فكرة عامة عن إنجيل القديس لوقا:
أول ما نريد أن نلفت إليه نظر القارئ هو أن ق.
لوقا وضع في صميم خطة تأليفه للإنجيل أن يلحقه بكتاب سفر أعمال الرسل. فمن هذه
الزاوية يصبح إنجيل ق. لوقا ذا اعتبار تاريخي ولاهوتي هام جداً في الكنيسة، فهو يضع
أُسس التقليد العبادي مع تاريخ منشأ ونمو الكنيسة بكل عبادتها وتقاليدها، مكمِّلاً
ما قدَّمه ق. مرقس من أصول التقليد الأولى في العقد الأول من تاريخها.
لذلك يُعتبر إنجيل ق. لوقا أغنى الأناجيل وأكبرها حجماً وهذا بسبب جمعه لمواضيع مختلفة
كثيرة اختص بها ق. لوقا من مصادره الخاصة جداً. وهذه المواضيع الخاصة به استقاها من
البيئة اليهودية عندما زار فلسطين بمعيَّة بولس الرسول بين سنة 57، 59م، وفي هذه
المدة انفتح هذا الإنجيلي الأُممي للفكر والتراث اليهودي من مصدر الكنيسة الأُم
أُورشليم، واستقى من التقليد اليهودي ما أثرى إنجيله وأعطاه الأساس الإلهامي
المنفتح بالروح على خبرات حيَّة نلحظها بسهولة تملأ إنجيله وتلوِّن الصفات التي
ازدحمت بها أعماله. ولكن الأمر الذي يبلغ بنا إلى حد العجب أن يكون هذا الأُممي على
مستوى من القدرة لهضم التراث والميراث اليهودي المسيحي بهذه الصورة الفائقة الوصف.
ويعتمد إنجيل ق. لوقا على التوسُّع في شرح تعاليم المسيح عموماً، ولكنه
يختص ويركِّز على التسلسل التاريخي في استعلان ملكوت الله بحذق ومهارة تاريخية
ولاهوتية بآن واحد، معتمداً على قصد المسيح في الكشف عن ملكوت الله بسعة وباتصال
وثيق ليبلغ الشعب إلى فهم إرادة الله نحو الفداء الذي سيكمِّله. وفي هذا كله لا
يقدِّم إنجيل ق. لوقا تعليماً جديداً للمسيح عن الملكوت منفصلاً عن إرادة الله
المرسومة في جميع الأسفار القديمة، ولكن يكشف عن إرادة الله في شخص المسيح التي إذا
قبلها الشعب يبلغ الهدف المقصود الموضوع بقياس دقيق ليدخل في صميم حياة الناس.
ولكنه التزم بالوثائق والتحقيقات الشفهية.
وفي مسار الحديث عن الملكوت تدخل
تعاليم المسيح الجديدة والأساسية المرتبطة بالملكوت من جهة محبة الأعداء ومواجهة
الشر بالخير وإنكار الذات حتى إلى التسليم، وتُتوَّج الأعمال كلها بالميلاد الجديد
الذي يهب البنوَّة لله كما يتمناه الله للإنسان، وهو أقصى ما يحتاجه الإنسان وهو
السر الذي جاء المسيح ليكشفه ويكمِّله بآن واحد.
وفي الواقع يُعتبر تأليف ق.
لوقا لإنجيله نوعاً جديداً من الارتفاع بالتاريخ في التحرير إلى مستوى الدقة والثقة
بسبب دقة وكثرة المراجع التي كان يرجع إليها. فالقديس لوقا له حاسة تاريخية
يستخدمها بيقظة عقلية وفي تخطيط دقيق لكل حادثة كاشفاً عن طبيعة الأمور وأهميتها،
ولكن تحت قيادة وضبط إلهي حتى أن الإيحاء الإلهي يظهر بوضوح. لأن رؤية ق. لوقا
العامة للأسفار المقدَّسة أنها خُطة إلهية سجَّلها التاريخ ووعاها الإنسان.
والتاريخ المقدَّس إنما هو تعبير عن عمل الله في محيط الإنسان، لذلك وعلى هذا
الأساس كان ق. لوقا يؤرِّخ للمسيح بطريقة لا يجاريه فيها أحد، بالرغم من نقد
اللاهوتيين الذي لا نهاية له.
ويلذ لبعض المؤرِّخين اللاهوتيين اعتبار ق. لوقا
أنه يؤرِّخ للخلاص ويعطي النماذج الأُولى الحية في سفر الأعمال موضِّحاً تكميل
الوعد واستعلان صدق الله في شخص يسوع المسيح، وطرح محبته ورحمته المجانية على
البشرية البائسة.
وقد امتاز ق. لوقا باتساع ثقافته التي ألبسها لتعبيراته، كما
يمتاز بأسلوبه الأدبي البديع. وكما سبق وقلنا إن إنجيل ق. لوقا يُحسب الجزء الأول
من تأليف ق. لوقا الإنجيلي حسب التقليد الكنسي، لأن سفر الأعمال يجيء مكمِّلاً
للإنجيل ولا غنى عنه، بالرغم من أن إنجيل ق. يوحنا يفصلهما عن بعض اضطراراً، لجعل
الأناجيل الأربعة تسبق سفر أعمال الرسل.
وقد تثبَّت ببحث علماء متخصِّصين وحدة
إنجيل ق. لوقا وسفر الأعمال تحت يد واحدة وأسلوب ولغة وتخطيط واحد( ) بواسطة
العلماء هاوكينز( )، وكادبري( )، ونوكس( ). وكثيرون الآن يعتبرون ق. لوقا ليس فقط
مؤرِّخاً ولاهوتياً بل وأديباً أيضاً. فإنجيله وسفر الأعمال معاً يطرحهما في العالم
كله ليكونا مرجع المسيحية بلاهوتها وتاريخها على مستوى كل الأُمم.
