حينما
خاطب القديس يوحنا ذهبي الفم شعبه سواء مباشرة من على المنبر أو بالمقالات
المكتوبة، كان يستعرض فهمه للطبيعة البشرية ولتقلُّبات الحياة اليومية.
وقد كان اهتمامه الأول أن يسمو بشعبه ويجذبهم ليقتربوا أكثر فأكثر من شخص
الرب يسوع المسيح. كان يحاول باستمرار، ليس فقط أن يُعلِّمهم كيف يحيون
حياتهم متشبِّهين بالمسيح، بل وأيضاً كيف يُنمون حياتهم الروحية. وكانت
الصلاة من بين الموضوعات التي كان يُكثر الحديث عنها. وفي شروحاته على
المزامير يتناول هذا الجانب الهام: ”الصلاة“ بتوسُّع، وإن كان ليس على
سبيل الحصر.
ولا يتحدث القديس ذهبي الفم عن الصلاة من جهة أنواعها
المتعددة (صلاة التمجيد، صلاة التوسُّل... إلخ)، بقدر ما يتكلَّم عن هدف
أن يستجيب الله صلاتك بأي نوع كانت. ويدور تناوله لهذا الجانب من الصلاة
حول داود النبي والمرنِّم، وكيف كان يسعى لإرضاء الله حتى يستجيب له.
وفي شرحه للمزمور السابع الذي يصفه بأنه ترنيمة شكر لله
بعد انتصار داود على ابنه أبشالوم([])، يُعدِّد القديس ذهبي الفم ستة شروط
لاستجابة الله لصلواتنا:
شروط استجابة الصلاة:
أولاً: أن تكون جديرة بالقبول من الله،
ثانياً: أن يُصلِّي الإنسان بما يتوافق مع شرائع الله،
ثالثاً: أن يُصلِّي الإنسان على الدوام وباستمرار،
رابعاً: أن لا نطلب متاع الأرض في صلواتنا،
خامساً: أن نطلب ما هو نافع حقًّا لنا،
سادساً: أن نفعل كل ما في مقدورنا فعله من صلاح([]).
عظات القديس يوحنا ذهبي الفم:
إن العلاقة بين الصلاة والحياة عموماً هي موضوع رئيسي في
شروحات المزامير للقديس يوحنا ذهبي الفم ولا يعسر علينا العثور عليها
كثيراً في سائر عظاته الأخرى. فالحياة التي يعيشها الإنسان، والطريقة التي
يُعامِل بها رفقاءه مــن بني البشر، ومـا يكمن داخل أعماق نفسه، كل هذه
أمور ضرورية للصلاة الناجحة، تماماً مثل أهمية كلمات الصلاة نفسها. كما
أنه ليس هناك أسلوب محدَّد للكلمات التي نُرضي بها الله، فمعاني الكلمات
والإحساسات التي تقف وراءها هي التي تهم.
وهنا يتضح تأثير رسائل القديس بولس الرسول. فالقديس بولس
كثيراً ما تكلَّم عن سلوك الحياة كما يحق للرب، وفي كولوسي 10:1 يصف مثل
هذه الحياة بأنها الإثمار في كل عمل صالح. وفي تسالونيكي الأولى 17:5 يحث
المسيحيين على الصلاة الدائمة. وهو في هذا يكرر الوصية في رومية 12:12:
«مواظبين على الصلاة»، وتصريحه في أفسس 18:6: «مُصلِّين بكل صلاة وطلبة كل
وقت في الروح». أما عن الحياة بحسب مشيئة الله فيوصي الرسول المسيحيين في
رومية 2:12: «ولا تشاكلوا هذا الدهر» (أي لا تعيشوا بحسب هذا العالم)،
ويوبِّخ بولس الرسول مسيحيي فيلبي الذين «يفتكرون في الأرضيات» (في 19:3).
ويربط القديس ذهبي الفم بين الشرط الخامس لاستجابة الصلاة وبين القديس
بولس حينما صلَّى إلى الله أن يرفع عنه الشوكة التي في جسده فلم يستجبْ،
بأنها مَثَل للصلاة من أجل ما ليس نافعاً للإنسان.
