أصالة إنجيل القديس لوقا وصحَّته:
ولو أن كاتب الإنجيل لم يذكر اسمه، غير أن
الكنيسة بتقليدها الراسخ سجَّلت اسمه في قلبها وذاكرتها. وكان أول مَنْ نقل هذا
التقليد هو ق. إيرينيئوس( )، كما ذكرت مخطوطة الموراتوري ذلك. ولو أن بابياس أسقف
هيرابوليس لم يذكر ق. لوقا، ولكن بابياس كمؤرِّخ لا يُعتد به. وقد استخدم الشهيد
يوستين تعبيرات من إنجيل ق. لوقا في دفاعه بين سنة 150و165م( )، كما وُجِدَت عبارات
من سفر الأعمال في رسالة كليمندس الروماني الأُولى( ) (توفِّي سنة 96م) أسقف روما
وهو ثالث أسقف بعد استشهاد ق. بطرس أو ربما خليفته مباشرة. كما توجد شهادة من وثيقة
يرجع تاريخها إلى سنة 170م وهي عبارة عن مقدِّمة لإنجيل ق. لوقا تهدف إلى تفنيد
ادعاءات ماركيون المبتدع. وتشهد هذه الوثيقة أن القديس لوقا هو كاتب الإنجيل
الثالث، وتعطي نبذة عن حياته. وقد سبق أن أوردنا النص الكامل لهذه الوثيقة( ).
أمَّا وصوله للكنيسة متأخِّراً طقسياً نوعاً ما فلكونه اعتُبر من البداية أنه رسالة
خاصة مرسلة لثاوفيلس( ) وليس مدوّناً أصلاً للكنيسة.
والتجاء ق. لوقا لتسجيل
تاريخ بدء الإنجيل بميلاد المسيح يوضِّح مدى قوة البحث والجري وراء
الحقائق من
منابعها مدعَّمة بالتاريخ المدني الروماني بتدقيق. هذا يؤكِّد أصالة الإنجيل كمبحث
مدني ولاهوتي بآن واحد.
زمن كتابة إنجيل القديس لوقا:
اتفق العلماء وبالأخص
هارناك وبروس( ) أن القديس لوقا وهو مرافق للقديس بولس في سجنه الأخير بروما ألَّف
سفر الأعمال في مدى السنتين اللتين عاش فيهما مع القديس بولس في البيت الذي
استأجره، وذلك حوالي سنة 61م. وانتهى باستشهاد ق. بولس حوالي سنة 62م لذلك توقَّف
ق. لوقا عن كتابة سفر الأعمال عند هذه النقطة. ويرجِّح العالِم جودت هذا الرأي( ).
أمَّا الإنجيل فيبدو أنه قد تمَّ قبل هذا الميعاد بقليل. ويرى العالِم شاف( ) أن ق.
لوقا كتب إنجيله وسفر الأعمال إمَّا في قيصرية (أثناء سجن ق. بولس أيضاً هناك) أو
في روما كما قلنا، ولكنه لم يُذَع إلاَّ بعد استشهاد ق. بولس، وهذا يوافق عليه ق.
إيرينيئوس. ويلحّ ق. جيروم أن ق. لوقا كتب إنجيله في أخائية وبويوتيا
Boeotia وهذا
يكون بعد السجن الأول للقديس بولس بقليل.
طابع إنجيل القديس لوقا كما يظهر من الافتتاحية:
ينفرد إنجيل القديس لوقا عن إنجيلَيْ القديس متى والقديس مرقس في
كونه لا يعطي عنواناً لإنجيله، وهو بهذا يشبه إنجيل ق. يوحنا وسفر الأعمال. ويسأل
العالِم الألماني زاهن: هل كان لهذا الإنجيل عنوان وفُقد؟ ولكن في الحقيقة أن ق.
لوقا ليس كالقديس مرقس والقديس متى فهو لا يقدِّم إنجيلاً للكنيسة ولكنه يخاطب فكر
وإيمان أحد العظماء سواء كان شخصاً معروفاً أو تعبيراً عن شخصية ألَّفها ليهديها
عمله هذا ليصلح لكل عزيز محب لله - التي ربما تكون هي الكنيسة.
ولكن واضح من
الافتتاحية أن ق. لوقا يقصد تثقيف شخصٍ ما بالإيمان المسيحي المتقن. وفي الحقيقة
انفرد ق. لوقا بهذا النمط من الكتابة الذي لم يطرقه أي عالِم أو أديب في المحيط
الروماني واليوناني المعروف آنئذ( ). غير أن عمومية الكتابة وشمولها لكل الإيمان
المسيحي ودقائق حياة المسيح تكشف عن رغبة داخلية ملحَّة عند ق. لوقا لكي ينتشر
كتابه هذا - أي إنجيله مع سفر الأعمال - في المحيط المسيحي دون أدنى شك، وربما كان
هذا هو الهدف الأكثر إلحاحاً وراء هذا
العمل الضخم الموسوم بالروح والنعمة.
