ملخص الإصحاحات السابقة (14،15،16) مقدمة لإصحاح(17)
تكلم المسيح عن
الإيمان به وبأنه يجب على المؤمن أن يقبل شركة صليبه فيتحمل الآلام والإضطهاد
والرفض. وأن هذا سيعطي للنفس فرح حقيقي كأنها جازت الموت والقيامة وغلبت العالم.
وهذا يحمل معنى إتحاد النفس بالمسيح فتجوز في نفس الطريق لأن المسيح هو الطريق.
فهو يأخذنا فيه. ولذلك بدأ المسيح بغسل الأرجل لينقي تلاميذه إستعداداً لهذا
الإتحاد فلا شركة للنور مع الظلمة. ودعا تلاميذه للمحبة ليتحدوا فبدون محبتهم له
ومحبتهم لبعضهم البعض فلا إتحاد معه. لذلك فالوصية الجديدة للعالم هي المحبة
(34:13) وهي على شكل محبة المسيح الباذلة. والمسيح صوَّر هذه الوحدة بمثل الكرمة
والأغصان وأن على الأغصان (المؤمنين) أن يكون لهم ثمار وبهذه الثمار يتمجد الآب
(8:15). وهنا نرى أن وحدة المسيح مع تلاميذه هي التي أنشأت هذا الثمر. وهذه الوحدة
هي فعل لمحبة الآب التي إستعلنت في المسيح. فأن يكون هناك ثمر فهذا هو الرد
المباشر لمحبة الآب. وحتى الإضطهاد الذي سيجوزه التلاميذ في العالم فهو ثمرة
الوحدة مع المسيح (أع4:9 + يو20:15،21) والمسيح يتألم أيضاً لآلامنا (أش9:63).
وإرسال الروح القدس سيكون لتعميق هذه الوحدة والحفاظ عليها ومن خلال هذه الوحدة
يعلن المسيح أسراره لأحبائه (15:15). وهذا الإتحاد كان من نتائجه أن المسيح بموته
إفتدى البشر وأعطاهم حياته (غل20:2). والمسيح أعطى تلاميذه جسده ودمه لتثبيت هذه
الوحدة. وكأن الحب الذي يربط المسيح بكنيسته وتلاميذه وبالتالي الوحدة بين المسيح
وكنيسته هو من نفس نوع وعلى شكل محبة الآب للإبن والوحدة بينهما (9:15).
صلاة المسيح في
(يو17) طابعها المجد وإستعلان ملء لاهوته، أمّا صلاة بستان جثسيماني حينما عرق
دماً وطلب إعفائه من شرب الكأس (عب7:5 + مر36:14 + لو44:22) فطابعها ملء ناسوته
والذي فيه أخلى المسيح ذاته (في7:2،8) وفي كلا الصلاتين نرى الكلمة صار جسداً
(يو14:1). والله ظهر في الجسد (1تي16:3). أي نرى الإله المتجسد الذي قبل أن يحمل
ضعف الإنسان ليرفعه ليحيا في السماويات.
أين صلى المسيح هذه الصلاة؟
في (يو1:18) قيل
أنه خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون. وهذا قيل بعد أن أنهى المسيح صلاته
الشفاعية في (ص17). ووادي قدرون هذا يفصل بين الهيكل وبين جبل الزيتون حيث بستان
جثسيماني. فيكون غالباً أن المسيح قال هذه الصلاة في الهيكل، في بيت الله يقدم هذه
الصلاة للآب أبيه فبيت أبيه بيت الصلاة يُدعى. وهي صلاة فيها مجد للإبن وللآب،
وللإنسان، فقد كان عمل المسيح الذي تممه هو أن يعطي للإنسان مجداً.
صلاة المسيح الشفاعية الأخيرة للآب
وهي موضوع الإصحاح
(17). وهي طلبات مباركة رفعها الرب يسوع من أجل التلاميذ ومن أجل المؤمنين أعضاء
كنيسته. وفيها نرى علاقة إبن الله بأبيه. وكيف أنهما واحد، جوهر واحد متحد في كيان
واحد يتسامى على فهم البشر، إلاّ للذين يُعطِى لهم الله أن يدركوا وأن يفهموا،
وهؤلاء هم من الأنقياء القديسين المؤمنين الذين يفتح الله بصيرتهم ليروا بعين
الروح لا الجسد.
هي صلاة تكريس
فالمسيح أنهى
تعاليمه للتلاميذ بقوله "ثقوا أنا قد غلبت العالم" (33:16). وهذه كانت
المدخل لصلاة التكريس التي كرَّس فيها نفسه للموت كآخر مرحلة من مراحل خطة الخلاص
التي جاء بها من عند الآب. وقوله أنا قد غلبت العالم تعني أنه بلا خطية، وأنه قدوس
لا تمنعه خطية واحدة من أن يقدم ذاته ذبيحة لأجل الآخرين. وبقداسته الكاملة تأهل
أن تكون ذبيحته شاملة لكل العالم، فهو غلب في معركة العالم وبناء عليه إستحق أن
تقبل ذبيحته ويُعْلَنْ مجده فَتُفْهَمْ ذبيحته أنها ذبيحة إلهية. وكل من يشترك في
هذه الذبيحة يشترك في إنتصارها فهي ذبيحة إنتصار لحسابنا (1يو4:5،5) ونحن نشترك في
الذبيحة بالإيمان والتناول من الذبيحة وعدم التعلق بالخطية والعالم ومن يغلب سيجلس
مع المسيح في عرشه (رؤ1:3). ولأن المسيح غلب العالم فهو إستطاع أن يغلب الموت (يو30:14
+ رؤ2:6)
هي صلاة شفاعية
فيها يطلب المسيح
من أجل خاصته وأحباءه والمؤمنين به. نرى فيها محبة فياضة يفيض بها قلبه نحوهم. في
هذه الصلاة نرى صورة لشفاعته عنا في السماء. ونلاحظ أن شفاعة المسيح هذه ليست لكل
العالم بل لمن قال عنهم "الذين أعطيتني" وهذه العبارة تكررت في هذا
الإصحاح (7مرات) ويعني بها المؤمنين الذين آمنوا به وإتحدوا به في المعمودية وظلوا
حياتهم في حياة توبة. أي صاروا جسده من لحمه ومن عظامه (أف30:5).
في (يو31:13) حينما
خرج يهوذا لتدبير مؤامرته قال المسيح الآن تمجد إبن الإنسان وفي (يو1:17) يبدأ
صلاته بقوله أيها الآب قد أتت الساعة مجد إبنك. ففي بداية حديثه مع تلاميذه والذي
بدأ بالآية (يو31:13) وإنتهى بنهاية (ص16) وفي بداية حديثه مع الآب يشير لمجده
الذي سيظهر في الصليب، يشير للصليب الذي يكلله المجد. المجد الذي كان بطاعته
الكاملة للآب، طاعة حتى الصليب. ومحبة كاملة للآب وللبشر الذين سيصلب من أجلهم.
الصليب بداية لأن يجلس بجسده عن يمين الآب في مجد، هو أراد أن يعطيه للإنسان
فبالصليب كانت النصرة على قوات الظلمة والجحيم. وبه تم تقييد إبليس. وهو العلامة
المرعبة لإبليس دائماً.
أقسام الصلاة الشفاعية
(الآيات 1-5):
تدور حول مجد الإبن الذي هو مشترك مع مجد الآب. والإبن يطلبه لحساب الإنسان عموماً.
(الآيات6-19):
تدور حول حفظ وتقديس تلاميذه.
(الآيات20-26):
تختص بوحدة الكنيسة على طول المدى.
الإصحاح السابع عشر:
آية (1):
"تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال أيها الآب قد أتت الساعة مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً."
رفع عينيه نحو
السماء وقال= نحو السماء= إشارة لأنه بدأ يتحدث مع الآب، بدلاً من كلامه مع
التلاميذ. المسيح هنا يدخل في حديث إلهي. فالسماء رمز الحضرة الإلهية. هو حديث
إلهي بين الآب والإبن. ولكنه على مستوى الإنسان لنسمع ونفهم ونرتقي للمستوى الروحي
فالإنسان مدعو للدخول في شركة الآب والإبن (1يو3:1). لذلك قصد السيد المسيح أن
تكون هذه الصلاة مسموعة لنسمعها ونفهمها لندخل في هذه الشركة مع الله. أيها الآب=
لم يقل يا أبانا كأننا صرنا مثله وصار هو إنساناً واحداً من البشر لا يفترق عنهم،
بل هو الإبن الوحيد الجنس للآب، إبن الآب بالطبيعة. ولكن المؤمنين هم أبناء
بالتبني (يو17:20). ولم يقل يا أبي فهو بفدائه الذي سيتم بعد قليل سيعطي للإنسان
البنوة فيه. فهو هنا يتكلم لا كواحد من البشر بل كرأس للخليقة الجديدة المدعوة
للتبني، هو هنا يمثل هذه الخليقة (رو15:8 + غل6:4). قد أتت الساعة= هي ساعة متفق
عليها بين الآب والإبن. إذاً المسيح يعرف تماماً هذه الساعة التي ستبدأ بالصلب
والمهانة ثم المجد. مجد إبنك ليمجدك إبنك أيضاً= بداية مجد الإبن كانت بطاعته للآب
وقبوله للصليب فبالصليب النصرة (في6:2-11 + يو13:12-16 + 19:21 + 23:12). والمسيح
يتمجد أيضاً بإستعلان طبيعته الإلهية أمام العالم بقيامته وإنتصاره على الموت
(وهذا يعني قبول الآب لذبيحة إبنه وعمله) وإنتصاره بالموت على الموت وكسره لشوكة
الموت وفتح بفدائه باب السماء للناس ليعطيهم حياة أبدية. والآب يمجد الإبن بتعضيده
وتأييده ليكسر شوكة الموت ثم برفعه وأن يعطيه إسماً فوق كل إسم. وحينما يتمجد
الإبن يتمجد الآب أيضاً حينما يعلم البشر أن خطة الخلاص بدأت بإرسال الآب لإبنه
(في9:2-11). وسيتمجد الآب حين يستعلن الإبن الآب ومحبته للبشر. ونرى هنا العلاقة
الواضحة بين مجد الإبن ومجد الآب فهي علاقة متبادلة على المستوى الواحد
(يو27:12-30). فالآب يتمجد بالإبن كما تمجد الإبن بالآب (يو31:13). وقول المسيح
"إبنك" ولم يقول الإبن فيه إشارة أن تمجيد الإبن شرط ليتمجد الآب فالإبن
هنا منسوب للآب. مجد الإبن ظهر أولاً في أنه فعل ما فشل البشر أن يقوموا به. وما
فشل فيه الإنسان هو طاعة الله وهذا ما قام به المسيح. وقمة طاعة الإبن كانت في
الصليب، قمة الطاعة. والمؤمنين سيكون لهم هم أيضاً مجد ولكنه إنعكاس لمجد الله
عليهم "لأننا سنراه كما هو" (1يو2:3) ولكن نجماً يمتاز عن نجم في المجد
بحسب القرب أو البعد من الله يصدر كل مجد (رو30:8 + 1كو41:15).
مجد إبنك ليمجدك
إبنك= هل الآب محتاج لأن يتمجد أو هل الإبن محتاج لأن يتمجد؟ الآب في الإبن والإبن
في الآب منذ الأزل في مجد. ولكن الإبن أخلى ذاته وأخذ صورة عبد وأتى للصليب لكي
يمجد الإنسان، ليعطي مجداً للإنسان (22:17). فالمجد الذي يطلبه المسيح هو للإنسان،
يتمجد ليعطينا هذا المجد (رو17:8).
مجد إبنك= أنا ذاهب
للصليب وأطلب القيامة والصعود وإظهار المجد الخاص بي كإبن فكل هذا سيكون للإنسان.
فالآب مجد إبنه المسيح في قبول عمله ونصرته على قوات الجحيم والموت.
ليمجدك إبنك= لكي أظهر محبتك للبشر فيحبوك ولكي أعلن لهم أبوتك.
فالمسيح أتى ليستعلن محبة الآب والمجد الذي يريد الآب أن يعطيه للبشر.
وفي (ص12) حين طلب
اليونانيون أن يروا يسوع. قال المسيح "مجد إبنك" فجاء صوت من السماء
"مجدت وأمجد أيضاً" فقال المسيح "هذا الصوت كان لأجلكم" أي
لتعرفوا أن المجد الذي أطلبه هو لكم.
هل لو فهم كل إنسان
أن هذا المجد السماوي معد له يرجع إلى خطيته أو إهتمامه بشهوات العالم الباطلة.
إن هدف المسيح من
تجسده ليس فقط غفران الخطية. بل بعد غفران الخطية نصير طاهرين فنثبت في المسيح
فيأخذنا للحياة الأبدية في مجد. والمسيح صلي هذه الصلاة بصوت مسموع لنعرف إرادة
الله من نحونا فتتغير شكل عبادتنا:-
1. لا نعود نعبد إله مرعب مخيف منتقم، بل إله، أب، محب نقول له "أبانا الذي.."
2. نحتقر شهوات هذا العالم في مقابل هذا المجد.
3. أمام هذا الحب الإلهي نقدم كل شئ حتى حياتنا لمن أحبنا كل هذا الحب.