ومما لا شكَّ فيه أنه كان للقديس بولس تأثير عميق في
تعاليم القديس ذهبي الفم. وكثيرة جداً هي إشارات القديس ذهبي الفم في كل
كتاباته وفي بعض من باقي أعماله (وإن لم يكن في شروحاته على المزامير) حيث
يُسجِّل إعجابه بلا حدود بالقديس بولس. ويرجع ذهبي الفم إلى القديس بولس
ليس بمجرد ترديد نصوص من رسائله؛ بل هو يستغرق في كتاباته فيرجع إلى مضمون
مفاهيمه اللاهوتية حينما يتناول موضوعاً مـا. وكمثال لهذا، مـا نـراه في
الشروط الستة لاستجابـة الصلاة. فباستثناء ”الصلاة بـلا انقطاع“ (1تس
12:5)، فإن باقي الأمثلة المستقاة من رسائل بولس الرسول لا تختص بالصلاة
بالذات، بل بوصايا بولس الرسول للسلوك في الحياة المتمثِّلة بالمسيح. مما
يلفت نظرنا إلى أن الصلة بين الحياة المتمثِّلة بالمسيح وبين الصلاة
الناجحة هي لفتة يتميز بها القديس يوحنا ذهبي الفم.
وهذه الدراسة قائمة على شروط ذهبي الفم الستة كما يشرحها
ليس فقط في تفسيره للمزمور السابع، بل وفي كل شروحاته على المزامير. وفي
هذه الدراسة قسَّمتُ هذه الشروط إلى قسمين اثنين: الشرطان الأول والسادس
مختصَّان بالحياة والصلاة كشرطين لاستجابة الصلاة، والشروط من الثاني إلى
الخامس مختصَّة بمضمون الصلاة.
والقديس ذهبي الفم يتكلَّم عن كاتب المزامير باعتباره
”النبي“، وهو ليس إنساناً آخر سوى داود. وتشمل الشروط الستة الحياة
بأكملها، وبكلمات القديس يوحنا فإنه لكي تتحقَّق هذه الحياة، فإنه لابد من
أن يصحب المزمور القارئ في كل مستوى من مستويات حياته الشخصية. وحينما
يُقدِّم داود باعتباره مؤلِّف المزامير ويرجع إلى الأحداث التي تمَّت في
سيرته ليشرح هذه المزامير، فإنَّ ذهبي الفم يُقدِّم داود للقارئ باعتباره
شخصاً حقيقياً يتحدث عنه. وهو بهذا يوفِّر لنا تعمُّقاً في نصوص المزامير
أكثر مما تعوَّدنا عليه من تفاسير المزامير.
الحياة والصلاة معاً
لضمان استجابة الصلاة
لكي نستحق أن ننال استجابة لصلواتنا، فهذا يتطلب بالضرورة أن نعمل كل ما
في وسعنا. وهذا يعني: طريقة الحياة، ووضع الصلاة، ما يجعل الله منصتاً
لصلواتنا. ويعتبر القديس ذهبي الفم داود أنه بالدرجة الأولى المعلِّم لهذه
الأمور. فهو ليس فقط مستحقاً لاستماع الله له، بل هو أيضاً جديرٌ بأن يكون
قدوة للآخرين.
