ليأت ملكوتك
الملكوت
الملك الحقيقي ، و المالك الحقيقي ، هو الله وحده .
إنه يملك علي كل شئ ، لأنه خالق كل شئ ، و موجود كل شئ ..يملك الكون كله ، بكل ما فيه من مخلوقات .
و هكذا قال المرتل في المزمور " للرب الأرض و ملؤها ، المسكونة و جميع الساكنين فيها " ( مز 22 : 1 ) .
ثم دخلت الخطية إلي العالم ( رو 5 : 12 ) ، و ملكت علي قلوب الناس و علي إرادتهم . و بالخطية دخل الموت ،
و إجتاز إلي جميع الناس ( رو 5 : 12 ) وملك الموت ( رو 5 : 14 ، 17 ) ، و أصبح الجميع تحت سلطانه !
ملكت الخطية دون إذن ( رو 5 : 21 ) و ملك معها الموت .
و إذ ملكت الخطية ، ملك الشيطان ، و أصبح يلقب برئيس هذا العالم ! ( يو 14 : 30 ) أي رئيس هذا العالم الخاطئ ..
و استمر الشيطان يسيطر علي الكل ... اختفي النور ، و ملكت الظلمة ، لأن الناس أحبوا الظلمة أكثر من النور ( يو 3 : 19 ) .
لذلك قال لهم السيد في مناسبة القبض عليه " هذه ساعتكم و سلطان الظلام " ( لو 22 : 53 ) . لقد ملكت الظلمة علي أفكار الناس و رغباتهم ...
و كان لابد أن يستعيد الله ملكه .
كان لابد أن تنتهي دولة الشيطان ، و يطرح خارجاً ( يو 12 : 31 ) . و يسقط رئيس هذا العالم مثل البرق من السماء ( لو 10 : 18 ) .
كان النور الحقيقي اَتياً إلي العالم ( يو 1 : 9 ) فيملك علي العالم و ينقشع الظلام ...
و لكن متي ملك الرب ؟ و كيف ؟
" الرب ملك علي خشبة " كما قال المزمور ( مز 95 ) .
أي أنه ملك علي الصليب ، و اشترانا بدمه ( رؤ 5 : 9 ) ، فصرنا ملكه . و علي الصليب غنت الملائكة بقول المزمور " الرب قد ملك " فلتتهلل الأرض .
لتفرح الجزائر الكثيرة " ( مز 96 ) " الرب قد ملك فلترتعد الشعوب " ( مز 96 ) .
ملكوت الرب إذن مرتبط بالصليب و الفداء . و من هنا كان أبناء الملكوت هم كل المفديين .
وقد تم الفداء ، بموت المسيح علي الصليب ، وقت الساعة التاسعة . لذلك فإن مزامير الساعة التاسعة تكثر فيها عبارة " الرب قد ملك " .
و لما كان الصلب هو مقدمة الموت ، فإن آخر مزمور في صلاة الساعة السادسة – ساعة الصلب- هو مزمور " الرب قد ملك و لبس الجلال " ( مز 92 : 1 ) .
إذن في قولنا ليأت ملكوتك ، نذكر الفداء العظيم ، فبدون الفداء ما كان ملكوت .
و نحن بعبارة " ليأت ملكوت " نطلب أن يشمل الفداء كل أحد ، يؤمن به الكل ، و يتمتع به الكل .
و ذلك لأن الرب لم يقدم الخلاص لفرد ، و إنما حمل خطايا العالم كله ( يو 1 : 29 ) لخلص الكل بالفداء ...
* * *
بدأت تباشير الملكوت بميلاد المسيح . و اقترب الملكوت بكرازته . و تم الملكوت علي الصليب .
و لذلك نجد أن يوحنا المعمدان كان يكرز قائلاً " توبوا فقد اقترب ملكوت السموات " ( مت 3 : 2 ) . و كانت هذه هي أيضاً كرازة السيد المسيح .
كان " يكرز ببشارة ملكوت الله . و يقول : قد كمل الزمان ، و اقترب ملكوت الله . فتوبوا واَمنوا بالإنجيل " ( مز 1 : 14 ، 15 ) .
و لما أرسل تلاميذه في أول مرة ، أمرهم قائلاً " و فيما أنتم ذاهبون ، اكرزوا قائلين إنه قد إقترب ملكوت السموات " ( مت 10 : 7 ) .
و هكذا كانت الكرازة و البشارة بالملكوت ، هي عمل السيد المسيح ، و عمل المعمدان الذي سبقه ،
و عمل الرسل من بعده . بل كان الملكوت أيضاً طلبة اللص اليمين علي الصليب ( لو 23 : 43 ) .
و طلب هذا الملكوت هو صلاة يومية لجميعنا .
ماهو الملكوت؟
فهكذا علمنا الرب – متي صلينا – أن نقول لأبينا السماوي " ليأت ملكوتك " ( لو 11 : 2 ) ..
لكي تصبح هذه الطلبة – من عمق أهميتها – لاصقة بقلوب الكل ، يذكرونها كل يوم و كل ساعة ، و في كل صلاة ...
هذا الملكوت هو مملكة الله ...
يملك فيها الله بالبر و بالسلام . و لذلك يقال عن الله إنه ملك السلام ، و ملك البر . و نحن نرتل إلي الله قائلين له : ياملك السلام ، اعطنا سلامك ...
هذا الملكوت هو مملكة القديسين ...
و في هذا المجال تعجبني أغنية جميلة سجلها القديس يوحنا الرسول في رؤياه ، سمعها من الغالبين ، و هم يرتلون في السماء قائلين " عظيمة و عجيبة هي أعمالك ،
أيها الرب القادر علي كل شئ . عادلة و حق هي طرقك يا ملك القديسين " ( رؤ 15 : 3 ) .
حقاً إن الله هو ملك علي القديسين .
منطقياً هو ملك علي العالم كله ، كخالق و كإله .. و لكن من الناحية العملية هو ملك علي القديسين الذين سلموه حياتهم بالتمام ،
يملك عليها و يدبرها حسب مشيئته الصالحة . أما الأشرار فهم متمردون علي ملكوته .. الله هو إذن ملك علي الذين يفتحون له قلوبهم .
و الذين يفتحون قلوبهم هم القديسون ، لذلك فالرب ملك القديسين .
كل أعضاء مملكة الله ، من القديسين . و كل من لا يحيا حياة البر و القداسة ، ليس هو عضواً في ملكوت الله . و لأن القداسة هي محبة الإنسان لله من كل قلبه ...
لذلك قال الكتاب " ملكوت الله داخلكم " .
ملكوت الله هو أن يملك الله علي قلب المؤمن ، و علي فكره و علي حواسه ، و علي حياته كلها . فيصبح كل ما فيه ملكاً لله ، مقدساً لله .