ودارس اللاهوت
المدقِّق يستحيل عليه دراسة اللاهوت في إنجيل ق. لوقا وحده، فسفر الأعمال يدخل في
نسيج ق. لوقا اللاهوتي بصورة غير منفصمة.
والملفت للنظر جداً أن ق. لوقا
يلتصق بالتقليد الكنسي التصاقاً مدهشاً دقيقاً وأصيلاً في الأصحاحات الأُولى من سفر
الأعمال (1-12) بصورة أكثر من كل ما قدَّم في إنجيله عن تعاليم المسيح، مما يجعل ما
دوَّنه ق. لوقا في الأصحاحات (1-12) من سفر الأعمال المصدر الوحيد والكامل للتقليد
الكنسي الذي يتحتَّم على الكنيسة الآن أن تُعيد دراسته بدقة وتهتدي بأصوله الروحية
واللاهوتية، وتجعله كمحفوظات يحفظها الإنسان المسيحي قبل أن يشب عن الطوق لتصبح
الكنيسة مرَّة أخرى امتداداً واقعياً لكنيسة الرسل، وتجعل من مادته مادة إنجيلية
مكمِّلة لتعاليم المسيح، ذلك إن أرادت الكنيسة أن تستعيد مجد تراثها وتقليدها الروحي.
اللغة التي كتب بها القديس لوقا إنجيله( ):
بعد تحليل العالِم
كادبري( ) وجد أن الاصطلاحات اليونانية تضاهي أفضل الأدبيات اليونانية القديمة،
ويحسبها العلماء أنها أفضل لغة دوِّنت بها أسفار العهد الجديد. كما شهد العالِم
متسيجر( ) أن أدبيات ق. لوقا في إنجيله تُحسب الأعلى في كل الكتابات.
وبسبب
بساطة لغة ق. مرقس كان ق. لوقا يضطر إلى تهذيبها والارتقاء بمستوى ما يأخذه عنه مع
تغيير بعض الكلمات والمصطلحات حتى يرتفع ق. لوقا إلى مستوى لغة القوم في أيامه. كما
اضطر لحذف بعض الكلمات التي تبدو غير مفهومة عند الأُمم مثل “أوصنا” و“أبـّا”، كما
ترجم بعض الكلمات الأرامية إلى ما يقابلها باليونانية مثل الغيور zhlwt»n (
لو 15:6)
بدل القانوي (مر 18:3)، والمعلِّم بدل “رابّي”، والجمجمة Kran…on ( لو 33:23) بدل
جلجثة. ولكن أظهر ما وضح من دراسة أسلوب وطريقة ق. لوقا في إنجيله هو أن اهتمامه في
الكتابة كان منصبًّا على الصياغة اللاهوتية بالنهاية.
العبرية في لغة القديس
لوقا( ): ولكن من الواضح أن ق. لوقا يستخدم اصطلاحات عبرية مترجمة إلى اليونانية،
وعلى سبيل المثال ما يكرره كثيراً: » وقد حدث أن ™gšneto «
كذلك فإن الأصحاح الأول
ما عدا المقدِّمة والأصحاح الثاني يُحتسب أنه منقول نقلاً حرفياً مترجماً من مخطوطة
عبرية، أو بحسب ظننا ترجمة فورية عن أشخاص عبرانيين كانوا شهود عيان مثل
العذراء القديسة مريم، كذلك تماماً الأصحاحات من الأول إلى الثاني عشر من سفر
الأعمال لها صبغة عبرية واضحة، والسبب في ذلك أن ق. لوقا استطاع أن يحتفظ بأسلوب
مصادره العبرية في الترجمة( ). كما يُلاحَظ أن ق. لوقا يستخدم بوضوح لغة واصطلاحات
السبعينية لأنها تتمشَّى مع أسلوبه التاريخي في سرد الحوادث المقدَّسة، وهذا يُحتسب
له براعة وتوفيقاً نادراً( ).
لغة القديس لوقا غنية بالمصطلحات الخاصة به وحده:
ينفرد ق. لوقا بأسلوبه وتعريفاته الخاصة مستخدماً كلمات كثيرة لم ترد في العهد
الجديد إلاَّ في إنجيله. وقد جمعها العلماء في 266 كلمة ما عدا أسماء الأعلام،
وأمَّا ما انفرد به ق. مرقس فهو 116 كلمة وما انفرد به ق. متى 79 كلمة( ).
مصادر إنجيل القديس لوقا:
يبتدئ ق. لوقا إنجيله (1: 1-4) بمقدِّمة تعطيه الصفة الرسمية
باعتباره تجميعاً لنصوص وحقائق على أساس تقليد يقوم على الرؤية العينية، ومن أفواه
خدَّام رسميين للكلمة، حيث يقصد التلاميذ والرسل الذين يتتبعهم في سفر الأعمال
بشخصياتهم وأقوالهم وطبائعهم وكرازتهم. فهو يقدِّم تسجيلات تاريخية موقَّعة على
هيئة أحداث وتعاليم، بعد فحص ومتابعة ومثابرة متأنية استترت وراء الحوادث، ولكن
تنطق بقدرة ق. لوقا كمؤرِّخ وباحث مُلهم لا يكتفي بالعرض والتسجيل ولكنه يصنع من
العرض والتسجيل بشارة إلهية مفرحة تحمل معياراً لاهوتياً عالي المستوى. فالقديس
لوقا في إنجيله على مستوى الإنجيل الذي يكتبه، فهو لاهوتي يسجِّل لاهوتيات، وفي هذا
يهدف أن يقدِّم خبراً صحيحاً دقيقاً كاملاً محقَّقاً على مستوى الصدق والحق معاً،
بترتيب ينطق بعبقرية النظام والتتابع الإلهامي.
