مظاهر الاحتفال بملك الملوك
الراهب كاراس المحرقى
كانت عادة قديمة عندما يعود الملوك وقادة الجيوش من الحروب إلى بلادهم ظافرين:
تضج المدينة بأصوات الفرح والتهليل، ويخرج الناس ليستقبلوهم بكل سرور،
ويفرشون الأبسطة تحت أقدامهم، ويعدّون لهم المركبات المُزينة بالزهور وكل ما هو جميل.. وهذا ما قد حدث مع ملك الملوك.
لقد استقبلوا المسيح بكل حُب، حاملين في أيديهم سعف النخل، مُلقين تحت قدميه ثيابهم، وقد صرخوا بصوت رج المدينة،
حتى الأطفال الأبرياء الذين لم يتلوّثوا بوحل الإثم والرياء كانوا يُرنّمون قائلين : " أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ " (مت15:21).
عادة فرش الثياب
في الواقع أنَّ عادة فرش الثياب وأغصان الشجر في الطريق أمام الزائرين،
كانت متّبعة قديماً عند شعوب كثيرة غير بني إسرائيل.
فقد ذكر الرحَّالة الشهير " ابن بطوطة " * أنَّه في الهند (في جزر المالديف) تزوّج بأربع سيدات معاً، ويروي أنَّه من عادة أهل الجزر هناك وعددها ألف جزيرة،
أنَّ العروس تفرش الطريق إلى بيت العريس بالقماش ثم تنتظره عند الباب،
فإذا جاء ألقتْ بثوبها عند قدميه وكذلك كانوا يفعلون مع الذين يحترمونهم من الناس *
فرش الثياب في العهد القديم
وفي العهد القديم نجد أنَّ تقليد فرش الثياب قد انتشر بين اليهود، وكان يُشير إلى المحبة والطاعة والولاء،
فالكتاب المقدس يذكر أنَّ الجموع فرشوا ثيابهم وأغصان الشجر وسعف النخل، أمام " ياهو " عندما نصّب نفسه ملكاً (2ملوك13:9).
وقد فعلوا ذلك أيضاً عندما دخل أورشليم، قائد ثورة المكابيين " سمعان المكابيّ "،
بعد انتصاره على أنتيخوس أبيفانوس، الذي نجّس الهيكل، وذبح الخنازير على المذبح، وجعل أروقته مواخير للدعارة سنة (175ق. م).
وهذا ما حدث مع السيد المسيح عندما دخل أورشليم، فأنشدوا المزامير، وفرشوا الثياب، وحملوا سعف النخل،
لأنَّ المسيح هو الملك السماوي الذي قد جاء لكي يُطهر الهيكل من نجاساته،
وقد كان تطهير الهيكل تتمّة لنبوة ملاخي النبيّ القائلة: " وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ ِ" (ملا1:3)،
وهكذا يُذكّرنا عيد الشعانين بدخول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم فهو إله ومعلم ومخلص،
وكاهن وملك، يملك على قلوب المؤمنين بالحُب، فما أجمل أن نتبعه ونسير في خُطاه حسب وصاياه،
ونهتف مع جموع المؤمنين: أُوصَنَّا في الأَعَالي مُبَارَكْ الآتي باسم الرّب " (مت8:21).
ويوضّح إشعياء النبيّ أنَّ تقديم الثوب إلى شخص آخر، يُشير إلى ترشيحه للرئاسة فيقول:
" إِذَا أَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِأَخِيهِ فِي بَيْتِ أَبِيهِ قَائِلاً: لَكَ ثَوْبٌ فَتَكُونُ لَنَا رَئِيساً وَهَذَا الْخَرَابُ تَحْتَ يَدِكَ " (إش6:3)،
وبهذا يكون فرش الثياب في الطريق، إشارة إلى قبولهم أن يكون السيد المسيح رئيساً عليهم.
ومن الملاحظ أنَّ فرش الثياب يسبقه خلعها، وهذا يُشير إلى حياة الخطية، التي عرَّتنا وفضحتنا..
إلى أن جاء المسيح وكسانا بثوب بره، وهكذا ألقى اليهود بالثوب القديم لكي يتمتّعوا بالسيِّد المسيح نفسه،
كثوب البرّ الذي يلتحفون به ويختفون فيه.
لقد نزعوا عنهم ثوب السجن مع يهوياكين الملك الذي سُجن (إر33:52)،
حتى يستطيعواٍ أن يُجالسوا العريس ملك الملوك فيسمعوا مناجاته الخالدة: " مَا أَحْسَنَ حُبَّكِ يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ..
وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لُبْنَانَ" (نش11:4) أمّا هم فيردّدون:
" فَرَحاً أَفْرَحُ بِالرَّبِّ، تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ،
كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ مِثْلَ عَرِيسٍ يَتَزَيَّنُ بِعِمَامَةٍ وَمِثْلَ عَرُوسٍ تَتَزَيَّنُ بِحُلِيِّهَا " (إش10:61).
وتُشير خلع الثياب إلى الاستهانة بكل شيء من أجل المسيح:
" إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ المسيح يَسُوعَ رَبِّي،
الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ " (في8:3)،
وخلع الإنسان العتيق، لنلبس الجديد الفاخر المُزين بالفضيلة،
فالمسيح هو اللؤلؤة الفريدة التي تستحق أن نبيع كل شيء لنقتنيها (مت46:13) وخلع المظاهر الخارجية،
لتكون الحياة مع الله من الأعماق " مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ " (مز1:129)، " مُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ " (2كو5:10).
كما تُشير إلى حياة الفقر الاختياريّ التي يرغبها الله، وقد عاشها المسيح على الأرض،
إذ لم يكن له مكان يسند إليه رأسه، وعلى نهجه قد سار المؤمنون، الذين كانوا يبيعون بيوتهم وحقولهم وممتلكاتهم...
ويأتون بأثمانها ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع على كل واحد كما يكون له احتياج (أع 33:5، 34).
وعلى الصليب نرى التجرد كاملاً، فقد تعرى اللابس النور كرداء من لباسه بفرح عظيم، لكي يلبس أولئك الذين خرجوا من الفردوس عرايا،
لأنَّه عرف أنها تصلح لآدم المفضوح المُعرى من ثيابه، وكل الذين عرّتهم الخطية من لباس النعمة الإلهية،
فرب المجد لمّا رأى الإنسان تعرى من ثياب التواضع نزل من السماء متجسداً،
وتعرى من ثياب مجده ليكسوه بتواضعه، ولمّا رآه عرياناً من ثمار المحبة غطاه برداء الحُب الإلهيّ!!
سعف النخل
كان سعف النخيل يُشير إلى النصرة، لهذا دعا " شيشرون Cicero" *إنسانًا قد نال جوائز كثيرة " رجل السعف الكثير "،
ثم قال: لقد غلب السيد قوات الظلمة بموته،
لهذا استحق أن يحملوا سعف النخيل أمامه *
ونحن لا نُنكر أنَّ كثيرين قد حققوا انتصارات كثيرة في حياتهم،
ولكن ما هى انتصاراتهم لو قورنت بانتصار السيد المسيح قد انتصر على أقوى عدو عرفته البشرية ألا وهو: الشيطان؟
وإن كان المسيح قد ظهر على الصليب مهاناً كالضعفاء، مصلوباً كالمجرمين،
وقد نُزفت دمائه كما نُزفت دعوته كما اعتقدوا.. إلاَّ أنَّه كما قال البابا أثناسيوس الرسوليّ:
صنع بالضعف ما هو أعظم من القوة، وقد تجلت مظاهر هذه القوة:
في هدم الشر متمثلاً في البدع والهرطقات والنجاسات.. بواسطة القديسين الذين سلكوا في العفة وقاوموا الشر كما نقرأ في سيرهم..
هذا وقد كتب القديس يوحنَّا الحبيب أنَّه رأى جمعاً كبيراً منتصراً كان سعف النخل في أيديهم فيقول:
" بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ،
وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْحَمَلِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ " (رؤ9:7).
يقول القديس أُغسطينوس
" سعف النخل شعار للمدح ويرمز للنصرة، فقد كان الرب قادماً للنصرة على الموت بالموت، وهزيمة الشيطان بصليبه الغالب ".
تاريخ الاحتفال بالعيد
أعطت الكنيسة الجامعة الرسولية مكانة عظيمة لعيد دخول السيد المسيح أورشليم،
إذ وضعته في المرتبة الأولى بين سائر الأعياد، وصارتْ تحتفل به منذ القدم أعظم احتفال،
وتظهر أهمية هذا العيد في ختامه للصوم الأربعينيّ المقدس الذي يسبقه، وأيضاً أُسبوع الآلام الذي يلحقه.