و بهذا دعي أعضاء الملكوت بأنهم قديسون .. هؤلاء القديسين هم " الذين قبلوه " الذين آمنوا به ، و اعتمدوا ،
و صاروا أعضاء في جسده ، أي في الكنيسة ، يمارسون حياتها ، و يتمتعون بأسرارها المقدسة ، و يحفظون وصايا الرب .
لذلك حسن أن نقول أن مملكة الله هي الكنيسة المقدسة .
و رؤساء الكنيسة ، إنما هم وكلاء لله ، أقامهم علي عبيده لرعايتهم ، و سيعطون حساباً عنهم أمامه ... و كل من هو داخل الكنيسة ، محفوظ في الملكوت .
أما الأشرار فإنهم يقفون خارجاً ، في الظلمة البرانية . لا لأن الله رفضهم من ملكه ، و إنما لأنهم هم الذين رفضوا أن يملك الله عليهم ...
و الأبرار يسميهم الكتاب " بنو الملكوت " ...
فلينظر كل إنسان إلي نفسه ، هل هو من أبناء الملكوت ؟ إن الله يريد أن يمتلئ ملكوته بالمؤمنين .
و هؤلاء يصرخون إليه قائلين " تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار . استله ، و انجح ، و املك " .
و لكن الله لا يشاء أن يملك إلا بإرادتنا . إنه يريدنا أن نحب ملكوته ، و نسعي إليه ، لا أن يدخلنا إلي الملكوت قهراً و إجباراً .
الله له الملك . و لكنه وهب الناس حرية الإرادة ، يخضعون بها لملكه إن أرادوا ، أو لا يخضعون . يسيرون تحت قيادته الروحية أو لا يسيرون ...
البعض قبلوه ملكاً . و البعض في تمرد و خيانة ، صاحوا قائلين " ليس لنا ملك إلا قيصر " ( يو 19 : 15 ) .
هنا و نسأل : ما المقصود بطلبة " ليات ملكوتك " ؟ (ثلاث معان)
إنها بلا شك تدل علي عدة معان أو مقاصد ، من الممكن أن تكون موضع تأمل المصلي . فيركز علي أحد هذه المعاني أو عليها كلها :
1 – المعني الروحي : ملكوت الله علي القلب .
إنه الملكوت الداخلي الذي قال عنه الرب " ملكوت الله داخلكم " ( لو 17 : 21 ) .. أي أن الله يملك علي المشاعر و العواطف و النيات و يملك علي الإرادة و علي الرغبات و الشهوات ،
و يملك أيضاً علي الأفكار و الحواس . و إذا ملك الرب علي القلب ، يملك بالتالي علي كل ما يصدر عن هذا القلب . لأن " الإنسان الصالح ،
من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات . و الإنسان الشرير ، من كنز قلبه الشرير يخرج الشرور " ( مت 12 : 35 ) .
لقد تكلمنا عن عبارة ( ليأت ملكوتك ) ، من جهة الملكوت الداخلي ، الذي به يملك الرب حياة الإنسان كفرد ...علي أن العبارة قد تتسع ،
فيشمل الملكوت كل القلوب الخاضعة للرب . و هنا يكون الملكوت هو الكنيسة ...
و حينما يقول الكتاب إن الإبن سيسلم الملك كله للآب ( 1 كو 15 : 24 ) إنما يعني إنه سيسلمه الكنيسة ...
2 – المعني الثاني ، هو الملكوت بالمعني الكرازي .
أي ينتشر ملكوتك في الأرض كلها . ينتشر الإيمان في كل الأمم و كل الشعوب ، و في كل مدينة و قرية ..
و يعرف الجميع إسم الرب ، و يسيرون في طرقه . و هنا تكون الطلبة صلاة إلي الله أن يعمل روحه القدوس علي نشر الإيمان ،
و يعطي قوة للكرازة و نعمة للسامعين ... و عن الملكوت بهذا المعني نصلي في المزمور قائلين :
فلتعترف لك الشعوب يا الله ، فلتعترف لك الشعوب كلها ( مز 66 ) .
و به يتحقق أيضاً قول المرتل " للرب الأرض و ملؤها ، المسكونة و كل الساكنين فيها " ( مز 24 : 1 ) .
أي يصبح العالم كله ملكاً لله ، لأنه له ... و كان الرب يقصد هذا الملكوت حينما قال لتلاميذه " اذهبوا إلي العالم أجمع ،
و اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها . من آمن و اعتمد خلص " ( مز 16 : 15 ،16 ) . و كما قال لهم أيضاً " اذهبوا و تلمذوا جميع الأمم ،
و عمدوهم باسم الأب و الإبن و الروح القدس ، و علموهم جميع ما أوصيتكم به " ( مت 28 : 19 ، 20) .
هذه هي مملكة الله : كل الذين آمنوا و اعتمدوا و نفذوا الوصايا .
مملكة الله هي صورة سفر الرؤيا : الكنائس السبع ، و في وسطها إبن الإنسان ، أي كل الكنائس ، و الرب وسطها .
مملكة الله هي المنائر الذهبية ، تشع نوراً عل العالم .
* * *
و نحن نصلي أن يكون جميع الناس ، أعضاء في هذا الملكوت و أبناء للنور . و لأن الأمر لايمكن أن يتم بمجرد بشري ،
لذلك نصلي إلي الله قائلين " ليأت ملكوتك " . نصلي إليه من أجل الذين لم يعرفوه بعد ، لم يؤمنوا به ، و ام يقبلوه فادياً و مخلصاً .
نصلي من أجل البلاد الملحدة ، و البلاد التي تعبد عبادات أخري مثل بوذا و براهما و كنفوشيوس و أمثالها .
و من أجل البلاد التي لا تؤمن بالإنجيل . و نقول من أجل كل هؤلاء " ليأت ملكوتك " .
* * *
ولسنا نصلي من أجل الإيمان فقط ، إنما أيضاً قدسية الحياة .
لا نقصد ليأت ملكوتك بالنسبة للملحدين و الوثنيين فحسب ، إنما أيضاً من أجل الذين دعي إسم المسيح عليهم ،
و لكنهم محتاجون إلي التوبة ، لأن مجرد الإسم بدون حياة لايخلص . نطلب أن يملك الرب إيمان هؤلاء ويعطيه ثمراً ...
* * *
3 - المعني الثالث للملكوت ، يقصد به الملكوت السماوي ، الأبدي في أورشليم السمائية ...
الله الملك
هناك مسكن الله مع قديسيه ، يجتمع معه الملائكة ، و كل القديسين الذين إنتقلوا ، و القديسين الذين يحيون معنا ، و الذين سيولدون ...
الكل ينضمون كأعضاء في جسد المسيح ، تكميل القديسين . هذا الملكوت السماوي ، هو الذي قال عنه الرب " نعماً أيها العبد الصالح و الأمين ،
كنت أميناً في القليل ، فسأقيمك علي الكثير . أدخل إلي فرح سيدك " ( مت 25 ) . و قال عنه أيضاً " تعالو يا مباركي أبي ،
رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم " . أي ملكوت الله ، و موعده بعد القيامة و الدينونة ، حينما يأتي في مجيئه الثاني ،
لينهي هذا العالم المادي ، و يضم مختاريه إلي ملكوت السموات ، إلي أورشليم السمائية التي هي مسكن الله مع الناس ( رؤ 21 : 2 ، 3 ) ...