وهو كغيره من الإنجيليين يقدِّم
تقليداً رسولياً، غير أنه يخفي علاقة لاهوتية وفكرية تعليمية بالقديس بولس الرسول
لا يسهل العثور عليها مباشرة، فهي منسوجة مع روايته.
وفي نفس الوقت يحمل مصادر
واضحة ومباشرة من إنجيل ق. مرقس بألفاظها وأسلوبها، فلغة ق. مرقس تكشف هوية صاحبها
شاء الناقل أو لم يشأْ.
والعالِم جوانس وايس الذي فصَّص إنجيل ق. لوقا
تفصيصاً علمياً قائماً على أساس بحثي متين قد وجد أننا: [إذا استثنينا الأصحاح
الأول والثاني، ثم الخاتمة التي تبدأ من (9:24) حتى النهاية، ثم بإخراج الجزء من
(20:6) حتى (3:8) والآخر من (51:9) حتى (8:14)، يكون كل ما بقي من إنجيل لوقا
بأكمله سواء في ترتيبه أو صيغته الخاصة جداً هو اعتماد كلي على إنجيل ق. مرقس.]( )
أمَّا إنجيل القديس متى كمصدر استقى منه القديس لوقا في إنجيله، فالعالِم أ.
هـ. و. ماير يؤكِّد أن ق. لوقا اعتمد على القديس متى في الأجزاء غير الموجودة عند
القديس مرقس، ولكن وايس خالفه في ذلك( ). إذ يقول وايس إن القديس لوقا استقى
الأقوال من مصادر رسولية أقدم من إنجيل متى، والتي تحتوي على مادة تاريخية أكثر من
إنجيل ق. متى. أمَّا أماكن أخْذ القديس لوقا من هذه المصادر الرسولية الأقدم فهي
معروضة في الأجزاء التي تضمَّنها ق. لوقا في إنجيله والتي ذكرناها أعلاه، وقد نقلها
ق. لوقا بوضعها وألفاظها ونظامها. ويقرِّر العالِم نورتون( ) أن إنجيل القديس لوقا
لا نجد فيه سوى عُشره فقط منقولاً بحروفه من بقية الأناجيل، والتسعة أعشار الأخرى
هي من صياغته الخاصة. وبالتحليل الدقيق قد لا تزيد النسبة عن واحد على عشرين، حيث
قصد ق. لوقا في الأجزاء التي اقتبسها من الأناجيل الأخرى أن يكتبها بلغته الخاصة
ويعيد صياغة الترجمة ليعطيها صفة الأصالة التي التزمها على نفسه.
وبالرغم من أن
مادة إنجيل ق. لوقا تبدو ضعف ما حواه ق. متى وق. مرقس، إلاَّ أنه اعتمد في هذا
عليهما كليهما ولكن بأسلوبه الخاص.
أمَّا فيما غير الإنجيليين متى ومرقس كمصادر
لإنجيل ق. لوقا فتقف أقوال الرسل أنفسهم، إمَّا الشفاهية أو المكتوبة، كمصدر ثالث
هام للغاية. فإنجيل ق. لوقا يحمل الأصالة الرسولية الرسمية بكل تأكيد، ذلك بشهادة
الكنيسة الأُولى خاصة ما جاء في القوانين الرسولية. علماً بأن علاقة ق. لوقا
بالقديس بولس تُبرز ذاتها بكل تأكيد، وقد انحدر إلينا رسمياً من أقوال القديس
إيرينيئوس ما يؤكِّد هذا:
[ولكن لوقا وهو رفيق بولس وضع في كتابه الإنجيل الذي
كان بولس يبشِّر به.]( )
وهذا الأمر نفسه لفت نظر كل من أوريجانوس ويوسابيوس
وجيروم، إذ رأوا أن إنجيل ق. لوقا إنما
تخطَّط حاملاً اصطلاحات ق. بولس الذي
كان يسمِّيه ق. بولس «إنجيلي»( ) (رو 16:2). ويقيناً اطَّلع ق. لوقا ودرس واستفاد
من الرقوق والكتب التي كان يحملها ق. بولس في أسفاره: » الرداء الذي تركته في ترواس
عند كاربُس، أحضره متى جئت، والكتب أيضاً ولا سِيَّما الرقوق «(2تي 13:4).
كذلك
لا يمكن أن نغفل المقدار الهائل الذي استوعبه ق. بولس من المسيح رأساً والذي شاركه
فيه ق. لوقا واستوعبه: » لأنني تسلَّمت من الرب ما سلَّمتكم أيضاً أن الرب يسوع ...
إلخ «(1كو 23:11). علماً بأن غالبية العلماء يضعون تاريخ كتابة إنجيل ق. لوقا قبل
كتابة سفر الأعمال الذي ينتهي فجأة أثناء زمن سجن ق. بولس في روما. أي أن الإنجيل
كُتب في أول زمن سجن ق. بولس في روما: » وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره
لنفسه وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه «(أع 30:28). هذا ما كتبه ق. لوقا بنفسه في
سفر الأعمال. وهكذا جلس ق. لوقا يسمع ويكتب من فم ق. بولس، وهذا للأسف الشديد لم
يدخل في حسبان كثير من الذين تعرَّضوا لشرح إنجيل ق. لوقا، وفات على الجميع مقدار
تأثير ق. بولس الشديد في إنجيل ق. لوقا، غير أن ق. لوقا لم يُشِرْ إلى ذلك بل تركه
للقارئ أن يستقرئه بالضرورة، فهو الطبيب والمؤرِّخ والمعين للقديس بولس. ويكفي أن
يعرف القارئ أن ق. لوقا كان مع ق. بولس في السفينة التي أقلَّتهما إلى روما
وتحطَّمت بهما على شواطئ مالطة، وعانى مع ق. بولس الغرق والإشراف على الموت، ثم جلس
بجوار ق. بولس يكتب هذه القصة بدقائقها وبقية سفر الأعمال النفيس.
