منتدي الشهيدة دميانة
بسم الاب والابن والروح القدس
الالة الواحد امين
اهلا بكم فى منتدى مجموعة الشهيدة دميانة والاربعين عذراء
يسعدنا انضمامك الينا سجل دخولك الان

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدي الشهيدة دميانة
بسم الاب والابن والروح القدس
الالة الواحد امين
اهلا بكم فى منتدى مجموعة الشهيدة دميانة والاربعين عذراء
يسعدنا انضمامك الينا سجل دخولك الان
منتدي الشهيدة دميانة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

مرحبا بالاعضاء والزوار

اد
ads
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 14 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 14 زائر

لا أحد

أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 218 بتاريخ الجمعة 6 مايو 2011 - 16:36
المواضيع الأخيرة
» خلى الويندوز يبدأ بأسم الاب ويغلق بامضوا بسلام بصوت قداسة البابا+مفاجاه جامده جدا جدا 25 فيديو عن عمل صلبان واشكال بالسعف
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 11 أكتوبر 2015 - 23:35 من طرف ashraf zaher

» اسطوانة شامله كل الحان ومدايح وعظات ومقالات الصوم الكبير
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 18 مارس 2015 - 12:12 من طرف زائر

» استايلك المجانى والمميز معانا فى الابداع العربي
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 17 مارس 2015 - 23:14 من طرف ابن النيل

» الأربعاء, 4 مارس 2015 --- 25 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 3 مارس 2015 - 21:01 من طرف ramzy1913

» الثلاثاء, 3 مارس 2015 --- 24 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 2 مارس 2015 - 23:30 من طرف ramzy1913

» الأثنين, 2 مارس 2015 --- 23 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 1 مارس 2015 - 22:58 من طرف ramzy1913

» الأحد, 1 مارس 2015 --- 22 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 28 فبراير 2015 - 23:03 من طرف ramzy1913

» السبت, 28 فبراير 2015 --- 21 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 27 فبراير 2015 - 22:59 من طرف ramzy1913

» الجمعة, 27 فبراير 2015 --- 20 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 26 فبراير 2015 - 23:24 من طرف ramzy1913

» الخميس, 26 فبراير 2015 --- 19 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 26 فبراير 2015 - 6:01 من طرف ramzy1913

» الأربعاء, 25 فبراير 2015 --- 18 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 24 فبراير 2015 - 23:13 من طرف ramzy1913

» الثلاثاء, 24 فبراير 2015 --- 17 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 23 فبراير 2015 - 20:15 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة, 13 فبراير 2015 --- 6 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 13 فبراير 2015 - 11:30 من طرف ramzy1913

» قراءات الخميس, 12 فبراير 2015 --- 5 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 11 فبراير 2015 - 20:25 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء, 11 فبراير 2015 --- 4 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 10 فبراير 2015 - 22:41 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 10 فبراير 2015 --- 3 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 9 فبراير 2015 - 21:27 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 9 فبراير 2015 --- 2 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 8 فبراير 2015 - 23:06 من طرف ramzy1913

» الأحد, 8 فبراير 2015 --- 1 أمشير 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 7 فبراير 2015 - 23:59 من طرف ramzy1913

» راءات السبت, 7 فبراير 2015 --- 30 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 7 فبراير 2015 - 0:10 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة, 6 فبراير 2015 --- 29 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 6 فبراير 2015 - 10:52 من طرف ramzy1913

» الأربعاء, 4 فبراير 2015 --- 27 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 5 فبراير 2015 - 7:57 من طرف ramzy1913

» اسطوانة صلوات الاجبية المسموعة اصغر اسطوانة بمساحة 45 ميجا
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 4 فبراير 2015 - 14:06 من طرف pmg

» الأربعاء, 4 فبراير 2015 --- 27 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 4 فبراير 2015 - 6:04 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الثلاثاء, 3 فبراير 2015 --- 26 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 2 فبراير 2015 - 22:40 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأثنين, 2 فبراير 2015 --- 25 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 2 فبراير 2015 - 6:17 من طرف ramzy1913

» الأحد, 1 فبراير 2015 --- 24 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 1 فبراير 2015 - 8:27 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة, 30 يناير 2015 --- 22 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 30 يناير 2015 - 6:54 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء, 28 يناير 2015 --- 20 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 28 يناير 2015 - 5:50 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 27 يناير 2015 --- 19 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 27 يناير 2015 - 7:03 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 26 يناير 2015 --- 18 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 25 يناير 2015 - 22:40 من طرف ramzy1913

» الأحد, 25 يناير 2015 --- 17 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 24 يناير 2015 - 19:55 من طرف ramzy1913

» قراءات السبت, 24 يناير 2015 --- 16 طوبة 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 24 يناير 2015 - 7:10 من طرف ramzy1913

» قراءات الخميس, 1 يناير 2015 --- 23 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 1 يناير 2015 - 1:16 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء, 31 ديسمبر 2014 --- 22 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 31 ديسمبر 2014 - 4:24 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 30 ديسمبر 2014 --- 21 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 29 ديسمبر 2014 - 21:43 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 29 ديسمبر 2014 --- 20 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 28 ديسمبر 2014 - 22:09 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأحد, 28 ديسمبر 2014 --- 19 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 27 ديسمبر 2014 - 23:13 من طرف ramzy1913

» قراءات السبت, 27 ديسمبر 2014 --- 18 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 26 ديسمبر 2014 - 23:16 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة, 26 ديسمبر 2014 --- 17 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 26 ديسمبر 2014 - 11:16 من طرف ramzy1913

» قراءات الخميس, 25 ديسمبر 2014 --- 16 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 25 ديسمبر 2014 - 12:40 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء, 24 ديسمبر 2014 --- 15 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 24 ديسمبر 2014 - 7:33 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 23 ديسمبر 2014 --- 14 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 23 ديسمبر 2014 - 6:07 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 22 ديسمبر 2014 --- 13 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 22 ديسمبر 2014 - 8:11 من طرف ramzy1913

» b-r-cross القراءات اليومية الأحد, 21 ديسمبر 2014 --- 12 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 20 ديسمبر 2014 - 19:32 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 15 ديسمبر 2014 --- 6 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 14 ديسمبر 2014 - 20:47 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأحد, 14 ديسمبر 2014 --- 5 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 13 ديسمبر 2014 - 19:44 من طرف ramzy1913

» قراءات السبت, 13 ديسمبر 2014 --- 4 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 13 ديسمبر 2014 - 5:44 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة, 12 ديسمبر 2014 --- 3 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 12 ديسمبر 2014 - 6:10 من طرف ramzy1913

» قراءات الخميس, 11 ديسمبر 2014 --- 2 كيهك 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 10 ديسمبر 2014 - 23:23 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 9 ديسمبر 2014 --- 30 هاتور 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 9 ديسمبر 2014 - 3:00 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 8 ديسمبر 2014 --- 29 هاتور 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 8 ديسمبر 2014 - 5:07 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأحد, 7 ديسمبر 2014 --- 28 هاتور 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 6 ديسمبر 2014 - 21:44 من طرف ramzy1913

» قراءات السبت, 6 ديسمبر 2014 --- 27 هاتور 1731
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 6 ديسمبر 2014 - 6:01 من طرف ramzy1913

» برنامج Coptic Calendar
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 5 أكتوبر 2014 - 20:15 من طرف سان جورج

» كلمات ترنيمة انا السامرية
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 16 يناير 2014 - 12:01 من طرف makariosgadallh

» قراءات الثلاثاء, 13 اغسطس 2013 --- 7 مسرى 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 12 أغسطس 2013 - 22:26 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 12 اغسطس 2013 --- 6 مسرى 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 12 أغسطس 2013 - 0:21 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأحد, 11 اغسطس 2013 --- 5 مسرى 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 11 أغسطس 2013 - 0:12 من طرف ramzy1913

» العذراء مريم فخر ورائدة البتولية
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 10 أغسطس 2013 - 15:49 من طرف ramzy1913

» قراءات السبت, 10 اغسطس 2013 --- 4 مسرى 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 9 أغسطس 2013 - 22:15 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأربعاء, 7 اغسطس 2013 --- 1 مسرى 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 7 أغسطس 2013 - 3:14 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 6 اغسطس 2013 --- 30 أبيب 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 6 أغسطس 2013 - 6:52 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 5 اغسطس 2013 --- 29 أبيب 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 5 أغسطس 2013 - 8:04 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأحد, 4 اغسطس 2013 --- 28 أبيب 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 4 أغسطس 2013 - 3:45 من طرف ramzy1913