حينما يخضع الكل ، و اَخر عدو يبطل هو الموت ، و يسلم الملك لله الآب ( 1كو 15 : 24، 27 ) .
كأننا هنا في صلاتنا هذه نطلب الأبدية السعيدة ... و لكننا في طلبتنا ( ليأت ملكوتك ) . نقصد الأنواع الثلاثة من الملكوت :
الله في ملكوته يملك بالحب لا بالضغط .
يملك علي الذين يحبونه ، لا يضغط علي أحد ، و لا يرغم أحداً علي الإنضمام إلي ملكوته . إنما يريد الذين ينضمون إليه بإرداتهم الحرة ،
كذلك القديس الذي قال " من كل قلبي طلبتك ، فلا تبعدني عن وصاياك " ( مز 119 ) .
هوذا الله يخاطب كل أحد منذ القديم قائلاً " قد جعلت قدامك الحياة و الموت ، البركة و اللعنة .
فاختر الحياة لكي تحيا أنت و نسلك . إذ تحب الرب إلهك ، و تسمع لصوته و تلتصق به ، لأنه هو حياتك " ( تث 30 : 19 ، 20 ) .
إنه يقول " يا إبني أعطني قلبك " ( أم 23 : 26 ) .
لأنه يريد أن يملك علي هذا القلب بالذات .
إنه واقف علي باب هذا القلب يقرع ( رؤ 3 : 20 ) . إن فتح أحد له ، يدخل و يتعشى معه . يكشف له ذاته ، و يمتعه بالحياة معه ...
و إن لم يفتح له ، يظل واقفاً علي الباب يقرع . لا يدخل بالعنف و لا بالضغط و لا بالسيطرة . إنما بالحب .
يظل واقفاً علي الباب يقرع ، حتى لو إمتلأ رأسه من الطل ، و قصصه من ندي الليل ( نش 5 : 2 ) .
ملكوت الله ليس مظاهر ، و إنما حب ...
إنه ليس علاقة بين سيد وعبيد ، إنما مشاعر بين أب و أبناء . لذلك دعي في ملكه أباً ، بكل ما تحمله كلمة أب من حنان و رعاية .
و أما أعضاء هذا الملكوت ، فهم أبناء الملكوت ، أبناء ذلك الأب السماوي ،
بكل ما تحمله كلمة البنوة من مشاعر و أحاسيس و عواطف . يطيعون أباهم ، ليس بخضوع العبيد ، إنما بولاء الأبناء و ثقتهم في أبيهم .
أنظروا كيف ملك الرب علي السامرة مثلاً ؟
ذهب إلي هناك ، و رفضت قرية سوخار أن تقبله . فتضايق تلميذاه يعقوب و يوحنا و قالا له " هل تشاء يا رب أن تنزل نار من السماء ،
و تحرق هذه المدينة ؟ " .. فقال لهما الرب " لستما تعلمان من أي روح أنتما . إن إبن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس ، بل ليخلص " ( لو 9 : 51 – 56 ) .
أنا سأملك علي السامرة . و لكني سأملك عليها بالحب ، و بقبول إرادتها ، و ليس بالعنف ...
العنف ليس طريقتي ، و لن يوصل إلي القلب . و أنا ما أريده هو القلب " يا أبني اعطني قلبك " ( أم 23 : 26 ) .. و القلب هو الحب .
و اعطني قلبك معناها اعطني حبك . و عندما أملك قلبك و حبك ، سأملك بالتالي إرادتك ..
و هذا هو ملكوتي . و أنا لا أريد أن أملك كل ذلك بالعنف ، فالعنف ليس هو إسلوب الله في امتلاك القلوب .
و طريق الحب طويل المدى ، كثير الجهد .
و الله مستعد أن يتعب ليملك هذا الإنسان . هو مستعد أن يمد يده طول النهار لشعب معاند مقاوم ( رو 10 : 21 ) .
و الله مستعد أن يصبر حتى يملك القلب ، و القلب يحرك الإرادة ، يحركها نحو الله ،فيريد الإنسان أن يحيا مع الله . و هذا ما يريده الله .
و نحن حينما نقول : ليأت ملكوتك ، إنما نقصد ملكوته علي إرادتنا و قلوبنا .
إنها صلاة منا إليه ، أن يحول قلوبنا نحوه ، و أن يحول إرادتنا نحو مشيئته . و كأننا نقول له " تعال يا رب و أملك " .
وإن أردت أن تملكنا ، و لم نرد نحن ، فلا تتركنا بل حول قلوبنا نحوك . اسكب محبتك في قلوبنا بروحك القدوس ( رو 5 : 5 ) .
تعال يا رب و املك . و لا تسمح للخطية أن تملك علينا ...
و لا تسمح للشيطان أن يبقي رئيساً لهذا العالم ، و لا رئيساً لأبنائك الذين اشتريتهم بالدم الكريم . نحن ملكك ،
فتمسك بملكوتك علينا . و لا تسمح لأي أحد أو لأي شئ ، أن يخطفنا من يدك ( يو 10 : 28 ) أو يبعدنا عنك ...
خدام الملكوت
عبارة " ليأت ملكوتك " هي صلاة لأجل الملكوت ، و أيضاً لأجل أنفسنا ، و لأجل خدام الملكوت .
و ينبغي أن نكون جميعاً من خدام الملكوت ... إنها صلاة من أجل كل رتب الكهنوت ، و من أجل كل الوعاظ و الكارزين و الخدام و المعلمين و المرشدين ،
و من أجل كل نفس لها تعب في الكنيسة . و أيضاً من أجل أن تكثر القدوات الصالحة التي يتعلم الناس من حياتها كنماذج عملية قدامهم .
و بهذه القدوات ينتشر الملكوت . نحن يا رب قد تعبنا النهار كله و لم نصطد شيئاً ،
و لكن علي إسمك نلقي الشبكة ( لو 5 : 5 ) قائلين : " ليأت ملكوتك " .. إنه صراع مع الله لأجل ملكوته ...
علي أن عبارة " ليأت ملكوتك " ليست هي مجرد صلاة ، إنما هي صلاة و عمل . تشمل أيضاً عملنا لأجل الملكوت .
إن كنا حقاً نطلب ملكوت الله ، فلنعمل من أجله ، فلنشترك في بنائه ، و نجول نفعل خيراً ( أع 10 : 38 ) .
و نخلص علي كل حال قوماً .. ( 1كو 9 : 22 ) لأنهم كيف يؤمنون إن لم يسمعوا ، و كيف يسمعون بلا كارز ؟! ( رو 10 : 14 ) .
