ الذي ينير نفوسنا وأذهاننا وكل أعماقنا.
سبق فأعلن أن عمله هو إشراق نوره على الجالسين في
الظلمة (يو ٨: ١٢)، فهو شمس البرّ واهب الاستنارة والشفاء خلال أشعة حبه أو تحت
جناحيه. كرأس للكنيسة يحول مؤمنيه إلى "نورٍ للعالًم" ليس لهم إلاَّ أن
يحترقوا بنار الحب الإلهي من أجل الآخرين.
قال هذا لنؤمن بأنه يتحدث عن التجسد، فإنه مادام هو إنسان. إنه في هذا العالم إلي
حين، لكنه بكونه الله يوجد في كل الأزمنة. يقول في موضع آخر: "هاأنذا معكم كل
الأيام وإلي كمال الدهر" ( مت 28:20).
القديس أمبروسيوس
v هنا
يُظهر انه حتى بعد الصليب يهب رعايته الحانية للأشرار، ويجذب كثيرين إليه. فإنه لا
يزال الوقت نهار [4]. ولكن بعد هذا فسيقطعهم تمامًا. يعلن عن هذا بقوله:
"مادمت في العالم فأنا نور العالم". [5]. كما قال لآخرين: "مادام
لكم النور آمنوا بالنور" (يو 12 :36).
القديس يوحنا الذهبي الفم
الابن الوحيد الجنس هو نور ليس فقط للعالم، بل ولكل خليقة علوية.
القديس كيرلس الكبير
يُلقب "نور العالم" (يو ٩: ٥) لأجل عمله في إنارة العالم، الذي فيه هو
النور.
ويُدعى القيامة إذ ينزع عن للذين يقتربون إليه بإخلاص
ما هو ميت ويقيم فيهم خبرة الحياة.
وبسبب أعمال أخرى دُعي "الراعي" (يو ١٠: ١١،
١٢)، والمعلم (يو ١٣: ١٣)، والملك (زك ٩: ٩؛ مت ٢١: ٥؛ يو ١٢: ١٥)، والسهم المختار
(مز ٤٤: ٦؛ إش ٤٩: ٢)، والعبد (إش ٤٩:٣)، بالإضافة إلى الشفيع والكفارة (١ يو ٢: ١
- ٢؛ رو ٣: ٢٥)، كما يدعى أيضًا اللوغوس، إذ ينزع عنا كل ما هو غير عاقل alogon، ويجعلنا بحق كائنات عاقلة نعمل كل شيء
لمجد الله، حتى الأكل والشرب (١ كو ١٠: ٣١)، فنتمم الأعمال العامة والكاملة في
الحياة لمجد الله، وذلك بسبب التعقل. إن كنا بالشركة معه نقوم ونستنير، وأيضًا
يرعانا ويدبر حياتنا، فمن الواضح أننا أيضًا نصير عاقلين بطريقة إلهية عندما يحطم
فينا كل ما هو ليس عاقل irrational وما هو ميت بكونه هو الكلمة والقيامة (يو ١: ١، ١١:
٢٥).
العلامة أوريجينوس
v ما
هو ذاك الليل الذي متى حل لا يقدر أحد أن يعمل؟ اسمعوا ما هو هذا النهار، وعندئذ
ستفهمون ما هو الليل... دعوه هو يخبرنا: "مادمت في العالم فأنا نور
العالم" [٥]. انظروا هو نفسه النهار. دع الأعمى يغسل عينيه في النهار، لكي
يرى النهار... إذن سيكون ليل من نوع ما هو عدم معرفة الشخص لي؛ حيث لا يكون بعد
المسيح هناك، فلا يقدر أحد أن يعمل.
v
إنه ليل الأشرار، ليل أولئك الذين سيُقال لهم في النهاية: "ابعدوا إلى النار
الأبدية المعدة لإبليس وملائكته".
الآن يعمل الإيمان بالحب، فإن كنا الآن نعمل - فيكون
الآن نهارًا - إذ المسيح حاضر هنا.