» قراءات السبت, 3 اغسطس 2013 --- 27 أبيب 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 4 أغسطس 2013 - 3:21 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة, 2 اغسطس 2013 --- 26 أبيب 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 4 أغسطس 2013 - 2:58 من طرف ramzy1913

» نهنئ البابا تواضروس باليوبيل الفضي لرهبنته
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 31 يوليو 2013 - 21:26 من طرف ramzy1913

» نيران الخدمةأولاً: نار الخطايا والشهوات (نار الخطية
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالإثنين 29 يوليو 2013 - 7:16 من طرف ramzy1913

» لماذا يصلى المسيحيون ناحيـة الشـــــــرق ؟
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 28 يوليو 2013 - 11:51 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية قراءات الأحد الثالث من أبيب28 يوليو 2013 --- 21 أبيب 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 28 يوليو 2013 - 9:05 من طرف ramzy1913

» لماذا يضطرب قلبك وينزعج؟
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 27 يوليو 2013 - 8:28 من طرف ramzy1913

» كل سنه وانتوا طيبين بمناسبه عيد الرسل
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 12 يوليو 2013 - 12:10 من طرف ramzy1913

» القانون الروحى
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 12 يوليو 2013 - 8:15 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة, 28 يونية 2013 --- 21 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 28 يونيو 2013 - 5:51 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء, 26 يونية 2013 --- 19 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 26 يونيو 2013 - 6:52 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 25 يونية 2013 --- 18 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 25 يونيو 2013 - 6:12 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 25 يونية 2013 --- 18 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 25 يونيو 2013 - 6:12 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 25 يونية 2013 --- 18 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 25 يونيو 2013 - 6:12 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 25 يونية 2013 --- 18 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 25 يونيو 2013 - 6:12 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء, 25 يونية 2013 --- 18 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 25 يونيو 2013 - 6:12 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 24 يونية 2013 --- 17 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 23 يونيو 2013 - 20:34 من طرف ramzy1913

» قراءات الأثنين, 24 يونية 2013 --- 17 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 23 يونيو 2013 - 20:34 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الأحد, 23 يونية 2013 --- 16 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالسبت 22 يونيو 2013 - 15:39 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة من الأسبوع السابع من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 20 يونيو 2013 - 20:23 من طرف ramzy1913

» قراءات الخميس من الأسبوع السابع من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 20 يونيو 2013 - 6:31 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء من الأسبوع السابع من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 19 يونيو 2013 - 5:19 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء من الأسبوع السابع من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 19 يونيو 2013 - 5:19 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء من الأسبوع السابع من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 19 يونيو 2013 - 5:19 من طرف ramzy1913

» مَن نسمح له يدخل قلوبنا ليفرحها؟
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 18 يونيو 2013 - 13:56 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء من الأسبوع السابع من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 18 يونيو 2013 - 5:51 من طرف ramzy1913

» قراءات الثلاثاء من الأسبوع السابع من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالثلاثاء 18 يونيو 2013 - 5:51 من طرف ramzy1913

» قراءات عيد مجيء المسيح إلى أرض مصر
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأحد 16 يونيو 2013 - 7:23 من طرف ramzy1913

» قراءات السبت من الأسبوع السادس من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 14 يونيو 2013 - 8:00 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة من الأسبوع السادس من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 14 يونيو 2013 - 7:43 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة من الأسبوع السادس من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 14 يونيو 2013 - 7:33 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة من الأسبوع السادس من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 14 يونيو 2013 - 7:30 من طرف ramzy1913

» قراءات الجمعة من الأسبوع السادس من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالجمعة 14 يونيو 2013 - 7:29 من طرف ramzy1913

» القراءات اليومية الخميس 13 يونية 2013 --- 6 بؤونة 1729
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالخميس 13 يونيو 2013 - 6:37 من طرف ramzy1913

» قراءات الأربعاء من الأسبوع السادس من الخماسين المقدسة
تفسير انجيل لوقا‏ Emptyالأربعاء 12 يونيو 2013 - 6:33 من طرف ramzy1913

Google
Google
GL7G765ADT2X

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

تفسير انجيل لوقا‏

اذهب الى الأسفل  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

1تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير انجيل لوقا‏ السبت 2 يناير 2010 - 16:11

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 1

جاء الأصحاح الأول من هذا السفر أشبه بمقدَّمة له تكشف عن غاية السفر كله ألا وهو الإعلان عن شخص المسيَّا بكونه صديق البشريّة الحقيقي، الذي يهبها البهجة، ويحول حياتها إلي أنشودة تسبيحٍ مفرحٍ. ففي هذا الأصحاح نجد الإعداد لمجيء هذا الصديق الفريد الذي يهب اليصابات ابنًا في شيخوختها ينزع عارها، ويفتح لسان زكريَّا الكاهن بالتسبيح عند ولادة السابق للمسيح، وتنعم فتاة الناصرة الفقيرة والبتول بشارة سماويّة فائقة، حتى الجنين في أحشاء اليصابات يَّتهلَّل ويرقص مبتهجًا. هذه جميعها صور تمهيديّة تكشف عن شخص السيِّد المسيح نفسه، وعمله في حياتنا كصديقٍ سماويٍ، قادر أن ينزع عقرنا ويفتح لساننا، ويردّ لنا بهجتنا.

1. مقدَّمة السفر 1-4.

2. البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا 5-17.

3. صمت زكريَّا 18-25.

4. البشارة بالتجسّد الإلهي 26-38.

5. لقاء مريم باليصابات 39-45.

6. تسبحة العذراء 46-56.

7. ميلاد يوحنا وختانه 57-66.

8. نبوَّة زكريَّا الكاهن 67-80.

1. مقدَّمة السفر

افتتح معلِّمنا لوقا إنجيله بالعبارات التاليّة:

"إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصّة في الأمور المتيقِّنة عندنا.

كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدَّامًا للكلمة.

رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبَّعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب إليك أيها العزيز ثاوفيلس.

لتعرف صحة الكلام الذي عُلّمت به" [1-4].

في هذه المقدَّمة كتبت باليُّونانيّة في أسلوب بليغ نلاحظ الآتي:

1. ظروف الكتابة هي وجود كثيرين ممَّن كتبوا عن الأمور المتيقِّنة الخاصة بالسيِّد المسيح وأعماله الخلاصيّة. يرى قلَّة من الدارسين أنه يقصد بهذا الإنجيليِّين مرقس ومتّى، لكن الرأي الغالب أنه يقصد أناسًا غير مخلِّصين حاولوا الكتابة عن شخص السيِّد المسيح بفكرٍ خاطئٍ... لكن أعمالهم لم تقبلها الكنيسة الأولى كأسفار قانونيّة. ويميز العلامة أوريجينوس بين إنجيل معلِّمنا لوقا (وأيضًا بقيّة الأناجيل) التي كُتبت بوحي الروح القدس وتسلّمتها الكنيسة، وبين المحاولات البشريّة لكتابة أناجيل، فيقول: [معني كلمة "أخذوا" أنهم حاولوا، وفي هذا إتهام موجَّه ضدَّهم ضمنيًا، إذ حاولوا كتابة الأناجيل دون إرشاد الروح القدس، أما البشيرون متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا فلم يحاولوا التأليف إنما امتلأوا بالروح القدس فكتبوا الأناجيل... أربعة أناجيل هي القانونيّة، منها وحدها نستقي إيماننا بربِّنا ومخلِّصنا.]

يقول القدّيس البابا أثناسيوس الرسولي: [ينتهر لوقا الطوباوي ما هو من صنع الناس مسلِّمًا إيَّانا ما هو مُرْوٍٍ من القدّيسين... فكل قدّيس يتسلّم التقاليد يساهم بغير تحريف أن يثبت تعاليم الأسرار. لذلك تطالبنا الكلمة الإلهيّة بالتلمذة على أيدي هؤلاء. إذ هم معلِّمون لنا بالحق، ولهؤلاء وحدهم يلزمنا أن نصغي، لأن لهم وحدهم "صادقة هي الكلمة ومستحقَّة كل قبول" (1 تي 1: 15). هؤلاء ليسوا تلاميذ سمعوا من الآخرين بل هم شهود عيان وخدَّام للكلمة إذ سمعوا منه ما قد سلَّموه.]