هل نطلب أن ينتشر ملكوت الله في الأرض كلها ، و نحن نيام كسالي ؟ إذن أين الحب ؟ و أين الغيرة ؟
أنظروا إلي بناة الملكوت ، كيف يقول عنهم بولس الرسول :
" .. بل في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله ، في صبر كثير ، في شدائد في ضرورات في ضيقات ، في ضربات في سجون في إضطرابات .
في أتعاب في أسهار في أصوام .. في كل كلام الحق ، في قوة الله .. بمجد و هوان ، بصيت رديء و صيت حسن . كمضلين و نحن صادقون ..
كمائتين و ها نحن نحيا .. ( 2كو 6 : 4 – 9 ) . " بأسفار مراراً كثيرة ،
بأخطار سيول ، بأخطار لصوص ، بأخطار من الأمم ، بأخطار من أخوة كذبة " ( 2 كو 11 ) .
حقاً إن الله يعمل من أجل بناء ملكوته ، ولكن ينبغي أن نشترك معه في العمل ، ونطلب نعمته أن تشترك معنا .
كم قال بولس الرسول ، عن نفسه وعن سيلا " نحن عاملان مع الله " ( 1 كو 3 : 9 ) .
هذه هي شركة الروح القدس .. نحن لا نشترك مع الروح في الطبيعة و الجواهر ، إنما نشترك في العمل .
وكل واحد منا ، له دور في بناء الملكوت :
وفي هذا قال بولس الرسول " أعطي البعض أن يكونوا رسلاً ، و البعض أنبياء ، و البعض مبشرين ،
و البعض رعاة و معلمين ، لأجل تكميل القديسين ، لعمل الخدمة ، لبنيان جسد المسيح " ( أف 4 : 11 ، 12 ) .
حينما نقول " ليأت ملكوتك " ، إنما نقدم انفسنا عملياً لخدمة هذا الملكوت .
نحن مستعدون يا رب أن نبني الملكوت معك ، وننشره معك ، و نعمل فيه معك . لا نريد أن نأخذ منك موقف المتفرج ،
و نقول " ليأت ملكوتك " و نحن في سلبية مخجلة !! كلا ، بل ليأت هذا الملكوت ، و كلنا خدام لمجيئه ،
نبذل في سبيل ذلك كل ما تهبنا من قوة ... كلنا كسفراء لك : ننادي ، كأن الله يعظ بنا ، و نقول للكل " اصطلحوا مع الله " ( 2 كو 5 : 20 ) .
سلموه قلوبكم لكي يملكها ... نقولها ونحن نصلي من أعماقنا من أجل الخدمة و الخدام ، و من أجل كل نفس تخدم هذا الملكوت و تبذل في سبيله ،
و من أجل كل قلب لم يدخل إلي الملكوت بعد ... نقول " ليأت ملكوتك " ،
و نحن نطلب إلي الرب الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده " ( مت 9 : 38 ) .
نصلي و نقول : تعال يا رب و استلم ما تملكه .
من الناحية النظرية و الرسمية ، أنت يا رب تملك كل شئ . ولكن من الناحية العملية يوجد تمرد علي ملكوتك .
و العالم لا يسلمك ما تملكه ، و كذلك نحن ! فنحن نقول " ليأت ملكوتك " ، إنما نقول ضمناً " تعال يا رب و استلم ما تملكه .. ضع يدك عليه فعلاً ،
سواء ما تملكه فينا أو في غيرنا " تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار . استله و انجح و املك " ( مز 45 ) .
لماذا تترك العالم هكذا ، يعبث فيه الإلحاد و التجديف و الفساد و الإنحراف ؟
و تنتشر في الخطية ، و يتسلط عليه الشيطان ! أليس كله لك . تعال إذن و املك فعلاً ما هو لك شرعاً و قانوناً .
و لا تترك الناس إلي أنفسهم يتمردون علي ملكوتك . فليس هذا صالحاً لهم ...
و إن لم يكن ممكناً أن يأتي الملكوت دفعة واحدة ، فليأت بالتدريج .
إن كنت أنا يا رب لا أستطيع أن أجعلك تملك كل وقتي ، فاعطني أن تملك البكورات فيه . فأقدم لك الساعة الأولي من النهار .
فإن ملكتها ، يمكنني بنعمتك أن أفتح لك هذا القلب مرات و مرات ... إعطني أن أكون أميناً في القليل ،
فأتركه لك . حينئذ أتدرج إلي أن أكون أميناً فيما هو أكثر ، إلي أن تصبح الحياة كلها لك ...
حقاً إن عبارة " ليأت ملكوتك " فيها توبيخ لي .
فليس منطقياً أن أقول " ليأت ملكوتك " بينما أنا مشغول عنه بأمور العالم !!
هل أطلب الملكوت ، و أنا هارب منه ؟! فإن أردنا أن يملك الله علي قلوبنا ، فيجب أن نخلي القلب من محبة العالميات التي تعطله عن محبة الله .
فالكتاب يعلمنا أنه " لا شركة بين النور و الظلمة ، و أية خلطة للبر و الإثم ؟! " ( 2 كو 6 : 14 ) حقاً ،
كيف يملك الله قلباً و شهوات العالم مالكة عليه ؟! فلنحاول إذن إزالة المعطلات التي تعرقل ملكية الله لنا ، سواء كأفراد أو جماعات .
و أن أردنا أن نكون من بني الملكوت ، فلنعرف صفاتهم .
هوذا الرب يقول عن الملكوت ... " طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات " ( مت 5 : 3 ) .
و يقول أيضاً " إن لم ترجعوا و تصيروا مثل الأطفال ، فلن تدخلوا ملكوت السموات " ( مت 18 : 3 ) .
هل نفهم من هاتين الآيتين إنه ينبغي أن نتصف بالإتضاع و أيضاً ببساطة الأطفال و براءتهم لنكون من بني الملكوت ؟
ما أجمل أن نتأمل باقي الآيات الخاصة بالملكوت ، لنعرف أعماق عبارة " ليأت ملكوتك " ...
اترك هذا مجالا لتأملاتكم الخاصة . و يكفي أن أقول إنه مادمنا قد اشترينا بثمن ، و إننا لسنا لأنفسنا ( 1 كو 6 : 20 ، 19 ) ...
فقد صرنا كلنا لله ، هو الذي يملك كل حياتنا و وقتنا ، و كل قلوبنا و أفكارنا و مشاعرنا و حواسنا . فلتعترف بهذه الحقيقة ، و لنقل له : ليأت ملكوتك
ليأت ملكوتك +لقداسة البابا شنودة الثالث من كتاب (تأملات فى الصلاة الربانية)
الكتاب : تأملات في الصلاة الربية .
المؤلف : قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث .
الناشر : الكلية الإكليريكية بالقاهرة 0
الطبعة : الأولي ديسمبر 1994
المطبعة : الأنبا رويس الأوفست العباسية - القاهرة .