ودون أن يدري ق. لوقا فقد حدَّد هوية المرسل إليه وهوية إنجيله عندما
دعا ثاوفيلس هذا بالعزيز
Kr£tiste، فهو اصطلاح محدود للغاية يليق لزمانه فقط ويكشف
عن نوع الشخصية التي يخاطبها ق. لوقا ويرتفع إليها في تأليفه الجيد لغة وترتيباً
وأسلوباً. والذي يجذب أنظار العلماء جداً هو أن الشخصية التي يخاطبها القديس لوقا
ليست كنسية، فجاء أسلوبه ولاهوته وأدبه غير محدود بالفكر الكنسي أي عاماً وشاملاً،
وهذا مما جعل إنجيله أكثر قبولاً لدى العامة من الناس، ولهذا أيضاً التزم القديس
لوقا بأن يحترس منذ البدء في أن لا يعطي لإنجيله أي انطباع خاص بشعب معيَّن، فجاء
دون أن يدري على مستوى آية إنجيل ق. يوحنا العامة: » هكذا أحب الله العالم حتى بذل
ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. «(يو
16:3)
وواضح من مخاطبة ثاوفيلس أنه سبق وتلقَّى معلومات عن الإيمان المسيحي ولكن
في نظر ق. لوقا ليست كافية لتعطيه دقة المعلومات الصحيحة اللازمة لإيمان واثق
وصحيح. وهكذا جاء تركيز إنجيل ق. لوقا على التقليد المسيحي الأصيل والصحيح عن بحث
وتحقيق وتأكيد، مما أعطى إنجيله امتيازاً علمياً ولاهوتياً لائقاً بدراسة وتمهُّر،
دون عقبات توقف مسار التفكير.
كما نجد في افتتاحية الجزء الثاني من إنجيله وهو
سفر الأعمال ما يفيد أن هذا الثاوفيلس قد تقبَّل الجزء الأول من الإنجيل بارتياح
مما حدا بالقديس لوقا وحمَّسه ليضيف الجزء الثاني الخاص ببدء نشأة الكنيسة بقوة
اكتساح الروح القدس، الأمر الذي جاء ضمناً ليؤكِّد ما جاء في الإنجيل من إيمان وعمل
وتجديد. ويقول العالِم زاهن أن خلو الجزء الثاني أي سفر الأعمال من ألقاب تعظيم
المرسل إليه يفيد كونه قَبِلَ العماد وتنصَّر فانتقل من رئاسة مدنية إلى زمالة
إنجيلية في الإيمان الواحد( ).
الدافع الملحّ لكتابة الإنجيل:
أمَّا دافع
الكتابة للإنجيل وأيضاً لسفر الأعمال عند ق. لوقا فواضح أنه كان ثقلاً روحياً ملحاً
داخله لينشر المعرفة الإنجيلية الصحيحة، عندما توفرت لديه معلومات غاية في الأهمية
والسرية لم يطرقها أي إنجيلي غيره. فهو كتب ليكمِّل ما كُتب، وأعلن ما يتحتَّم
استعلانه بدفع الروح المسيطر على قلب كاتب الإنجيل وفكره. فالروح اختاره ليكمِّل
عمل “كثيرين” سبقوه بما وهبه له من أسرار تكاد تكون في طي الكتمان وأُعلنت له عن
قصد إلهي، إذ تبيَّن لله أن ق. لوقا وحده هو الكفيل بسرد هذه الأسرار في
إطارها
الإنجيلي الرزين والمكين، فاستعلن للقديس لوقا ما لم يستعلن لغيره من هؤلاء
“الكثيرين” الذين سبقوه فكتبوا عن الأمور الخاصة بالمسيح والمسيحية وإنما في غموض
أو شح في المعلومات.
رؤية عامة لتخطيط كتابة الإنجيل:
واضح من الافتتاحية أن
ق. لوقا وضع أمام عينيه الخطوط الأساسية العامة التي سيطرقها في إنجيله ليصل إلى
أهدافه التي وضعها أمامه في الافتتاحية بالنسبة لتكميل معرفة ثاوفيلس بالأمور كلها،
فالقديس لوقا اختطَّ طريقاً في عرض إنجيله غير ق. متى وق. مرقس.
فالقديس متى كتب
دفاعاً عن المسيح والكنيسة لدى الفكر اليهودي، لذلك كتب بلغة القوم وهي الأرامية
ليمحو كل اعتراض يهودي على صدق الإيمان المسيحي بحسب كل النبوات
السابقة.
والقديس مرقس كتب إنجيلاً تعليمياً ليبني به فكر الكنيسة على مدى
الأجيال بمقتضى التقليد الذي كان سائداً في أيامه، فسجَّله وأدخله ذاكرة الكنيسة
وخزانة لاهوتها الفاخرة.
أمَّا القديس لوقا فقد طرح خطة عمله على خلفية تاريخية
كمؤرِّخ يوناني على مستوى الإنجيل وكنيسة زمانه، مبتدئاً من أول حجر أساس وُضع فيها
بميلاد المسيح حتى بلغ قمتها بالتقليد الكنسي الذي نما وازدهر في أيامه من الناحية
اللاهوتية التي فجَّرها بولس الرسول، ومن الناحية التعليمية التي وضع ق. مرقس
أساسها وبنى عليه ق. متى فأكمله القديس لوقا بما كان سائداً في أيامه.
ويلزم أن
ندرك القصد العام من كتابة ق. لوقا لإنجيله وهو يعلم تماماً أن » كثيرين قد أخذوا
بتأليف قصة (الإنجيل) في الأمور المتيقنة عندنا «(لو 1:1)، بمعنى أنه كانت إمَّا
الأناجيل أو أجزاء منها موضوعة أمامه. وخطته التي صمَّم عليها منذ البدء هي
الامتداد بما جاء في الأناجيل المتوفرة في أيامه مكمِّلاً لها جميعاً بما توفَّر
لديه من نصوص ووثائق ومدوَّنات عن الرسل أنفسهم ومَنْ خَدَمَ الكلمة، أي المسيح،
وعاش معه وسمع إليه، مع إضافة كل امتداد للتقليد الكنسي في أيامه. واستخدم ق. لوقا
حاسته التاريخية ليعطي صورة أمينة للغاية لخدمة المسيح وشخصه وحياة الرسل والكنيسة
الأُولى بكل دقة. وهو لم يجنح ناحية التأمل أو الإضافة الشخصية قط كمؤرِّخ منكر
لذاته واسمه بصورة علمية قلَّ مَنْ بلغها أو أدركها.