ومن الممكن أن يكون " أحد الشعانين "،
قد شكّل في مصر خلال (القرنين الثاني والثالث)، عيداً لنهاية الصوم الأربعينيّ.. دون علاقة مباشرة بأُسبوع الآلام *
وقد حفظ لنا مخطوط قديم بأورشليم، طقس قراءات أحد الشعانين من (القرن الرابع إلى القرن الخامس)،
ومن خلال هذا المخطوط يظهر لنا أنَّ أحد الشعانين كان متعلقاً بأُسبوع الآلام ومتصلاً به كمقدمة أو كمدخل له*
هذا وخلال العقدين الأخيرين من القرن الرابع، ذهبت الراهبة (إيجيريه egeria) *لزيارة الأماكن المقدّسة، وبعد أن شهدت طقس أُورشليم، سجلت لنا في كتاباتها
ما رأته بنفسها أقدم وصف عن مسيرة الشعانين،
وإليكم بعض ما قالته:
" يجتمع المؤمنون عند الفجر في كنيسة القيامة، ومن هناك ينتقلون إلى كنيسة الجُلجُثة حيث تُقام خدمة الأحد العادية،
ثم يقومون بطواف كبير في أوائل فترة ما بعد الظهر إلى جبل الزيتون حيث يُقيمون خِِدماً أُخرى،
ومن ثمَّ ينتقلون حوالي الساعة الثالثة، إلى المكان الذي صعد منه المسيح ويُقيمون خدمة أُخرى،
ومن هناك يتجهون حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر إلى أورشليم حاملين السعف وأغصان الزيتون،
ويُقيمون صلاة الغروب في كنيسة القيامة، ثم يعودون مُجدداً إلى كنيسة الجلجثة وينهون النهار بصلوات أُخرى " *
في (القرن الخامس) نجد أثر للاحتفال بأحد الشعانين، في أديرة مصر وسوريا،
فالعديد من الرهبان كانوا يأخذون اذناً من رؤساء الأديرة لكي يدخلوا الصحراء الجوانية،
ليتعبدوا فترة الصوم المقدس في عزلة تامة صارمة، فما أن ينتهي الصوم حتى يعودوا إلى أديرتهم في أحد الشعانين *
بعد ذلك الوقت انتشر طقس أورشليم انتشاراً سريعاً، فقبلته الكنائس الشرقية،
وأصبح أحد الشعانين لها عيداً عظيماً يُحتفل به بكل فرح، إذ يستقبلون الملك الممسوح المنتصر، الذي يدخل مدينته (الكنيسة) لكي ينشر الحُب والسلام...
ويُقال أنَّ عيد الشعانين قد دخل مدينة (الرها)، أثناء تولّي الأسقف " بطرس " كرسيّ الأسقفية سنة (498م)،
أو قبل ذلك على يد الأسقف " قورا " الذي سبقه*
وقد انتشر الاحتفال بعيد الشعانين في كنائس الشرق في (القرن الخامس)،
حسب شهادة القديس ساويرس الأنطاكي (465- 538م) في ميمره رقم (125)،
ودخلت عادة الطواف بالسعف في (القرن الثامن والتاسع) * وقد جاء ذِِكر الأغصان وتوزيع الزيتون في كتاب المدائح للقديس ساويرس الأنطاكيّ *
كما وضعت خُطب كثيرة عن هذا العيد لبرقلوس بطريرك القسطنطينية (434- 446م) وأُخرى لمار إفرام السريانيّ ويعقوب السروجيّ..
المراجع
* الأب بطرس المُخلَّصيّ - روعة الأعياد، بغداد 1984م، ص123.
* مخطوطة أورشليم رقم (121).
* راهبة أسبانية زارت القدس في الفترة ما بين (381- 383م)،
وقد ذكرت في مدوناتها وصفاً لِِِما رأته من طقوس كثيرة منها عيد الغطاس وأحد الشعانين وأُسبوع الآلام وعيد الفصح..
* ترجمة النص منقولة عن كتاب معجم المصطلحات الكنسية، للراهب أثناسيوس المقاريّ، ج 2، ص 244.
- يمكن الرجوع إلى ترجمة أُخرى للأب لويس شيخو اليسوعيّ ، في مجلة " المشرق "، العدد (8)، ص340.
* Encyclopedia Britanica - history of palm sundy.
* الأب بطرس المُخلصيّ - روعة الأعياد، بغداد 1984م، ص123.
* مجلة صديق الكاهن، العدد (4)، السنة (6)، إبريل سنة 1954م.
* الأب بطرس المُخلصيّ - روعة الأعياد، بغداد 1984م، ص123.