رقم الإيداع بدار الكتب : 10368/94
الملكوت
الملك الحقيقي ، و المالك الحقيقي ، هو الله وحده .
إنه يملك علي كل شئ ، لأنه خالق كل شئ ، و موجود كل شئ ..يملك الكون كله ، بكل ما فيه من مخلوقات .
و هكذا قال المرتل في المزمور " للرب الأرض و ملؤها ، المسكونة و جميع الساكنين فيها " ( مز 22 : 1 ) .
ثم دخلت الخطية إلي العالم ( رو 5 : 12 ) ، و ملكت علي قلوب الناس و علي إرادتهم . و بالخطية دخل الموت ،
و إجتاز إلي جميع الناس ( رو 5 : 12 ) وملك الموت ( رو 5 : 14 ، 17 ) ، و أصبح الجميع تحت سلطانه !
ملكت الخطية دون إذن ( رو 5 : 21 ) و ملك معها الموت .
و إذ ملكت الخطية ، ملك الشيطان ، و أصبح يلقب برئيس هذا العالم ! ( يو 14 : 30 ) أي رئيس هذا العالم الخاطئ ..
و استمر الشيطان يسيطر علي الكل ... اختفي النور ، و ملكت الظلمة ، لأن الناس أحبوا الظلمة أكثر من النور ( يو 3 : 19 ) .
لذلك قال لهم السيد في مناسبة القبض عليه " هذه ساعتكم و سلطان الظلام " ( لو 22 : 53 ) . لقد ملكت الظلمة علي أفكار الناس و رغباتهم ...
و كان لابد أن يستعيد الله ملكه .
كان لابد أن تنتهي دولة الشيطان ، و يطرح خارجاً ( يو 12 : 31 ) . و يسقط رئيس هذا العالم مثل البرق من السماء ( لو 10 : 18 ) .
كان النور الحقيقي اَتياً إلي العالم ( يو 1 : 9 ) فيملك علي العالم و ينقشع الظلام ...
و لكن متي ملك الرب ؟ و كيف ؟
" الرب ملك علي خشبة " كما قال المزمور ( مز 95 ) .
أي أنه ملك علي الصليب ، و اشترانا بدمه ( رؤ 5 : 9 ) ، فصرنا ملكه . و علي الصليب غنت الملائكة بقول المزمور " الرب قد ملك " فلتتهلل الأرض .
لتفرح الجزائر الكثيرة " ( مز 96 ) " الرب قد ملك فلترتعد الشعوب " ( مز 96 ) .
ملكوت الرب إذن مرتبط بالصليب و الفداء . و من هنا كان أبناء الملكوت هم كل المفديين .
وقد تم الفداء ، بموت المسيح علي الصليب ، وقت الساعة التاسعة . لذلك فإن مزامير الساعة التاسعة تكثر فيها عبارة " الرب قد ملك " .
و لما كان الصلب هو مقدمة الموت ، فإن آخر مزمور في صلاة الساعة السادسة – ساعة الصلب- هو مزمور " الرب قد ملك و لبس الجلال " ( مز 92 : 1 ) .
إذن في قولنا ليأت ملكوتك ، نذكر الفداء العظيم ، فبدون الفداء ما كان ملكوت .
و نحن بعبارة " ليأت ملكوت " نطلب أن يشمل الفداء كل أحد ، يؤمن به الكل ، و يتمتع به الكل .
و ذلك لأن الرب لم يقدم الخلاص لفرد ، و إنما حمل خطايا العالم كله ( يو 1 : 29 ) لخلص الكل بالفداء ...
* * *
بدأت تباشير الملكوت بميلاد المسيح . و اقترب الملكوت بكرازته . و تم الملكوت علي الصليب .
و لذلك نجد أن يوحنا المعمدان كان يكرز قائلاً " توبوا فقد اقترب ملكوت السموات " ( مت 3 : 2 ) . و كانت هذه هي أيضاً كرازة السيد المسيح .
كان " يكرز ببشارة ملكوت الله . و يقول : قد كمل الزمان ، و اقترب ملكوت الله . فتوبوا واَمنوا بالإنجيل " ( مز 1 : 14 ، 15 ) .
و لما أرسل تلاميذه في أول مرة ، أمرهم قائلاً " و فيما أنتم ذاهبون ، اكرزوا قائلين إنه قد إقترب ملكوت السموات " ( مت 10 : 7 ) .
و هكذا كانت الكرازة و البشارة بالملكوت ، هي عمل السيد المسيح ، و عمل المعمدان الذي سبقه ،
و عمل الرسل من بعده . بل كان الملكوت أيضاً طلبة اللص اليمين علي الصليب ( لو 23 : 43 ) .
و طلب هذا الملكوت هو صلاة يومية لجميعنا .
ماهو الملكوت؟
فهكذا علمنا الرب – متي صلينا – أن نقول لأبينا السماوي " ليأت ملكوتك " ( لو 11 : 2 ) ..
لكي تصبح هذه الطلبة – من عمق أهميتها – لاصقة بقلوب الكل ، يذكرونها كل يوم و كل ساعة ، و في كل صلاة ...
هذا الملكوت هو مملكة الله ...
يملك فيها الله بالبر و بالسلام . و لذلك يقال عن الله إنه ملك السلام ، و ملك البر . و نحن نرتل إلي الله قائلين له : ياملك السلام ، اعطنا سلامك ...
هذا الملكوت هو مملكة القديسين ...
و في هذا المجال تعجبني أغنية جميلة سجلها القديس يوحنا الرسول في رؤياه ، سمعها من الغالبين ، و هم يرتلون في السماء قائلين " عظيمة و عجيبة هي أعمالك ،
أيها الرب القادر علي كل شئ . عادلة و حق هي طرقك يا ملك القديسين " ( رؤ 15 : 3 ) .
حقاً إن الله هو ملك علي القديسين .
منطقياً هو ملك علي العالم كله ، كخالق و كإله .. و لكن من الناحية العملية هو ملك علي القديسين الذين سلموه حياتهم بالتمام ،
يملك عليها و يدبرها حسب مشيئته الصالحة . أما الأشرار فهم متمردون علي ملكوته .. الله هو إذن ملك علي الذين يفتحون له قلوبهم .
و الذين يفتحون قلوبهم هم القديسون ، لذلك فالرب ملك القديسين .
كل أعضاء مملكة الله ، من القديسين . و كل من لا يحيا حياة البر و القداسة ، ليس هو عضواً في ملكوت الله . و لأن القداسة هي محبة الإنسان لله من كل قلبه ...
لذلك قال الكتاب " ملكوت الله داخلكم " .
ملكوت الله هو أن يملك الله علي قلب المؤمن ، و علي فكره و علي حواسه ، و علي حياته كلها . فيصبح كل ما فيه ملكاً لله ، مقدساً لله .