ب. يكتب معلِّمنا لوقا "الأمور المتيقِّنة" والأكيدة، لذلك يشبِّه القدّيس أمبروسيوس هذا السفر بالبيت الذي يُبنى علي الصخر، المرتبط بالإيمان الكامل الثابت غير المتزعزع، هذا الإيمان يقوم على الفهم الروحي والإدراك والتمييز بين الحق والباطل، وليس على المعجزات المجرّدة.

بنفس المعنى يقول العلامة أوريجينوس: [يعبِّر القدّيس لوقا عن مشاعره بقوله: "الأمور المتيقِّنة عندنا". لقد عرف القصّة بكل يقين الإيمان والعقل فلم يتردّد في تصديقها، وهذا حال المؤمن. لقد بلغ قمَّة الإيمان كقول النبي: "ثبِّت كلامك في قلبي" (مز 119). لذلك يقول الرسول عن المؤمنين الأقوياء الأشدَّاء أنهم متأصِّلون ومتأسِّسون في الإيمان (أف 3: 18). الإنسان المتأصِّل والمؤسّس في الإيمان لا يمكن أن ينهدم أو يسقط بُناؤه حتى إن هبَّت العاصفة وهاجت الرياح ونزلت الأمطار كالسيول عليه، لأن بِناءه مؤسّس ومتين. هذا ويليق بنا ألا نعتقد بأن قوّة إيماننا تقوم على الرؤيّة الملموسة أو هي ثمرة ذكاء أو عقل. لنترك غير المؤمنين يؤمنون خلال العلامات والمعجزات الظاهرة، أما المؤمن المحنَّك القوي فيسلك ويفكِّر بالروح مميِّزًا الحق من الباطل.]

ج. ما يسجله لنا معلِّمنا لوقا البشير إنما قبِله خلال "التسليم" أو ما نسميه "التقليد"، وهو الوديعة المُعاشة في حياة الكنيسة بالروح القدس تتسلّمها الأجيال خلال التسليم الشفوي والكتابي وخلال العبادة والسلوك... هذا ما أكَّده الإنجيلي بقوله "كما سلَّمها إلينا الذين كانوا من البدء معاينين وخدَّاما للكلمة".

علّق العلامة أوريجينوس علي العبارة السابقة مبرزًا نقطتين رئيسيَّتين في التسليم الكنسي: أولاً أن قوله "معاينين" لا يعني مجرد الرؤيا الجسديّة، إذ كثيرون رأوا السيِّد المسيح حسب الجسد ولم يدركوا شخصه ولا تمتَّعوا بعمله الخلاصي. ثانيًا أن المعاينة الروحيّة أو الإدراك الروحي تلتحم بالعمل، لذا قال "خدَّامًا للكلمة"، فلا انفصال بين الحياة الروحيّة التأمَّليّة والعمل، إذ يقول: [تأمَّل الرسل الله الكلمة لا بكونهم قد أبصروا المسيح المخلِّص المتجسّد، بل رأوا الله الكلمة (هنا لا يقصد انفصال المسيح إلى شخصين إنما يؤكِّد التزامنا إدراك حقيقة المخلِّص المتجسّد). لو كانت رؤيّة المسيح بالجسد (مجردًا) يعني رؤيّة الله الكلمة، لكان هذا يعني أن بيلاطس الذي أسلم يسوع قد رأى الكلمة، وكذا يهوذا الذي أسلمه وكل الذين صرخوا: "أصلبه أصلبه" (يو 19: 15). هذا الفكر بعيدًا عنه تمامًا، إذ لا يستطيع غير المؤمن أن يرى كلمة الله. رؤيّة الله الكلمة أوضحها المخلِّص بقوله: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يو 14: 9).] كما يعلِّق على قوله: "كانوا منذ البدء معاينين وخدَّاما للكلمة" بقوله: [نستخلص من هذه الكلمات أن المعرفة قد تكون غاية في ذاتها، لكنه يتوِّجها العمل بمضمونها... فالاكتفاء بالمعرفة دون تطبيقها هو علم بلا نفع. وكما يرتبط العلم بالتطبيق العملي هكذا ترتبط المعرفة بخدمة الكلمة... فكلمة "معاينين" تعني المعرفة النظريّة، بينما تشير كلمة "خدَّام" للمعرفة التطبيقيّة.]

ظهر هذان الفكران للعلامة أوريجينوس بوضوح في كتابات القدّيس كيرلس الكبير والقدّيس أمبروسيوس. يقول القدّيس كيرلس الكبير: [يصف القدّيس لوقا رسل المسيح بأنهم عاينوا الرب، وفي ذلك يتّفق لوقا مع يوحنا، فقد كتب: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا، ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا" (يو 1: 14). كان لابد أن يظهر المسيح بالجسد، حتى نراه ونحس به، لأنه جلّ اسمه بطبيعته لا يُرى ولا يُلمس، فإنَّ يوحنا يقول أيضًا: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه الذي رأيناه بعيُّوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإنَّ الحياة أُظهرت لنا" (1 يو 1: 1). أتسمعون كيف أن الحياة ظهرت لنا فلمسناها بأيدينا ورأيناها بعيُّوننا؟ ظهر المسيح حتى ندرك أن الابن صار جسدًا، فرأيناه بصفته إنسانًا، وقبلاً لم نره باِعتباره إلهًا.]

بنفس المعنى يقول القدّيس أمبروسيوس: [رأى التلاميذ كلمة الرب وسمعوه... هؤلاء الذين شاهدوا مجد الكلمة مع موسى وإيليَّا (مت 16: 3) رأوا الرب يسوع، إذ شاهدوه في مجده، أما الآخرون (اليهود) فلم يروه هؤلاء الذين عرفوه حسب الجسد، إذ أُعطي للبصيرة الروحيّة لا للعيُّون الجسديّة أن ترى يسوع. لم يره اليهود مع أنهم أبصروه (جسديًا). أما إبراهيم فقد رآه كما هو مكتوب: "أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي، فرأى وفرح" (يو 8: 56) مع أنه بالتأكيد لم يره حسب الجسد... غير أن اليهود لم يروه، إذ "اِظلم قلبهم الغبي" (رو 1: 21)... عندما نرى الرب نرى عمانوئيل، فندرك أن الله معنا، أما من لا يبصر الله معه فإنَّه لا يعرف بعد مولود العذراء.]

إذن يكتب معلِّمنا لوقا البشير خلال التسليم الذي وُهب للذين عاينوا الرب ليس حسب الجسد فحسب، وإنما عاينوه في أعماقهم وأدركوا سّر حلوله فيهم وعمله في داخلهم. ونحن أيضًا إن أردنا أن نتفهَّم الإنجيل يلزمنا أن نتسلّم معاينة الرب فينا وتلاقينا معه، على صعيد الإيمان الحّي العملي، حتى لا نسمع كلمات التوبيخ التي وجهها السيِّد لفيلبس: "أنا معكم زمانًا هذه مدَّته ولم تعرفني يا فيلبس؟!" (يو 14: 9).

د. لم يلقِّب الإنجيلي الرسل بمعايني الكلمة فحسب، وإنما دعاهم أيضًا "خدَّامًا للكلمة" [2]. فإنَّ كان العمل الرسولي يقوم على معاينة الرب ببصيرة روحيّة فتدرك أسراره الإلهيّة، لكن دون انفصال عن العمل. وهكذا تلتحم المعرفة بالخبرة الروحيّة، والإيمان بالجهاد، والتأمَّل بالخدمة. يقول القدّيس أمبروسيوس: [نال الرسل هذه النعمة... لقد عاينوا، ويُفهم من هذا جهادهم للتعرُّف على الرب، وخدموا، ويفهم منه ظهور ثمار جهادهم.]