مؤلَّف واحد من جزئين:
يلزم أن يعرف القارئ أن إنجيل ق. لوقا يمتد بعد نهاية الإنجيل ليستمر في
سفر الأعمال كمكمِّل للإنجيل. فكتاب ق. لوقا يبدو مؤلَّفاً واحداً من جزئين: الأول
الإنجيل والثاني يختص بالكنيسة كيف
بدأت وعملت. وهذا واضح من بداية إنجيله: »
رأيت أنا أيضاً ... أن أكتب على التوالي «(لو 3:1)، وأيضاً من بداية سفر الأعمال: »
الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيلس ... «(أع 1:1). ولكن للأسف فرَّق منظمو أسفار
الكتاب المقدَّس المطبوع بينهما اضطراراً بأن وضعوا الإنجيل الرابع للقديس يوحنا
بينهما، مع أنهما كانا بكل تأكيد كتاباً واحداً في وحدة متكاملة حيث تجمعهما وحدة
اللغة والأسلوب والتنسيق والغاية( ). والكنيسة الأُولى تذكر سفر الأعمال باسم إمَّا
أعمال الرسل Pr£xeij tîn 'ApostÒlwn أو الأعمال فقط aƒ Pr£xeij.
براعة في فن
التأليف والتجميع:
ولكن من معرض ما قدَّمه ق. لوقا يتضح لنا أي أبحاث قام بها
هذا العملاق المؤرِّخ واللاهوتي ليسد ثغرات الإيمان عند إنسان ابتدأ يتعلَّم ما
يلزم أن يُعلَّم عن المسيح والكنيسة. فقدَّم المسيحية كاملة متصلة الحلقات شديدة
الاتصال والوصال، قادرة أن تجذب فكر أي باحث أو عالِم وتقنعه بصدق البحث وأصالة
التجميع والترتيب للتقليد الذي كان ينمو بتؤدة وثبات في الاستعلان اللاهوتي
والتعليمي. لأن ق. لوقا كان أمامه شخصٌ مثقَّفٌ عالي القدر وعلى مستوى من الثقافة
اليونانية العالية السائدة في أيامه، فقدَّم له كل ما يمكن من القواعد والأساسات
الثابتة والأصيلة للإيمان المسيحي كما تعرفها وتؤمن بها الكنيسة الواعية المملوءة
بالنعمة والروح والحكمة، وقد ارتفعت عن مستواها اليهودي الضيق المتعصِّب إلى مستوى
الانفتاح الفكري والثقافي اللاهوتي، ومدَّت يد الصداقة لكل عالِم ومتعلِّم وكل حكيم
ومتحكِّم. فيد ق. لوقا الممدودة بإنجيله الثمين للعزيز ثاوفيلس هي فخر الكنيسة في
زمانها هذا كوثيقة علم ومعرفة وحكمة وثقافة على أعلى درجاتها بين العلماء والحكماء
في تلك الأيام.
وبنظرة علمية واعية مثقَّفة في فن التأليف والتجميع والعرض ينكشف
للباحث المدقِّق كيف استطاع ق. لوقا أن يُخرج من الرقوق والنبذ والمقولات
المتفرِّقة التي سبقت زمانه بحثاً فاخراً كاملاً شاملاً، يقوم على الأصول والقواعد
الثابتة، ويرتفع شامخاً بكماله في أسلوب واحد ونمط جذَّاب هو حاصل صَهْرِ كل ما بلغ
يديه وعينيه.
وكعينة من هذا التجميع والصهر معاً يقدِّم ق. لوقا لثاوفيلس يوحنا
المعمدان لا كما سبق وسمعه من إنجيل ق. مرقس وق. متى كمجرَّد نبي سابق لصاحب الفداء
والخلاص، ولكن يُبرز رسالة
المعمدان وهو ما يزال في البطن، وقبل أن يولد
ينصِّبه نبيًّا جاء ليوقظ القلوب ويفتح الوعي التاريخي الذي يتحتَّم أن يُستقبل به
هذا القادم من وراء الدهور، فيقدِّمه بصورته النسكية ليوقظ الوعي النبوي بإيليا في
ملابسه وأكله وشربه وحياة البراري (80:1). ويؤكِّد دعوته النبوية من البطن كإرميا
(إر 5:1) ويقدِّم بمعجزة ميلاده المعجزة الأضخم بميلاد المسيَّا!
وينتقل بالقارئ
ليعيش الصداقة والقربى العائلية بين المعمدان والمسيح في اتحاد الرجاء الواحد منذ
الطفولة، مصوِّراً كيف حيَّا المعمدان وهو في بطن أمِّه ربَّه القابع في بطن
العذراء، فكان أول سرور مسَّ البشرية بالابتهاج متنبئاً عن مجيء عصور الفرح
والابتهاج بالروح.
وهكذا أدخل ق. لوقا بتخطيطه النادر والعالي المستوى ليس
ثاوفيلس وحده في صميم التاريخ الإلهي؛ بل والبشرية كلها عبر العصور. من هنا تظهر
أصالة التخطيط الذي خطَّط به ق. لوقا إنجيله ليحتضن الفكر البشري كله من داخل فكر
ثاوفيلس العزيز.