و بهذا دعي أعضاء الملكوت بأنهم قديسون .. هؤلاء القديسين هم " الذين قبلوه " الذين آمنوا به ، و اعتمدوا ،
و صاروا أعضاء في جسده ، أي في الكنيسة ، يمارسون حياتها ، و يتمتعون بأسرارها المقدسة ، و يحفظون وصايا الرب .
لذلك حسن أن نقول أن مملكة الله هي الكنيسة المقدسة .
و رؤساء الكنيسة ، إنما هم وكلاء لله ، أقامهم علي عبيده لرعايتهم ، و سيعطون حساباً عنهم أمامه ... و كل من هو داخل الكنيسة ، محفوظ في الملكوت .
أما الأشرار فإنهم يقفون خارجاً ، في الظلمة البرانية . لا لأن الله رفضهم من ملكه ، و إنما لأنهم هم الذين رفضوا أن يملك الله عليهم ...
و الأبرار يسميهم الكتاب " بنو الملكوت " ...
فلينظر كل إنسان إلي نفسه ، هل هو من أبناء الملكوت ؟ إن الله يريد أن يمتلئ ملكوته بالمؤمنين .
و هؤلاء يصرخون إليه قائلين " تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار . استله ، و انجح ، و املك " .
و لكن الله لا يشاء أن يملك إلا بإرادتنا . إنه يريدنا أن نحب ملكوته ، و نسعي إليه ، لا أن يدخلنا إلي الملكوت قهراً و إجباراً .
الله له الملك . و لكنه وهب الناس حرية الإرادة ، يخضعون بها لملكه إن أرادوا ، أو لا يخضعون . يسيرون تحت قيادته الروحية أو لا يسيرون ...
البعض قبلوه ملكاً . و البعض في تمرد و خيانة ، صاحوا قائلين " ليس لنا ملك إلا قيصر " ( يو 19 : 15 ) .
هنا و نسأل : ما المقصود بطلبة " ليات ملكوتك " ؟ (ثلاث معان)
إنها بلا شك تدل علي عدة معان أو مقاصد ، من الممكن أن تكون موضع تأمل المصلي . فيركز علي أحد هذه المعاني أو عليها كلها :
1 – المعني الروحي : ملكوت الله علي القلب .
إنه الملكوت الداخلي الذي قال عنه الرب " ملكوت الله داخلكم " ( لو 17 : 21 ) .. أي أن الله يملك علي المشاعر و العواطف و النيات و يملك علي الإرادة و علي الرغبات و الشهوات ،
و يملك أيضاً علي الأفكار و الحواس . و إذا ملك الرب علي القلب ، يملك بالتالي علي كل ما يصدر عن هذا القلب . لأن " الإنسان الصالح ،
من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات . و الإنسان الشرير ، من كنز قلبه الشرير يخرج الشرور " ( مت 12 : 35 ) .
لقد تكلمنا عن عبارة ( ليأت ملكوتك ) ، من جهة الملكوت الداخلي ، الذي به يملك الرب حياة الإنسان كفرد ...علي أن العبارة قد تتسع ،
فيشمل الملكوت كل القلوب الخاضعة للرب . و هنا يكون الملكوت هو الكنيسة ...
و حينما يقول الكتاب إن الإبن سيسلم الملك كله للآب ( 1 كو 15 : 24 ) إنما يعني إنه سيسلمه الكنيسة ...
2 – المعني الثاني ، هو الملكوت بالمعني الكرازي .
أي ينتشر ملكوتك في الأرض كلها . ينتشر الإيمان في كل الأمم و كل الشعوب ، و في كل مدينة و قرية ..
و يعرف الجميع إسم الرب ، و يسيرون في طرقه . و هنا تكون الطلبة صلاة إلي الله أن يعمل روحه القدوس علي نشر الإيمان ،
و يعطي قوة للكرازة و نعمة للسامعين ... و عن الملكوت بهذا المعني نصلي في المزمور قائلين :
فلتعترف لك الشعوب يا الله ، فلتعترف لك الشعوب كلها ( مز 66 ) .
و به يتحقق أيضاً قول المرتل " للرب الأرض و ملؤها ، المسكونة و كل الساكنين فيها " ( مز 24 : 1 ) .
أي يصبح العالم كله ملكاً لله ، لأنه له ... و كان الرب يقصد هذا الملكوت حينما قال لتلاميذه " اذهبوا إلي العالم أجمع ،
و اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها . من آمن و اعتمد خلص " ( مز 16 : 15 ،16 ) . و كما قال لهم أيضاً " اذهبوا و تلمذوا جميع الأمم ،
و عمدوهم باسم الأب و الإبن و الروح القدس ، و علموهم جميع ما أوصيتكم به " ( مت 28 : 19 ، 20) .
هذه هي مملكة الله : كل الذين آمنوا و اعتمدوا و نفذوا الوصايا .
مملكة الله هي صورة سفر الرؤيا : الكنائس السبع ، و في وسطها إبن الإنسان ، أي كل الكنائس ، و الرب وسطها .
مملكة الله هي المنائر الذهبية ، تشع نوراً عل العالم .
* * *
و نحن نصلي أن يكون جميع الناس ، أعضاء في هذا الملكوت و أبناء للنور . و لأن الأمر لايمكن أن يتم بمجرد بشري ،
لذلك نصلي إلي الله قائلين " ليأت ملكوتك " . نصلي إليه من أجل الذين لم يعرفوه بعد ، لم يؤمنوا به ، و ام يقبلوه فادياً و مخلصاً .
نصلي من أجل البلاد الملحدة ، و البلاد التي تعبد عبادات أخري مثل بوذا و براهما و كنفوشيوس و أمثالها .
و من أجل البلاد التي لا تؤمن بالإنجيل . و نقول من أجل كل هؤلاء " ليأت ملكوتك " .
* * *
ولسنا نصلي من أجل الإيمان فقط ، إنما أيضاً قدسية الحياة .
لا نقصد ليأت ملكوتك بالنسبة للملحدين و الوثنيين فحسب ، إنما أيضاً من أجل الذين دعي إسم المسيح عليهم ،
و لكنهم محتاجون إلي التوبة ، لأن مجرد الإسم بدون حياة لايخلص . نطلب أن يملك الرب إيمان هؤلاء ويعطيه ثمراً ...
* * *
3 - المعني الثالث للملكوت ، يقصد به الملكوت السماوي ، الأبدي في أورشليم السمائية ...
الله الملك
هناك مسكن الله مع قديسيه ، يجتمع معه الملائكة ، و كل القديسين الذين إنتقلوا ، و القديسين الذين يحيون معنا ، و الذين سيولدون ...
الكل ينضمون كأعضاء في جسد المسيح ، تكميل القديسين . هذا الملكوت السماوي ، هو الذي قال عنه الرب " نعماً أيها العبد الصالح و الأمين ،
كنت أميناً في القليل ، فسأقيمك علي الكثير . أدخل إلي فرح سيدك " ( مت 25 ) . و قال عنه أيضاً " تعالو يا مباركي أبي ،
رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم " . أي ملكوت الله ، و موعده بعد القيامة و الدينونة ، حينما يأتي في مجيئه الثاني ،
لينهي هذا العالم المادي ، و يضم مختاريه إلي ملكوت السموات ، إلي أورشليم السمائية التي هي مسكن الله مع الناس ( رؤ 21 : 2 ، 3 ) ...