الاستحقاق في الصلاة:
حينما يتحدَّث ذهبي الفم في ”شرحه لمزمور 7“، عن تعقُّب
أبشالوم لداود، يضع تأكيداً على رد فعل داود لهذه الضيقة، حيث تظهر شخصية
الرجل بوضوح. وحتى بعد أن قتل أبشالوم أخاه، يقول ذهبي الفم إن داود
عامَـل ابنه برفق([)، ثم بـالرغم من أن أبشالوم انقلب حينئذ على أبيه
واضطره إلى الهرب خوفاً على حياتـه، فإن داود يظل يقول لجنوده: «ترفَّقوا
لي بالفتى أبشالوم» (2صم 5:18). وحينما بلغ داود خبر مقتل أبشالوم صرخ
باكياً منزعجاً: «يا ابني يا ابني أبشالوم، يا ليتني مُتُّ عِوَضاً
عنك...» (2صم 33:18)(). لقد عانى داود عداءً شديداً على يدي ابنه،
ويُعلِّق القديس ذهبي الفم بأن داود تألَّق كالذهب في بوتقة الانصهار، إذ
صار أكثر نقاءً بسبب هذه المحنة القاسية(
ويرى القديس ذهبي الفم في عزلة داود وضعفه الواضح نموذجاً
لانتصار الفضيلة على الرذيلة، لأن الفضيلة ــ كما يقول ذهبي الفم ــ يقف
الله لها حامياً ومعضدا ,. ويحثُّنا أن نقتدي بهذا المثال الذي يُقدِّمه
داود بكلماته في المزمور: ”يا رب إلهي، فيك وثقتُ، فخلِّصني...“() (مز 1:7
ــ بحسب النص في شروحات ذهبي الفم). وهذه النصيحة التي يُسديها لنا ذهبي
الفم تربط بين الحياة والصلاة.
وتتضح فضيلة حياة داود العالية من بدايات مُلْك داود. ففي
2صم 14:7ــ16 يُعلن الرب أنه سيُثبِّت مملكة داود إلى الأبد، وسوف يؤدِّبه
إن أخطأ، ولكنه لن ينزع رحمته منه كما نزعها من شاول الملك.
ولكن إن كان ذهبي الفم قد أوضح أن حياة الفضيلة العالية
ضرورية لحياة الصلاة الناجحة، فماذا يا تُرى قال عن خطية داود العظيمة مع
بثشبع؟ لا شكَّ أن كلامه ذو أهمية وحاسم لنفهم تعليمه عن علاقة الخاطئ
بالله وفرصته في الصلاة الناجحة.
وفي الشروحات كما هي متاحة لنا اليوم، يرجع القديس ذهبي
الفم إلى مرجعين في هذا الموضوع. ففي شرحه على مزمور 6 يقول إن داود ارتكب
خطية القتل، إلاَّ أنه اختبر ”محبة الله للبشر“ Philanthropia([]). وفي
شرحه على مزمور 4 يتكلَّم عن المعاناة القاسية التي أصابت داود بسبب شهوته
الآثمة
ويُقدِّم القديس ذهبي الفم تعليقاً مطوَّلاً على هذه
المسألة في ”عظاته على إنجيل متى ــ العظة 36“، حيث يصف ارتكاب داود للزنا
والقتل بأنه ”مرض“، تفاقم سُوءُه بسبب حقيقة أنه لم يكن فقط رجلاً فاضلاً؛
بل أيضاً نبيًّا. لكن ذهبي الفم يعود فيؤكِّد على ”سرعة تماثـُل داود
للشفاء“ من مرضه، لأنه لم يستغرق في اليأس بل تاب، وعاد طاهراً مرة
أخرى([في موضع آخر يصف طريقة داود في التوبة بأنها:
[بالاتضاع، وندم القلب، وبتأنيب الضمير، وبعدم الرجوع لهذا
السقوط مرة أخرى بتذكُّرها دائماً، وباحتمال كل ما يأتي عليه بالشكر،
وبالرفق بمن يحزنونه، وبالامتناع عن الحُكْم على الذين يتآمرون ضده، إلى
حدِّ مَنْعه الذين كانوا يريدون أن يفعلوا هذا.](])
ونجد في المزامير التي شرحها القديس ذهبي الفم برهاناً على
كل ذلك. فكما رأينا، فإن سلوك داود تجاه أبشالوم برهان على الامتناع عن
مجازاة خصومه. أما عن احتماله بشكر ما يأتي عليه، فإننا نجد ذلك في مزمور
7 حينما يقول: ”سأشكر الرب حسب برِّه، وسأُرنم لاسم الرب العليِّ“ (مز
17:7). ويقول ذهبي الفم إن داود باستخدامه هنا صيغة المستقبل (”سأشكر“،
”سأُرنم“) يشير إلى أنه لم ينسَ أعمال الله الصالحة التي نالها ولا هو صار
كسولاً؛ بل كان صاحي العقل يقظاً لإحسانات الله معه(
خاطب القديس يوحنا ذهبي الفم شعبه سواء مباشرة من على المنبر أو بالمقالات
المكتوبة، كان يستعرض فهمه للطبيعة البشرية ولتقلُّبات الحياة اليومية.