4. لا تعود عبادتنا عبادة نفعية، كل ما نريده منها الماديات، بل تكون أعيننا نحو هذا المجد.
والمجد الذي كان
للمسيح ويطلبه هنا هو مستحق لأنه غلب كإنسان فكان بلا خطية على الأرض ثم غلب الموت
بصليبه (يو33:16). وبهذه الغلبة دخل لقدس الأقداس عند الآب ليحملنا فيه. هو رئيس
كهنتنا الذي يدخل لقدس الأقداس وحده، لكن رئيس الكهنة اليهودي كان يدخل وحده،
ومسيحنا دخل وحده ليتمجد الآن. ولكن ذلك لحساب الكنيسة التي يطلب المسيح لها المجد
(22:17). وهذا العمل الذي عمله المسيح كان ليستعلن لنا الله، فنعرفه فتكون لنا
حياة (آية3) ولذلك يقول يوحنا "والحياة أظهرت" (1يو2:1)
آية (2):
"إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته."
المسيح سبق وطلب أن
يتمجد في الآية السابقة. وهنا نرى لماذا طلب المسيح أن يتمجد بل وأن يتجسد ويصلب
ويقوم ويصعد فيتمجد؟ فهو فعل كل هذا ليعطي حياة أبدية للبشر، جلس عن يمين الآب
ليرسل الروح القدس المحيي ليقدس ويعطي حياة أبدية. وكل من له حياة أبدية يظل يمجد
الآب والإبن هنا على الأرض وفي السماء وإلى الأبد فما يطلبه المسيح كغالب للموت
وجالس عن يمين الآب هو لصالح البشر ليكون لهم حياة أبدية. إذ= تأتي بمعنى كما (كما
جاء في يو21:17،22). والمعنى أن الآب كما أعطى للإبن أن يتمجد بفدائه للبشر أعطاه
أيضاً سلطاناً أن يهب كل جسد الحياة الأبدية.
سلطاناً على كل
جسد= هذا القول يفيد ألوهية المسيح. فمن هو الذي له سلطان على كل البشر سوى الله
(قارن مز2:65 مع يو35:3 + 22:5 + 3:13) كل بشر في (مزمور 2:65) أي كل جسد، فالله
وحده له السلطان على كل جسد وهذا السلطان هو للمسيح. ولكن ما معنى أن الآب يعطي
سلطاناً للإبن؟ أليس الآب والإبن واحداً؟ هذه الآية وردت بنفس المفهوم في (يو26:5)
"لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الإبن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته"
والمعنى أنه طالما أن للإبن له حياة في ذاته فهو له السلطان أن يعطي هذه الحياة لمن يريد.
ومن له سلطان أن يعطي حياة فهو الله.
ولكن لنفهم معنى
الآية. فالآب يريد والإبن والروح القدس ينفذان إرادة الآب، يترجمان إرادة الآب إلى
فعل. هنا نعود للآية الأولى في الإنجيل (يو1:1) فنجد الإنجيل الفرنسي يترجم
"الكلمة" (VERBE) أي فعل. فالإبن يترجم إرادة الآب إلى فعل. ويكون المعنى أنه في
توزيع الأدوار أو توزيع العمل داخل الثالوث، صار للإبن حياة في ذاته ويعطيها لمن
يشاء وبهذا يترجم إرادة الآب في أن يحيا الإنسان. الآب هو طاقة الحياة والإبن ينفذ
ويفعل ويترجم إرادة الآب في أنه يعطي حياة لمن يريد، فهذا في سلطانه.
ولكن الإبن لأنه
مولود من الآب فهو ينسب السلطان للآب المولود منه. ولكن إذا وضعنا أمامنا الآيات
الأخرى "أنا في الآب والآب فيّ" (يو38:10). "أنا والآب واحد"
(يو30:10) "كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" (يو10:17). نفهم أن
الإبن له نفس السلطان. فالسلطان ليس من مصدر خارجي لأن الإبن واحد مع الآب في
الطبيعة الإلهية. ولكنه يقول هذا لأنه قبل في طاعة أن ينفذ إرادة الآب ليتمم
خلاصنا ومصالحتنا معه. فهو هنا يتكلم كمنفذ لإرادة الآب. هذه العبارة تماثل
"كل ما أراني الآب أفعله" (يو19:5-21). وتماثل أيضاً "وأعطاه
سلطاناً أن يدين" (يو27:5). هذه عن الأفعال. وأما عن الأقوال فيقول "كما
أسمع أدين. أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً (يو30:5). فهنا تعني تطابق الإرادة،
فهو لا يقدر أن يفعل إلاّ ما يريده الآب فإرادتهما واحدة متطابقة لكن الآب يريد
والإبن يفعل. وأيضاً "وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم" (يو26:8).
وقيل هذا عن الروح القدس "لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به
ويخبركم بأمور آتية" (يو13:16). وحين لا يريد الآب إعلان الساعة فالإبن لا
يعلنها ويقول وحتى الإبن لا يعرف. ويكون المقصود أنه لن يفعل فهو لا يفعل (أي لن
يعلن) إلاّ ما يريده الآب. فالآب له الإرادة والإبن له الفعل.
لكل من أعطيته= سبق
ورأينا أن المسيح له سلطان أن يعطي حياة أبدية ولكننا هنا نراها مقصورة على من
أعطاهم الآب للإبن فقط.. فهل هناك تضاد في المعنى؟ أو هل الآب قَيَّدَ حرية المسيح
مرة أخرى في سلطانه المطلق على البشر في أن يعطيهم حياة أبدية؟ العالم كله للآب.
ومن أعطاهم الآب للإبن هم من آمنوا وإعتمدوا فصاروا جزءاً من جسده.
لنفهم الإجابة عن
هذه التساؤلات نراجع الآيات (يو21:5-30). وفيها نرى أن المسيح إمّا يهب حياة أبدية
لمن يؤمن أو يُدين من لم يؤمنوا. فمن الذي سيعطي له الآب حياة أبدية؟ .. هو من
يقبل المسيح ويؤمن به. وأمّا من يرفض الحياة الأبدية التي يقدمها الآب برفضه
للمسيح يكون سلطان المسيح عليه هنا للدينونة. فالمسيح له سلطان على كل جسد إمّا
بإعطائه حياة أبدية أو بدينونته. المسيح يعطي بالفعل والآب يعطي بالمشيئة
والإختيار ويستحيل فصل الفعل عن المشيئة المتممة له ولا المشيئة عن الفعل. ونرى
هنا أن كلمة كل ترددت مرتين الأولى تشير لسلطان المسيح على كل البشر والثانية تشير
للمؤمنين الذين هم خاصة المسيح (14:10).
آية (3):
"وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته."
هنا يُعرِّف المسيح
الحياة الأبدية.. وهي أن نعرف الله الآب والمسيح يسوع. والمسيح هو القيامة والحياة
(يو25:11). والمسيح له الحياة في ذاته مثل الآب وهو يحيي من يشاء (21:5،26) ولأنه
تجسد فهو أعطى العالم هذه الحياة بتجسده (37:6) وبالذات لأخصائه (28:10) وللذين
يسمعونه ويدخل صوته إلى أعماق قلوبهم (24:5). فالمسيح هو الحياة أي قوة فعّالة
محيية. وهو يعطينا هذا ليقدمنا لله أبيه (6:14) والوسائل التي إستودعها سر الحياة
هي في المعمودية (5:3) وفيها نموت ونقوم لنحيا معه إذ نتحد به (رو3:6-5)
والإفخارستيا (35:6،48) وفي كلامه المحيي (63:6،68). وفي الإيمان (37:7) وفي
(63:6،68). نرى أن كلام الله محيي (قارن مع مت 4:4). وهنا نرى الرابطة بين الحياة
والمعرفة. فكلام الله الذي أوحى به الروح القدس (لكل من كتب الكتاب المقدس) له
القدرة أن يحيي ويلدنا من جديد (1بط23:1). وهذه أهمية دراسة الكتاب المقدس لذلك
يقول أحد الآباء أن الكتاب المقدس هو كلمة الله والمسيح هو كلمة الله.. لذلك
فحينما نتأمل في الكتاب المقدس نرى صورة المسيح فنعرفه ونحبه ويتحول الحب إلى فرح.
الحياة والنور
المسيح هو الحياة.
وهو قال "أنا هو النور" (12:8). وفي (4:1) نسمع أن الحياة كانت نور
الناس. فمن يعطيه المسيح حياته يدخل نوره إلى قلبه فيفتح وعيه فيدرك الله ويعرفه
ويعيش في حضرته (1يو1:1-5). والعقل لا يمكنه إدراك هذه الحياة الأبدية، فالعقل لا
يُدْرِكْ سوى الملموسات بالحواس الخارجية. ولكن الروح القدس المعطي لنا يعيننا على
أن ندركها هنا إدراكاً جزئياً بإستعلان يأتي من فوق، من خارج الكيان الإنساني
(1كو9:2-12). هنا نرى أن الروح القدس يقود عقل الإنسان فيدرك ما لا يمكنه إدراكه
وحدهُ. بل الروح القدس يقود الحياة كلها، فكر الإنسان وعمله ليكون بحسب مشيئة الله
سواء بالفكر أو بالعمل ليكون الله غاية كل شئ. ولأن الحياة هي حياة المسيح والمسيح
لن يموت ثانية فنحن صارت لنا حياة أبدية (رو9:6). وسمات هذه الحياة الأبدية أن
يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح الذي يفوق كل عقل
(لذلك أطلق أباء اليهود على مجد الله الذي يظهر من بين كاروبي تابوت العهد لفظ
شكينة وهي من السكينة والسلام الذي يملأ القلب حين يرى مجد الله) ولكن مهما كان
السلام والفرح الذي نتذوقه هنا فهو كسبق مذاق، كعربون مما سنحصل عليه من فرح أبدي،
هو عربون الملء الذي سنحصل عليه. ونلاحظ أنه كلما عرفنا شيئاً عن الله نفرح. فهل
يمكن للإنسان أن يعرف الله بالكمال والتمام حتى في الأبدية؟ الله غير متناهي
والإنسان حتى في الأبدية سيظل محدوداً غير قادر أن يدرك الله ويعرفه تماماً. لكن
الله سيكشف له كل يوم جديداً فيفرح إلى درجة أنه لا يستطيع أن يفرح أكثر
لمحدوديته، فيعطيه الله إتساعاً أكثر.. فيدرك ويعرف أكثر.. وهكذا. وهذا لن ينتهي
فالله غير متناهي وهكذا نستمر للأبد نعرف شيئاً جديداً عن الله فنفرح ويزداد فرحنا للأبد.
والمؤمن يبدأ طريق
الحياة الأبدية أي معرفة الله التي تعطي هذا الفرح هنا على الأرض حينما يقدم توبة
حقيقية ويعطي للروح القدس أن يقود حياته ولا يقاومه أو يحزنه. ويكون هذا بالنسبة
للمؤمن كأنه يولد من جديد فالتوبة يسميها الآباء معمودية ثانية. والروح يقود
المؤمن التائب ويرتقي بأفكاره وأعماله كأنه وُلِدَ من جديد.
وفي مقابل الحياة
الأبدية التي يحياها المؤمن التائب يحيا الآخرين في حياة وهمية في لذات مؤقتة
مخادعة للحظات تنتهي ويعودوا لكآبتهم وأحزانهم. أمّا حياة المؤمن الأبدية التي
يبدأها من هنا في عشرة المسيح فهي حياة الفرح الحقيقي والسلام الحقيقي. بل أن كل
من تذوق لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح عاش هذه الأبدية. هو ربما
يتذوقها في دراسته للكتاب المقدس أو في قداس أو في الصلاة. وهذه اللحظات التي
يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي تعطيه قوة للصمود في وجه الضيقات وآلام هذا
العالم. بل يحيا مشتاقاً لحياة ملء الفرح في الأبدية (في23:1).
أنت الإله الحقيقي
وحدك ويسوع المسيح= المسيح يعطي الحياة بالفعل والآب يعطي الحياة بالمشيئة. فالآب
والإبن يشتركان في إعطاء الحياة الأبدية. وعلى ذلك يتحتم أن تكون الحياة الأبدية
هي معرفة الآب والإبن معاً. وإدراك سر الله والخلاص وإدراك محبة الله الآب الذي
بذل إبنه وإدراك محبة الإبن الذي قدَّم ذاته في حب يسمو عن التعبير. وهذه العبارة
تشير للمساواة بين الآب والإبن. فهي إذاً برهان على لاهوت المسيح فمعرفة الآب
موازية لمعرفة يسوع المسيح. ونلاحظ قوله يسوع (أي المخلص) المسيح وهذه وظيفته
بإعتباره الممسوح من الله بالروح القدس ليكون رئيساً وملكاً على كنيسته ورئيس كهنة
يقدم ذبيحة نفسه ليقربنا لله أبيه. وحدك= أي دون الآلهة الوثنية وإبليس أو كل ما
يؤلهه الإنسان في حياته كالذات والشهوات. ومعلمنا يوحنا يصف هذه الحياة الأبدية
بأنها عشرة مع الآب والإبن (1يو1:1-4) وفي هذه الآيات نرى معلمنا يوحنا يكلمنا عن
المسيح الذي رآه وعرفه ولمسه. فيكف نرى المسيح ونلمسه ونعرفه؟ هذا يناله من يحبه
ويؤمن به.. وكيف نصل لدرجة الحب؟ .. هذا يأتي من العشرة مع المسيح في صلواتنا
ودراستنا للكتاب المقدس وحضور القداسات والتناول. ومن أحب المسيح وقال مع عروس
النشيد "أنا لحبيبي وحبيبي لي" يُعلِنْ له المسيح ذاته. والتعرف على
المسيح هو هو التعرف على الآب لأن رسالة المسيح هي إستعلان الآب الذي فيه
(يو9:14). ومعرفة الآب والإبن هي بعينها شركة مع الآب والإبن. وقول يوحنا
"فإن الحياة أظهرت" فهذا إشارة للتجسد الذي به عرفنا الآب والإبن.
هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك
كلمة يعرف في الكتاب المقدس تشير للإتحاد
"وعرف آدم
حواء امرأته فحبلت وولدت قايين" (تك1:4) وهذا لأنهما صارا جسداً واحداً
"يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكونان جسداً واحداً" (تك24:2)
وأيضاً يقال "ليس أحد يعرف من هو الإبن إلاّ الآب ولا من هو الآب إلاّ الإبن
ومن أراد الإبن أن يعلن له" (لو22:10). ففي هذه نرى الآب يعرف الإبن والإبن
يعرف الآب. لأن الآب والإبن واحد (يو30:10) والآب في الإبن والإبن في الآب
(يو38:10). وبهذا نفهم أن المعرفة إتحاد. ولأن المسيح يقول "ومن أراد الإبن
أن يعلن له" أي من أراد الإبن أن يعلن له الآب ويعلن له الإبن، أي يعطيه أن
يعرف الآب والإبن، وفي هذه المعرفة إتحاد والإتحاد يعني حياة. فالإتحاد مع المسيح
يعني أن المسيح يعطيني حياته (في21:1 + غل20:2) وهذه الحياة حياة أبدية، فالمسيح
إذ قام "لا يسود عليه الموت بعد" (رو9:6).
وهذا الثبات في
المسيح أو الإتحاد ينمو وكلما حدث النمو تحدث معرفة المسيح، ولكنها ليست معرفة من
خارج، كما يعرف إنساناً إنسان آخر، بل معرفة من خلال الإتحاد "وأوجد فيه..
لأعرفه" (في9:3،10). فكلما زاد الإتحاد تنمو المعرفة ويزداد الوضوح، وضوح
الرؤية والإستعلان. فالمعرفة هي معرفة إتحاد وحب، وإدراك لمحبة الله العجيبة لنا،
وبالتالي مبادلته حباً بحب. فالمعرفة هي حالة حب حقيقي مع الله، وتذوق وإختبار
لمحبة الله. فالله محبة والله حياة فمن أدرك وتذوق المحبة صارت له حياة.
والرؤية هنا على
الأرض محدودة. فالقداس الغريغوري وصف الله هكذا "غير الزمني، غير
المحدود.." لكن ما هو الله بالضبط فهذا لا يعبر عنه بالضبط على الأرض.
والسماء فيها إتحاد
على مستوى أكبر بكثير من الأرض تم التعبير عنه بالعرس (رؤ7:19) وهناك على هذا
المستوى نعرف الله (2كو18:3 + 1كو12:13) هذا الإتحاد هو ما عبر عنه المسيح بقوله
"أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (مت29:26) فهو إتحاد على مستوى جديد،
ومعرفة على مستوى "وجهاً لوجه" على مستوى زيجي والمعرفة إتحاد، والإتحاد
حياة أبدية. والحياة الأبدية مجد وفرح أبدي بمعرفة هذا الذي أحبنا كل هذا الحب
وأعد لنا كل هذا المجد، ويحملنا فيه إليه.
أنت الإله الحقيقي
وحدك= هنا المسيح يوجه كلامه للآب. وكلمة وحدك عائدة على الله مثلث الأقانيم. ونحن
حين نوجه كلامنا للمسيح نقول له أيضاً أنت الإله الحقيقي، لأن صفة الألوهة هي للآب
كما للإبن. والله واحد غير منقسم ولا منفصل. الله هو الحق والعالم وما فيه باطل
ومن يعرف الحق يختاره فيحيا ومن يختار الباطل يموت ويستعبد فكلمة حقيقي تعني
الثابت غير المتغير، أما العالم فسيفنى وهو متغير ومخادع. وقوله وحدك= فالوثنيين
يعبدون آلهة أخرى. وهناك من يعبد المال مثلاً أو الشهوات أو ذاته .. الخ.
ويسوع المسيح الذي
أرسلته= هذه إشارة لأن الآب لم يُعْرَفْ إلاّ بتجسد المسيح الذي أعلن الآب. وكما
أن الآب يمجد الإبن والإبن يمجد الآب كذلك الإبن يستعلن الآب والآب يستعلن الإبن
بالروح القدس الذي أرسله. لذلك يستحيل معرفة أحدهما بدون الآخر. ولا يمكن فصل
الإرادة (الآب) عن الفعل (الإبن). محبة الآب لا يمكن أن تصل إلينا إلاّ بيسوع المسيح.
الآيات (4،5):
"أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أنت
أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي
عندك قبل كون العالم."
هنا نرى معنى أن
يعرفوك (آية3). فحينما أكمل المسيح عمله الذي أعطاه له الآب، إستعلنت حقيقة المسيح
الإلهية وكونه واحد مع الآب. وأن عمله أتمه بالفداء والقيامة ومازال يكمله بشفاعته
الكفارية عنا في السماء. والآن= بعد أن أكملت العمل. والمسيح في آية (1) يقول
"مجد إبنك" وهنا يقول مجدني أنت. فما الفرق بينهما؟ في آية (1) كان
المسيح يطلب تدخل الآب لتكميل باقي المهمة العظمى بكل ما تشمله من صلب وإهانة ثم
بقيامة ومجد. يطلب المسيح أن يسانده الآب، يساند ناسوته ليكمل عمل الصليب الذي به
يتمجد الإبن إذ يكمل إنتصاره على قوات الظلمة والموت. أمّا هنا فهو يطلب المجد
المستحق عن العمل الذي سيكمله. والآب سيمجده بإعلان بنوته له وإستعلان لاهوته
وأنهما واحد. ونلاحظ أن المسيح لا يطلب المجد للاهوته بل لناسوته أي الجسد الذي
أخذه من الإنسان. فلاهوته لم يفارقه مجده أبداً، لكنه يطلب المجد للطبيعة البشرية.
وهذا الطلب هو عمل عظيم من المسيح لحساب البشر. هذه هي شفاعته وإستحقاق ذبيحة
طاعته. هذا هو جوهر الفداء والخلاص للإنسان الذي ينتهي بالمجد (راجع أف5:2،6 +
19:3 + في21:3 + كو12:1،13 + كو4:3 + 2تس14:2 + 1بط10:5 + عب10:2 + رو17:8 +
يو24:17) هذه شركة في المجد البنوي لله. وقوله الذي أعطيتني يشير للمجد الذي جازه
المسيح كإبن الإنسان لحساب الإنسان (يو36:13) ففدائه أعطى للإنسان مجداً وحياة
أبدية وهذه إرادة الآب "الذي يريد أن الجميع يخلصون" (1تي4:2). فالإبن
هو الفعل، يفعل ما يريده الآب.
أنا مجدتك على
الأرض= باستعلانه للآب ومحبته للبشر وأبوته لهم (يو18:1) وكان ذلك بأن تمم وأكمل
عمل الفداء. قد أكملته= تفيد الكمال فهو تمم العمل بكمال في طاعته للآب. وكان طعام
المسيح أن يتمم ويصنع مشيئة الآب (يو34:4). عند ذاتك= "عند" يمكن
ترجمتها أيضاً "مع" وتفيد معنى المجد الواحد للذات الإلهية، مجد الآب
ومجد الإبن فالإبن كائن مع الآب، وتفيد معنى الوحدة القائمة بالمجد في الله بين
الآب والإبن. وتفسير هذه العبارة نجده في (يو1:1،18) فالكلمة كان عند الله وهو
الإبن الوحيد الذي في حضن الآب. وبعد أن أخلى الإبن ذاته من مجده آن الآوان أن
يعود الإبن بالجسد إلى أحضان الآب كعودة الذات لذاتها بكل المجد الذي كان له وعنده
ومعه قبل كون العالم. وعند ذاتك تفهم أيضاً "في ذاتك" فالمسيح له نفس
المجد الذي للآب باللاهوت. وقد صار نفس المجد للناسوت عندما "جلس عن يمين
أبيه" الإبن هنا يرى ما بعد الصليب، هو يرى الصليب كأنه حدث ويرى ما سيحدث
بعده من قيامة وجلوس في العرش.
بالمجد الذي كان
لي= المسيح كان له المجد دائماً منذ الأزل أي أن مجد الآب هو نفس مجد الإبن ولو
أنه أخلى ذاته منه في أيام تجسده. وكان إخلاء المسيح لذاته يعني أنه ظهر في صورة
لا تُقْبَلْ (أش2:53) ولا يمكن أن يظهر في مجد، فهي ستكون مهمة عار وذل ومهانة
وقبول للموت. والمسيح الآن يطلب ما بعد ذلك من إستعلان لاهوته ووحدته مع الآب. وهذا
المجد الذي يطلبه هو ليس في إحتياج إليه بل هو مجده. لكنه يطلبه لجسده أي الكنيسة.
فالإخلاء يعني الإخفاء عن أعين الناس ومدارك الشيطان والآن المسيح يطلب إستعلان ما
هو له عند ذات الآب. قبل كون العالم= قبل كون العالم والخليقة لم يكن هناك سوى
الله. وهذه العبارة تصريح واضح بلاهوته.
آية (6):
"أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم كانوا لك وأعطيتهم لي وقد حفظوا كلامك."
أنا أظهرت إسمك=
توازي أنا مجدتك (آية4). وهي تعني أظهرت كل صفاتك ومحبتك الأبوية للمؤمنين وكل
إمكانياتك وقدرتك. وهذه المعرفة حياة آية (3). وهذا هو العمل الذي أكمله المسيح
بطاعته للآب حتى الصليب وبأعماله العجيبة وتعاليمه التي أظهرت أن الآب يعمل فيه.
فإسم الله يشير للحضور الإلهي ذاته. وهذا معنى ترديد صلاة يسوع للشعور بحضرته.
فالإسم هو إشارة للكيان كله. وهذا ما تعنيه الكنيسة إذ تبدأ كل صلاة أو اجتماع
"بإسم الآب والإبن.." ليحل الله وسطنا ونسمع صوته.
الذين أعطيتني= ليس
كل الناس قد قبلوا هذا الإستعلان. والذين أعطيتني تشير لمن إنفتحت أعينهم وقبلوا
رسالة المسيح، هؤلاء الذين إجتذبهم الآب (يو44:6،65) وهذا الإختيار يُنسب أيضاً
للمسيح (يو32:12 + 16:15). وواضح أن هناك من يرفض هذا الإختيار كيهوذا. فحرية
القبول مكفولة للجميع. الذين أعطيتني= التلاميذ وكل المؤمنين عبر العصور. كانوا
لك= [1] هؤلاء التلاميذ كانوا يعرفونك ويؤمنون بك مثل كل اليهود ومثل شاول
الطرسوسي وكان لهم علاقة معك لا يعرفها سواك. [2] وقد تفهم أن الله خلق العالم
كله، وأن العالم كله كان لله بحسب الخلق الأول، والله له سلطان على العالم كله وهو
الذي يعتني بكل خليقته. الكل خاصة الآب. وأعطيتهم لي= الله حينما رأى إستقامة قلب
التلاميذ وأنهم أرضاً خصبة وأنهم سرعان ما آمنوا به سلمهم للمسيح ليكمل خلاصهم
وفداءهم. وتفهم عن الخلق الثاني الذي فيه تجددت بنويتنا "إذ ليس بغيره
الخلاص". كانوا تحت سلطان عدل الله فصاروا تحت رحمته فإنتقلوا بذلك من الموت
إلى الحياة. فالخليقة كانت كلها لله ولكنها ضلت وأتى الإبن ليعيد الخليقة لله.
وذلك بأن وحدنا فيه فصرنا "أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أف30:5).
حفظوا كلامك= كلمة
حفظ هنا تعني العناية مع السهر والواسطة الوحيدة لحفظ كلمة الله هي في إطاعتها
والعمل بها. وعلينا أن نحفظ كلمة الله ككنز في قلوبنا ونسهر عليها ونقبلها ونهتم
بتنفيذها. وحفظ كلمة الله هو التلمذة الحقيقية لله، ومن يتأمل فيها يكتشف المسيح
كلمة الله. ولكن قول السيد المسيح هنا حفظوا كلامك تعنى حفظوا كلامك بأن آمنوا بي
وصدقوني. وهذا يفهم من الآيات (7،8). وبهذا نفهم أن المسيح أظهر الآب (إسم الآب):-
1. للذين يحفظون الوصايا.
2. آمنوا بالمسيح "علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك"
3. علموا "أني خرجت من عندك" (فهموا سر التجسد)= المسيح هو الله المتجسد.
آية (7):
"والآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك."