حينما يخضع الكل ، و اَخر عدو يبطل هو الموت ، و يسلم الملك لله الآب ( 1كو 15 : 24، 27 ) .
كأننا هنا في صلاتنا هذه نطلب الأبدية السعيدة ... و لكننا في طلبتنا ( ليأت ملكوتك ) . نقصد الأنواع الثلاثة من الملكوت :
الله في ملكوته يملك بالحب لا بالضغط .
يملك علي الذين يحبونه ، لا يضغط علي أحد ، و لا يرغم أحداً علي الإنضمام إلي ملكوته . إنما يريد الذين ينضمون إليه بإرداتهم الحرة ،
كذلك القديس الذي قال " من كل قلبي طلبتك ، فلا تبعدني عن وصاياك " ( مز 119 ) .
هوذا الله يخاطب كل أحد منذ القديم قائلاً " قد جعلت قدامك الحياة و الموت ، البركة و اللعنة .
فاختر الحياة لكي تحيا أنت و نسلك . إذ تحب الرب إلهك ، و تسمع لصوته و تلتصق به ، لأنه هو حياتك " ( تث 30 : 19 ، 20 ) .
إنه يقول " يا إبني أعطني قلبك " ( أم 23 : 26 ) .
لأنه يريد أن يملك علي هذا القلب بالذات .
إنه واقف علي باب هذا القلب يقرع ( رؤ 3 : 20 ) . إن فتح أحد له ، يدخل و يتعشى معه . يكشف له ذاته ، و يمتعه بالحياة معه ...
و إن لم يفتح له ، يظل واقفاً علي الباب يقرع . لا يدخل بالعنف و لا بالضغط و لا بالسيطرة . إنما بالحب .
يظل واقفاً علي الباب يقرع ، حتى لو إمتلأ رأسه من الطل ، و قصصه من ندي الليل ( نش 5 : 2 ) .
ملكوت الله ليس مظاهر ، و إنما حب ...
إنه ليس علاقة بين سيد وعبيد ، إنما مشاعر بين أب و أبناء . لذلك دعي في ملكه أباً ، بكل ما تحمله كلمة أب من حنان و رعاية .
و أما أعضاء هذا الملكوت ، فهم أبناء الملكوت ، أبناء ذلك الأب السماوي ،
بكل ما تحمله كلمة البنوة من مشاعر و أحاسيس و عواطف . يطيعون أباهم ، ليس بخضوع العبيد ، إنما بولاء الأبناء و ثقتهم في أبيهم .
أنظروا كيف ملك الرب علي السامرة مثلاً ؟
ذهب إلي هناك ، و رفضت قرية سوخار أن تقبله . فتضايق تلميذاه يعقوب و يوحنا و قالا له " هل تشاء يا رب أن تنزل نار من السماء ،
و تحرق هذه المدينة ؟ " .. فقال لهما الرب " لستما تعلمان من أي روح أنتما . إن إبن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس ، بل ليخلص " ( لو 9 : 51 – 56 ) .
أنا سأملك علي السامرة . و لكني سأملك عليها بالحب ، و بقبول إرادتها ، و ليس بالعنف ...
العنف ليس طريقتي ، و لن يوصل إلي القلب . و أنا ما أريده هو القلب " يا أبني اعطني قلبك " ( أم 23 : 26 ) .. و القلب هو الحب .
و اعطني قلبك معناها اعطني حبك . و عندما أملك قلبك و حبك ، سأملك بالتالي إرادتك ..
و هذا هو ملكوتي . و أنا لا أريد أن أملك كل ذلك بالعنف ، فالعنف ليس هو إسلوب الله في امتلاك القلوب .
و طريق الحب طويل المدى ، كثير الجهد .
و الله مستعد أن يتعب ليملك هذا الإنسان . هو مستعد أن يمد يده طول النهار لشعب معاند مقاوم ( رو 10 : 21 ) .
و الله مستعد أن يصبر حتى يملك القلب ، و القلب يحرك الإرادة ، يحركها نحو الله ،فيريد الإنسان أن يحيا مع الله . و هذا ما يريده الله .
و نحن حينما نقول : ليأت ملكوتك ، إنما نقصد ملكوته علي إرادتنا و قلوبنا .
إنها صلاة منا إليه ، أن يحول قلوبنا نحوه ، و أن يحول إرادتنا نحو مشيئته . و كأننا نقول له " تعال يا رب و أملك " .
وإن أردت أن تملكنا ، و لم نرد نحن ، فلا تتركنا بل حول قلوبنا نحوك . اسكب محبتك في قلوبنا بروحك القدوس ( رو 5 : 5 ) .
تعال يا رب و املك . و لا تسمح للخطية أن تملك علينا ...
و لا تسمح للشيطان أن يبقي رئيساً لهذا العالم ، و لا رئيساً لأبنائك الذين اشتريتهم بالدم الكريم . نحن ملكك ،
فتمسك بملكوتك علينا . و لا تسمح لأي أحد أو لأي شئ ، أن يخطفنا من يدك ( يو 10 : 28 ) أو يبعدنا عنك ...
خدام الملكوت
عبارة " ليأت ملكوتك " هي صلاة لأجل الملكوت ، و أيضاً لأجل أنفسنا ، و لأجل خدام الملكوت .
و ينبغي أن نكون جميعاً من خدام الملكوت ... إنها صلاة من أجل كل رتب الكهنوت ، و من أجل كل الوعاظ و الكارزين و الخدام و المعلمين و المرشدين ،
و من أجل كل نفس لها تعب في الكنيسة . و أيضاً من أجل أن تكثر القدوات الصالحة التي يتعلم الناس من حياتها كنماذج عملية قدامهم .
و بهذه القدوات ينتشر الملكوت . نحن يا رب قد تعبنا النهار كله و لم نصطد شيئاً ،
و لكن علي إسمك نلقي الشبكة ( لو 5 : 5 ) قائلين : " ليأت ملكوتك " .. إنه صراع مع الله لأجل ملكوته ...
علي أن عبارة " ليأت ملكوتك " ليست هي مجرد صلاة ، إنما هي صلاة و عمل . تشمل أيضاً عملنا لأجل الملكوت .
إن كنا حقاً نطلب ملكوت الله ، فلنعمل من أجله ، فلنشترك في بنائه ، و نجول نفعل خيراً ( أع 10 : 38 ) .
و نخلص علي كل حال قوماً .. ( 1كو 9 : 22 ) لأنهم كيف يؤمنون إن لم يسمعوا ، و كيف يسمعون بلا كارز ؟! ( رو 10 : 14 ) .