وقد كان اهتمامه الأول أن يسمو بشعبه ويجذبهم ليقتربوا أكثر فأكثر من شخص
الرب يسوع المسيح. كان يحاول باستمرار، ليس فقط أن يُعلِّمهم كيف يحيون
حياتهم متشبِّهين بالمسيح، بل وأيضاً كيف يُنمون حياتهم الروحية. وكانت
الصلاة من بين الموضوعات التي كان يُكثر الحديث عنها. وفي شروحاته على
المزامير يتناول هذا الجانب الهام: ”الصلاة“ بتوسُّع، وإن كان ليس على
سبيل الحصر.
ولا يتحدث القديس ذهبي الفم عن الصلاة من جهة أنواعها
المتعددة (صلاة التمجيد، صلاة التوسُّل... إلخ)، بقدر ما يتكلَّم عن هدف
أن يستجيب الله صلاتك بأي نوع كانت. ويدور تناوله لهذا الجانب من الصلاة
حول داود النبي والمرنِّم، وكيف كان يسعى لإرضاء الله حتى يستجيب له.
وفي شرحه للمزمور السابع الذي يصفه بأنه ترنيمة شكر لله
بعد انتصار داود على ابنه أبشالوم([])، يُعدِّد القديس ذهبي الفم ستة شروط
لاستجابة الله لصلواتنا:
شروط استجابة الصلاة:
أولاً: أن تكون جديرة بالقبول من الله،
ثانياً: أن يُصلِّي الإنسان بما يتوافق مع شرائع الله،
ثالثاً: أن يُصلِّي الإنسان على الدوام وباستمرار،
رابعاً: أن لا نطلب متاع الأرض في صلواتنا،
خامساً: أن نطلب ما هو نافع حقًّا لنا،
سادساً: أن نفعل كل ما في مقدورنا فعله من صلاح([]).
عظات القديس يوحنا ذهبي الفم:
إن العلاقة بين الصلاة والحياة عموماً هي موضوع رئيسي في
شروحات المزامير للقديس يوحنا ذهبي الفم ولا يعسر علينا العثور عليها
كثيراً في سائر عظاته الأخرى. فالحياة التي يعيشها الإنسان، والطريقة التي
يُعامِل بها رفقاءه مــن بني البشر، ومـا يكمن داخل أعماق نفسه، كل هذه
أمور ضرورية للصلاة الناجحة، تماماً مثل أهمية كلمات الصلاة نفسها. كما
أنه ليس هناك أسلوب محدَّد للكلمات التي نُرضي بها الله، فمعاني الكلمات
والإحساسات التي تقف وراءها هي التي تهم.
وهنا يتضح تأثير رسائل القديس بولس الرسول. فالقديس بولس
كثيراً ما تكلَّم عن سلوك الحياة كما يحق للرب، وفي كولوسي 10:1 يصف مثل
هذه الحياة بأنها الإثمار في كل عمل صالح. وفي تسالونيكي الأولى 17:5 يحث
المسيحيين على الصلاة الدائمة. وهو في هذا يكرر الوصية في رومية 12:12:
«مواظبين على الصلاة»، وتصريحه في أفسس 18:6: «مُصلِّين بكل صلاة وطلبة كل
وقت في الروح». أما عن الحياة بحسب مشيئة الله فيوصي الرسول المسيحيين في
رومية 2:12: «ولا تشاكلوا هذا الدهر» (أي لا تعيشوا بحسب هذا العالم)،
ويوبِّخ بولس الرسول مسيحيي فيلبي الذين «يفتكرون في الأرضيات» (في 19:3).
ويربط القديس ذهبي الفم بين الشرط الخامس لاستجابة الصلاة وبين القديس
بولس حينما صلَّى إلى الله أن يرفع عنه الشوكة التي في جسده فلم يستجبْ،
بأنها مَثَل للصلاة من أجل ما ليس نافعاً للإنسان.