كيف أخذ
القديس لوقا من المصادر الموضوعة أمامه ونسج منها قصة واحدة: بقدر ارتفاع قيمة
المصادر وأهميتها وفرادتها يأخذ ق. لوقا أهميته وفرادته في إنجيله، وقد سبق أن قلنا
إن أول مصدر هام وفريد التجأ إليه ق. لوقا هو إنجيل ق. مرقس كأساس لإنجيله، ولكن
هناك مصدراً آخر اقترحه العلماء وأعطوه اسم Q، وهو يمثِّل في الحقيقة الجزء المشترك
بين إنجيل ق. لوقا وإنجيل ق. متى وهو غير موجود في إنجيل ق. مرقس. وينحصر في حوالي
200 آية لا يظهر منها شيء في إنجيل ق. مرقس. وهذه الوثيقة اعتبرت مفقودة ولكن يُظن
أن تتابع أجزائها كان أقرب لإنجيل ق. لوقا أكثر مما لإنجيل ق. متى( ).
على أن الأبحاث الحديثة أظهرت أن ق. لوقا لم يعتمد على ما جاء في إنجيل ق. متى، ولكن كلاًّ
من ق. لوقا وق. متى أخذ بدوره من نفس الوثيقة Q كلٌّ حسب أسلوبه؛ بل يُظن أن هذه الوثيقة
ذاتها Q
كان يوجد لها أكثر من نسخة منقَّحة.
على أن قصة الميلاد
التي سجَّلها ق. لوقا في الأصحاحين الأولين لا يوجد لها مثيل في أي من الأناجيل،
لذلك اعتُبرت أنها منقولة بحد ذاتها من مصدر أعطاه العلماء حرف L. وهكذا اتحدت
الوثيقتان في إنجيل ق. لوقا Q+ L مع ما جاء في إنجيل ق. مرقس. على أن ما جاء في
تسجيل فصل الآلام يُعتبر خاصاً بالقديس لوقا.
وعلى العموم يبدو واضحاً أن الدقة
التي التزمها ق. لوقا في تأليف إنجيله ترجع بالدرجة الأُولى إلى أهمية ورسوخ
التقليد في هذه المصادر التي أخذ عنها ق. لوقا: سواء إنجيل ق. مرقس أو وثيقة Q أو
L.
فإذا أردنا معرفة المزيد عن كيف استخدم ق. لوقا هذه المصادر التي اعتمد
عليها، يلزمنا أن نعمل مقارنة بين إنجيلي ق. لوقا وق. مرقس والوثيقة Q كما أخذها
القديس متى. وهذه الدراسة قام بها العالِم بوركت( ) الذي اكتشف أن ق. لوقا، ولو أنه
لجأ إلى بعض التصرف في الأخذ من إنجيل ق. مرقس، إلاَّ أنه لم يخرج عنه كثيراً. على
أن ق. لوقا بعد أن اعتمد على إنجيل ق. مرقس، عاد فأجرى على كل ما دوِّن مراجعة
منهجية غيَّرت قليلاً من الشكل الذي اعتمد عليه، وهذا نراه بوضوح إذ أصبح لإنجيل ق.
لوقا أسلوبه الموحَّد والمميَّز. ولكن هذا لم يُعِقْ الباحثين من العلماء عن عمل
دراسة مقارنة بين إنجيل ق. لوقا وإنجيل ق. مرقس ذات موضوعية من جهة النص. وفيها
اكتشفوا أن التغيير الذي أجراه ق. لوقا على ما أخذه من إنجيل ق. مرقس أصاب بدايات
الفقرات ونهايتها واحتفظ بالمضمون كما هو. كذلك أجرى قلمه على سرد الرواية مع حفظ
صحة المقولات، على أنه كان شديد الحرص أن يحتفظ بكل ما أخذه من المصادر دون تغيير.
أمَّا في رواية الآلام فظهر كيف كان ق. لوقا يضم المصادر ليستخرج منها
الوقائع بتسلسل.
على أن ق. لوقا التزم بترتيب الأحداث كما جاءت في إنجيل ق. مرقس
حيث اتّبع ق. مرقس دون انحراف. ولكن ق. لوقا لم يلتزم بتحديد الأوقات أو الأماكن
التي أوردها ق. مرقس إذ ترك ق. لوقا الأوقات والأماكن بلا تحديد.
أمَّا الاختلاف
في اللاهوت المنهجي بين ق. لوقا وق. مرقس فيظهر بوضوح في كيف كان ق. مرقس حريصاً
أشد الحرص على سريَّة المسيَّانية في كل أقوال وأعمال المسيح باهتمام بالغ على
مدى الإنجيل كله، بينما نجد هذا غير وارد عند ق. لوقا، إذ اهتم بأمور أخرى رآها
أكثر أهمية. فبدت تعاليم المسيح وصورته مغايرة في إنجيل ق. لوقا عن ما هي في إنجيل ق. مرقس.
كما كان يحلو للقديس لوقا أن يغيِّر من الدقائق التي اهتم بها ق. مرقس،
فمثلاً في مثل الزارع نجد الذي سقط على الأرض المحجرة عند ق. مرقس مات إذ ليس له
جذر (أصل)، أمَّا عند ق. لوقا فجفَّ ومات لأن ليس له رطوبة، وهذا التعديل بالذات
يوضِّح كيف أن ق. لوقا يلتزم بالحقائق دون الوسائل، في أخذه من المصادر
أول ما نريد أن نلفت إليه نظر القارئ هو أن ق.