المسيح هنا يشرح
ثمرة حفظهم لأقوال الله، كلمة الآب. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع
الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). فهم أدركوا أن المسيح جاء
ليستعلن الآب قولاً وفعلاً، وصدقوا أن المسيح جاء من عند الآب. وأن كل أقواله
وأعماله هي من عند الآب، بل أن كل أعمال التلاميذ هي هبات من عند الآب. وأن كل ما
للمسيح هو من الآب. إذاً من يحفظ كلام الله، يدرك من هو المسيح ويقبله ويؤمن إذ
يعرفه فتكون له حياة.
الآن= وهو مقبل إلى الموت. فبينما يفصل الموت بين إنسان وإنسان
إلاّ أنه بموت المسيح ستزداد الرابطة بينه وبين تلاميذه وسيعرفونه تماماً كمخلص وإله فادي.
آية (8):
"لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقينا أني خرجت من عندك وآمنوا انك أنت أرسلتني."
نلاحظ هنا درجات الإيمان:
1- قبلوا= رحبوا بالمسيح قلبياً، تشير لفرحهم
ومشاعرهم تجاهه، مثل هذا يطيع بدون معرفة كثيرة ثم تبدأ المعرفة.
2- علموا= هنا بدأوا التمييز والحكم بالعقل فحكموا على كلام
المسيح أنه سماوي. هنا بدأت المعرفة. قبول المسيح أعطاهم إستنارة بها عرفوا المسيح
وأنه من عند الله. كما قال المسيح لبطرس "أبي أعلن لك"
3- آمنوا= هنا كان القرار والإرادة بعزيمة ثابتة ملتهبة بنار القلب
وملهمة بنور العقل. هنا إيمان بالعمل الذي جاء من أجله المسيح من عند الآب. ومن هو المسيح. هذا إيمان بوعي.
وهنا نرى التلاميذ
وقد وصلوا لدرجة اليقين في معرفتهم للمسيح. فالمسيح أعطاهم ما إستلمه من الآب وكان
قبولهم للكلمة هو سر إنفتاح بصيرتهم على المسيح ومعرفتهم له إلى درجة اليقين=
علموا يقيناً= والكلمة الأصلية تفيد معنى أنهم علموا حقاً وبالحقيقة. فالإنسان قد
يكون على يقين من أمر ما ولكنه ليس الحق بالضرورة. والحق هو الله. وقبول الحق لا
يأتي بالفهم والمناقشة بل بالطاعة. لذلك كل ما سمع وصايا الله وأطاعها ونفذها
سيكتشف سهولتها وجمالها مهما بلغت في مظهرها الخارجي من صعوبة ظاهرية في التنفيذ.
خرجت= تفيد التجسد.
أرسلتني= تفيد العمل الذي أرسل من أجله وهو الفداء والمسيح سيبني على هذه الكلمات
ما سيأتي فهو ليس من العالم لذلك رفضه العالم وصلبه. ولذلك كل من يقبله ويؤمن به
ويتحد به وينضم إليه سيصير هو أيضاً ليس من العالم وسيضطهده العالم وهذا ما حدث مع
المسيح وما سيحدث للتلاميذ (يو18:15-21 + 1يو13:3 + 1يو5:4،6).
آية (9): "من
أجلهم أنا اسأل لست اسأل من اجل العالم بل من اجل الذين أعطيتني لأنهم لك."
أنا أسأل= في صلاتي
الشفاعية هذه. في هذه الآية يسأل عن التلاميذ، ثم في آية (20) يسأل عن كل
المؤمنين. لست أسأل من أجل العالم= المسيح يسأل ويشفع عن الذين كانوا للآب وأعطاهم
الآب له ليكمل خلاصهم (يو24:10-26 + أر16:7 + يو42:8-44). وليس من أجل من لازال
يحيا في شره غير مؤمن بالمسيح. هؤلاء يسميهم العالم. فالمسيح حقاً مات من أجل كل
العالم ولكن ليس كل العالم قد تمتع بالغفران وأنهم أصبحوا من جسد المسيح. والمسيح
صلي على الصليب "يا أبتاه إغفر لهم" لكن من تاب وآمن هو من غفر له. فكيف
يصلي المسيح عن من لا يزال في شره لكي يحفظه الآب، فهو يطلب أولاً إيمانه ثم يطلب
أن يحفظه الآب. لذلك أرسل تلاميذه ليكرزوا به ومن يؤمن سيترك العالم فتكون هذه
الصلاة من أجله. وصلاة المسيح المسموعة هذه وأنه يطلب لأجل تلاميذه الذين آمنوا به
هي من أجل أن يعرفوا محبته لهم.
آية (10):
"وكل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي وأنا ممجد فيهم."
كل ما هو لك فهو لي
وكل ما هو لي فهو لك= نرى هنا الآب والإبن على مستوى واحد فالمؤمنون هم تابعين
للآب بقدر ما هم تابعون للإبن، أو أن الإيمان بالمسيح يعتبر تأكيداً لتبعية المؤمن
لله الآب. المسيح يقول هذا حتى لا يفهموا أنه أخذ شيئاً حديثاً لم يكن له من قبل
لأنه قال "الذين أعطيتني" بل هم له كما للآب. ولكن هم صاروا جسده، صاروا
من لحمه ومن عظامه. وكونهم صاروا جسده فهذا لا ينهي علاقتهم بالآب. فهو والآب
واحد. وكل ما للآب هو للإبن وكل ما للإبن هو للآب. ولماذا يسأل المسيح عنهم؟
1) لأنهم لك= هم أولادك وخاصتك وأنت مهتم بهم.
2) كل ما هو لي فهو لك= هم أيضاً للمسيح، سعي المسيح لأجل خلاصهم.
3) وأنا ممجد فيهم= المسيح من هو وعلاقته بالآب هم سيعلنوها للعالم كله.
4) ولست أنا بعد في العالم= (آية11) المسيح لا يريد أن تركه للعالم يسبب لهم أي ضرر.
ونلاحظ أن في إمكان
أي مؤمن أن يقول لله كل ما هو لي فهو لك ونشترك مع المسيح في هذه العبارة. أمّا
الشق الثاني.. كل ما هو لك فهو لي= فهو قول لا يجرؤ ملاك أو إنسان، بل ولا أي
مخلوق أن يقوله. هذا الكلام لا يقوله سوى الإبن الواحد مع الآب ولهم نفس الطبيعة
والجوهر. وفيه تأكيد واضح للاهوته. ألأأن
وأنا ممجد فيهم=
مجد الطبيب الماهر يظهر في شفاء مرضاه. ومجد المسيح ظهر في تجديد خليقة المؤمنين
وفي ثمارهم. وتشير لأن صفات المسيح قد إنطبعت في تلاميذه "هم لبسوا المسيح"
(رو14:13). فصار الناس يرون في تلاميذ المسيح صورة المسيح. فإيمانهم إذاً أبرز
للناس مجده الإلهي. ولاحظ أن المسيح في محبته لهم لم يرى إنكارهم وضعفهم فهو قصبة
مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ، بل أقام منهم أعمدة الكنيسة. ونلاحظ أيضاً
في هذه الآية أن الآب ممجد في التلاميذ فكل ما هو للإبن هو للآب أيضاً، وهذا ما
يشير إليه قول السيد المسيح "لكي يرى الناس أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم.."
آية (11):
"ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا أتي إليك أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن."
أتى الوقت الذي
سيفارق المسيح تلاميذه ليذهب للسماء ويمارس عمله الشفاعي عنهم. وهنا نرى نموذج
لهذا العمل الشفاعي. والمسيح يعرف أن للعالم قوة وإمكانية أن يبتلع تلاميذه بالشر
المحيط والجذب العنيف والإغراء الذي له قوة شيطانية. والشيطان له وسيلتين يهاجم
بها المؤمنين [1] الإغراء بملذات العالم [2] الآلام والإضطهاد. وهذا الأسلوب إتبعه
مع الرب يسوع نفسه. ففي التجربة على الجبل بدأ بإغوائه بملذات العالم، فلما رفض
هيج عليه اليهود ورؤساء كهنتهم والرومان. ولكن هل حقاً سيترك المسيح العالم بعد
صعوده؟ قطعاً لا. فوعده أنه معنا للأبد (مت20:28). فلماذا يقول هذا؟ التلاميذ الآن
في حالة حزن إذ أنهم يشعرون أنه سيفارقهم، وهم حتى الآن لا يدركون من هو المسيح
بالضبط. فهذه الصلاة لتعطيهم شعوراً بأن هناك حماية إلهية ستحيطهم حتى ولو فارقهم
المسيح بالجسد، وهذا يتضح من آية (13).
أيها الآب القدوس=
هذه الكلمات لم ترد في الكتاب المقدس سوى هنا، فالحل الوحيد أمام التجارب الشريرة
هو الإلتجاء إلى قداسة الآب. فقداسة الآب هي حصن الذين في العاصفة معرضين للتهديد
والإغراء من دنس العالم أو معرضين للإرتداد أمام ضغوط إضطهاد العالم. القداسة هي
الإرتفاع والسمو عن الأرضيات بكل ما فيها. وقداسة الله هي قوة قادرة أن تحفظ
أولاده من إغراءات وإضطهاد العالم. فقداسة الآب هي الضمان الأوحد لقداسة المؤمنين.
وهنا يربط المسيح بين القداسة والوحدة. حيثما توجد القداسة يوجد الحب والوحدة، وحيثما
توجد الخطية يوجد الشقاق والحسد. لذلك علمنا السيد أن نصلي هكذا "ليتقدس
إسمك" فالإلتجاء إلى اسم الله القدوس ليتقدس في حياتنا وأفكارنا وعيوننا
وقلوبنا وضمائرنا، هو قوة غالبة وحصن منيع "إسم الرب برج حصين يركض إليه
الصديق ويتمنع" (أم10:18).
إحفظهم في إسمك=
الكتاب يستخدم إسم الله ليقول الله. ويكون المعنى إحفظهم فيك. وإسم الآب يحمل معنى
قوته وحكمته وقدراته ومحبته وقداسته وصفاته كلها ورحمته (وهذه قد أعلنها المسيح).
وحفظهم في الإسم يراد به حفظهم ثابتين في دائرة هذا الحق المعلن متحصنين في ذات
الله وفي شخصه. فالإسم هنا هو طاقة وقوة حفظ. إذاً هي قوة محبة الله التي تبطل
الأنانية والغرور والذات ليكونوا واحداً، والحفظ يعني أن يشمل الآب التلاميذ بهذه
الطاقة والقوة، فله قوة يجذب بها بعد أن يستعلن نفسه لهم ثم يحفظهم حتى لا يخرجوا
خارجاً. ولذلك فمجرد النطق بالإسم (إسم الله) يدخلنا في مجال قوة عمله وكأنه هتاف
بالدخول إلى حضرته. لذلك تفتتح كل صلاة باسم الآب والإبن والروح القدس. ومن هنا
تأتي قوة صلاة يسوع. هنا نرى أن إسم الله
هو بيئة مقدسة محصنة يريد المسيح أن يحفظ تلاميذه داخلها فترتد عنهم سهام إبليس.
إسم الله قوة تحيط بالإنسان وتحرره. فإذا شعرنا بروح يأس أو شهوة فلنردد إسم يسوع
فهو قوة تعطي النصرة.
ليكونوا واحداً=
(أف1:4-6) واحداً في المحبة والإرادة والغاية والفكر والإهتمامات والتسليم لله،
وفي هذا فالآب والإبن واحد= الكنيسة هي الوجه الظاهر للملكوت، وملكوت الله منظم
جداً وكل ما فيه مترابط بمحبة في وحدة وإنسجام مقدسين. ولذا فالمسيح يطلب أن تبعد
الإنقسامات عن الكنيسة. فالإنقسامات هي حروب شيطانية تقسم جسد المسيح وكل مملكة
تنقسم على ذاتها تخرب. والمسيح يريد أن تكون كنيسته صفاً واحداً وإرادة واحدة.
وإذا تقدس الجميع بالقوة التي لإسم الآب، سيحفظهم الآب ويوحدهم كأعضاء لجسد
المسيح. وهذه هي الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية (أع42:2-47).
وهذه الوحدة هي في جسد المسيح وكل مؤمن هو عضو في جسد المسيح له دوره ووظيفته
وموهبته الخاصة بحيث يتكامل الجميع كجسد واحد (1كو1:12-30). وهذه الوحدة هي وحدة
تقديس وطهارة فخارج القداسة والتقديس يوجد العالم. والقداسة في مفهومها هي إنفصال
عن العالم. والوحدة التي ستجمع التلاميذ هي في إنفصالهم عن العالم بإنجذابهم
المشترك نحو الآب وهذه هي القداسة. وهذه لا تأتي إلاّ بالإلتصاق بالله في صلاة بلا
إنقطاع ودراسة وتأمل في الكتاب المقدس. وهذه الوحدة قوتها من المسيح وفيه. وليست
علاقات إجتماعية أو ما شابه بل هي مؤسسة على إتحاد بالمسيح. ولاحظ أن الشيطان
يحارب هذه الوحدة ولا يطيقها. لكن إسم الآب قوة حفظ من تجارب العدو. كما نحن=
المسيح في وحدة مع الآب وهو يطلب أن قوة الوحدة التي بينه وبين الآب تعمل في
المؤمنين وتوحدهم. ويكون إتحادهم إنعكاس للوحدة والحب ال
تكلم المسيح عن
الإيمان به وبأنه يجب على المؤمن أن يقبل شركة صليبه فيتحمل الآلام والإضطهاد
والرفض. وأن هذا سيعطي للنفس فرح حقيقي كأنها جازت الموت والقيامة وغلبت العالم.