ومما لا شكَّ فيه أنه كان للقديس بولس تأثير عميق في
تعاليم القديس ذهبي الفم. وكثيرة جداً هي إشارات القديس ذهبي الفم في كل
كتاباته وفي بعض من باقي أعماله (وإن لم يكن في شروحاته على المزامير) حيث
يُسجِّل إعجابه بلا حدود بالقديس بولس. ويرجع ذهبي الفم إلى القديس بولس
ليس بمجرد ترديد نصوص من رسائله؛ بل هو يستغرق في كتاباته فيرجع إلى مضمون
مفاهيمه اللاهوتية حينما يتناول موضوعاً مـا. وكمثال لهذا، مـا نـراه في
الشروط الستة لاستجابـة الصلاة. فباستثناء ”الصلاة بـلا انقطاع“ (1تس
12:5)، فإن باقي الأمثلة المستقاة من رسائل بولس الرسول لا تختص بالصلاة
بالذات، بل بوصايا بولس الرسول للسلوك في الحياة المتمثِّلة بالمسيح. مما
يلفت نظرنا إلى أن الصلة بين الحياة المتمثِّلة بالمسيح وبين الصلاة
الناجحة هي لفتة يتميز بها القديس يوحنا ذهبي الفم.
وهذه الدراسة قائمة على شروط ذهبي الفم الستة كما يشرحها
ليس فقط في تفسيره للمزمور السابع، بل وفي كل شروحاته على المزامير. وفي
هذه الدراسة قسَّمتُ هذه الشروط إلى قسمين اثنين: الشرطان الأول والسادس
مختصَّان بالحياة والصلاة كشرطين لاستجابة الصلاة، والشروط من الثاني إلى
الخامس مختصَّة بمضمون الصلاة.
والقديس ذهبي الفم يتكلَّم عن كاتب المزامير باعتباره
”النبي“، وهو ليس إنساناً آخر سوى داود. وتشمل الشروط الستة الحياة
بأكملها، وبكلمات القديس يوحنا فإنه لكي تتحقَّق هذه الحياة، فإنه لابد من
أن يصحب المزمور القارئ في كل مستوى من مستويات حياته الشخصية. وحينما
يُقدِّم داود باعتباره مؤلِّف المزامير ويرجع إلى الأحداث التي تمَّت في
سيرته ليشرح هذه المزامير، فإنَّ ذهبي الفم يُقدِّم داود للقارئ باعتباره
شخصاً حقيقياً يتحدث عنه. وهو بهذا يوفِّر لنا تعمُّقاً في نصوص المزامير
أكثر مما تعوَّدنا عليه من تفاسير المزامير.
الحياة والصلاة معاً
لضمان استجابة الصلاة
لكي نستحق أن ننال استجابة لصلواتنا، فهذا يتطلب بالضرورة أن نعمل كل ما
في وسعنا. وهذا يعني: طريقة الحياة، ووضع الصلاة، ما يجعل الله منصتاً
لصلواتنا. ويعتبر القديس ذهبي الفم داود أنه بالدرجة الأولى المعلِّم لهذه
الأمور. فهو ليس فقط مستحقاً لاستماع الله له، بل هو أيضاً جديرٌ بأن يكون
قدوة للآخرين.