كيف طوَّع القديس لوقا أسلوبه ليناسب الهدف الموضوع
أمامه:
واضح أن الهدف كان في أضيق صوره أن يجتذب إنساناً أممياً للمسيحية
والكنيسة، إنما عن يقين وإقناع، وبطرق كثيرة متنوعة. هذا الهدف جعل ق. لوقا كمؤرِّخ
مسيحي يلتزم بتحفظات كثيرة أهمها أنه التزم بالأسلوب والطريقة الموضوعية التي تناسب
علمانياً، وامتنع عن إطلاق الصوت العالي الذي يلزم إيقاظ الكنيسة، ولكنه بهدوء
وحكمة دبَّر الأسلوب الأنسب لأُذن إنسان لا يزال خارج الكنيسة. ولكن لم يمنعه هذا
من أن يعطي المسيح مراراً لقب الرب Ð KÚrioj، الأمر الذي يكاد يكون غائباً في إنجيل
القديس مرقس. وطبعاً هذا هو رد فعل الانطباع الذي دخل به المسيح في إيمان ق. لوقا
نفسه وهو لا يزال يطلب الإيمان، فهو يقدِّم خبرة حية يعيشها ويفتخر بها ويحس بقوتها
وفعلها في حياته. علماً بأن ق. لوقا لم يكن واحداً من الذين ولدوا في الكنيسة
وتعوَّدت عيناه وأُذناه على رؤية المسيح أو اكتساب الإيمان به عن آخرين، بل إن
المسيح اقتحم حياته مرَّة واحدة “كرب”. وكما أخذ المسيح بصورته الزاهية، هكذا
يقدِّمه هنا لثاوفيلس. ولكن هذا أيضاً لم يمنع ق. لوقا من أن يقدِّم المسيح باسمه
“يسوع” لأنه من هذه القاعدة سيتم الفداء على الصليب. كذلك يقدِّم ق. لوقا الذين
يخاطبون المسيح قائلين: “يا معلِّم ™p…stata”( )، المقابل اليوناني لرابّي عند
اليهود ومعها كلمة
did£skale، متحاشياً نهائياً كلمة رابي. وفي نفس الوقت أبرز كلمة
يا رب KÚrie إنما بشيء من الاحتراس.
كذلك نجده يتعرَّض للإفخارستيا بشيء من
الاحتراس والاختصار الشديد وبلغة تكاد تكون عادية على الأسماع: » شهوة اشتهيت أن
آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم، لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد حتى يكمل في
ملكوت الله «(لو 22: 16-20). ويُلاحِظ القارئ أن ق. لوقا في تقديمه الكأس بيد
المسيح لتلاميذه لم يذكر صراحة أن » هذا هو دمي «بل قالها بنوع من التورية » هذا هو
العهد الجديد بدمي « وهنا يختفي جزئياً إبراز “السر”، لأن الوثنيين كانوا يعثرون
بشدة من موضوع العشاء السري معتقدين أنه ذبيحة دموية، مما جعل ق. لوقا يعبر عليه
دون تعمُّق كبداية لانفتاح وعي ثاوفيلس( ).
وهذا يُحسب للقديس لوقا أسلوباً
حكيماً “فسرِّي لأهل بيتي”، لذلك أخفى مضمون هذا السر العميق للغاية لأنه محجوب
أصلاً عن عيني الإنسان الأُممي الذي لم تنفتح بصيرته بعد ولا تقبَّل الإلهام.
فالقديس لوقا بحجبه السر عن ثاوفيلس إنما يصونه من العثرة والسخرية. علماً بأن ق.
لوقا أصلاً أُممي ويعرف متى يعثر الأُممي وكيف يقبل الحقائق.
إذن، ففي إنجيل ق.
لوقا يتسيطر الظرف على الأسلوب والمنطق والعرض بصورة جوهرية. وهنا ينفتح وعينا عن
سر المدخل الذي دخل به ق. لوقا ليقدِّم رسالة الخلاص والإيمان بالمسيح، إذ يدخل على
زمن حكم هيرودس وقيام الولاة وتداخل الملائكة قبل أن يدخل إلى الحقائق الإلهية،
ويستحضر مناسبة الاكتتاب ليمهِّد لتسجيل ميلاد المسيح في عمق التاريخ، ولربما كان
ثاوفيلس هذا أحد الذين خدموا أمر الإمبراطور في الاكتتاب. وهكذا يصيغ من صميم
الواقع الزمني ارتفاعاً سماوياً ملحوظاً يدخل في الوعي من واقع المناسبة. فكان ق.
لوقا حكيماً حقـًّا إذ جعل بداية المسيحية متعانقة مع الدولة وحكامها وأوامرها
ويرفع عنها أي عداوة للسلطة. ولا ننسى لماذا أورد ق. لوقا قصة السؤال المقدَّم
للمسيح عن الجزية المقدَّمة لقيصر فأمر أن تُدفع حسب القانون (لو 20: 20-26) حتى
ينفي عن المسيح التهمة الملفَّقة والكاذبة التي أقامها السنهدرين ضد المسيح أنه
يحرِّض الشعب أن لا يدفع الجزية. فتكاد هذه القصة أن تكون مرسلة هدية لفكر ثاوفيلس
عن مدى خضوع المسيح لنظام الدولة.
وهكذا على هذا المنوال أسَّس ق. لوقا إنجيله
ليكون منسجماً غاية الانسجام مع الفكر العلماني والعقلية الرئاسية عند اليونان.