هـ. وُجه هذا الإنجيل للعزيز ثاوفيلس، وقد سبق لنا في المقدَّمة الحديث عن هذا الشخص. فكلمة "عزيز" هو لقب يُطلق على أصحاب المراكز الكبرى في الدولة الرومانيّة، لُقب به فيلكس (أع 23: 26؛ 24: 13)، وأيضًا فستوس (أع 26: 25). أما كلمة "ثاوفيلس" فتعني "محب الله"، لذلك يعلِّق القدّيس أمبروسيوس بقوله: [إن كنت تحب الله فهذه البشارة هي مكتوبة لك، وإن كانت قد كُتبت لأجلك، فأقبلها من الإنجيلي وديعة واحتفظ بها في أعماق نفسك: "احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا" (2 تي 1: 14). تأمَّلها في كل حين، وتحصن فيها على الدوام... فإنَّ أولى واجباتك هي الأمانة في هذه الوديعة التي لا يبليها سوس (هرطقة) ولا يفسدها صدأ.] ويقول العلامة أوريجينوس: [ربَّما يظن البعض أن الإنجيل قد كُتب لشخص يُدعى ثاوفيلس، لكن إن كنتم أيها السامعون جميعكم محبو الرب فأنتم ثاوفيلس. ثاوفيلس هو شخص صالح جدًا وقوي... فلا يوجد ثاوفيلس ضعيف. أقول أن كل "ثاوفيلس" هو قوي، مصدر قوَّته وقدرته هو كلمة الله.]

2. البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا

جاء السيِّد المسيح مخلِّصا للعالم، يهبه شبعًا داخليًا وفرحًا سماويًا، لذلك ففي الإعداد لمجيئه تمتَّعت اليصابات العاقر بإنجاب "يوحنا" الذي يعني "الله يتحنَّن أو يُنعم"، وانفتح لسان زكريَّا الصامت بالتسبيح. فإنَّ كانت اليصابات كامرأة تشير إلى الجسد، فبحنان الله ونعمته نُزع عن الجسد عاره، وتمتَّع بثمر روحي عجيب، بينما زكريَّا يمثِّل النفس وقد انطلقت في الداخل بروح التسبيح والفرح عوض الصمت القائم على العجز.

يحدّثنا القدّيس لوقا عن قصّة البشارة لزكريَّا بميلاد يوحنا بلغة العابد المتخشِّع، فيقول:

"كان في أيام هيرودس ملك اليهوديّة كاهن اسمه زكريَّا من فرقة أبيَّا،

وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات.

وكانا كلاهما باريْن أمام الله،

سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم.

ولم يكن لهما ولد، إذ كانت اليصابات عاقرًا،

وكان كلاهما متقدَّميْن في أيَّامهما" [5-7].

ويلاحظ في عرضه للقصّة الآتي:

ا. إذ كان القدّيس لوقا رجلاً علميًا كطبيبٍ، حدَّد بدقة تاريخ الحدَّث، أنه في أيام هيرودس الكبير ملك اليهوديّة، الابن الثاني لأنتيباس، الأدومي الأصل. تزوَّج عشر نساء، قتل إثنتين منهنَّ، وكان له أبناء كثيرون، أعدم أحدهم. وقتل أطفال بيت لحم، وفي فراش الموت طالب بقتل شرفاء القدس حتى لا يجد أحد مجالاً للبهجة بعد موته، لكنه مات قبل تحقيق أمنيَّته.

على أن الأحوال وسط هذا الجو القاتم سياسيًا ودينيًا، إذ توقَّفت النبوَّة أكثر من ثلاثة قرون، وعاش الكل في جوٍ من الفساد، ظهر إنسانان بارَّان أمام الله، هما "زكريَّا" ويعني "الله يذكر"، و"اليصابات" وهي الصيغة اليُّونانيّة للكلمة العبريّة "اليشبع" وتعني "الله يُقْسِم" أو "يمين الله". أنجب الاثنان "يوحنا" أي "الله حنَّان" أو "الله يُنعم". وكأنه وسط فساد هذا العالم، إذ نذكر الله ونلتحم بقسمه ومواعيده الصادقة ننعم بحنانه ونعمته الإلهيّة عاملة فينا.

يعلِّق القدّيس أمبروسيوس على التعبير: "كانا كلاهما بارَّيْن أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم" بقوله: [عبارة "بارّيْن أمام الله" لها مغزاها، فالأبرار أمام الناس ليسوا بالضرورة أبرارًا أمام الله. نظرة الإنسان تختلف عن نظرة الله، "لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فينظر إلى القلب" (1 صم 16: 7). فقد يبدو لي أن إنسانًا ما يستحق أن يُدعى بارًا، لكنه عند الرب ليس هكذا، لأن الدافع لقداسته هو التملُّق لا القلب البسيط. إذن فالإنسان لا يقدر أن يميِّز الخفيَّات، والمكافأة الكاملة هي أن نُحسب أبرارًا أمام الله، وكما يقول الرسول: "الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" (رو 2: 29). مطوّب بحق ذاك الذي يتبرَّر أمام الله! مطوّب بحق ذاك الذي يتأهَّل أن يسمع الرب يقول عنه: "هوذا إسرائيلي حقًا لا غشَّ فيه" (يو 1: 47). فالإسرائيلي الحقيقي هو الذي يرى الله ويُدرك أن الله يراه، كاشفًا خبايا قلبه.]

يوضَّح العلامة أوريجينوس معنى تعبير "بارّيْن أمام الله" بقوله: [قد لا يجد إنسان ما يشتكي به عليَّ بعد فحصه إيّاي، فإني بار أمام الناس... ولكن حكم الناس غير صحيح، فهم يجهلون إني يومًا ما أخطأت في الخفاء في داخل قلبي، ويجهلون إن كنت قد نظرت إلى امرأة واشتهيَّتها وعشت في زنا القلب. قد يراني الناس أتصدّق بحسب إمكانيَّاتي لكنهم يجهلون إن كنت أفعل ذلك لأجل وصيّة الله أم لطلب مديح الناس... طوبى للإنسان البار أمام الله، والذي مدْحه من الله، فالإنسان عاجز لا يقدر أن يحكم بعدل ووضوح. قد يمجِّد الناس من لا يستحق التمجيد، ويدينون من لا يستحق الإدانة. الله وحده عادل في المدح والإدانة.]

ويعلِّق العلامة أوريجينوس أيضًا على تعبير "بلا لوم" قائلاً: [قيل عن الكنيسة بأنها "مجيدة لا دنس فيها ولا غضَن" (أف 7: 25). ليس معنى هذا أن ابن الكنيسة لم يُخطئ قط، إنما يعيش في حياة التوبة. تعبير "بلا غضَن" يعني بغضه للإنسان العتيق وكفِّه عن الخطيّة، لذلك يكمِّل العبارة "لتكون مقدَّسة بلا عيب"، فقد ورثت النفس الخطيّة، لكنها تصير طاهرة بلا لوم إن زال عنها وسخ الخطيّة.]

هذا ويُعلن الإنجيل برِِّهما أمام الله وأنهما بلا لوم بالسلوك العملي في جميع وصايا الرب وأحكامه، وكأن البرّ الخفي يرتبط بطاعة الوصيّة وقبول أحكام الله؛ هذا هو طريق برّنا بالروح القدس الذي يهبنا في استحقاقات الدم أن ندخل إلى الوصيّة ونعيشها بالطاعة في فرح، ونتفهّم أحكام الله وتدابيره فنحمل روح التمييز فينا.

إذ عالج القدّيس أغسطينوس موضوع "البرّ في المسيح" حدَّثنا عن برّ زكريَّا واليصابات معلنًا أن رجال العهد القديم حُسبوا أبرارًا أيضًا في المسيح، خلال رجائهم في المسيَّا المنتظر الذي يقدَّم حياته مبذولة ثمنًا لبرّنا. ففي حديثه عن "الطبيعة والنعمة" يورد كلمات القدّيس أمبروسيوس، قائلاً: [بلا شك عاش رجال العهد القديم بمثل هذا الإيمان في المسيح حتى قبل موته (على الصليب). فالمسيح وحده يرسل الروح القدس المعطَى لنا، خلاله تنسكب المحبَّة في قلوبنا، وبها وحدها يُحسب الأبرار أبرارًا.] وفي موضع آخر يؤكِّد القدّيس أغسطينوس أن برّ زكريَّا قائم على عمل السيِّد المسيح الذبيحي خلال ممَّارسته الكهنوتيّة وتقديمه الذبائح الحيوانيّة كرمز لذبيحة المسيح، قائلاً: [اِعتاد زكريَّا بلا شك أن يقدَّم ذبائح عن خطاياه.]