وهذا يحمل معنى إتحاد النفس بالمسيح فتجوز في نفس الطريق لأن المسيح هو الطريق.
فهو يأخذنا فيه. ولذلك بدأ المسيح بغسل الأرجل لينقي تلاميذه إستعداداً لهذا
الإتحاد فلا شركة للنور مع الظلمة. ودعا تلاميذه للمحبة ليتحدوا فبدون محبتهم له
ومحبتهم لبعضهم البعض فلا إتحاد معه. لذلك فالوصية الجديدة للعالم هي المحبة
(34:13) وهي على شكل محبة المسيح الباذلة. والمسيح صوَّر هذه الوحدة بمثل الكرمة
والأغصان وأن على الأغصان (المؤمنين) أن يكون لهم ثمار وبهذه الثمار يتمجد الآب
(8:15). وهنا نرى أن وحدة المسيح مع تلاميذه هي التي أنشأت هذا الثمر. وهذه الوحدة
هي فعل لمحبة الآب التي إستعلنت في المسيح. فأن يكون هناك ثمر فهذا هو الرد
المباشر لمحبة الآب. وحتى الإضطهاد الذي سيجوزه التلاميذ في العالم فهو ثمرة
الوحدة مع المسيح (أع4:9 + يو20:15،21) والمسيح يتألم أيضاً لآلامنا (أش9:63).
وإرسال الروح القدس سيكون لتعميق هذه الوحدة والحفاظ عليها ومن خلال هذه الوحدة
يعلن المسيح أسراره لأحبائه (15:15). وهذا الإتحاد كان من نتائجه أن المسيح بموته
إفتدى البشر وأعطاهم حياته (غل20:2). والمسيح أعطى تلاميذه جسده ودمه لتثبيت هذه
الوحدة. وكأن الحب الذي يربط المسيح بكنيسته وتلاميذه وبالتالي الوحدة بين المسيح
وكنيسته هو من نفس نوع وعلى شكل محبة الآب للإبن والوحدة بينهما (9:15).
صلاة المسيح في
(يو17) طابعها المجد وإستعلان ملء لاهوته، أمّا صلاة بستان جثسيماني حينما عرق
دماً وطلب إعفائه من شرب الكأس (عب7:5 + مر36:14 + لو44:22) فطابعها ملء ناسوته
والذي فيه أخلى المسيح ذاته (في7:2،8) وفي كلا الصلاتين نرى الكلمة صار جسداً
(يو14:1). والله ظهر في الجسد (1تي16:3). أي نرى الإله المتجسد الذي قبل أن يحمل
ضعف الإنسان ليرفعه ليحيا في السماويات.
أين صلى المسيح هذه الصلاة؟
في (يو1:18) قيل
أنه خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون. وهذا قيل بعد أن أنهى المسيح صلاته
الشفاعية في (ص17). ووادي قدرون هذا يفصل بين الهيكل وبين جبل الزيتون حيث بستان
جثسيماني. فيكون غالباً أن المسيح قال هذه الصلاة في الهيكل، في بيت الله يقدم هذه
الصلاة للآب أبيه فبيت أبيه بيت الصلاة يُدعى. وهي صلاة فيها مجد للإبن وللآب،
وللإنسان، فقد كان عمل المسيح الذي تممه هو أن يعطي للإنسان مجداً.
صلاة المسيح الشفاعية الأخيرة للآب
وهي موضوع الإصحاح
(17). وهي طلبات مباركة رفعها الرب يسوع من أجل التلاميذ ومن أجل المؤمنين أعضاء
كنيسته. وفيها نرى علاقة إبن الله بأبيه. وكيف أنهما واحد، جوهر واحد متحد في كيان
واحد يتسامى على فهم البشر، إلاّ للذين يُعطِى لهم الله أن يدركوا وأن يفهموا،
وهؤلاء هم من الأنقياء القديسين المؤمنين الذين يفتح الله بصيرتهم ليروا بعين
الروح لا الجسد.
هي صلاة تكريس
فالمسيح أنهى
تعاليمه للتلاميذ بقوله "ثقوا أنا قد غلبت العالم" (33:16). وهذه كانت
المدخل لصلاة التكريس التي كرَّس فيها نفسه للموت كآخر مرحلة من مراحل خطة الخلاص
التي جاء بها من عند الآب. وقوله أنا قد غلبت العالم تعني أنه بلا خطية، وأنه قدوس
لا تمنعه خطية واحدة من أن يقدم ذاته ذبيحة لأجل الآخرين. وبقداسته الكاملة تأهل
أن تكون ذبيحته شاملة لكل العالم، فهو غلب في معركة العالم وبناء عليه إستحق أن
تقبل ذبيحته ويُعْلَنْ مجده فَتُفْهَمْ ذبيحته أنها ذبيحة إلهية. وكل من يشترك في
هذه الذبيحة يشترك في إنتصارها فهي ذبيحة إنتصار لحسابنا (1يو4:5،5) ونحن نشترك في
الذبيحة بالإيمان والتناول من الذبيحة وعدم التعلق بالخطية والعالم ومن يغلب سيجلس
مع المسيح في عرشه (رؤ1:3). ولأن المسيح غلب العالم فهو إستطاع أن يغلب الموت (يو30:14
+ رؤ2:6)
هي صلاة شفاعية
فيها يطلب المسيح
من أجل خاصته وأحباءه والمؤمنين به. نرى فيها محبة فياضة يفيض بها قلبه نحوهم. في
هذه الصلاة نرى صورة لشفاعته عنا في السماء. ونلاحظ أن شفاعة المسيح هذه ليست لكل
العالم بل لمن قال عنهم "الذين أعطيتني" وهذه العبارة تكررت في هذا
الإصحاح (7مرات) ويعني بها المؤمنين الذين آمنوا به وإتحدوا به في المعمودية وظلوا
حياتهم في حياة توبة. أي صاروا جسده من لحمه ومن عظامه (أف30:5).
في (يو31:13) حينما
خرج يهوذا لتدبير مؤامرته قال المسيح الآن تمجد إبن الإنسان وفي (يو1:17) يبدأ
صلاته بقوله أيها الآب قد أتت الساعة مجد إبنك. ففي بداية حديثه مع تلاميذه والذي
بدأ بالآية (يو31:13) وإنتهى بنهاية (ص16) وفي بداية حديثه مع الآب يشير لمجده
الذي سيظهر في الصليب، يشير للصليب الذي يكلله المجد. المجد الذي كان بطاعته
الكاملة للآب، طاعة حتى الصليب. ومحبة كاملة للآب وللبشر الذين سيصلب من أجلهم.
الصليب بداية لأن يجلس بجسده عن يمين الآب في مجد، هو أراد أن يعطيه للإنسان
فبالصليب كانت النصرة على قوات الظلمة والجحيم. وبه تم تقييد إبليس. وهو العلامة
المرعبة لإبليس دائماً.
أقسام الصلاة الشفاعية
(الآيات 1-5):
تدور حول مجد الإبن الذي هو مشترك مع مجد الآب. والإبن يطلبه لحساب الإنسان عموماً.
(الآيات6-19):
تدور حول حفظ وتقديس تلاميذه.
(الآيات20-26):
تختص بوحدة الكنيسة على طول المدى.
الإصحاح السابع عشر:
آية (1):
"تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال أيها الآب قد أتت الساعة مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً."
رفع عينيه نحو
السماء وقال= نحو السماء= إشارة لأنه بدأ يتحدث مع الآب، بدلاً من كلامه مع
التلاميذ. المسيح هنا يدخل في حديث إلهي. فالسماء رمز الحضرة الإلهية. هو حديث
إلهي بين الآب والإبن. ولكنه على مستوى الإنسان لنسمع ونفهم ونرتقي للمستوى الروحي
فالإنسان مدعو للدخول في شركة الآب والإبن (1يو3:1). لذلك قصد السيد المسيح أن
تكون هذه الصلاة مسموعة لنسمعها ونفهمها لندخل في هذه الشركة مع الله. أيها الآب=
لم يقل يا أبانا كأننا صرنا مثله وصار هو إنساناً واحداً من البشر لا يفترق عنهم،
بل هو الإبن الوحيد الجنس للآب، إبن الآب بالطبيعة. ولكن المؤمنين هم أبناء
بالتبني (يو17:20). ولم يقل يا أبي فهو بفدائه الذي سيتم بعد قليل سيعطي للإنسان
البنوة فيه. فهو هنا يتكلم لا كواحد من البشر بل كرأس للخليقة الجديدة المدعوة
للتبني، هو هنا يمثل هذه الخليقة (رو15:8 + غل6:4). قد أتت الساعة= هي ساعة متفق
عليها بين الآب والإبن. إذاً المسيح يعرف تماماً هذه الساعة التي ستبدأ بالصلب
والمهانة ثم المجد. مجد إبنك ليمجدك إبنك أيضاً= بداية مجد الإبن كانت بطاعته للآب
وقبوله للصليب فبالصليب النصرة (في6:2-11 + يو13:12-16 + 19:21 + 23:12). والمسيح
يتمجد أيضاً بإستعلان طبيعته الإلهية أمام العالم بقيامته وإنتصاره على الموت
(وهذا يعني قبول الآب لذبيحة إبنه وعمله) وإنتصاره بالموت على الموت وكسره لشوكة
الموت وفتح بفدائه باب السماء للناس ليعطيهم حياة أبدية. والآب يمجد الإبن بتعضيده
وتأييده ليكسر شوكة الموت ثم برفعه وأن يعطيه إسماً فوق كل إسم. وحينما يتمجد
الإبن يتمجد الآب أيضاً حينما يعلم البشر أن خطة الخلاص بدأت بإرسال الآب لإبنه
(في9:2-11). وسيتمجد الآب حين يستعلن الإبن الآب ومحبته للبشر. ونرى هنا العلاقة
الواضحة بين مجد الإبن ومجد الآب فهي علاقة متبادلة على المستوى الواحد
(يو27:12-30). فالآب يتمجد بالإبن كما تمجد الإبن بالآب (يو31:13). وقول المسيح
"إبنك" ولم يقول الإبن فيه إشارة أن تمجيد الإبن شرط ليتمجد الآب فالإبن
هنا منسوب للآب. مجد الإبن ظهر أولاً في أنه فعل ما فشل البشر أن يقوموا به. وما
فشل فيه الإنسان هو طاعة الله وهذا ما قام به المسيح. وقمة طاعة الإبن كانت في
الصليب، قمة الطاعة. والمؤمنين سيكون لهم هم أيضاً مجد ولكنه إنعكاس لمجد الله
عليهم "لأننا سنراه كما هو" (1يو2:3) ولكن نجماً يمتاز عن نجم في المجد
بحسب القرب أو البعد من الله يصدر كل مجد (رو30:8 + 1كو41:15).
مجد إبنك ليمجدك
إبنك= هل الآب محتاج لأن يتمجد أو هل الإبن محتاج لأن يتمجد؟ الآب في الإبن والإبن
في الآب منذ الأزل في مجد. ولكن الإبن أخلى ذاته وأخذ صورة عبد وأتى للصليب لكي
يمجد الإنسان، ليعطي مجداً للإنسان (22:17). فالمجد الذي يطلبه المسيح هو للإنسان،
يتمجد ليعطينا هذا المجد (رو17:8).
مجد إبنك= أنا ذاهب
للصليب وأطلب القيامة والصعود وإظهار المجد الخاص بي كإبن فكل هذا سيكون للإنسان.
فالآب مجد إبنه المسيح في قبول عمله ونصرته على قوات الجحيم والموت.
ليمجدك إبنك= لكي أظهر محبتك للبشر فيحبوك ولكي أعلن لهم أبوتك.
فالمسيح أتى ليستعلن محبة الآب والمجد الذي يريد الآب أن يعطيه للبشر.
وفي (ص12) حين طلب
اليونانيون أن يروا يسوع. قال المسيح "مجد إبنك" فجاء صوت من السماء
"مجدت وأمجد أيضاً" فقال المسيح "هذا الصوت كان لأجلكم" أي
لتعرفوا أن المجد الذي أطلبه هو لكم.
هل لو فهم كل إنسان
أن هذا المجد السماوي معد له يرجع إلى خطيته أو إهتمامه بشهوات العالم الباطلة.
إن هدف المسيح من
تجسده ليس فقط غفران الخطية. بل بعد غفران الخطية نصير طاهرين فنثبت في المسيح
فيأخذنا للحياة الأبدية في مجد. والمسيح صلي هذه الصلاة بصوت مسموع لنعرف إرادة
الله من نحونا فتتغير شكل عبادتنا:-
1. لا نعود نعبد إله مرعب مخيف منتقم، بل إله، أب، محب نقول له "أبانا الذي.."
2. نحتقر شهوات هذا العالم في مقابل هذا المجد.
3. أمام هذا الحب الإلهي نقدم كل شئ حتى حياتنا لمن أحبنا كل هذا الحب.
4. لا تعود عبادتنا عبادة نفعية، كل ما نريده منها الماديات، بل تكون أعيننا نحو هذا المجد.