ولو أن كاتب الإنجيل لم يذكر اسمه، غير أن
الكنيسة بتقليدها الراسخ سجَّلت اسمه في قلبها وذاكرتها. وكان أول مَنْ نقل هذا
التقليد هو ق. إيرينيئوس( )، كما ذكرت مخطوطة الموراتوري ذلك. ولو أن بابياس أسقف
هيرابوليس لم يذكر ق. لوقا، ولكن بابياس كمؤرِّخ لا يُعتد به. وقد استخدم الشهيد
يوستين تعبيرات من إنجيل ق. لوقا في دفاعه بين سنة 150و165م( )، كما وُجِدَت عبارات
من سفر الأعمال في رسالة كليمندس الروماني الأُولى( ) (توفِّي سنة 96م) أسقف روما
وهو ثالث أسقف بعد استشهاد ق. بطرس أو ربما خليفته مباشرة. كما توجد شهادة من وثيقة
يرجع تاريخها إلى سنة 170م وهي عبارة عن مقدِّمة لإنجيل ق. لوقا تهدف إلى تفنيد
ادعاءات ماركيون المبتدع. وتشهد هذه الوثيقة أن القديس لوقا هو كاتب الإنجيل
الثالث، وتعطي نبذة عن حياته. وقد سبق أن أوردنا النص الكامل لهذه الوثيقة( ).
أمَّا وصوله للكنيسة متأخِّراً طقسياً نوعاً ما فلكونه اعتُبر من البداية أنه رسالة
خاصة مرسلة لثاوفيلس( ) وليس مدوّناً أصلاً للكنيسة.
والتجاء ق. لوقا لتسجيل
تاريخ بدء الإنجيل بميلاد المسيح يوضِّح مدى قوة البحث والجري وراء
الحقائق من
منابعها مدعَّمة بالتاريخ المدني الروماني بتدقيق. هذا يؤكِّد أصالة الإنجيل كمبحث
مدني ولاهوتي بآن واحد.
زمن كتابة إنجيل القديس لوقا:
اتفق العلماء وبالأخص
هارناك وبروس( ) أن القديس لوقا وهو مرافق للقديس بولس في سجنه الأخير بروما ألَّف
سفر الأعمال في مدى السنتين اللتين عاش فيهما مع القديس بولس في البيت الذي
استأجره، وذلك حوالي سنة 61م. وانتهى باستشهاد ق. بولس حوالي سنة 62م لذلك توقَّف
ق. لوقا عن كتابة سفر الأعمال عند هذه النقطة. ويرجِّح العالِم جودت هذا الرأي( ).
أمَّا الإنجيل فيبدو أنه قد تمَّ قبل هذا الميعاد بقليل. ويرى العالِم شاف( ) أن ق.
لوقا كتب إنجيله وسفر الأعمال إمَّا في قيصرية (أثناء سجن ق. بولس أيضاً هناك) أو
في روما كما قلنا، ولكنه لم يُذَع إلاَّ بعد استشهاد ق. بولس، وهذا يوافق عليه ق.
إيرينيئوس. ويلحّ ق. جيروم أن ق. لوقا كتب إنجيله في أخائية وبويوتيا
Boeotia وهذا
يكون بعد السجن الأول للقديس بولس بقليل.
طابع إنجيل القديس لوقا كما يظهر من الافتتاحية:
ينفرد إنجيل القديس لوقا عن إنجيلَيْ القديس متى والقديس مرقس في
كونه لا يعطي عنواناً لإنجيله، وهو بهذا يشبه إنجيل ق. يوحنا وسفر الأعمال. ويسأل
العالِم الألماني زاهن: هل كان لهذا الإنجيل عنوان وفُقد؟ ولكن في الحقيقة أن ق.
لوقا ليس كالقديس مرقس والقديس متى فهو لا يقدِّم إنجيلاً للكنيسة ولكنه يخاطب فكر
وإيمان أحد العظماء سواء كان شخصاً معروفاً أو تعبيراً عن شخصية ألَّفها ليهديها
عمله هذا ليصلح لكل عزيز محب لله - التي ربما تكون هي الكنيسة.
ولكن واضح من
الافتتاحية أن ق. لوقا يقصد تثقيف شخصٍ ما بالإيمان المسيحي المتقن. وفي الحقيقة
انفرد ق. لوقا بهذا النمط من الكتابة الذي لم يطرقه أي عالِم أو أديب في المحيط
الروماني واليوناني المعروف آنئذ( ). غير أن عمومية الكتابة وشمولها لكل الإيمان
المسيحي ودقائق حياة المسيح تكشف عن رغبة داخلية ملحَّة عند ق. لوقا لكي ينتشر
كتابه هذا - أي إنجيله مع سفر الأعمال - في المحيط المسيحي دون أدنى شك، وربما كان
هذا هو الهدف الأكثر إلحاحاً وراء هذا
العمل الضخم الموسوم بالروح والنعمة.