إن كان زكريَّا يُحسب بارًا، لكن هذا لا يعني أنه لم يصنع خطيّة، فقد كرّر القدّيس أغسطينوس في مواضع كثيرة قول القدّيس أمبروسيوس: [ليس أحد في العالم بلا خطيّة.]

ب. كان "زكريَّا من فرقة أبيَّا" [5]، كلمة "أبيَّا" تعني "أبي هو يهو". هذه الفرقة من نسل أليعازر الكاهن، تعتبر الثامنة من الأربعة والعشرين فرقة التي قُسِّمت إليها طائفة الكهنة منذ وقت داود، كل فرقة تقوم بالعمل أسبوعًا كل ستة أشهر حسب قرعتها. وكانوا يلقون قرعة أيضًا ليعرفوا من يقع عليه اختيار الله للقيام بخدمة البخور من وسط الفرقة، وكان اليهود عادة يقدَّمون البخور صباحًا ومساءً فقط.

يرى القدّيس أمبروسيوس أن زكريَّا وقد "أصابته القرعة أن يدخل الهيكل ويبخِّر" [9] إنما يشير إلى السيِّد المسيح بكونه رئيس الكهنة الذي وحده يدخل إلى الأقداس السماويّة، يكْهِن لحسابنا ويشفع فينا بدمه، وأن إصابة القرعة تشير إلى إرساليته التي لم تكن من الناس بل من قِبل الآب.

ج. يعلِّق العلامة أوريجينوس على تعبير الإنجيلي: "فظهر له ملاك الرب واقفًا عن يمين مذبح البخور" [11] بقوله أن الإنسان إذ له جسد كثيف لا يقدر أن يُعاين الكائنات الروحيّة والإلهيّة، ولا أن يشعر بها ما لم تظهر له. كأن ظهورات الله وملائكته تتوقَّف علي إرادة الله ورغبته أن نرى، فالله حاضر معنا، وأيضًا ملائكته ومع ذلك لا نراهم. ‎فمن كلماته:

[ظهر الرب لإبراهيم ولأنبياء آخرين حسب نعمة الله، فليست عين إبراهيم الروحيّة (الداخليّة) هي علَّة الرؤيا للرب، إنما نعمة الله هي التي وهبت له ذلك.]

[يمكن أن يوجد ملاك بجوارنا الآن ونحن نتكلَّم، لكننا لا نستطيع أن نعاينه بسبب عدم استحقاقنا. قد تبذل العين المجرّدة أو الداخليَّة مجهودًا لتبلغ هذه الرؤيا، لكن إن لم يُظهِر الملاك نفسه لنا لا يقدر أن يراه المشتاقون إلى رؤيَّته.]

[هذه الحقيقة لا تخص رؤيتنا لله في هذا الزمان الحاضر فحسب، وإنما حتى حينما نترك هذا العالم، لا يظهر الله وملائكته لجميع الناس بعد الانتقال مباشرة... إنما تُمنح هذه الهبة لمن له القلب النقي الذي تأهَّل لرؤيّة الله. أما صاحب القلب المثقل بالأوحال، فقد يوجد مع صاحب القلب النقي في مكان واحد، لكن يعاين صاحب القلب النقي الله، وأما صاحب القلب غير النقي فلا يري ما يشاهده الآخر.]

[اِعتقد أن هذا حدث بالنسبة للسيِّد المسيح حين كان بالجسد علي الأرض، فإنَّه ليس كل من نظره عاين الله... فبيلاطس رأي يسوع وهيرودس الوالي رآه ومع ذلك لم ينظراه كما هو إذ لم يستحقَّا ذلك.]

وجاء تفسير القدّيس أمبروسيوس يحمل ذات الفكرتين أن الله وملائكته يظهرون حينما يريد الله كعطيّة إلهيّة، وأن القلب النقي يعاين الله... فمن كلماته:

[إننا نرى الرب عندما يريد ذلك، لكننا لا نستطيع أن نراه بطبيعته كما هو... ظهر لإبراهيم لأنه أراد ذلك. لكن إن لم يردّ الإنسان فلا يظهر له الرب. رأى القدّيس إسطفانوس السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله، بينما كان الشعب يرجمه (أع 7: 9)، ولم ينظر الشعب الله. أيضًا أبصر إشعياء السيِّد رب الجنود (إش 6: 1)، لكن أحدًا غيره لم يستطع أن ينظره.]

[ما الذي يدهشنا إن كان لا يرى أحد الله في هذا العالم إذ هو غير منظور، فلا يُرى ما لم يكشف هو عن ذاته؟ إنما في القيامة لا يراه غير أنقياء القلب، لأنه "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). لقد طوَّب الرب الكثيرين، لكنه لم يعد بمعاينة الله إلا لأنقياء القلب.]

[لا نعاين الله في مكان ما بل في القلب النقي، لا تبحث عن الله بالعين الجسديّة... بل من يستطيع أن يدرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو، ويعرف محبَّة المسيح الفائقة المعرفة (أف 4: 20)، فبرأفة الله علينا ورحمته يبلغ بنا إلى ملء قامة المسيح حتى نستطيع أن نعاينه.]

وقد سبق لنا الحديث عن "رؤيّة الله" في كتابنا عن القدّيس يوحنا الذهبي الفم، لكن ما يجب تأكيده أن الله وهو غير منظور يود أن يُعلن ذاته ويشتاق أن نراه، هذه عطيَّته المجانيّة يقدَّمها للقلب النقي؛ فهو يعمل فينا بلا انقطاع بروحه القدِّوس لكي تتنقّى قلوبنا فيه، وترتفع لمشاهدته، والتمتَّع بأحضانه الأبويّة، وشركة الأمجاد السماويّة.

د. ظهر ملاك الرب عن يمين مذبح البخور، أي ما بين المذبح الذهبي (الصلاة) ومائدة خبز الوجوه (سّر الإفخارستيا). وكأن من يريد أن يلتقي مع القوات السمائيّة يلزمه أن يبسط يديه بالصلاة، فيقدَّم ذبيحة حب وبخور طيب قدام الله، وأن يدخل إلى مائدة الرب، يلتقي برب السمائيِّين ويحمله في داخله.

فمن جهة الصلاة يقول القدّيس أوغريس: [اِعلم أن الملائكة القدّيسين يدفعوننا إلى الصلاة، ويقفون إذ ذاك إلى جانبنا فرحين مصلِّين من أجلنا، فإذا تكاسلنا متقبِّلين أفكارًا غريبة نغيظهم كثيرًا، لأننا بينما هم يحاربون عنَّا بهذه القوّة، لا نريد نحن حتى التضرع إلى الله من أجل أنفسنا، بل نعرض عن خدماتهم، ونبتعد عن الرب إلههم لنذهب إلى الشيَّاطين الأدناس.]

أما بخصوص الاقتراب من المائدة المقدَّسة، فيتحدَّث عنه القدّيس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: [كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، يطير مع السيرافيم، يترنَّم بالتسبحة المقدَّسة.]

هـ. "فلما رآه زكريَّا اضطرب، ووقع عليه خوف، فقال له الملاك: لا تخف يا زكريَّا..." [12-13]. إن كانت رؤيّة السمائيِّين تجعل القلب مضطربًا لأنه ينظر أمرًا غريبًا، لكنه لا يبقى في اضطرابه، بل يجد السماء عينها تهتم به وتناديه باسمه، وتهتم به شخصيًا، وتشبعه بالسلام الداخلي مع عطايا وخيرات إلهيّة فائقة.