لوقا وضع في صميم خطة تأليفه للإنجيل أن يلحقه بكتاب سفر أعمال الرسل. فمن هذه
الزاوية يصبح إنجيل ق. لوقا ذا اعتبار تاريخي ولاهوتي هام جداً في الكنيسة، فهو يضع
أُسس التقليد العبادي مع تاريخ منشأ ونمو الكنيسة بكل عبادتها وتقاليدها، مكمِّلاً
ما قدَّمه ق. مرقس من أصول التقليد الأولى في العقد الأول من تاريخها.
لذلك يُعتبر إنجيل ق. لوقا أغنى الأناجيل وأكبرها حجماً وهذا بسبب جمعه لمواضيع مختلفة
كثيرة اختص بها ق. لوقا من مصادره الخاصة جداً. وهذه المواضيع الخاصة به استقاها من
البيئة اليهودية عندما زار فلسطين بمعيَّة بولس الرسول بين سنة 57، 59م، وفي هذه
المدة انفتح هذا الإنجيلي الأُممي للفكر والتراث اليهودي من مصدر الكنيسة الأُم
أُورشليم، واستقى من التقليد اليهودي ما أثرى إنجيله وأعطاه الأساس الإلهامي
المنفتح بالروح على خبرات حيَّة نلحظها بسهولة تملأ إنجيله وتلوِّن الصفات التي
ازدحمت بها أعماله. ولكن الأمر الذي يبلغ بنا إلى حد العجب أن يكون هذا الأُممي على
مستوى من القدرة لهضم التراث والميراث اليهودي المسيحي بهذه الصورة الفائقة الوصف.
ويعتمد إنجيل ق. لوقا على التوسُّع في شرح تعاليم المسيح عموماً، ولكنه
يختص ويركِّز على التسلسل التاريخي في استعلان ملكوت الله بحذق ومهارة تاريخية
ولاهوتية بآن واحد، معتمداً على قصد المسيح في الكشف عن ملكوت الله بسعة وباتصال
وثيق ليبلغ الشعب إلى فهم إرادة الله نحو الفداء الذي سيكمِّله. وفي هذا كله لا
يقدِّم إنجيل ق. لوقا تعليماً جديداً للمسيح عن الملكوت منفصلاً عن إرادة الله
المرسومة في جميع الأسفار القديمة، ولكن يكشف عن إرادة الله في شخص المسيح التي إذا
قبلها الشعب يبلغ الهدف المقصود الموضوع بقياس دقيق ليدخل في صميم حياة الناس.
ولكنه التزم بالوثائق والتحقيقات الشفهية.
وفي مسار الحديث عن الملكوت تدخل
تعاليم المسيح الجديدة والأساسية المرتبطة بالملكوت من جهة محبة الأعداء ومواجهة
الشر بالخير وإنكار الذات حتى إلى التسليم، وتُتوَّج الأعمال كلها بالميلاد الجديد
الذي يهب البنوَّة لله كما يتمناه الله للإنسان، وهو أقصى ما يحتاجه الإنسان وهو
السر الذي جاء المسيح ليكشفه ويكمِّله بآن واحد.
وفي الواقع يُعتبر تأليف ق.
لوقا لإنجيله نوعاً جديداً من الارتفاع بالتاريخ في التحرير إلى مستوى الدقة والثقة
بسبب دقة وكثرة المراجع التي كان يرجع إليها. فالقديس لوقا له حاسة تاريخية
يستخدمها بيقظة عقلية وفي تخطيط دقيق لكل حادثة كاشفاً عن طبيعة الأمور وأهميتها،
ولكن تحت قيادة وضبط إلهي حتى أن الإيحاء الإلهي يظهر بوضوح. لأن رؤية ق. لوقا
العامة للأسفار المقدَّسة أنها خُطة إلهية سجَّلها التاريخ ووعاها الإنسان.
والتاريخ المقدَّس إنما هو تعبير عن عمل الله في محيط الإنسان، لذلك وعلى هذا
الأساس كان ق. لوقا يؤرِّخ للمسيح بطريقة لا يجاريه فيها أحد، بالرغم من نقد
اللاهوتيين الذي لا نهاية له.
ويلذ لبعض المؤرِّخين اللاهوتيين اعتبار ق. لوقا
أنه يؤرِّخ للخلاص ويعطي النماذج الأُولى الحية في سفر الأعمال موضِّحاً تكميل
الوعد واستعلان صدق الله في شخص يسوع المسيح، وطرح محبته ورحمته المجانية على
البشرية البائسة.
وقد امتاز ق. لوقا باتساع ثقافته التي ألبسها لتعبيراته، كما
يمتاز بأسلوبه الأدبي البديع. وكما سبق وقلنا إن إنجيل ق. لوقا يُحسب الجزء الأول
من تأليف ق. لوقا الإنجيلي حسب التقليد الكنسي، لأن سفر الأعمال يجيء مكمِّلاً
للإنجيل ولا غنى عنه، بالرغم من أن إنجيل ق. يوحنا يفصلهما عن بعض اضطراراً، لجعل
الأناجيل الأربعة تسبق سفر أعمال الرسل.
وقد تثبَّت ببحث علماء متخصِّصين وحدة
إنجيل ق. لوقا وسفر الأعمال تحت يد واحدة وأسلوب ولغة وتخطيط واحد( ) بواسطة
العلماء هاوكينز( )، وكادبري( )، ونوكس( ). وكثيرون الآن يعتبرون ق. لوقا ليس فقط
مؤرِّخاً ولاهوتياً بل وأديباً أيضاً. فإنجيله وسفر الأعمال معاً يطرحهما في العالم
كله ليكونا مرجع المسيحية بلاهوتها وتاريخها على مستوى كل الأُمم.