الراهب كاراس المحرقى
كانت عادة قديمة عندما يعود الملوك وقادة الجيوش من الحروب إلى بلادهم ظافرين:
تضج المدينة بأصوات الفرح والتهليل، ويخرج الناس ليستقبلوهم بكل سرور،
ويفرشون الأبسطة تحت أقدامهم، ويعدّون لهم المركبات المُزينة بالزهور وكل ما هو جميل.. وهذا ما قد حدث مع ملك الملوك.
لقد استقبلوا المسيح بكل حُب، حاملين في أيديهم سعف النخل، مُلقين تحت قدميه ثيابهم، وقد صرخوا بصوت رج المدينة،
حتى الأطفال الأبرياء الذين لم يتلوّثوا بوحل الإثم والرياء كانوا يُرنّمون قائلين : " أُوصَنَّا لاِبْنِ دَاوُدَ " (مت15:21).
عادة فرش الثياب
في الواقع أنَّ عادة فرش الثياب وأغصان الشجر في الطريق أمام الزائرين،
كانت متّبعة قديماً عند شعوب كثيرة غير بني إسرائيل.
فقد ذكر الرحَّالة الشهير " ابن بطوطة " * أنَّه في الهند (في جزر المالديف) تزوّج بأربع سيدات معاً، ويروي أنَّه من عادة أهل الجزر هناك وعددها ألف جزيرة،
أنَّ العروس تفرش الطريق إلى بيت العريس بالقماش ثم تنتظره عند الباب،
فإذا جاء ألقتْ بثوبها عند قدميه وكذلك كانوا يفعلون مع الذين يحترمونهم من الناس *
فرش الثياب في العهد القديم
وفي العهد القديم نجد أنَّ تقليد فرش الثياب قد انتشر بين اليهود، وكان يُشير إلى المحبة والطاعة والولاء،
فالكتاب المقدس يذكر أنَّ الجموع فرشوا ثيابهم وأغصان الشجر وسعف النخل، أمام " ياهو " عندما نصّب نفسه ملكاً (2ملوك13:9).
وقد فعلوا ذلك أيضاً عندما دخل أورشليم، قائد ثورة المكابيين " سمعان المكابيّ "،
بعد انتصاره على أنتيخوس أبيفانوس، الذي نجّس الهيكل، وذبح الخنازير على المذبح، وجعل أروقته مواخير للدعارة سنة (175ق. م).
وهذا ما حدث مع السيد المسيح عندما دخل أورشليم، فأنشدوا المزامير، وفرشوا الثياب، وحملوا سعف النخل،
لأنَّ المسيح هو الملك السماوي الذي قد جاء لكي يُطهر الهيكل من نجاساته،
وقد كان تطهير الهيكل تتمّة لنبوة ملاخي النبيّ القائلة: " وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ ِ" (ملا1:3)،
وهكذا يُذكّرنا عيد الشعانين بدخول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم فهو إله ومعلم ومخلص،
وكاهن وملك، يملك على قلوب المؤمنين بالحُب، فما أجمل أن نتبعه ونسير في خُطاه حسب وصاياه،
ونهتف مع جموع المؤمنين: أُوصَنَّا في الأَعَالي مُبَارَكْ الآتي باسم الرّب " (مت8:21).
ويوضّح إشعياء النبيّ أنَّ تقديم الثوب إلى شخص آخر، يُشير إلى ترشيحه للرئاسة فيقول:
" إِذَا أَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِأَخِيهِ فِي بَيْتِ أَبِيهِ قَائِلاً: لَكَ ثَوْبٌ فَتَكُونُ لَنَا رَئِيساً وَهَذَا الْخَرَابُ تَحْتَ يَدِكَ " (إش6:3)،
وبهذا يكون فرش الثياب في الطريق، إشارة إلى قبولهم أن يكون السيد المسيح رئيساً عليهم.
ومن الملاحظ أنَّ فرش الثياب يسبقه خلعها، وهذا يُشير إلى حياة الخطية، التي عرَّتنا وفضحتنا..
إلى أن جاء المسيح وكسانا بثوب بره، وهكذا ألقى اليهود بالثوب القديم لكي يتمتّعوا بالسيِّد المسيح نفسه،
كثوب البرّ الذي يلتحفون به ويختفون فيه.
لقد نزعوا عنهم ثوب السجن مع يهوياكين الملك الذي سُجن (إر33:52)،
حتى يستطيعواٍ أن يُجالسوا العريس ملك الملوك فيسمعوا مناجاته الخالدة: " مَا أَحْسَنَ حُبَّكِ يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ..
وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لُبْنَانَ" (نش11:4) أمّا هم فيردّدون:
" فَرَحاً أَفْرَحُ بِالرَّبِّ، تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ،
كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ مِثْلَ عَرِيسٍ يَتَزَيَّنُ بِعِمَامَةٍ وَمِثْلَ عَرُوسٍ تَتَزَيَّنُ بِحُلِيِّهَا " (إش10:61).
وتُشير خلع الثياب إلى الاستهانة بكل شيء من أجل المسيح:
" إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ المسيح يَسُوعَ رَبِّي،
الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ " (في8:3)،
وخلع الإنسان العتيق، لنلبس الجديد الفاخر المُزين بالفضيلة،
فالمسيح هو اللؤلؤة الفريدة التي تستحق أن نبيع كل شيء لنقتنيها (مت46:13) وخلع المظاهر الخارجية،
لتكون الحياة مع الله من الأعماق " مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ " (مز1:129)، " مُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ " (2كو5:10).
كما تُشير إلى حياة الفقر الاختياريّ التي يرغبها الله، وقد عاشها المسيح على الأرض،
إذ لم يكن له مكان يسند إليه رأسه، وعلى نهجه قد سار المؤمنون، الذين كانوا يبيعون بيوتهم وحقولهم وممتلكاتهم...
ويأتون بأثمانها ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع على كل واحد كما يكون له احتياج (أع 33:5، 34).
وعلى الصليب نرى التجرد كاملاً، فقد تعرى اللابس النور كرداء من لباسه بفرح عظيم، لكي يلبس أولئك الذين خرجوا من الفردوس عرايا،
لأنَّه عرف أنها تصلح لآدم المفضوح المُعرى من ثيابه، وكل الذين عرّتهم الخطية من لباس النعمة الإلهية،
فرب المجد لمّا رأى الإنسان تعرى من ثياب التواضع نزل من السماء متجسداً،
وتعرى من ثياب مجده ليكسوه بتواضعه، ولمّا رآه عرياناً من ثمار المحبة غطاه برداء الحُب الإلهيّ!!
سعف النخل
كان سعف النخيل يُشير إلى النصرة، لهذا دعا " شيشرون Cicero" *إنسانًا قد نال جوائز كثيرة " رجل السعف الكثير "،
ثم قال: لقد غلب السيد قوات الظلمة بموته،
لهذا استحق أن يحملوا سعف النخيل أمامه *
ونحن لا نُنكر أنَّ كثيرين قد حققوا انتصارات كثيرة في حياتهم،
ولكن ما هى انتصاراتهم لو قورنت بانتصار السيد المسيح قد انتصر على أقوى عدو عرفته البشرية ألا وهو: الشيطان؟
وإن كان المسيح قد ظهر على الصليب مهاناً كالضعفاء، مصلوباً كالمجرمين،
وقد نُزفت دمائه كما نُزفت دعوته كما اعتقدوا.. إلاَّ أنَّه كما قال البابا أثناسيوس الرسوليّ:
صنع بالضعف ما هو أعظم من القوة، وقد تجلت مظاهر هذه القوة:
في هدم الشر متمثلاً في البدع والهرطقات والنجاسات.. بواسطة القديسين الذين سلكوا في العفة وقاوموا الشر كما نقرأ في سيرهم..
هذا وقد كتب القديس يوحنَّا الحبيب أنَّه رأى جمعاً كبيراً منتصراً كان سعف النخل في أيديهم فيقول:
" بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ،
وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْحَمَلِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ " (رؤ9:7).
يقول القديس أُغسطينوس
" سعف النخل شعار للمدح ويرمز للنصرة، فقد كان الرب قادماً للنصرة على الموت بالموت، وهزيمة الشيطان بصليبه الغالب ".
تاريخ الاحتفال بالعيد
أعطت الكنيسة الجامعة الرسولية مكانة عظيمة لعيد دخول السيد المسيح أورشليم،
إذ وضعته في المرتبة الأولى بين سائر الأعياد، وصارتْ تحتفل به منذ القدم أعظم احتفال،
وتظهر أهمية هذا العيد في ختامه للصوم الأربعينيّ المقدس الذي يسبقه، وأيضاً أُسبوع الآلام الذي يلحقه.