والمجد الذي كان
للمسيح ويطلبه هنا هو مستحق لأنه غلب كإنسان فكان بلا خطية على الأرض ثم غلب الموت
بصليبه (يو33:16). وبهذه الغلبة دخل لقدس الأقداس عند الآب ليحملنا فيه. هو رئيس
كهنتنا الذي يدخل لقدس الأقداس وحده، لكن رئيس الكهنة اليهودي كان يدخل وحده،
ومسيحنا دخل وحده ليتمجد الآن. ولكن ذلك لحساب الكنيسة التي يطلب المسيح لها المجد
(22:17). وهذا العمل الذي عمله المسيح كان ليستعلن لنا الله، فنعرفه فتكون لنا
حياة (آية3) ولذلك يقول يوحنا "والحياة أظهرت" (1يو2:1)
آية (2):
"إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته."
المسيح سبق وطلب أن
يتمجد في الآية السابقة. وهنا نرى لماذا طلب المسيح أن يتمجد بل وأن يتجسد ويصلب
ويقوم ويصعد فيتمجد؟ فهو فعل كل هذا ليعطي حياة أبدية للبشر، جلس عن يمين الآب
ليرسل الروح القدس المحيي ليقدس ويعطي حياة أبدية. وكل من له حياة أبدية يظل يمجد
الآب والإبن هنا على الأرض وفي السماء وإلى الأبد فما يطلبه المسيح كغالب للموت
وجالس عن يمين الآب هو لصالح البشر ليكون لهم حياة أبدية. إذ= تأتي بمعنى كما (كما
جاء في يو21:17،22). والمعنى أن الآب كما أعطى للإبن أن يتمجد بفدائه للبشر أعطاه
أيضاً سلطاناً أن يهب كل جسد الحياة الأبدية.
سلطاناً على كل
جسد= هذا القول يفيد ألوهية المسيح. فمن هو الذي له سلطان على كل البشر سوى الله
(قارن مز2:65 مع يو35:3 + 22:5 + 3:13) كل بشر في (مزمور 2:65) أي كل جسد، فالله
وحده له السلطان على كل جسد وهذا السلطان هو للمسيح. ولكن ما معنى أن الآب يعطي
سلطاناً للإبن؟ أليس الآب والإبن واحداً؟ هذه الآية وردت بنفس المفهوم في (يو26:5)
"لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الإبن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته"
والمعنى أنه طالما أن للإبن له حياة في ذاته فهو له السلطان أن يعطي هذه الحياة لمن يريد.
ومن له سلطان أن يعطي حياة فهو الله.
ولكن لنفهم معنى
الآية. فالآب يريد والإبن والروح القدس ينفذان إرادة الآب، يترجمان إرادة الآب إلى
فعل. هنا نعود للآية الأولى في الإنجيل (يو1:1) فنجد الإنجيل الفرنسي يترجم
"الكلمة" (VERBE) أي فعل. فالإبن يترجم إرادة الآب إلى فعل. ويكون المعنى أنه في
توزيع الأدوار أو توزيع العمل داخل الثالوث، صار للإبن حياة في ذاته ويعطيها لمن
يشاء وبهذا يترجم إرادة الآب في أن يحيا الإنسان. الآب هو طاقة الحياة والإبن ينفذ
ويفعل ويترجم إرادة الآب في أنه يعطي حياة لمن يريد، فهذا في سلطانه.
ولكن الإبن لأنه
مولود من الآب فهو ينسب السلطان للآب المولود منه. ولكن إذا وضعنا أمامنا الآيات
الأخرى "أنا في الآب والآب فيّ" (يو38:10). "أنا والآب واحد"
(يو30:10) "كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" (يو10:17). نفهم أن
الإبن له نفس السلطان. فالسلطان ليس من مصدر خارجي لأن الإبن واحد مع الآب في
الطبيعة الإلهية. ولكنه يقول هذا لأنه قبل في طاعة أن ينفذ إرادة الآب ليتمم
خلاصنا ومصالحتنا معه. فهو هنا يتكلم كمنفذ لإرادة الآب. هذه العبارة تماثل
"كل ما أراني الآب أفعله" (يو19:5-21). وتماثل أيضاً "وأعطاه
سلطاناً أن يدين" (يو27:5). هذه عن الأفعال. وأما عن الأقوال فيقول "كما
أسمع أدين. أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً (يو30:5). فهنا تعني تطابق الإرادة،
فهو لا يقدر أن يفعل إلاّ ما يريده الآب فإرادتهما واحدة متطابقة لكن الآب يريد
والإبن يفعل. وأيضاً "وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم" (يو26:8).
وقيل هذا عن الروح القدس "لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به
ويخبركم بأمور آتية" (يو13:16). وحين لا يريد الآب إعلان الساعة فالإبن لا
يعلنها ويقول وحتى الإبن لا يعرف. ويكون المقصود أنه لن يفعل فهو لا يفعل (أي لن
يعلن) إلاّ ما يريده الآب. فالآب له الإرادة والإبن له الفعل.
لكل من أعطيته= سبق
ورأينا أن المسيح له سلطان أن يعطي حياة أبدية ولكننا هنا نراها مقصورة على من
أعطاهم الآب للإبن فقط.. فهل هناك تضاد في المعنى؟ أو هل الآب قَيَّدَ حرية المسيح
مرة أخرى في سلطانه المطلق على البشر في أن يعطيهم حياة أبدية؟ العالم كله للآب.
ومن أعطاهم الآب للإبن هم من آمنوا وإعتمدوا فصاروا جزءاً من جسده.
لنفهم الإجابة عن
هذه التساؤلات نراجع الآيات (يو21:5-30). وفيها نرى أن المسيح إمّا يهب حياة أبدية
لمن يؤمن أو يُدين من لم يؤمنوا. فمن الذي سيعطي له الآب حياة أبدية؟ .. هو من
يقبل المسيح ويؤمن به. وأمّا من يرفض الحياة الأبدية التي يقدمها الآب برفضه
للمسيح يكون سلطان المسيح عليه هنا للدينونة. فالمسيح له سلطان على كل جسد إمّا
بإعطائه حياة أبدية أو بدينونته. المسيح يعطي بالفعل والآب يعطي بالمشيئة
والإختيار ويستحيل فصل الفعل عن المشيئة المتممة له ولا المشيئة عن الفعل. ونرى
هنا أن كلمة كل ترددت مرتين الأولى تشير لسلطان المسيح على كل البشر والثانية تشير
للمؤمنين الذين هم خاصة المسيح (14:10).
آية (3):
"وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته."
هنا يُعرِّف المسيح
الحياة الأبدية.. وهي أن نعرف الله الآب والمسيح يسوع. والمسيح هو القيامة والحياة
(يو25:11). والمسيح له الحياة في ذاته مثل الآب وهو يحيي من يشاء (21:5،26) ولأنه
تجسد فهو أعطى العالم هذه الحياة بتجسده (37:6) وبالذات لأخصائه (28:10) وللذين
يسمعونه ويدخل صوته إلى أعماق قلوبهم (24:5). فالمسيح هو الحياة أي قوة فعّالة
محيية. وهو يعطينا هذا ليقدمنا لله أبيه (6:14) والوسائل التي إستودعها سر الحياة
هي في المعمودية (5:3) وفيها نموت ونقوم لنحيا معه إذ نتحد به (رو3:6-5)
والإفخارستيا (35:6،48) وفي كلامه المحيي (63:6،68). وفي الإيمان (37:7) وفي
(63:6،68). نرى أن كلام الله محيي (قارن مع مت 4:4). وهنا نرى الرابطة بين الحياة
والمعرفة. فكلام الله الذي أوحى به الروح القدس (لكل من كتب الكتاب المقدس) له
القدرة أن يحيي ويلدنا من جديد (1بط23:1). وهذه أهمية دراسة الكتاب المقدس لذلك
يقول أحد الآباء أن الكتاب المقدس هو كلمة الله والمسيح هو كلمة الله.. لذلك
فحينما نتأمل في الكتاب المقدس نرى صورة المسيح فنعرفه ونحبه ويتحول الحب إلى فرح.
الحياة والنور
المسيح هو الحياة.
وهو قال "أنا هو النور" (12:8). وفي (4:1) نسمع أن الحياة كانت نور
الناس. فمن يعطيه المسيح حياته يدخل نوره إلى قلبه فيفتح وعيه فيدرك الله ويعرفه
ويعيش في حضرته (1يو1:1-5). والعقل لا يمكنه إدراك هذه الحياة الأبدية، فالعقل لا
يُدْرِكْ سوى الملموسات بالحواس الخارجية. ولكن الروح القدس المعطي لنا يعيننا على
أن ندركها هنا إدراكاً جزئياً بإستعلان يأتي من فوق، من خارج الكيان الإنساني
(1كو9:2-12). هنا نرى أن الروح القدس يقود عقل الإنسان فيدرك ما لا يمكنه إدراكه
وحدهُ. بل الروح القدس يقود الحياة كلها، فكر الإنسان وعمله ليكون بحسب مشيئة الله
سواء بالفكر أو بالعمل ليكون الله غاية كل شئ. ولأن الحياة هي حياة المسيح والمسيح
لن يموت ثانية فنحن صارت لنا حياة أبدية (رو9:6). وسمات هذه الحياة الأبدية أن
يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح الذي يفوق كل عقل
(لذلك أطلق أباء اليهود على مجد الله الذي يظهر من بين كاروبي تابوت العهد لفظ
شكينة وهي من السكينة والسلام الذي يملأ القلب حين يرى مجد الله) ولكن مهما كان
السلام والفرح الذي نتذوقه هنا فهو كسبق مذاق، كعربون مما سنحصل عليه من فرح أبدي،
هو عربون الملء الذي سنحصل عليه. ونلاحظ أنه كلما عرفنا شيئاً عن الله نفرح. فهل
يمكن للإنسان أن يعرف الله بالكمال والتمام حتى في الأبدية؟ الله غير متناهي
والإنسان حتى في الأبدية سيظل محدوداً غير قادر أن يدرك الله ويعرفه تماماً. لكن
الله سيكشف له كل يوم جديداً فيفرح إلى درجة أنه لا يستطيع أن يفرح أكثر
لمحدوديته، فيعطيه الله إتساعاً أكثر.. فيدرك ويعرف أكثر.. وهكذا. وهذا لن ينتهي
فالله غير متناهي وهكذا نستمر للأبد نعرف شيئاً جديداً عن الله فنفرح ويزداد فرحنا للأبد.
والمؤمن يبدأ طريق
الحياة الأبدية أي معرفة الله التي تعطي هذا الفرح هنا على الأرض حينما يقدم توبة
حقيقية ويعطي للروح القدس أن يقود حياته ولا يقاومه أو يحزنه. ويكون هذا بالنسبة
للمؤمن كأنه يولد من جديد فالتوبة يسميها الآباء معمودية ثانية. والروح يقود
المؤمن التائب ويرتقي بأفكاره وأعماله كأنه وُلِدَ من جديد.
وفي مقابل الحياة
الأبدية التي يحياها المؤمن التائب يحيا الآخرين في حياة وهمية في لذات مؤقتة
مخادعة للحظات تنتهي ويعودوا لكآبتهم وأحزانهم. أمّا حياة المؤمن الأبدية التي
يبدأها من هنا في عشرة المسيح فهي حياة الفرح الحقيقي والسلام الحقيقي. بل أن كل
من تذوق لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح عاش هذه الأبدية. هو ربما
يتذوقها في دراسته للكتاب المقدس أو في قداس أو في الصلاة. وهذه اللحظات التي
يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي تعطيه قوة للصمود في وجه الضيقات وآلام هذا
العالم. بل يحيا مشتاقاً لحياة ملء الفرح في الأبدية (في23:1).
أنت الإله الحقيقي
وحدك ويسوع المسيح= المسيح يعطي الحياة بالفعل والآب يعطي الحياة بالمشيئة. فالآب
والإبن يشتركان في إعطاء الحياة الأبدية. وعلى ذلك يتحتم أن تكون الحياة الأبدية
هي معرفة الآب والإبن معاً. وإدراك سر الله والخلاص وإدراك محبة الله الآب الذي
بذل إبنه وإدراك محبة الإبن الذي قدَّم ذاته في حب يسمو عن التعبير. وهذه العبارة
تشير للمساواة بين الآب والإبن. فهي إذاً برهان على لاهوت المسيح فمعرفة الآب
موازية لمعرفة يسوع المسيح. ونلاحظ قوله يسوع (أي المخلص) المسيح وهذه وظيفته
بإعتباره الممسوح من الله بالروح القدس ليكون رئيساً وملكاً على كنيسته ورئيس كهنة
يقدم ذبيحة نفسه ليقربنا لله أبيه. وحدك= أي دون الآلهة الوثنية وإبليس أو كل ما
يؤلهه الإنسان في حياته كالذات والشهوات. ومعلمنا يوحنا يصف هذه الحياة الأبدية
بأنها عشرة مع الآب والإبن (1يو1:1-4) وفي هذه الآيات نرى معلمنا يوحنا يكلمنا عن
المسيح الذي رآه وعرفه ولمسه. فيكف نرى المسيح ونلمسه ونعرفه؟ هذا يناله من يحبه
ويؤمن به.. وكيف نصل لدرجة الحب؟ .. هذا يأتي من العشرة مع المسيح في صلواتنا
ودراستنا للكتاب المقدس وحضور القداسات والتناول. ومن أحب المسيح وقال مع عروس
النشيد "أنا لحبيبي وحبيبي لي" يُعلِنْ له المسيح ذاته. والتعرف على
المسيح هو هو التعرف على الآب لأن رسالة المسيح هي إستعلان الآب الذي فيه
(يو9:14). ومعرفة الآب والإبن هي بعينها شركة مع الآب والإبن. وقول يوحنا
"فإن الحياة أظهرت" فهذا إشارة للتجسد الذي به عرفنا الآب والإبن.
هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك
كلمة يعرف في الكتاب المقدس تشير للإتحاد
"وعرف آدم
حواء امرأته فحبلت وولدت قايين" (تك1:4) وهذا لأنهما صارا جسداً واحداً
"يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكونان جسداً واحداً" (تك24:2)
وأيضاً يقال "ليس أحد يعرف من هو الإبن إلاّ الآب ولا من هو الآب إلاّ الإبن
ومن أراد الإبن أن يعلن له" (لو22:10). ففي هذه نرى الآب يعرف الإبن والإبن
يعرف الآب. لأن الآب والإبن واحد (يو30:10) والآب في الإبن والإبن في الآب
(يو38:10). وبهذا نفهم أن المعرفة إتحاد. ولأن المسيح يقول "ومن أراد الإبن
أن يعلن له" أي من أراد الإبن أن يعلن له الآب ويعلن له الإبن، أي يعطيه أن
يعرف الآب والإبن، وفي هذه المعرفة إتحاد والإتحاد يعني حياة. فالإتحاد مع المسيح
يعني أن المسيح يعطيني حياته (في21:1 + غل20:2) وهذه الحياة حياة أبدية، فالمسيح
إذ قام "لا يسود عليه الموت بعد" (رو9:6).
وهذا الثبات في
المسيح أو الإتحاد ينمو وكلما حدث النمو تحدث معرفة المسيح، ولكنها ليست معرفة من
خارج، كما يعرف إنساناً إنسان آخر، بل معرفة من خلال الإتحاد "وأوجد فيه..
لأعرفه" (في9:3،10). فكلما زاد الإتحاد تنمو المعرفة ويزداد الوضوح، وضوح
الرؤية والإستعلان. فالمعرفة هي معرفة إتحاد وحب، وإدراك لمحبة الله العجيبة لنا،
وبالتالي مبادلته حباً بحب. فالمعرفة هي حالة حب حقيقي مع الله، وتذوق وإختبار
لمحبة الله. فالله محبة والله حياة فمن أدرك وتذوق المحبة صارت له حياة.
والرؤية هنا على
الأرض محدودة. فالقداس الغريغوري وصف الله هكذا "غير الزمني، غير
المحدود.." لكن ما هو الله بالضبط فهذا لا يعبر عنه بالضبط على الأرض.
والسماء فيها إتحاد
على مستوى أكبر بكثير من الأرض تم التعبير عنه بالعرس (رؤ7:19) وهناك على هذا
المستوى نعرف الله (2كو18:3 + 1كو12:13) هذا الإتحاد هو ما عبر عنه المسيح بقوله
"أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (مت29:26) فهو إتحاد على مستوى جديد،
ومعرفة على مستوى "وجهاً لوجه" على مستوى زيجي والمعرفة إتحاد، والإتحاد
حياة أبدية. والحياة الأبدية مجد وفرح أبدي بمعرفة هذا الذي أحبنا كل هذا الحب
وأعد لنا كل هذا المجد، ويحملنا فيه إليه.
أنت الإله الحقيقي
وحدك= هنا المسيح يوجه كلامه للآب. وكلمة وحدك عائدة على الله مثلث الأقانيم. ونحن
حين نوجه كلامنا للمسيح نقول له أيضاً أنت الإله الحقيقي، لأن صفة الألوهة هي للآب
كما للإبن. والله واحد غير منقسم ولا منفصل. الله هو الحق والعالم وما فيه باطل
ومن يعرف الحق يختاره فيحيا ومن يختار الباطل يموت ويستعبد فكلمة حقيقي تعني
الثابت غير المتغير، أما العالم فسيفنى وهو متغير ومخادع. وقوله وحدك= فالوثنيين
يعبدون آلهة أخرى. وهناك من يعبد المال مثلاً أو الشهوات أو ذاته .. الخ.
ويسوع المسيح الذي
أرسلته= هذه إشارة لأن الآب لم يُعْرَفْ إلاّ بتجسد المسيح الذي أعلن الآب. وكما
أن الآب يمجد الإبن والإبن يمجد الآب كذلك الإبن يستعلن الآب والآب يستعلن الإبن
بالروح القدس الذي أرسله. لذلك يستحيل معرفة أحدهما بدون الآخر. ولا يمكن فصل
الإرادة (الآب) عن الفعل (الإبن). محبة الآب لا يمكن أن تصل إلينا إلاّ بيسوع المسيح.
الآيات (4،5):
"أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أنت
أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي
عندك قبل كون العالم."
هنا نرى معنى أن
يعرفوك (آية3). فحينما أكمل المسيح عمله الذي أعطاه له الآب، إستعلنت حقيقة المسيح
الإلهية وكونه واحد مع الآب. وأن عمله أتمه بالفداء والقيامة ومازال يكمله بشفاعته
الكفارية عنا في السماء. والآن= بعد أن أكملت العمل. والمسيح في آية (1) يقول
"مجد إبنك" وهنا يقول مجدني أنت. فما الفرق بينهما؟ في آية (1) كان
المسيح يطلب تدخل الآب لتكميل باقي المهمة العظمى بكل ما تشمله من صلب وإهانة ثم
بقيامة ومجد. يطلب المسيح أن يسانده الآب، يساند ناسوته ليكمل عمل الصليب الذي به
يتمجد الإبن إذ يكمل إنتصاره على قوات الظلمة والموت. أمّا هنا فهو يطلب المجد
المستحق عن العمل الذي سيكمله. والآب سيمجده بإعلان بنوته له وإستعلان لاهوته
وأنهما واحد. ونلاحظ أن المسيح لا يطلب المجد للاهوته بل لناسوته أي الجسد الذي
أخذه من الإنسان. فلاهوته لم يفارقه مجده أبداً، لكنه يطلب المجد للطبيعة البشرية.
وهذا الطلب هو عمل عظيم من المسيح لحساب البشر. هذه هي شفاعته وإستحقاق ذبيحة
طاعته. هذا هو جوهر الفداء والخلاص للإنسان الذي ينتهي بالمجد (راجع أف5:2،6 +
19:3 + في21:3 + كو12:1،13 + كو4:3 + 2تس14:2 + 1بط10:5 + عب10:2 + رو17:8 +
يو24:17) هذه شركة في المجد البنوي لله. وقوله الذي أعطيتني يشير للمجد الذي جازه
المسيح كإبن الإنسان لحساب الإنسان (يو36:13) ففدائه أعطى للإنسان مجداً وحياة
أبدية وهذه إرادة الآب "الذي يريد أن الجميع يخلصون" (1تي4:2). فالإبن
هو الفعل، يفعل ما يريده الآب.
أنا مجدتك على
الأرض= باستعلانه للآب ومحبته للبشر وأبوته لهم (يو18:1) وكان ذلك بأن تمم وأكمل
عمل الفداء. قد أكملته= تفيد الكمال فهو تمم العمل بكمال في طاعته للآب. وكان طعام
المسيح أن يتمم ويصنع مشيئة الآب (يو34:4). عند ذاتك= "عند" يمكن
ترجمتها أيضاً "مع" وتفيد معنى المجد الواحد للذات الإلهية، مجد الآب
ومجد الإبن فالإبن كائن مع الآب، وتفيد معنى الوحدة القائمة بالمجد في الله بين
الآب والإبن. وتفسير هذه العبارة نجده في (يو1:1،18) فالكلمة كان عند الله وهو
الإبن الوحيد الذي في حضن الآب. وبعد أن أخلى الإبن ذاته من مجده آن الآوان أن
يعود الإبن بالجسد إلى أحضان الآب كعودة الذات لذاتها بكل المجد الذي كان له وعنده
ومعه قبل كون العالم. وعند ذاتك تفهم أيضاً "في ذاتك" فالمسيح له نفس
المجد الذي للآب باللاهوت. وقد صار نفس المجد للناسوت عندما "جلس عن يمين
أبيه" الإبن هنا يرى ما بعد الصليب، هو يرى الصليب كأنه حدث ويرى ما سيحدث
بعده من قيامة وجلوس في العرش.
بالمجد الذي كان
لي= المسيح كان له المجد دائماً منذ الأزل أي أن مجد الآب هو نفس مجد الإبن ولو
أنه أخلى ذاته منه في أيام تجسده. وكان إخلاء المسيح لذاته يعني أنه ظهر في صورة
لا تُقْبَلْ (أش2:53) ولا يمكن أن يظهر في مجد، فهي ستكون مهمة عار وذل ومهانة
وقبول للموت. والمسيح الآن يطلب ما بعد ذلك من إستعلان لاهوته ووحدته مع الآب. وهذا
المجد الذي يطلبه هو ليس في إحتياج إليه بل هو مجده. لكنه يطلبه لجسده أي الكنيسة.
فالإخلاء يعني الإخفاء عن أعين الناس ومدارك الشيطان والآن المسيح يطلب إستعلان ما
هو له عند ذات الآب. قبل كون العالم= قبل كون العالم والخليقة لم يكن هناك سوى
الله. وهذه العبارة تصريح واضح بلاهوته.
آية (6):
"أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم كانوا لك وأعطيتهم لي وقد حفظوا كلامك."
أنا أظهرت إسمك=
توازي أنا مجدتك (آية4). وهي تعني أظهرت كل صفاتك ومحبتك الأبوية للمؤمنين وكل
إمكانياتك وقدرتك. وهذه المعرفة حياة آية (3). وهذا هو العمل الذي أكمله المسيح
بطاعته للآب حتى الصليب وبأعماله العجيبة وتعاليمه التي أظهرت أن الآب يعمل فيه.
فإسم الله يشير للحضور الإلهي ذاته. وهذا معنى ترديد صلاة يسوع للشعور بحضرته.
فالإسم هو إشارة للكيان كله. وهذا ما تعنيه الكنيسة إذ تبدأ كل صلاة أو اجتماع
"بإسم الآب والإبن.." ليحل الله وسطنا ونسمع صوته.
الذين أعطيتني= ليس
كل الناس قد قبلوا هذا الإستعلان. والذين أعطيتني تشير لمن إنفتحت أعينهم وقبلوا
رسالة المسيح، هؤلاء الذين إجتذبهم الآب (يو44:6،65) وهذا الإختيار يُنسب أيضاً
للمسيح (يو32:12 + 16:15). وواضح أن هناك من يرفض هذا الإختيار كيهوذا. فحرية
القبول مكفولة للجميع. الذين أعطيتني= التلاميذ وكل المؤمنين عبر العصور. كانوا
لك= [1] هؤلاء التلاميذ كانوا يعرفونك ويؤمنون بك مثل كل اليهود ومثل شاول
الطرسوسي وكان لهم علاقة معك لا يعرفها سواك. [2] وقد تفهم أن الله خلق العالم
كله، وأن العالم كله كان لله بحسب الخلق الأول، والله له سلطان على العالم كله وهو
الذي يعتني بكل خليقته. الكل خاصة الآب. وأعطيتهم لي= الله حينما رأى إستقامة قلب
التلاميذ وأنهم أرضاً خصبة وأنهم سرعان ما آمنوا به سلمهم للمسيح ليكمل خلاصهم
وفداءهم. وتفهم عن الخلق الثاني الذي فيه تجددت بنويتنا "إذ ليس بغيره
الخلاص". كانوا تحت سلطان عدل الله فصاروا تحت رحمته فإنتقلوا بذلك من الموت
إلى الحياة. فالخليقة كانت كلها لله ولكنها ضلت وأتى الإبن ليعيد الخليقة لله.
وذلك بأن وحدنا فيه فصرنا "أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أف30:5).
حفظوا كلامك= كلمة
حفظ هنا تعني العناية مع السهر والواسطة الوحيدة لحفظ كلمة الله هي في إطاعتها
والعمل بها. وعلينا أن نحفظ كلمة الله ككنز في قلوبنا ونسهر عليها ونقبلها ونهتم
بتنفيذها. وحفظ كلمة الله هو التلمذة الحقيقية لله، ومن يتأمل فيها يكتشف المسيح
كلمة الله. ولكن قول السيد المسيح هنا حفظوا كلامك تعنى حفظوا كلامك بأن آمنوا بي
وصدقوني. وهذا يفهم من الآيات (7،8). وبهذا نفهم أن المسيح أظهر الآب (إسم الآب):-
1. للذين يحفظون الوصايا.
2. آمنوا بالمسيح "علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك"
3. علموا "أني خرجت من عندك" (فهموا سر التجسد)= المسيح هو الله المتجسد.
آية (7):
"والآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك."