يقدَّم لنا القدّيس أنطونيوس الكبير تمييزًا بين الرُؤى السماويّة والمناظر المخادعة، فالأولي حتى إن بدأت بخوف أو اضطراب لأن الإنسان لم يعتد رؤيَّتها لكنها تبعث سلامًا حقيقيًا في النفس، أما الأخرى فتفقد النفس سلامها؛ الأولي تلهب القلب بالسمائيَّات أما الثانية فتشعل الذهن وتربكه بالزمنيَّات، إذ يقول: [ظهور هذه الأرواح (الملائكة) هادئ وصامت يخلق فرحًا في النفس وشجاعة، لأن الرب فرحنا. الأفكار التي تخلقها هذه الظهورات تجعل النفس غير متزعزعة حتى تُنيرها بهذا الفرح، فتعرف ما هي الأرواح التي تظهر لها، إذ أن الشوق الإلهي وشوق الخيرات العتيدة يدخلان النفس ويتَّحدان بها. إن كان يوجد من يخاف من ظهور الأرواح الشرِّيرة فهذه الأرواح (الصالحة) تطرح عنهم الخوف جانبًا بالمحبَّة التي تظهرها كما فعل جبرائيل مع زكريَّا (لو 1: 3)، وكما فعل الملاك الذي ظهر للنسوة عند قبر الرب (مت 28: 5)، وعندما ظهر للرعاة قال لهم: لا تخافوا (لو 2: 10). إن خوف هؤلاء لم يكن نتيجة الخوف بل نتيجة اليقين بظهور الملائكة الصالحين؛ هذا هو ظهور الملائكة القدّيسين.] كما يقول: [إذا ما رأينا أرواحًا وأثارت اضطرابًا وضربات خارجيّة وتخيُّلات دنيويّة وتهديدًا بالموت وكل ما ذكرناه، فلنعرف أن هذا هو هجوم أرواح شرِّيرة.]

و. لعل زكريَّا قد نسيَ طلبته من الله أو فقد الرجاء في الإنجاب، لكن اسمه "زكريَّا" يعني "الله يذكُر"، فقد ذكر الله له ولامرأته طلباتهما ووهبهما لا من يُفرح قلبيهما وحدهما، وإنما من يُبهج قلوب الكثيرين. إنه يعطي ما طلبناه بالرغم من نسياننا، ويعطينا أكثر ممَّا نسأل وفوق ما نطلب، يعطي مؤكِّدًا عطيَّته، فقد عيَّن له اسمه.

أما من جهة "يوحنا" كعطيّة الله لزكريَّا واليصابات، فقد أعلن الملاك الآتي:

أولاً: سّر فرح للكثيرين: "ويكون لك فرح وابتهاج، وكثيرين سيفرحون بولادته" [14]. قلنا أن إنجيل لوقا البشير هو "إنجيل الفرح"، فقد أرسل الله يوحنا السابق لينادي بالتوبة مهيِّئًا الطريق للرب في قلوب الكثيرين، فيفرح السمائيُّون كما يفرح المؤمنون. غاية الله أن يردّنا إلى فرحه الأبدي، ونُوجد في سلامٍ سماويٍ لا يشوبه ضيق أو مرارة، وها هو يُعد لهذا الفرح حتى بالبشارة بميلاد السابق له.

في دراستنا لسفر اللاويِّين (ص 12) رأينا في شريعة المرأة التي تلد كيف تبدأ فترة الميلاد للطفل بفترة تُحسب فيها الوالدة كمن في نجاسة، إذ التصقت الخطيّة بنا حتى في ميلادنا وموتنا، والآن إذ بدأ يُشرق شمس البرّ علي البشريّة ويصالحها مع السمائيِّين تحوّلت حياتنا فيه إلى فرح، وصار الميلاد مُفرحًا، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [يوجد فرح خاص في بداية الحمل بالقدّيسين وعند ميلادهم، فالقدّيس لا يُفرِّح عائلته فحسب، وإنما يكون سببًا في خلاص الكثيرين. إن هذه العبارة تعلَّمنا أن نتهلَّل بميلاد القدّيسين.]

أقول ليتنا نحن أيضًا إن كنا قد عشنا زمانًا هذا مقداره بنفسٍ عاقرةٍ وجسدٍ بلا ثمر روحي، فلنتقبَّل وعود الله السمائيّة، ونحمل حنان الله ونعمته أي "يوحنا" في داخلنا، فنبتهج ونتهلَّل بالله، ويفرح معنا كثيرون بل والسماء عينها تشترك معنا في فرحنا (لو 15: 7).

لتكن حياتنا مثمرة في الرب فتبهج الكثيرين، ولا تكن عقيمة أو ثمرها قاتل أو مميت. يقول الأب تادرس: [الحياة والموت ليسا في ذاتهما صالحين أو شرِّيرين، ويؤكِّد هذا ميلاد يوحنا ويَّهوذا. أحدهما كانت حياته نافعة ويظهر ذلك ممَّا قيل عنه: "وكثيرون سيفرحون بولادته" (لو 1: 14). والآخر قيل عنه: "كان خيرًا لذلك الرجل لم يولد" (مت 26: 24).]

ثانيًا: "لأنه يكون عظيمًا أمام الرب" [15]. لم يكن بعد قد وُلد يوحنا، ولا حبلت به في أحشائها، يدعوه الملاك "عظيمًا أمام الرب". فالعظمة لا بكثرة الأيام والسنين، ولا بقوّة الجسد والأعمال الظاهرة، إنما بالحياة الداخليّة القويّة.

كان العالم في ذلك الحين يحتقر الأطفال بوجه عام ولا يقدَّم لهم حقًا إنسانية. لكن إنجيل السيِّد المسيح يكشف عن صداقته للأطفال، فيتطلَّع إليهم كعظماء في عينه، الأمر الذي أكده السيِّد المسيح فيما بعد لتلاميذه حين قدَّم لهم طفًلا ليمتثلوا به من أجل بلوغ العظمة السماويَّة (مت 18: 2-3؛ لو 18: 15).

لنكن أطفالاً في الشرِّ فنحسب عُظماء وناضجين في الرب، لكن لا نسلك في ضعف الطفولة غير الناضجة، وإلا حُسبنا مُستعبَّدين تحت أركان العالم (غلا 4: 3)، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [الإنسان الناضج (روحيًا) وحده يتخطَّى أركان هذا العالم.] لنكن ناضجين روحيًا في الرب فلا نحتقر الصغار كقول الرب: "اُنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الأصاغر" (مت 18: 10).

يحدّثنا القدّيس أمبروسيوس في تفسيره لإنجيل لوقا عن عظمة يوحنا المعمدان قائلاً: [حياتنا لا تُقيَّم حسب الزمن وإنما حسب درجات الفضيلة... فقد دُعي يوحنا عظيمًا لا بسبب قوَّته الجسديّة بل الروحيّة، فإنَّه لم يقهر إمبراطوريَّات ولا وضع في برنامجه أن تكون له غنائم ونصرات، بل تطلَّع إلى ما هو أفضَّل جدًا، إذ كان الصوت الصارخ في البريّة الذي صرع الملذَات الجسديّة وتراخي الجسد بسمو روحه وقوَّتها. كان صغيرًا في الأمور العالميّة، عظيمًا في الروحيات. أخيرًا فإنَّ سر عظمته هو عدم سيطرة حب هذه الحياة الزمنيّة عليه الأمر الذي لم يعقه عن إدانة الخطيّة.]

ثالثًا: "ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" [15]. بعد أن حدَّد اسمه وأعلن فاعليته كمُفرِّح للقلوب أوضح إمكانيَّاته، فمن الجانب السلبي "خمرًا ومسكرًا لا يشرب"، كنذير للرب لا يكون لملذَات العالم أو بهجته موضع في قلبه أو في جسده، أما من الجانب الإيجابي فإنَّه لا يعيش محرومًا بل يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه. يُحرم من الخمر المادي المسكر ويرتوي بالخمر السماوي المفرح!

يقول العلامة أوريجينوس: [جاء رئيس ملائكة يعلن عن ميلاد يوحنا الذي يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه...، ففي بطن أمه تهلَّل يوحنا من الفرح، ولم يستطع أن يتوقَّف عندما جاءت أم يسوع، بل كان يحاول أن يخرج من بطن أمه... "هوذا حين صار صوت سلامك في أذني اِرتكض الجنين بابتهاج في بطني" [44] .]

ويقول القدّيس أمبروسيوس: [كان يفتقر لروح الحياة (كجنين) ونال روح النعمة، فإنَّ حقيقة الحياة تسبقها النعمة للتقديس، إذ يقول الرب: "قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدَّستك، جعلتك نبيًا للشعوب" (إر 1: 5). شتَان بين روح العالم وروح النعمة، فالأولى تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت، أما الثانية فلا يحدّها الزمن ولا السنين، ولا يطفئ الموت شعلتها، ولا يغلق عليها رحم الأمومة... إن من يمتلك روح النعمة لا يعود يفتقر إلى شيء، ومن نال الروح القدس بلغ قمة الفضائل.]