هل نطلب أن ينتشر ملكوت الله في الأرض كلها ، و نحن نيام كسالي ؟ إذن أين الحب ؟ و أين الغيرة ؟
أنظروا إلي بناة الملكوت ، كيف يقول عنهم بولس الرسول :
" .. بل في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله ، في صبر كثير ، في شدائد في ضرورات في ضيقات ، في ضربات في سجون في إضطرابات .
في أتعاب في أسهار في أصوام .. في كل كلام الحق ، في قوة الله .. بمجد و هوان ، بصيت رديء و صيت حسن . كمضلين و نحن صادقون ..
كمائتين و ها نحن نحيا .. ( 2كو 6 : 4 – 9 ) . " بأسفار مراراً كثيرة ،
بأخطار سيول ، بأخطار لصوص ، بأخطار من الأمم ، بأخطار من أخوة كذبة " ( 2 كو 11 ) .
حقاً إن الله يعمل من أجل بناء ملكوته ، ولكن ينبغي أن نشترك معه في العمل ، ونطلب نعمته أن تشترك معنا .
كم قال بولس الرسول ، عن نفسه وعن سيلا " نحن عاملان مع الله " ( 1 كو 3 : 9 ) .
هذه هي شركة الروح القدس .. نحن لا نشترك مع الروح في الطبيعة و الجواهر ، إنما نشترك في العمل .
وكل واحد منا ، له دور في بناء الملكوت :
وفي هذا قال بولس الرسول " أعطي البعض أن يكونوا رسلاً ، و البعض أنبياء ، و البعض مبشرين ،
و البعض رعاة و معلمين ، لأجل تكميل القديسين ، لعمل الخدمة ، لبنيان جسد المسيح " ( أف 4 : 11 ، 12 ) .
حينما نقول " ليأت ملكوتك " ، إنما نقدم انفسنا عملياً لخدمة هذا الملكوت .
نحن مستعدون يا رب أن نبني الملكوت معك ، وننشره معك ، و نعمل فيه معك . لا نريد أن نأخذ منك موقف المتفرج ،
و نقول " ليأت ملكوتك " و نحن في سلبية مخجلة !! كلا ، بل ليأت هذا الملكوت ، و كلنا خدام لمجيئه ،
نبذل في سبيل ذلك كل ما تهبنا من قوة ... كلنا كسفراء لك : ننادي ، كأن الله يعظ بنا ، و نقول للكل " اصطلحوا مع الله " ( 2 كو 5 : 20 ) .
سلموه قلوبكم لكي يملكها ... نقولها ونحن نصلي من أعماقنا من أجل الخدمة و الخدام ، و من أجل كل نفس تخدم هذا الملكوت و تبذل في سبيله ،
و من أجل كل قلب لم يدخل إلي الملكوت بعد ... نقول " ليأت ملكوتك " ،
و نحن نطلب إلي الرب الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده " ( مت 9 : 38 ) .
نصلي و نقول : تعال يا رب و استلم ما تملكه .
من الناحية النظرية و الرسمية ، أنت يا رب تملك كل شئ . ولكن من الناحية العملية يوجد تمرد علي ملكوتك .
و العالم لا يسلمك ما تملكه ، و كذلك نحن ! فنحن نقول " ليأت ملكوتك " ، إنما نقول ضمناً " تعال يا رب و استلم ما تملكه .. ضع يدك عليه فعلاً ،
سواء ما تملكه فينا أو في غيرنا " تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار . استله و انجح و املك " ( مز 45 ) .
لماذا تترك العالم هكذا ، يعبث فيه الإلحاد و التجديف و الفساد و الإنحراف ؟
و تنتشر في الخطية ، و يتسلط عليه الشيطان ! أليس كله لك . تعال إذن و املك فعلاً ما هو لك شرعاً و قانوناً .
و لا تترك الناس إلي أنفسهم يتمردون علي ملكوتك . فليس هذا صالحاً لهم ...
و إن لم يكن ممكناً أن يأتي الملكوت دفعة واحدة ، فليأت بالتدريج .
إن كنت أنا يا رب لا أستطيع أن أجعلك تملك كل وقتي ، فاعطني أن تملك البكورات فيه . فأقدم لك الساعة الأولي من النهار .
فإن ملكتها ، يمكنني بنعمتك أن أفتح لك هذا القلب مرات و مرات ... إعطني أن أكون أميناً في القليل ،
فأتركه لك . حينئذ أتدرج إلي أن أكون أميناً فيما هو أكثر ، إلي أن تصبح الحياة كلها لك ...
حقاً إن عبارة " ليأت ملكوتك " فيها توبيخ لي .
فليس منطقياً أن أقول " ليأت ملكوتك " بينما أنا مشغول عنه بأمور العالم !!
هل أطلب الملكوت ، و أنا هارب منه ؟! فإن أردنا أن يملك الله علي قلوبنا ، فيجب أن نخلي القلب من محبة العالميات التي تعطله عن محبة الله .
فالكتاب يعلمنا أنه " لا شركة بين النور و الظلمة ، و أية خلطة للبر و الإثم ؟! " ( 2 كو 6 : 14 ) حقاً ،
كيف يملك الله قلباً و شهوات العالم مالكة عليه ؟! فلنحاول إذن إزالة المعطلات التي تعرقل ملكية الله لنا ، سواء كأفراد أو جماعات .
و أن أردنا أن نكون من بني الملكوت ، فلنعرف صفاتهم .
هوذا الرب يقول عن الملكوت ... " طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات " ( مت 5 : 3 ) .
و يقول أيضاً " إن لم ترجعوا و تصيروا مثل الأطفال ، فلن تدخلوا ملكوت السموات " ( مت 18 : 3 ) .
هل نفهم من هاتين الآيتين إنه ينبغي أن نتصف بالإتضاع و أيضاً ببساطة الأطفال و براءتهم لنكون من بني الملكوت ؟
ما أجمل أن نتأمل باقي الآيات الخاصة بالملكوت ، لنعرف أعماق عبارة " ليأت ملكوتك " ...
اترك هذا مجالا لتأملاتكم الخاصة . و يكفي أن أقول إنه مادمنا قد اشترينا بثمن ، و إننا لسنا لأنفسنا ( 1 كو 6 : 20 ، 19 ) ...
فقد صرنا كلنا لله ، هو الذي يملك كل حياتنا و وقتنا ، و كل قلوبنا و أفكارنا و مشاعرنا و حواسنا . فلتعترف بهذه الحقيقة ، و لنقل له : ليأت ملكوتك
ليأت ملكوتك +لقداسة البابا شنودة الثالث من كتاب (تأملات فى الصلاة الربانية)
الكتاب : تأملات في الصلاة الربية .
المؤلف : قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث .
الناشر : الكلية الإكليريكية بالقاهرة 0
الطبعة : الأولي ديسمبر 1994
المطبعة : الأنبا رويس الأوفست العباسية - القاهرة .
رقم الإيداع بدار الكتب : 10368/94