ودارس اللاهوت
المدقِّق يستحيل عليه دراسة اللاهوت في إنجيل ق. لوقا وحده، فسفر الأعمال يدخل في
نسيج ق. لوقا اللاهوتي بصورة غير منفصمة.
والملفت للنظر جداً أن ق. لوقا
يلتصق بالتقليد الكنسي التصاقاً مدهشاً دقيقاً وأصيلاً في الأصحاحات الأُولى من سفر
الأعمال (1-12) بصورة أكثر من كل ما قدَّم في إنجيله عن تعاليم المسيح، مما يجعل ما
دوَّنه ق. لوقا في الأصحاحات (1-12) من سفر الأعمال المصدر الوحيد والكامل للتقليد
الكنسي الذي يتحتَّم على الكنيسة الآن أن تُعيد دراسته بدقة وتهتدي بأصوله الروحية
واللاهوتية، وتجعله كمحفوظات يحفظها الإنسان المسيحي قبل أن يشب عن الطوق لتصبح
الكنيسة مرَّة أخرى امتداداً واقعياً لكنيسة الرسل، وتجعل من مادته مادة إنجيلية
مكمِّلة لتعاليم المسيح، ذلك إن أرادت الكنيسة أن تستعيد مجد تراثها وتقليدها الروحي.
اللغة التي كتب بها القديس لوقا إنجيله( ):
بعد تحليل العالِم
كادبري( ) وجد أن الاصطلاحات اليونانية تضاهي أفضل الأدبيات اليونانية القديمة،
ويحسبها العلماء أنها أفضل لغة دوِّنت بها أسفار العهد الجديد. كما شهد العالِم
متسيجر( ) أن أدبيات ق. لوقا في إنجيله تُحسب الأعلى في كل الكتابات.
وبسبب
بساطة لغة ق. مرقس كان ق. لوقا يضطر إلى تهذيبها والارتقاء بمستوى ما يأخذه عنه مع
تغيير بعض الكلمات والمصطلحات حتى يرتفع ق. لوقا إلى مستوى لغة القوم في أيامه. كما
اضطر لحذف بعض الكلمات التي تبدو غير مفهومة عند الأُمم مثل “أوصنا” و“أبـّا”، كما
ترجم بعض الكلمات الأرامية إلى ما يقابلها باليونانية مثل الغيور zhlwt»n (
لو 15:6)
بدل القانوي (مر 18:3)، والمعلِّم بدل “رابّي”، والجمجمة Kran…on ( لو 33:23) بدل
جلجثة. ولكن أظهر ما وضح من دراسة أسلوب وطريقة ق. لوقا في إنجيله هو أن اهتمامه في
الكتابة كان منصبًّا على الصياغة اللاهوتية بالنهاية.
العبرية في لغة القديس
لوقا( ): ولكن من الواضح أن ق. لوقا يستخدم اصطلاحات عبرية مترجمة إلى اليونانية،
وعلى سبيل المثال ما يكرره كثيراً: » وقد حدث أن ™gšneto «
كذلك فإن الأصحاح الأول
ما عدا المقدِّمة والأصحاح الثاني يُحتسب أنه منقول نقلاً حرفياً مترجماً من مخطوطة
عبرية، أو بحسب ظننا ترجمة فورية عن أشخاص عبرانيين كانوا شهود عيان مثل
العذراء القديسة مريم، كذلك تماماً الأصحاحات من الأول إلى الثاني عشر من سفر
الأعمال لها صبغة عبرية واضحة، والسبب في ذلك أن ق. لوقا استطاع أن يحتفظ بأسلوب
مصادره العبرية في الترجمة( ). كما يُلاحَظ أن ق. لوقا يستخدم بوضوح لغة واصطلاحات
السبعينية لأنها تتمشَّى مع أسلوبه التاريخي في سرد الحوادث المقدَّسة، وهذا يُحتسب
له براعة وتوفيقاً نادراً( ).
لغة القديس لوقا غنية بالمصطلحات الخاصة به وحده:
ينفرد ق. لوقا بأسلوبه وتعريفاته الخاصة مستخدماً كلمات كثيرة لم ترد في العهد
الجديد إلاَّ في إنجيله. وقد جمعها العلماء في 266 كلمة ما عدا أسماء الأعلام،
وأمَّا ما انفرد به ق. مرقس فهو 116 كلمة وما انفرد به ق. متى 79 كلمة( ).
مصادر إنجيل القديس لوقا:
يبتدئ ق. لوقا إنجيله (1: 1-4) بمقدِّمة تعطيه الصفة الرسمية
باعتباره تجميعاً لنصوص وحقائق على أساس تقليد يقوم على الرؤية العينية، ومن أفواه
خدَّام رسميين للكلمة، حيث يقصد التلاميذ والرسل الذين يتتبعهم في سفر الأعمال
بشخصياتهم وأقوالهم وطبائعهم وكرازتهم. فهو يقدِّم تسجيلات تاريخية موقَّعة على
هيئة أحداث وتعاليم، بعد فحص ومتابعة ومثابرة متأنية استترت وراء الحوادث، ولكن
تنطق بقدرة ق. لوقا كمؤرِّخ وباحث مُلهم لا يكتفي بالعرض والتسجيل ولكنه يصنع من
العرض والتسجيل بشارة إلهية مفرحة تحمل معياراً لاهوتياً عالي المستوى. فالقديس
لوقا في إنجيله على مستوى الإنجيل الذي يكتبه، فهو لاهوتي يسجِّل لاهوتيات، وفي هذا
يهدف أن يقدِّم خبراً صحيحاً دقيقاً كاملاً محقَّقاً على مستوى الصدق والحق معاً،
بترتيب ينطق بعبقرية النظام والتتابع الإلهامي.