ودون أن يدري ق. لوقا فقد حدَّد هوية المرسل إليه وهوية إنجيله عندما
دعا ثاوفيلس هذا بالعزيز
Kr£tiste، فهو اصطلاح محدود للغاية يليق لزمانه فقط ويكشف
عن نوع الشخصية التي يخاطبها ق. لوقا ويرتفع إليها في تأليفه الجيد لغة وترتيباً
وأسلوباً. والذي يجذب أنظار العلماء جداً هو أن الشخصية التي يخاطبها القديس لوقا
ليست كنسية، فجاء أسلوبه ولاهوته وأدبه غير محدود بالفكر الكنسي أي عاماً وشاملاً،
وهذا مما جعل إنجيله أكثر قبولاً لدى العامة من الناس، ولهذا أيضاً التزم القديس
لوقا بأن يحترس منذ البدء في أن لا يعطي لإنجيله أي انطباع خاص بشعب معيَّن، فجاء
دون أن يدري على مستوى آية إنجيل ق. يوحنا العامة: » هكذا أحب الله العالم حتى بذل
ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. «(يو
16:3)
وواضح من مخاطبة ثاوفيلس أنه سبق وتلقَّى معلومات عن الإيمان المسيحي ولكن
في نظر ق. لوقا ليست كافية لتعطيه دقة المعلومات الصحيحة اللازمة لإيمان واثق
وصحيح. وهكذا جاء تركيز إنجيل ق. لوقا على التقليد المسيحي الأصيل والصحيح عن بحث
وتحقيق وتأكيد، مما أعطى إنجيله امتيازاً علمياً ولاهوتياً لائقاً بدراسة وتمهُّر،
دون عقبات توقف مسار التفكير.
كما نجد في افتتاحية الجزء الثاني من إنجيله وهو
سفر الأعمال ما يفيد أن هذا الثاوفيلس قد تقبَّل الجزء الأول من الإنجيل بارتياح
مما حدا بالقديس لوقا وحمَّسه ليضيف الجزء الثاني الخاص ببدء نشأة الكنيسة بقوة
اكتساح الروح القدس، الأمر الذي جاء ضمناً ليؤكِّد ما جاء في الإنجيل من إيمان وعمل
وتجديد. ويقول العالِم زاهن أن خلو الجزء الثاني أي سفر الأعمال من ألقاب تعظيم
المرسل إليه يفيد كونه قَبِلَ العماد وتنصَّر فانتقل من رئاسة مدنية إلى زمالة
إنجيلية في الإيمان الواحد( ).
الدافع الملحّ لكتابة الإنجيل:
أمَّا دافع
الكتابة للإنجيل وأيضاً لسفر الأعمال عند ق. لوقا فواضح أنه كان ثقلاً روحياً ملحاً
داخله لينشر المعرفة الإنجيلية الصحيحة، عندما توفرت لديه معلومات غاية في الأهمية
والسرية لم يطرقها أي إنجيلي غيره. فهو كتب ليكمِّل ما كُتب، وأعلن ما يتحتَّم
استعلانه بدفع الروح المسيطر على قلب كاتب الإنجيل وفكره. فالروح اختاره ليكمِّل
عمل “كثيرين” سبقوه بما وهبه له من أسرار تكاد تكون في طي الكتمان وأُعلنت له عن
قصد إلهي، إذ تبيَّن لله أن ق. لوقا وحده هو الكفيل بسرد هذه الأسرار في
إطارها
الإنجيلي الرزين والمكين، فاستعلن للقديس لوقا ما لم يستعلن لغيره من هؤلاء
“الكثيرين” الذين سبقوه فكتبوا عن الأمور الخاصة بالمسيح والمسيحية وإنما في غموض
أو شح في المعلومات.
رؤية عامة لتخطيط كتابة الإنجيل:
واضح من الافتتاحية أن
ق. لوقا وضع أمام عينيه الخطوط الأساسية العامة التي سيطرقها في إنجيله ليصل إلى
أهدافه التي وضعها أمامه في الافتتاحية بالنسبة لتكميل معرفة ثاوفيلس بالأمور كلها،
فالقديس لوقا اختطَّ طريقاً في عرض إنجيله غير ق. متى وق. مرقس.
فالقديس متى كتب
دفاعاً عن المسيح والكنيسة لدى الفكر اليهودي، لذلك كتب بلغة القوم وهي الأرامية
ليمحو كل اعتراض يهودي على صدق الإيمان المسيحي بحسب كل النبوات
السابقة.
والقديس مرقس كتب إنجيلاً تعليمياً ليبني به فكر الكنيسة على مدى
الأجيال بمقتضى التقليد الذي كان سائداً في أيامه، فسجَّله وأدخله ذاكرة الكنيسة
وخزانة لاهوتها الفاخرة.
أمَّا القديس لوقا فقد طرح خطة عمله على خلفية تاريخية
كمؤرِّخ يوناني على مستوى الإنجيل وكنيسة زمانه، مبتدئاً من أول حجر أساس وُضع فيها
بميلاد المسيح حتى بلغ قمتها بالتقليد الكنسي الذي نما وازدهر في أيامه من الناحية
اللاهوتية التي فجَّرها بولس الرسول، ومن الناحية التعليمية التي وضع ق. مرقس
أساسها وبنى عليه ق. متى فأكمله القديس لوقا بما كان سائداً في أيامه.
ويلزم أن
ندرك القصد العام من كتابة ق. لوقا لإنجيله وهو يعلم تماماً أن » كثيرين قد أخذوا
بتأليف قصة (الإنجيل) في الأمور المتيقنة عندنا «(لو 1:1)، بمعنى أنه كانت إمَّا
الأناجيل أو أجزاء منها موضوعة أمامه. وخطته التي صمَّم عليها منذ البدء هي
الامتداد بما جاء في الأناجيل المتوفرة في أيامه مكمِّلاً لها جميعاً بما توفَّر
لديه من نصوص ووثائق ومدوَّنات عن الرسل أنفسهم ومَنْ خَدَمَ الكلمة، أي المسيح،
وعاش معه وسمع إليه، مع إضافة كل امتداد للتقليد الكنسي في أيامه. واستخدم ق. لوقا
حاسته التاريخية ليعطي صورة أمينة للغاية لخدمة المسيح وشخصه وحياة الرسل والكنيسة
الأُولى بكل دقة. وهو لم يجنح ناحية التأمل أو الإضافة الشخصية قط كمؤرِّخ منكر
لذاته واسمه بصورة علمية قلَّ مَنْ بلغها أو أدركها.