الاستحقاق في الصلاة:
حينما يتحدَّث ذهبي الفم في ”شرحه لمزمور 7“، عن تعقُّب
أبشالوم لداود، يضع تأكيداً على رد فعل داود لهذه الضيقة، حيث تظهر شخصية
الرجل بوضوح. وحتى بعد أن قتل أبشالوم أخاه، يقول ذهبي الفم إن داود
عامَـل ابنه برفق([)، ثم بـالرغم من أن أبشالوم انقلب حينئذ على أبيه
واضطره إلى الهرب خوفاً على حياتـه، فإن داود يظل يقول لجنوده: «ترفَّقوا
لي بالفتى أبشالوم» (2صم 5:18). وحينما بلغ داود خبر مقتل أبشالوم صرخ
باكياً منزعجاً: «يا ابني يا ابني أبشالوم، يا ليتني مُتُّ عِوَضاً
عنك...» (2صم 33:18)(). لقد عانى داود عداءً شديداً على يدي ابنه،
ويُعلِّق القديس ذهبي الفم بأن داود تألَّق كالذهب في بوتقة الانصهار، إذ
صار أكثر نقاءً بسبب هذه المحنة القاسية(
ويرى القديس ذهبي الفم في عزلة داود وضعفه الواضح نموذجاً
لانتصار الفضيلة على الرذيلة، لأن الفضيلة ــ كما يقول ذهبي الفم ــ يقف
الله لها حامياً ومعضدا ,. ويحثُّنا أن نقتدي بهذا المثال الذي يُقدِّمه
داود بكلماته في المزمور: ”يا رب إلهي، فيك وثقتُ، فخلِّصني...“() (مز 1:7
ــ بحسب النص في شروحات ذهبي الفم). وهذه النصيحة التي يُسديها لنا ذهبي
الفم تربط بين الحياة والصلاة.
وتتضح فضيلة حياة داود العالية من بدايات مُلْك داود. ففي
2صم 14:7ــ16 يُعلن الرب أنه سيُثبِّت مملكة داود إلى الأبد، وسوف يؤدِّبه
إن أخطأ، ولكنه لن ينزع رحمته منه كما نزعها من شاول الملك.
ولكن إن كان ذهبي الفم قد أوضح أن حياة الفضيلة العالية
ضرورية لحياة الصلاة الناجحة، فماذا يا تُرى قال عن خطية داود العظيمة مع
بثشبع؟ لا شكَّ أن كلامه ذو أهمية وحاسم لنفهم تعليمه عن علاقة الخاطئ
بالله وفرصته في الصلاة الناجحة.
وفي الشروحات كما هي متاحة لنا اليوم، يرجع القديس ذهبي
الفم إلى مرجعين في هذا الموضوع. ففي شرحه على مزمور 6 يقول إن داود ارتكب
خطية القتل، إلاَّ أنه اختبر ”محبة الله للبشر“ Philanthropia([]). وفي
شرحه على مزمور 4 يتكلَّم عن المعاناة القاسية التي أصابت داود بسبب شهوته
الآثمة
ويُقدِّم القديس ذهبي الفم تعليقاً مطوَّلاً على هذه
المسألة في ”عظاته على إنجيل متى ــ العظة 36“، حيث يصف ارتكاب داود للزنا
والقتل بأنه ”مرض“، تفاقم سُوءُه بسبب حقيقة أنه لم يكن فقط رجلاً فاضلاً؛
بل أيضاً نبيًّا. لكن ذهبي الفم يعود فيؤكِّد على ”سرعة تماثـُل داود
للشفاء“ من مرضه، لأنه لم يستغرق في اليأس بل تاب، وعاد طاهراً مرة
أخرى([في موضع آخر يصف طريقة داود في التوبة بأنها:
[بالاتضاع، وندم القلب، وبتأنيب الضمير، وبعدم الرجوع لهذا
السقوط مرة أخرى بتذكُّرها دائماً، وباحتمال كل ما يأتي عليه بالشكر،
وبالرفق بمن يحزنونه، وبالامتناع عن الحُكْم على الذين يتآمرون ضده، إلى
حدِّ مَنْعه الذين كانوا يريدون أن يفعلوا هذا.](])
ونجد في المزامير التي شرحها القديس ذهبي الفم برهاناً على
كل ذلك. فكما رأينا، فإن سلوك داود تجاه أبشالوم برهان على الامتناع عن
مجازاة خصومه. أما عن احتماله بشكر ما يأتي عليه، فإننا نجد ذلك في مزمور
7 حينما يقول: ”سأشكر الرب حسب برِّه، وسأُرنم لاسم الرب العليِّ“ (مز
17:7). ويقول ذهبي الفم إن داود باستخدامه هنا صيغة المستقبل (”سأشكر“،
”سأُرنم“) يشير إلى أنه لم ينسَ أعمال الله الصالحة التي نالها ولا هو صار
كسولاً؛ بل كان صاحي العقل يقظاً لإحسانات الله معه(