رابعًا: "ويردّ كثيرون من بني إسرائيل إلى الرب إلههم" [16]. هنا يؤكِّد رسالته وهي ردْ الكثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم بتمهيد الطريق بالتوبة لقبول السيِّد المسيح مخلِّص العالم. يرى العلامة أوريجينوس أن العالم في حاجة مستمرَّة إلى عمل يوحنا الذي يسمِّيه "سرّ يوحنا" ليدخل بكل نفس إلى الثبوت في المسيح، إذ يقول: [اِعتقد من جانبي أن سّر يوحنا لا يزال يتحقّق إلى يومنا هذا، فيستطيع الإنسان أن يؤمن بيسوع المسيح إن كان له روح يوحنا وقوَّته في نفسه، هذا لكي يعد شعبًا كاملاً لربِّنا، وإن كان له الخشونة ويسلك الطريق الضيق... إلى اليوم روح يوحنا وقوَّته يسبقان مجيء الرب يسوع.]

خامسًا: "ويتقدَّم أمامه بروح إيليَّا وقوَّته" [17]. يعلِّق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة هكذا: [لم يقل بنفس إيليَّا بل "بروح إيليَّا وقوَّته"، فكان لإيليَّا روح وقوّة كسائر الأنبياء... الروح الذي سكن في إيليَّا سكن يوحنا، والقوّة التي في إيليَّا كانت في يوحنا.]

ويقدَّم لنا القديس أمبروسيوس مقارنة لطيفة بين إيليَّا ويوحنا المعمدان، جاء فيها:

[عاش إيليَّا في البريّة وكذا يوحنا،

وكانت الغربان تعول الأول أما الثاني ففي طريق البريّة قد داس كل إغراءات الملاهي، وأحبَّ الفقر مبغضًا الترف. الواحد لم يسَعََ لكسب رضاء آخاب الملك، والثاني اِحتقر رضا هيرودس الملك.

رداء الأول مزَّق مياه الأردن، بينما الثاني جعل من هذه المياه مغسلاً يهب خلاصًا.

الأول ظهر مع الرب في المجد (عند التجلِّي)، والثاني يحيا مع الرب في الأرض.

واحد يسبق مجيء الرب الأول والآخر يسبق مجيئه الثاني.

الأول أنزل الأمطار على الأرض بعد أن جفَّت ثلاث سنوات والثاني غسل تراب أجسادنا في مياه الإيمان خلال ثلاث سنوات (سنة عهد الآباء وسنة عهد موسى والأنبياء؛ ثم سنة مجيء الرب إلهنا ومخلِّصنا).]

إن سّر القوّة في القدّيس يوحنا أنه حمل روح إيليَّا، لا بمعنى روحه كشخص، إنما روح القوّة التي وُهبت له من قِبل الله، أو الإمكانيَّات التي قُدَّمت له، لهذا يقول القدّيس أغسطينوس: [يقصد بروح إيليَّا الروح القدس الذي تقبله إيليَّا.]

3. صمت زكريَّا

"فقال زكريَّا للملاك:

كيف أعلم هذا، لأني أنا شيخ، وامرأتي متقدَّمة في أيامها؟

فأجاب الملاك وقال له:

أنا جبرائيل الواقف قدام الله،

وأُرسلت لأكلِّمك وأُبشرك بهذا.

وها أنت تكون صامتًا، ولا تقدر أن تتكلَّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا،

لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته" [18-20].

في هذا الحوار الذي تم بين رئيس الملائكة جبرائيل وزكريَّا الكاهن داخل الهيكل نلاحظ الآتي:

أولاً: لم يصدِّق زكريَّا الكاهن كلمات الملاك، بالرغم من رؤيته للملاك وسماعه للصوت الملائكي بطريقة ملموسة، في النهار، داخل الهيكل، الأمر الذي جعله يُلام عليه، خاصة وأن التاريخ المقدَّس يذكر أمثلة حيّة لأُناس شيوخ أنجبوا بينما كانت نساؤهم عاقرات كسارة امرأة إبراهيم. لكن زكريَّا كان بارًا، لم يلقِ باللوم على زوجته في عدم الإنجاب، ولم يذكر حتى بينه وبين الملاك أنها عاقر، إنما بدأ بنفسه قائلاً: "أنا شيخ وامرأتي متقدَّمة في أيامها". أقول ما أجمل النفس البارة الرقيقة في أحاسيسها، لا تجرح مشاعر الآخرين حتى في غيبتهم! إنه لا يشكو حتى للسماء من أجل عُقر زوجته!

ثانيًا: أعلن رئيس الملائكة عن نفسه أنه "جبرائيل" ويعني "جبروت الله"، أما سرّ قوَّته أو جبروته فهو كما قال "الواقف قدام الله". جاء يحمل الوعد الإلهي وليبشِّر، لكنه التزم أيضًا أن يؤدَّب بالصمت كأمر الله!

ثالثًا: في محبَّته وهب زكريَّا الكاهن البشارة المُفرحة بميلاد يوحنا كهبة مجََّانيَّة قُدَّمت له، بل وللبشريّة كلها، والآن إذ تمتَّع الكاهن بهذا الوعد الأكيد، وحدَّد له الرب على فم رئيس ملائكته اسم المولود وسِماته ورسالته وإمكانيَّاته، ومع ذلك لم يصدِّق، لذلك سمح الله في محبَّته أيضًا أن يؤدِّبه إلى حين. الله في أبوَّته لنا يهب كما في أبوَّته يؤدِّب لبنياننا.

والعجيب حتى الأخطاء التي نرتكبها يستخدمها الله للخير، فما حدث لزكريَّا بسبب شكِّه صار رمزًا لما يحدث للشعب اليهودي الذي لم يصدِّق السماء ولا مواعيد الله، فلم يقبل ربِّنا يسوع ملِكًا روحيًا ومخلِّصًا. لهذا سقط تحت تأديب الصمت، حتى يقبلوا الإيمان في أواخر الدهور. سقطوا تحت الصمت إذ رفضوا كلمة الله المتجسّد، فنزع عنهم الأنبياء وتوقَّفت العبادة الهيكليّة.

يقول العلامة أوريجينوس: [صمت زكريَّا هو صمت الأنبياء عند شعب إسرائيل، فلا يتكلَّم الله بعد مع اليهود بينما جاء الله الكلمة الذي من البدء. لقد صار معنا المسيح الذي لا يصمت، لكنه صامت حتى يومنا هذا بالنسبة لليهود.]

ويقول القدّيس أمبروسيوس: [الصمت هو الكف عن تقديم الذبائح وسكوت الأنبياء، فقد توقَّف صوت النبي والكاهن، إذ يقول الله "سأنزع الجبار والنبي والقاضي" (إش 1: 31)... أما بالنسبة لنا، فقد جاء إلينا كلمة الله الذي لا يمكن أن يسكت فينا، لذا لا يستطيع اليهودي أن يحاور المسيحي: "إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلَّم فيّ" (1 كو 13: 3).]

إن كان زكريَّا في صمته كان يومئ بالإشارات والحركات الجسديّة لحرمانه من موهبة الكلام، ففي هذا كان أيضًا يرمز لليهود الذين اهتموا بأعمال الناموس الجسديّة بلا فهم روحي، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [في اِعتقادي توجد أفعال بدون أقوال أو معنى، لا تختلف عن الإيماءات التي بلا معنى... فإذا اِعتبرنا الشرائع اليهوديّة كما بدون كلام لعدم فهمها وتفسيرها... يمكننا أن نفهم ما حدث لزكريَّا صورة لما يحدث مع اليهود حتى أيامنا هذه. التطهير عندهم أشْبه بحركة بسيطة دون معنى، فإنَّ نظرنا إليه يمكننا اِعتباره إيماءة بسيطة وعملاً صامتًا. أيضًا الفصح والأعياد الأخرى ما هي إلا حركات بسيطة لا حقائق. وحتى يومنا هذا الشعب الإسرائيلي أصم وأبكم، فإنَّه إذ رفض "الكلمة" وابتعد عنه صار هكذا .]