وهو كغيره من الإنجيليين يقدِّم
تقليداً رسولياً، غير أنه يخفي علاقة لاهوتية وفكرية تعليمية بالقديس بولس الرسول
لا يسهل العثور عليها مباشرة، فهي منسوجة مع روايته.
وفي نفس الوقت يحمل مصادر
واضحة ومباشرة من إنجيل ق. مرقس بألفاظها وأسلوبها، فلغة ق. مرقس تكشف هوية صاحبها
شاء الناقل أو لم يشأْ.
والعالِم جوانس وايس الذي فصَّص إنجيل ق. لوقا
تفصيصاً علمياً قائماً على أساس بحثي متين قد وجد أننا: [إذا استثنينا الأصحاح
الأول والثاني، ثم الخاتمة التي تبدأ من (9:24) حتى النهاية، ثم بإخراج الجزء من
(20:6) حتى (3:8) والآخر من (51:9) حتى (8:14)، يكون كل ما بقي من إنجيل لوقا
بأكمله سواء في ترتيبه أو صيغته الخاصة جداً هو اعتماد كلي على إنجيل ق. مرقس.]( )
أمَّا إنجيل القديس متى كمصدر استقى منه القديس لوقا في إنجيله، فالعالِم أ.
هـ. و. ماير يؤكِّد أن ق. لوقا اعتمد على القديس متى في الأجزاء غير الموجودة عند
القديس مرقس، ولكن وايس خالفه في ذلك( ). إذ يقول وايس إن القديس لوقا استقى
الأقوال من مصادر رسولية أقدم من إنجيل متى، والتي تحتوي على مادة تاريخية أكثر من
إنجيل ق. متى. أمَّا أماكن أخْذ القديس لوقا من هذه المصادر الرسولية الأقدم فهي
معروضة في الأجزاء التي تضمَّنها ق. لوقا في إنجيله والتي ذكرناها أعلاه، وقد نقلها
ق. لوقا بوضعها وألفاظها ونظامها. ويقرِّر العالِم نورتون( ) أن إنجيل القديس لوقا
لا نجد فيه سوى عُشره فقط منقولاً بحروفه من بقية الأناجيل، والتسعة أعشار الأخرى
هي من صياغته الخاصة. وبالتحليل الدقيق قد لا تزيد النسبة عن واحد على عشرين، حيث
قصد ق. لوقا في الأجزاء التي اقتبسها من الأناجيل الأخرى أن يكتبها بلغته الخاصة
ويعيد صياغة الترجمة ليعطيها صفة الأصالة التي التزمها على نفسه.
وبالرغم من أن
مادة إنجيل ق. لوقا تبدو ضعف ما حواه ق. متى وق. مرقس، إلاَّ أنه اعتمد في هذا
عليهما كليهما ولكن بأسلوبه الخاص.
أمَّا فيما غير الإنجيليين متى ومرقس كمصادر
لإنجيل ق. لوقا فتقف أقوال الرسل أنفسهم، إمَّا الشفاهية أو المكتوبة، كمصدر ثالث
هام للغاية. فإنجيل ق. لوقا يحمل الأصالة الرسولية الرسمية بكل تأكيد، ذلك بشهادة
الكنيسة الأُولى خاصة ما جاء في القوانين الرسولية. علماً بأن علاقة ق. لوقا
بالقديس بولس تُبرز ذاتها بكل تأكيد، وقد انحدر إلينا رسمياً من أقوال القديس
إيرينيئوس ما يؤكِّد هذا:
[ولكن لوقا وهو رفيق بولس وضع في كتابه الإنجيل الذي
كان بولس يبشِّر به.]( )
وهذا الأمر نفسه لفت نظر كل من أوريجانوس ويوسابيوس
وجيروم، إذ رأوا أن إنجيل ق. لوقا إنما
تخطَّط حاملاً اصطلاحات ق. بولس الذي
كان يسمِّيه ق. بولس «إنجيلي»( ) (رو 16:2). ويقيناً اطَّلع ق. لوقا ودرس واستفاد
من الرقوق والكتب التي كان يحملها ق. بولس في أسفاره: » الرداء الذي تركته في ترواس
عند كاربُس، أحضره متى جئت، والكتب أيضاً ولا سِيَّما الرقوق «(2تي 13:4).
كذلك
لا يمكن أن نغفل المقدار الهائل الذي استوعبه ق. بولس من المسيح رأساً والذي شاركه
فيه ق. لوقا واستوعبه: » لأنني تسلَّمت من الرب ما سلَّمتكم أيضاً أن الرب يسوع ...
إلخ «(1كو 23:11). علماً بأن غالبية العلماء يضعون تاريخ كتابة إنجيل ق. لوقا قبل
كتابة سفر الأعمال الذي ينتهي فجأة أثناء زمن سجن ق. بولس في روما. أي أن الإنجيل
كُتب في أول زمن سجن ق. بولس في روما: » وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره
لنفسه وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه «(أع 30:28). هذا ما كتبه ق. لوقا بنفسه في
سفر الأعمال. وهكذا جلس ق. لوقا يسمع ويكتب من فم ق. بولس، وهذا للأسف الشديد لم
يدخل في حسبان كثير من الذين تعرَّضوا لشرح إنجيل ق. لوقا، وفات على الجميع مقدار
تأثير ق. بولس الشديد في إنجيل ق. لوقا، غير أن ق. لوقا لم يُشِرْ إلى ذلك بل تركه
للقارئ أن يستقرئه بالضرورة، فهو الطبيب والمؤرِّخ والمعين للقديس بولس. ويكفي أن
يعرف القارئ أن ق. لوقا كان مع ق. بولس في السفينة التي أقلَّتهما إلى روما
وتحطَّمت بهما على شواطئ مالطة، وعانى مع ق. بولس الغرق والإشراف على الموت، ثم جلس
بجوار ق. بولس يكتب هذه القصة بدقائقها وبقية سفر الأعمال النفيس.