مؤلَّف واحد من جزئين:
يلزم أن يعرف القارئ أن إنجيل ق. لوقا يمتد بعد نهاية الإنجيل ليستمر في
سفر الأعمال كمكمِّل للإنجيل. فكتاب ق. لوقا يبدو مؤلَّفاً واحداً من جزئين: الأول
الإنجيل والثاني يختص بالكنيسة كيف
بدأت وعملت. وهذا واضح من بداية إنجيله: »
رأيت أنا أيضاً ... أن أكتب على التوالي «(لو 3:1)، وأيضاً من بداية سفر الأعمال: »
الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيلس ... «(أع 1:1). ولكن للأسف فرَّق منظمو أسفار
الكتاب المقدَّس المطبوع بينهما اضطراراً بأن وضعوا الإنجيل الرابع للقديس يوحنا
بينهما، مع أنهما كانا بكل تأكيد كتاباً واحداً في وحدة متكاملة حيث تجمعهما وحدة
اللغة والأسلوب والتنسيق والغاية( ). والكنيسة الأُولى تذكر سفر الأعمال باسم إمَّا
أعمال الرسل Pr£xeij tîn 'ApostÒlwn أو الأعمال فقط aƒ Pr£xeij.
براعة في فن
التأليف والتجميع:
ولكن من معرض ما قدَّمه ق. لوقا يتضح لنا أي أبحاث قام بها
هذا العملاق المؤرِّخ واللاهوتي ليسد ثغرات الإيمان عند إنسان ابتدأ يتعلَّم ما
يلزم أن يُعلَّم عن المسيح والكنيسة. فقدَّم المسيحية كاملة متصلة الحلقات شديدة
الاتصال والوصال، قادرة أن تجذب فكر أي باحث أو عالِم وتقنعه بصدق البحث وأصالة
التجميع والترتيب للتقليد الذي كان ينمو بتؤدة وثبات في الاستعلان اللاهوتي
والتعليمي. لأن ق. لوقا كان أمامه شخصٌ مثقَّفٌ عالي القدر وعلى مستوى من الثقافة
اليونانية العالية السائدة في أيامه، فقدَّم له كل ما يمكن من القواعد والأساسات
الثابتة والأصيلة للإيمان المسيحي كما تعرفها وتؤمن بها الكنيسة الواعية المملوءة
بالنعمة والروح والحكمة، وقد ارتفعت عن مستواها اليهودي الضيق المتعصِّب إلى مستوى
الانفتاح الفكري والثقافي اللاهوتي، ومدَّت يد الصداقة لكل عالِم ومتعلِّم وكل حكيم
ومتحكِّم. فيد ق. لوقا الممدودة بإنجيله الثمين للعزيز ثاوفيلس هي فخر الكنيسة في
زمانها هذا كوثيقة علم ومعرفة وحكمة وثقافة على أعلى درجاتها بين العلماء والحكماء
في تلك الأيام.
وبنظرة علمية واعية مثقَّفة في فن التأليف والتجميع والعرض ينكشف
للباحث المدقِّق كيف استطاع ق. لوقا أن يُخرج من الرقوق والنبذ والمقولات
المتفرِّقة التي سبقت زمانه بحثاً فاخراً كاملاً شاملاً، يقوم على الأصول والقواعد
الثابتة، ويرتفع شامخاً بكماله في أسلوب واحد ونمط جذَّاب هو حاصل صَهْرِ كل ما بلغ
يديه وعينيه.
وكعينة من هذا التجميع والصهر معاً يقدِّم ق. لوقا لثاوفيلس يوحنا
المعمدان لا كما سبق وسمعه من إنجيل ق. مرقس وق. متى كمجرَّد نبي سابق لصاحب الفداء
والخلاص، ولكن يُبرز رسالة
المعمدان وهو ما يزال في البطن، وقبل أن يولد
ينصِّبه نبيًّا جاء ليوقظ القلوب ويفتح الوعي التاريخي الذي يتحتَّم أن يُستقبل به
هذا القادم من وراء الدهور، فيقدِّمه بصورته النسكية ليوقظ الوعي النبوي بإيليا في
ملابسه وأكله وشربه وحياة البراري (80:1). ويؤكِّد دعوته النبوية من البطن كإرميا
(إر 5:1) ويقدِّم بمعجزة ميلاده المعجزة الأضخم بميلاد المسيَّا!
وينتقل بالقارئ
ليعيش الصداقة والقربى العائلية بين المعمدان والمسيح في اتحاد الرجاء الواحد منذ
الطفولة، مصوِّراً كيف حيَّا المعمدان وهو في بطن أمِّه ربَّه القابع في بطن
العذراء، فكان أول سرور مسَّ البشرية بالابتهاج متنبئاً عن مجيء عصور الفرح
والابتهاج بالروح.
وهكذا أدخل ق. لوقا بتخطيطه النادر والعالي المستوى ليس
ثاوفيلس وحده في صميم التاريخ الإلهي؛ بل والبشرية كلها عبر العصور. من هنا تظهر
أصالة التخطيط الذي خطَّط به ق. لوقا إنجيله ليحتضن الفكر البشري كله من داخل فكر
ثاوفيلس العزيز.