ومن الممكن أن يكون " أحد الشعانين "،
قد شكّل في مصر خلال (القرنين الثاني والثالث)، عيداً لنهاية الصوم الأربعينيّ.. دون علاقة مباشرة بأُسبوع الآلام *
وقد حفظ لنا مخطوط قديم بأورشليم، طقس قراءات أحد الشعانين من (القرن الرابع إلى القرن الخامس)،
ومن خلال هذا المخطوط يظهر لنا أنَّ أحد الشعانين كان متعلقاً بأُسبوع الآلام ومتصلاً به كمقدمة أو كمدخل له*
هذا وخلال العقدين الأخيرين من القرن الرابع، ذهبت الراهبة (إيجيريه egeria) *لزيارة الأماكن المقدّسة، وبعد أن شهدت طقس أُورشليم، سجلت لنا في كتاباتها
ما رأته بنفسها أقدم وصف عن مسيرة الشعانين،
وإليكم بعض ما قالته:
" يجتمع المؤمنون عند الفجر في كنيسة القيامة، ومن هناك ينتقلون إلى كنيسة الجُلجُثة حيث تُقام خدمة الأحد العادية،
ثم يقومون بطواف كبير في أوائل فترة ما بعد الظهر إلى جبل الزيتون حيث يُقيمون خِِدماً أُخرى،
ومن ثمَّ ينتقلون حوالي الساعة الثالثة، إلى المكان الذي صعد منه المسيح ويُقيمون خدمة أُخرى،
ومن هناك يتجهون حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر إلى أورشليم حاملين السعف وأغصان الزيتون،
ويُقيمون صلاة الغروب في كنيسة القيامة، ثم يعودون مُجدداً إلى كنيسة الجلجثة وينهون النهار بصلوات أُخرى " *
في (القرن الخامس) نجد أثر للاحتفال بأحد الشعانين، في أديرة مصر وسوريا،
فالعديد من الرهبان كانوا يأخذون اذناً من رؤساء الأديرة لكي يدخلوا الصحراء الجوانية،
ليتعبدوا فترة الصوم المقدس في عزلة تامة صارمة، فما أن ينتهي الصوم حتى يعودوا إلى أديرتهم في أحد الشعانين *
بعد ذلك الوقت انتشر طقس أورشليم انتشاراً سريعاً، فقبلته الكنائس الشرقية،
وأصبح أحد الشعانين لها عيداً عظيماً يُحتفل به بكل فرح، إذ يستقبلون الملك الممسوح المنتصر، الذي يدخل مدينته (الكنيسة) لكي ينشر الحُب والسلام...
ويُقال أنَّ عيد الشعانين قد دخل مدينة (الرها)، أثناء تولّي الأسقف " بطرس " كرسيّ الأسقفية سنة (498م)،
أو قبل ذلك على يد الأسقف " قورا " الذي سبقه*
وقد انتشر الاحتفال بعيد الشعانين في كنائس الشرق في (القرن الخامس)،
حسب شهادة القديس ساويرس الأنطاكي (465- 538م) في ميمره رقم (125)،
ودخلت عادة الطواف بالسعف في (القرن الثامن والتاسع) * وقد جاء ذِِكر الأغصان وتوزيع الزيتون في كتاب المدائح للقديس ساويرس الأنطاكيّ *
كما وضعت خُطب كثيرة عن هذا العيد لبرقلوس بطريرك القسطنطينية (434- 446م) وأُخرى لمار إفرام السريانيّ ويعقوب السروجيّ..
المراجع
* الأب بطرس المُخلَّصيّ - روعة الأعياد، بغداد 1984م، ص123.
* مخطوطة أورشليم رقم (121).
* راهبة أسبانية زارت القدس في الفترة ما بين (381- 383م)،
وقد ذكرت في مدوناتها وصفاً لِِِما رأته من طقوس كثيرة منها عيد الغطاس وأحد الشعانين وأُسبوع الآلام وعيد الفصح..
* ترجمة النص منقولة عن كتاب معجم المصطلحات الكنسية، للراهب أثناسيوس المقاريّ، ج 2، ص 244.
- يمكن الرجوع إلى ترجمة أُخرى للأب لويس شيخو اليسوعيّ ، في مجلة " المشرق "، العدد (8)، ص340.
* Encyclopedia Britanica - history of palm sundy.
* الأب بطرس المُخلصيّ - روعة الأعياد، بغداد 1984م، ص123.
* مجلة صديق الكاهن، العدد (4)، السنة (6)، إبريل سنة 1954م.
* الأب بطرس المُخلصيّ - روعة الأعياد، بغداد 1984م، ص123.