اسمعوا وعده، ولا تظنوا أنه غائب. إنه بنفسه قال:
"ها أنا معكم". إلى متى؟ ليتنا لا نقلق نحن الأحياء؛ حيث هذا ممكن إذ
نكون في أمان كامل بكلمته في الأجيال القادمة.
إنه يقول: "هذا أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء
الدهر" (مت ١٨: ٢٠). يوجد وقت للعمل وآخر لنوال الأجرة، فإن الرب سيكافئ كل
واحدٍ حسب أعماله (مت ١٦: ٢٧).
مادمتم تعيشون اعملوا... فسيأتي ليل مرعب يغشى الأشرار
في ثناياه. الآن كل غير مؤمن يموت يدخل في ليلٍ، حيث لا يوجد عمل يمكن أن يُفعل.
في ذلك الليل كان الغني يحترق ويتألم ويعترف، لكنه لم ينل أية راحة. لقد حاول أن
يفعل صلاحًا إذ قال لإبراهيم: "يا أبي إبراهيم، أرسل لعازر إلى اخوتي ليخبرهم
ما يحدث هنا، لئلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هنا" (راجع لو ١٦: ٢٧-٢٨).
يا له من إنسان شقي! عندما كنت عائشًا كان وقت للعمل،
الآن أنت في ليلٍ، حيث لا يقدر إنسان أن يعمل.
القديس أغسطينوس
"قال هذا وتفل على الأرض،
وصنع من التفل طينًا،
وطلى بالطين عيني الأعمى". [6]
طريقة شفاء المولود أعمى فريدة، فمن المعروف أن الطين
يفسد العين السليمة، فكيف يصنع من التفل طينًا ليطلي به عيني المولود أعمى؟ ولماذا
لم ينتظر ليشفيه خفية حتى لا تهيج القيادات الدينية؟ وأيضًا لم ينتظر حتى يعبر
السبت ليشفيه؟
أولاً: يؤكد السيد المسيح أنه يتمم عمله بحسب فكره
الإلهي وليس حسب رغبتنا ووسائلنا البشرية.
ثانيًا: ما يشغله هو وهب الأعمى بصرًا لعينيه، وبصيرة
لقلبه، دون اهتمام بمقاومة القيادات اليهودية له.
ثالثًا: لم ينتظر حتى يعبر السبت، لأن السبت هو يوم
الراحة، فتستريح نفس المسيح بالعمل الإلهي واهب الاستنارة والراحة للغير.
رابعًا: يقدم نفسه مثلاً ألا نؤجل عمل الخير إلى الغد،
بل ننتهز كل فرصة لنسرع إلى عمل الخير لئلا لا توجد هذه الفرصة في الغد.
خامسًا: صنع من التفل طينًا وطلى عينيه بيديه، ليؤكد
أن سرّ القوة في المسيح نفسه، وفي عمل يديه. كل ما يصدر عن المسيح فيه قوة وحياة
واستنارة، فإن يده قديرة.
v
لاحظوا أنه عندما أراد أن يشفيه نزع عماه بأمرٍ يزيد العمى، إذ وضع طينًا.
v
أخذ ترابًا من الأرض وذلك بنفس الطريقة هو يخلق (آدم). حقًا لو أنه قال: "أنا
هو الذي أخذ ترابًا من الأرض وشكل الإنسان"، لكان الأمر شاقًا وبغيضًا على
سامعيه أن يحتملوه. لكنه إذ أظهر الأمر خلال العمل الواقعي لا يقف شيء أمامه. لذلك
إذ أخذ ترابًا ومزجه باللعاب يًعلن مجده الخفي. فإنه ليس بالمجد الهين أن يؤمنوا
أنه صانع الخليقة.
v إن
سألت: لِم لم يستعمل السيد المسيح ماءً في الطين الذي أصلحه، بل استعمل لعابه؟
أجبتك: لكى لا يُنسب الشفاء إلى الينبوع، بل لكى تعرف أن القوة الظاهرة من فمه هي
التي أبدعت عيني الأعمى وفتحتهما.
القديس يوحنا الذهبي الفم