كيف طوَّع القديس لوقا أسلوبه ليناسب الهدف الموضوع
أمامه:
واضح أن الهدف كان في أضيق صوره أن يجتذب إنساناً أممياً للمسيحية
والكنيسة، إنما عن يقين وإقناع، وبطرق كثيرة متنوعة. هذا الهدف جعل ق. لوقا كمؤرِّخ
مسيحي يلتزم بتحفظات كثيرة أهمها أنه التزم بالأسلوب والطريقة الموضوعية التي تناسب
علمانياً، وامتنع عن إطلاق الصوت العالي الذي يلزم إيقاظ الكنيسة، ولكنه بهدوء
وحكمة دبَّر الأسلوب الأنسب لأُذن إنسان لا يزال خارج الكنيسة. ولكن لم يمنعه هذا
من أن يعطي المسيح مراراً لقب الرب Ð KÚrioj، الأمر الذي يكاد يكون غائباً في إنجيل
القديس مرقس. وطبعاً هذا هو رد فعل الانطباع الذي دخل به المسيح في إيمان ق. لوقا
نفسه وهو لا يزال يطلب الإيمان، فهو يقدِّم خبرة حية يعيشها ويفتخر بها ويحس بقوتها
وفعلها في حياته. علماً بأن ق. لوقا لم يكن واحداً من الذين ولدوا في الكنيسة
وتعوَّدت عيناه وأُذناه على رؤية المسيح أو اكتساب الإيمان به عن آخرين، بل إن
المسيح اقتحم حياته مرَّة واحدة “كرب”. وكما أخذ المسيح بصورته الزاهية، هكذا
يقدِّمه هنا لثاوفيلس. ولكن هذا أيضاً لم يمنع ق. لوقا من أن يقدِّم المسيح باسمه
“يسوع” لأنه من هذه القاعدة سيتم الفداء على الصليب. كذلك يقدِّم ق. لوقا الذين
يخاطبون المسيح قائلين: “يا معلِّم ™p…stata”( )، المقابل اليوناني لرابّي عند
اليهود ومعها كلمة
did£skale، متحاشياً نهائياً كلمة رابي. وفي نفس الوقت أبرز كلمة
يا رب KÚrie إنما بشيء من الاحتراس.
كذلك نجده يتعرَّض للإفخارستيا بشيء من
الاحتراس والاختصار الشديد وبلغة تكاد تكون عادية على الأسماع: » شهوة اشتهيت أن
آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم، لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد حتى يكمل في
ملكوت الله «(لو 22: 16-20). ويُلاحِظ القارئ أن ق. لوقا في تقديمه الكأس بيد
المسيح لتلاميذه لم يذكر صراحة أن » هذا هو دمي «بل قالها بنوع من التورية » هذا هو
العهد الجديد بدمي « وهنا يختفي جزئياً إبراز “السر”، لأن الوثنيين كانوا يعثرون
بشدة من موضوع العشاء السري معتقدين أنه ذبيحة دموية، مما جعل ق. لوقا يعبر عليه
دون تعمُّق كبداية لانفتاح وعي ثاوفيلس( ).
وهذا يُحسب للقديس لوقا أسلوباً
حكيماً “فسرِّي لأهل بيتي”، لذلك أخفى مضمون هذا السر العميق للغاية لأنه محجوب
أصلاً عن عيني الإنسان الأُممي الذي لم تنفتح بصيرته بعد ولا تقبَّل الإلهام.
فالقديس لوقا بحجبه السر عن ثاوفيلس إنما يصونه من العثرة والسخرية. علماً بأن ق.
لوقا أصلاً أُممي ويعرف متى يعثر الأُممي وكيف يقبل الحقائق.
إذن، ففي إنجيل ق.
لوقا يتسيطر الظرف على الأسلوب والمنطق والعرض بصورة جوهرية. وهنا ينفتح وعينا عن
سر المدخل الذي دخل به ق. لوقا ليقدِّم رسالة الخلاص والإيمان بالمسيح، إذ يدخل على
زمن حكم هيرودس وقيام الولاة وتداخل الملائكة قبل أن يدخل إلى الحقائق الإلهية،
ويستحضر مناسبة الاكتتاب ليمهِّد لتسجيل ميلاد المسيح في عمق التاريخ، ولربما كان
ثاوفيلس هذا أحد الذين خدموا أمر الإمبراطور في الاكتتاب. وهكذا يصيغ من صميم
الواقع الزمني ارتفاعاً سماوياً ملحوظاً يدخل في الوعي من واقع المناسبة. فكان ق.
لوقا حكيماً حقـًّا إذ جعل بداية المسيحية متعانقة مع الدولة وحكامها وأوامرها
ويرفع عنها أي عداوة للسلطة. ولا ننسى لماذا أورد ق. لوقا قصة السؤال المقدَّم
للمسيح عن الجزية المقدَّمة لقيصر فأمر أن تُدفع حسب القانون (لو 20: 20-26) حتى
ينفي عن المسيح التهمة الملفَّقة والكاذبة التي أقامها السنهدرين ضد المسيح أنه
يحرِّض الشعب أن لا يدفع الجزية. فتكاد هذه القصة أن تكون مرسلة هدية لفكر ثاوفيلس
عن مدى خضوع المسيح لنظام الدولة.
وهكذا على هذا المنوال أسَّس ق. لوقا إنجيله
ليكون منسجماً غاية الانسجام مع الفكر العلماني والعقلية الرئاسية عند اليونان.