المسيح هنا يشرح
ثمرة حفظهم لأقوال الله، كلمة الآب. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع
الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). فهم أدركوا أن المسيح جاء
ليستعلن الآب قولاً وفعلاً، وصدقوا أن المسيح جاء من عند الآب. وأن كل أقواله
وأعماله هي من عند الآب، بل أن كل أعمال التلاميذ هي هبات من عند الآب. وأن كل ما
للمسيح هو من الآب. إذاً من يحفظ كلام الله، يدرك من هو المسيح ويقبله ويؤمن إذ
يعرفه فتكون له حياة.
الآن= وهو مقبل إلى الموت. فبينما يفصل الموت بين إنسان وإنسان
إلاّ أنه بموت المسيح ستزداد الرابطة بينه وبين تلاميذه وسيعرفونه تماماً كمخلص وإله فادي.
آية (8):
"لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقينا أني خرجت من عندك وآمنوا انك أنت أرسلتني."
نلاحظ هنا درجات الإيمان:
1- قبلوا= رحبوا بالمسيح قلبياً، تشير لفرحهم
ومشاعرهم تجاهه، مثل هذا يطيع بدون معرفة كثيرة ثم تبدأ المعرفة.
2- علموا= هنا بدأوا التمييز والحكم بالعقل فحكموا على كلام
المسيح أنه سماوي. هنا بدأت المعرفة. قبول المسيح أعطاهم إستنارة بها عرفوا المسيح
وأنه من عند الله. كما قال المسيح لبطرس "أبي أعلن لك"
3- آمنوا= هنا كان القرار والإرادة بعزيمة ثابتة ملتهبة بنار القلب
وملهمة بنور العقل. هنا إيمان بالعمل الذي جاء من أجله المسيح من عند الآب. ومن هو المسيح. هذا إيمان بوعي.
وهنا نرى التلاميذ
وقد وصلوا لدرجة اليقين في معرفتهم للمسيح. فالمسيح أعطاهم ما إستلمه من الآب وكان
قبولهم للكلمة هو سر إنفتاح بصيرتهم على المسيح ومعرفتهم له إلى درجة اليقين=
علموا يقيناً= والكلمة الأصلية تفيد معنى أنهم علموا حقاً وبالحقيقة. فالإنسان قد
يكون على يقين من أمر ما ولكنه ليس الحق بالضرورة. والحق هو الله. وقبول الحق لا
يأتي بالفهم والمناقشة بل بالطاعة. لذلك كل ما سمع وصايا الله وأطاعها ونفذها
سيكتشف سهولتها وجمالها مهما بلغت في مظهرها الخارجي من صعوبة ظاهرية في التنفيذ.
خرجت= تفيد التجسد.
أرسلتني= تفيد العمل الذي أرسل من أجله وهو الفداء والمسيح سيبني على هذه الكلمات
ما سيأتي فهو ليس من العالم لذلك رفضه العالم وصلبه. ولذلك كل من يقبله ويؤمن به
ويتحد به وينضم إليه سيصير هو أيضاً ليس من العالم وسيضطهده العالم وهذا ما حدث مع
المسيح وما سيحدث للتلاميذ (يو18:15-21 + 1يو13:3 + 1يو5:4،6).
آية (9): "من
أجلهم أنا اسأل لست اسأل من اجل العالم بل من اجل الذين أعطيتني لأنهم لك."
أنا أسأل= في صلاتي
الشفاعية هذه. في هذه الآية يسأل عن التلاميذ، ثم في آية (20) يسأل عن كل
المؤمنين. لست أسأل من أجل العالم= المسيح يسأل ويشفع عن الذين كانوا للآب وأعطاهم
الآب له ليكمل خلاصهم (يو24:10-26 + أر16:7 + يو42:8-44). وليس من أجل من لازال
يحيا في شره غير مؤمن بالمسيح. هؤلاء يسميهم العالم. فالمسيح حقاً مات من أجل كل
العالم ولكن ليس كل العالم قد تمتع بالغفران وأنهم أصبحوا من جسد المسيح. والمسيح
صلي على الصليب "يا أبتاه إغفر لهم" لكن من تاب وآمن هو من غفر له. فكيف
يصلي المسيح عن من لا يزال في شره لكي يحفظه الآب، فهو يطلب أولاً إيمانه ثم يطلب
أن يحفظه الآب. لذلك أرسل تلاميذه ليكرزوا به ومن يؤمن سيترك العالم فتكون هذه
الصلاة من أجله. وصلاة المسيح المسموعة هذه وأنه يطلب لأجل تلاميذه الذين آمنوا به
هي من أجل أن يعرفوا محبته لهم.
آية (10):
"وكل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي وأنا ممجد فيهم."
كل ما هو لك فهو لي
وكل ما هو لي فهو لك= نرى هنا الآب والإبن على مستوى واحد فالمؤمنون هم تابعين
للآب بقدر ما هم تابعون للإبن، أو أن الإيمان بالمسيح يعتبر تأكيداً لتبعية المؤمن
لله الآب. المسيح يقول هذا حتى لا يفهموا أنه أخذ شيئاً حديثاً لم يكن له من قبل
لأنه قال "الذين أعطيتني" بل هم له كما للآب. ولكن هم صاروا جسده، صاروا
من لحمه ومن عظامه. وكونهم صاروا جسده فهذا لا ينهي علاقتهم بالآب. فهو والآب
واحد. وكل ما للآب هو للإبن وكل ما للإبن هو للآب. ولماذا يسأل المسيح عنهم؟
1) لأنهم لك= هم أولادك وخاصتك وأنت مهتم بهم.
2) كل ما هو لي فهو لك= هم أيضاً للمسيح، سعي المسيح لأجل خلاصهم.
3) وأنا ممجد فيهم= المسيح من هو وعلاقته بالآب هم سيعلنوها للعالم كله.
4) ولست أنا بعد في العالم= (آية11) المسيح لا يريد أن تركه للعالم يسبب لهم أي ضرر.
ونلاحظ أن في إمكان
أي مؤمن أن يقول لله كل ما هو لي فهو لك ونشترك مع المسيح في هذه العبارة. أمّا
الشق الثاني.. كل ما هو لك فهو لي= فهو قول لا يجرؤ ملاك أو إنسان، بل ولا أي
مخلوق أن يقوله. هذا الكلام لا يقوله سوى الإبن الواحد مع الآب ولهم نفس الطبيعة
والجوهر. وفيه تأكيد واضح للاهوته. ألأأن
وأنا ممجد فيهم=
مجد الطبيب الماهر يظهر في شفاء مرضاه. ومجد المسيح ظهر في تجديد خليقة المؤمنين
وفي ثمارهم. وتشير لأن صفات المسيح قد إنطبعت في تلاميذه "هم لبسوا المسيح"
(رو14:13). فصار الناس يرون في تلاميذ المسيح صورة المسيح. فإيمانهم إذاً أبرز
للناس مجده الإلهي. ولاحظ أن المسيح في محبته لهم لم يرى إنكارهم وضعفهم فهو قصبة
مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ، بل أقام منهم أعمدة الكنيسة. ونلاحظ أيضاً
في هذه الآية أن الآب ممجد في التلاميذ فكل ما هو للإبن هو للآب أيضاً، وهذا ما
يشير إليه قول السيد المسيح "لكي يرى الناس أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم.."
آية (11):
"ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا أتي إليك أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن."
أتى الوقت الذي
سيفارق المسيح تلاميذه ليذهب للسماء ويمارس عمله الشفاعي عنهم. وهنا نرى نموذج
لهذا العمل الشفاعي. والمسيح يعرف أن للعالم قوة وإمكانية أن يبتلع تلاميذه بالشر
المحيط والجذب العنيف والإغراء الذي له قوة شيطانية. والشيطان له وسيلتين يهاجم
بها المؤمنين [1] الإغراء بملذات العالم [2] الآلام والإضطهاد. وهذا الأسلوب إتبعه
مع الرب يسوع نفسه. ففي التجربة على الجبل بدأ بإغوائه بملذات العالم، فلما رفض
هيج عليه اليهود ورؤساء كهنتهم والرومان. ولكن هل حقاً سيترك المسيح العالم بعد
صعوده؟ قطعاً لا. فوعده أنه معنا للأبد (مت20:28). فلماذا يقول هذا؟ التلاميذ الآن
في حالة حزن إذ أنهم يشعرون أنه سيفارقهم، وهم حتى الآن لا يدركون من هو المسيح
بالضبط. فهذه الصلاة لتعطيهم شعوراً بأن هناك حماية إلهية ستحيطهم حتى ولو فارقهم
المسيح بالجسد، وهذا يتضح من آية (13).
أيها الآب القدوس=
هذه الكلمات لم ترد في الكتاب المقدس سوى هنا، فالحل الوحيد أمام التجارب الشريرة
هو الإلتجاء إلى قداسة الآب. فقداسة الآب هي حصن الذين في العاصفة معرضين للتهديد
والإغراء من دنس العالم أو معرضين للإرتداد أمام ضغوط إضطهاد العالم. القداسة هي
الإرتفاع والسمو عن الأرضيات بكل ما فيها. وقداسة الله هي قوة قادرة أن تحفظ
أولاده من إغراءات وإضطهاد العالم. فقداسة الآب هي الضمان الأوحد لقداسة المؤمنين.
وهنا يربط المسيح بين القداسة والوحدة. حيثما توجد القداسة يوجد الحب والوحدة، وحيثما
توجد الخطية يوجد الشقاق والحسد. لذلك علمنا السيد أن نصلي هكذا "ليتقدس
إسمك" فالإلتجاء إلى اسم الله القدوس ليتقدس في حياتنا وأفكارنا وعيوننا
وقلوبنا وضمائرنا، هو قوة غالبة وحصن منيع "إسم الرب برج حصين يركض إليه
الصديق ويتمنع" (أم10:18).
إحفظهم في إسمك=
الكتاب يستخدم إسم الله ليقول الله. ويكون المعنى إحفظهم فيك. وإسم الآب يحمل معنى
قوته وحكمته وقدراته ومحبته وقداسته وصفاته كلها ورحمته (وهذه قد أعلنها المسيح).
وحفظهم في الإسم يراد به حفظهم ثابتين في دائرة هذا الحق المعلن متحصنين في ذات
الله وفي شخصه. فالإسم هنا هو طاقة وقوة حفظ. إذاً هي قوة محبة الله التي تبطل
الأنانية والغرور والذات ليكونوا واحداً، والحفظ يعني أن يشمل الآب التلاميذ بهذه
الطاقة والقوة، فله قوة يجذب بها بعد أن يستعلن نفسه لهم ثم يحفظهم حتى لا يخرجوا
خارجاً. ولذلك فمجرد النطق بالإسم (إسم الله) يدخلنا في مجال قوة عمله وكأنه هتاف
بالدخول إلى حضرته. لذلك تفتتح كل صلاة باسم الآب والإبن والروح القدس. ومن هنا
تأتي قوة صلاة يسوع. هنا نرى أن إسم الله
هو بيئة مقدسة محصنة يريد المسيح أن يحفظ تلاميذه داخلها فترتد عنهم سهام إبليس.
إسم الله قوة تحيط بالإنسان وتحرره. فإذا شعرنا بروح يأس أو شهوة فلنردد إسم يسوع
فهو قوة تعطي النصرة.
ليكونوا واحداً=
(أف1:4-6) واحداً في المحبة والإرادة والغاية والفكر والإهتمامات والتسليم لله،
وفي هذا فالآب والإبن واحد= الكنيسة هي الوجه الظاهر للملكوت، وملكوت الله منظم
جداً وكل ما فيه مترابط بمحبة في وحدة وإنسجام مقدسين. ولذا فالمسيح يطلب أن تبعد
الإنقسامات عن الكنيسة. فالإنقسامات هي حروب شيطانية تقسم جسد المسيح وكل مملكة
تنقسم على ذاتها تخرب. والمسيح يريد أن تكون كنيسته صفاً واحداً وإرادة واحدة.
وإذا تقدس الجميع بالقوة التي لإسم الآب، سيحفظهم الآب ويوحدهم كأعضاء لجسد
المسيح. وهذه هي الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية (أع42:2-47).
وهذه الوحدة هي في جسد المسيح وكل مؤمن هو عضو في جسد المسيح له دوره ووظيفته
وموهبته الخاصة بحيث يتكامل الجميع كجسد واحد (1كو1:12-30). وهذه الوحدة هي وحدة
تقديس وطهارة فخارج القداسة والتقديس يوجد العالم. والقداسة في مفهومها هي إنفصال
عن العالم. والوحدة التي ستجمع التلاميذ هي في إنفصالهم عن العالم بإنجذابهم
المشترك نحو الآب وهذه هي القداسة. وهذه لا تأتي إلاّ بالإلتصاق بالله في صلاة بلا
إنقطاع ودراسة وتأمل في الكتاب المقدس. وهذه الوحدة قوتها من المسيح وفيه. وليست
علاقات إجتماعية أو ما شابه بل هي مؤسسة على إتحاد بالمسيح. ولاحظ أن الشيطان
يحارب هذه الوحدة ولا يطيقها. لكن إسم الآب قوة حفظ من تجارب العدو. كما نحن=
المسيح في وحدة مع الآب وهو يطلب أن قوة الوحدة التي بينه وبين الآب تعمل في
المؤمنين وتوحدهم. ويكون إتحادهم إنعكاس للوحدة والحب ال