كيف أخذ
القديس لوقا من المصادر الموضوعة أمامه ونسج منها قصة واحدة: بقدر ارتفاع قيمة
المصادر وأهميتها وفرادتها يأخذ ق. لوقا أهميته وفرادته في إنجيله، وقد سبق أن قلنا
إن أول مصدر هام وفريد التجأ إليه ق. لوقا هو إنجيل ق. مرقس كأساس لإنجيله، ولكن
هناك مصدراً آخر اقترحه العلماء وأعطوه اسم Q، وهو يمثِّل في الحقيقة الجزء المشترك
بين إنجيل ق. لوقا وإنجيل ق. متى وهو غير موجود في إنجيل ق. مرقس. وينحصر في حوالي
200 آية لا يظهر منها شيء في إنجيل ق. مرقس. وهذه الوثيقة اعتبرت مفقودة ولكن يُظن
أن تتابع أجزائها كان أقرب لإنجيل ق. لوقا أكثر مما لإنجيل ق. متى( ).
على أن الأبحاث الحديثة أظهرت أن ق. لوقا لم يعتمد على ما جاء في إنجيل ق. متى، ولكن كلاًّ
من ق. لوقا وق. متى أخذ بدوره من نفس الوثيقة Q كلٌّ حسب أسلوبه؛ بل يُظن أن هذه الوثيقة
ذاتها Q
كان يوجد لها أكثر من نسخة منقَّحة.
على أن قصة الميلاد
التي سجَّلها ق. لوقا في الأصحاحين الأولين لا يوجد لها مثيل في أي من الأناجيل،
لذلك اعتُبرت أنها منقولة بحد ذاتها من مصدر أعطاه العلماء حرف L. وهكذا اتحدت
الوثيقتان في إنجيل ق. لوقا Q+ L مع ما جاء في إنجيل ق. مرقس. على أن ما جاء في
تسجيل فصل الآلام يُعتبر خاصاً بالقديس لوقا.
وعلى العموم يبدو واضحاً أن الدقة
التي التزمها ق. لوقا في تأليف إنجيله ترجع بالدرجة الأُولى إلى أهمية ورسوخ
التقليد في هذه المصادر التي أخذ عنها ق. لوقا: سواء إنجيل ق. مرقس أو وثيقة Q أو
L.
فإذا أردنا معرفة المزيد عن كيف استخدم ق. لوقا هذه المصادر التي اعتمد
عليها، يلزمنا أن نعمل مقارنة بين إنجيلي ق. لوقا وق. مرقس والوثيقة Q كما أخذها
القديس متى. وهذه الدراسة قام بها العالِم بوركت( ) الذي اكتشف أن ق. لوقا، ولو أنه
لجأ إلى بعض التصرف في الأخذ من إنجيل ق. مرقس، إلاَّ أنه لم يخرج عنه كثيراً. على
أن ق. لوقا بعد أن اعتمد على إنجيل ق. مرقس، عاد فأجرى على كل ما دوِّن مراجعة
منهجية غيَّرت قليلاً من الشكل الذي اعتمد عليه، وهذا نراه بوضوح إذ أصبح لإنجيل ق.
لوقا أسلوبه الموحَّد والمميَّز. ولكن هذا لم يُعِقْ الباحثين من العلماء عن عمل
دراسة مقارنة بين إنجيل ق. لوقا وإنجيل ق. مرقس ذات موضوعية من جهة النص. وفيها
اكتشفوا أن التغيير الذي أجراه ق. لوقا على ما أخذه من إنجيل ق. مرقس أصاب بدايات
الفقرات ونهايتها واحتفظ بالمضمون كما هو. كذلك أجرى قلمه على سرد الرواية مع حفظ
صحة المقولات، على أنه كان شديد الحرص أن يحتفظ بكل ما أخذه من المصادر دون تغيير.
أمَّا في رواية الآلام فظهر كيف كان ق. لوقا يضم المصادر ليستخرج منها
الوقائع بتسلسل.
على أن ق. لوقا التزم بترتيب الأحداث كما جاءت في إنجيل ق. مرقس
حيث اتّبع ق. مرقس دون انحراف. ولكن ق. لوقا لم يلتزم بتحديد الأوقات أو الأماكن
التي أوردها ق. مرقس إذ ترك ق. لوقا الأوقات والأماكن بلا تحديد.
أمَّا الاختلاف
في اللاهوت المنهجي بين ق. لوقا وق. مرقس فيظهر بوضوح في كيف كان ق. مرقس حريصاً
أشد الحرص على سريَّة المسيَّانية في كل أقوال وأعمال المسيح باهتمام بالغ على
مدى الإنجيل كله، بينما نجد هذا غير وارد عند ق. لوقا، إذ اهتم بأمور أخرى رآها
أكثر أهمية. فبدت تعاليم المسيح وصورته مغايرة في إنجيل ق. لوقا عن ما هي في إنجيل ق. مرقس.
كما كان يحلو للقديس لوقا أن يغيِّر من الدقائق التي اهتم بها ق. مرقس،
فمثلاً في مثل الزارع نجد الذي سقط على الأرض المحجرة عند ق. مرقس مات إذ ليس له
جذر (أصل)، أمَّا عند ق. لوقا فجفَّ ومات لأن ليس له رطوبة، وهذا التعديل بالذات
يوضِّح كيف أن ق. لوقا يلتزم بالحقائق دون الوسائل، في أخذه من المصادر