إن كان زكريَّا الكاهن قد صمت، إنما لكي بصمته أعلن عن الحاجة إلى "الكلمة" الإلهي الذي فقده إسرائيل... وكأنه حتى بالصمت مهَّد الطريق للإعلان عن السيِّد المسيح. هذا ومن جانب آخر، فقد سمح له بالصمت كفرصة رائعة يتوقَّف فيها الكلام مع الناس لكي ينشغل قلبه بالحديث مع الله، يتأمَّل أعماله ويتلمَّس أسراره ويتفهَّم النبوَّات.

كما اِعتزل زكريَّا كلام الناس بسبب صمته، اِعتزلت اليصابات زوجته الناس بسبب خجلها، إذ يقول الإنجيلي: "وبعد تلك الأيام حبلت اليصابات امرأته، وأخفت نفسها خمسة أشهر، قائلة: هكذا قد فعل بي الرب..." كانت لهما فرصة روحيّة للحديث مع الله وحده، يتأمَّلان عمله معهما، وينتظران عطيَّته لهما.

اِستنتج العلامة أوريجينوس والقدّيس أمبروسيوس من خجل اليصابات أنها إذ لم تنجب زمانًا توقَّفت عن العلاقات الجسديّة بينها وبين رجلها، إذ كان رجال الله يلتقون بزوجاتهم جسديًا من أجل الإنجاب، فإنَّ تحقّقوا من عدم الإنجاب بقيت علاقاتهم مرتبطة بالحب الزوجي دون علاقات جسديّة... هكذا إذ حملت اليصابات خجلت من الظهور أمام الناس، حتى اِلتقت بالسيِّدة العذراء الحاملة لكلمة الله المتجسّد في أحشائها، وإذ ابتهج الجنين في أحشائها لم تعد اليصابات تخجل... إنها تحمل ثمرًا فائقًا؛ تحمل من هو أعظم مواليد النساء، يوحنا السابق.

ونحن يمكننا أن نقول بأن العلاقات الجسديّة بين الزوجين مقدَّسة وطاهرة مادامت باعتدال، لا يغلب عليها روح الشهوة والأنانيّة خلال طلب لذَّة الجسد، بل روح الحب الزوجي والعطاء. في المسيح يسوع كلمة الله المتجسّد - يجد الزوجان أنهما قد صارا جسدًا واحدًا، يعيشان بالروح حتى في لحظات لقائهما معًا، يظللهما روح الله بلا اِنقطاع، فيكونا مقدَّسين على الدوام في كل تصرفاتهما.

4. البشارة بالتجسّد الإلهي

"وفي الشهر السادس أٌرسل جبرائيل الملاك من الله

إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة،

إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف

واسم العذراء مريم..." [26-27].

أولاً: منذ خمسة أشهر سبق فبشَّر الملاك زكريَّا الكاهن، والآن مع بداية الشهر السادس جاء يبشِّر القدّيسة مريم، لكن شتَّان بين البشارتين. حقًا إن البشارة الأولى تمَّت داخل الهيكل أثناء العبادة الجماعيّة، رافقها زكريَّا أمام الجميع وتحدَّث عنها الكهنة، إذ تمَّت مع زميلهم الكاهن، لكن كانت بشارة بميلاد أعظم مواليد النساء يوحنا السابق خادم الكلمة؛ أما البشارة الثانية فتمَّت في بيت مجهول في قريّة فقيرة بطريقة سريّة لم يلمسها حتى صاحب البيت نفسه "يوسف النجار"، وقد كانت بشارة بتجسّد الكلمة ذاته! لقد أخلى الابن ذاته، حتى في البشارة به لم تتم به بين كهنة، ولا في داخل الهيكل، ولا على مستوى الجماعة، إنما تمَّت مع فتاة فقيرة في مكان بسيط.

ثانيًا: أٌرسل الملاك إلى "عذراء مخطوبة لرجل"، لماذا لم يُرسل إلى عذراء غير مخطوبة؟

أ. يجيب العلامة أوريجينوس بأن وجود الخاطب أو رجل مريم ينزع كل شكٍ من جهتها عندما تظهر علامات الحمل عليها، ويقول القدّيس أمبروسيوس: [ربَّما لكي لا يُظن أنها زانية. ولقد وصفها الكتاب بصفتين في آن واحد، أنها زوجة وعذراء. فهي عذراء لأنها لم تعرف رجلاً، وزوجة حتى تُحفظ ممَّا قد يشوب سمعتها، فانتفاخ بطنها يشير إلى فقدان البتوليّة (في نظر الناس). هذا وقد اِختار الرب أن يشك البعض في نسبه الحقيقي عن أن يشكُّوا في طهارة والدته... لم يجد داعيًا للكشف عن شخصه على حساب سمعة والدته.]

سبق لنا دراسة الخطبة والزواج حسب التقليد اليهودي، وكيف كانت الخطبة تعادل الزواج حاليًا في كل شيء ماخلا العلاقات الجسديّة، لهذا دعيت القدّيسة مريم "امرأة يوسف".

ب. يرى العلامة أوريجينوس نقلاً عن القدّيس أغناطيوس أن وجود يوسف يشكِّك الشيطان في أمر المولود ويُربكه من جهة التجسّد الإلهي. وقد قدَّم لنا القدّيس أمبروسيوس ذات الفكر حين قال: [هناك سبب آخر لا يمكن إغفاله وهو أن رئيس هذا العالم لم يكتشف بتوليّة العذراء، فهو إذ رآها مع رجلها لم يشك في المولود منها، وقد شاء الرب أن ينزع عن رئيس هذا العالم معرفته. هذا ظهر عندما أوصى السيِّد تلاميذه ألا يقولوا لأحد أنه المسيح (مت 16: 22)، كما منع الذين شفاهم من إظهار اسمه (مت 5: 4) وأمر الشيَّاطين ألا تتكلَّم عن ابن الله (لو 4: 35). يؤيِّد ما ذكره الرسول أيضًا: "بل نتكلَّم بحكمة الله في سّر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعملها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 7-8)... إذن لقد توارى الرب عن إبليس لأجل خلاصنا. توارى لكي ينتصر عليه، توارى عنه في التجربة، وحين كان يصرخ إليه ويلقبِّه "ابن الله" لم يؤكِّد له حقيقة لاهوته. توارى الرب أيضًا عن رؤساء البشر. وبالرغم من تردّد إبليس حين قال: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل" (مت 4: 6) إلا أن الأمر قد انتهى بمعرفته إيَّاه، فقد عرفتْهُ الشيَّاطين حين صرخت: "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذِّبنا؟!" (مت 8: 29). لقد عرفتْه الشيَّاطين إذ كانت تترقَّب مجيئه، أما رؤساء العالم فلم يعرفوه... استطاع الشيطان بمكر أن يكشف الأمور المكتوبة أما الذين اقتنصتهم كرامات هذا العالم فلم يستطيعوا أن يعرفوا أعمال الله.]

ثالثًا: كرَّر الإنجيلي كلمة "عذراء" وكأنه أراد تأكيد عذراويَّتها ليعلن أن السيِّد المسيح ليس من زرع بشر. هذا ما أعلنه حزقيال النبي بقوله عن الباب الشرقي: "هذا الباب يكون مغلقًا لا يُفتح، ولا يدخل منه إنسان، لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقًا، الرئيس، الرئيس هو يجلس فيه" (حز 44: 2-3). ولذلك جاء في الطقس البيزنطي عن السيِّدة العذراء: [السلام لكَ، أيها الباب الفريد الذي عبر منه الكلمة وحده.]

إنها عذراء وزوجة (عروس) في نفس الوقت، إذ تمثِّل العضو الأول في الكنيسة العذراء عروس المسيح، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [كانت مريم الزوجة العذراء تمثِّل في آن واحد الكنيسة العروس التي بلا عيب. فالكنيسة عروس المسيح البتول، حبلت بنا بالروح القدس وولدتنا بغير ألم، ومريم حبلت بالروح لا بالزواج، وهكذا صارت تمثِّل كل الكنائس التي تثمر بالروح والنعمة، وإن كانت تتَّحد ظاهريًا تحت لواء راعٍ بشري.]

يقول القدّيس أغسطينوس: [كما ولدت مريم ذاك الذي هو رأسكم، هكذا ولدتكم الكنيسة، لأن الكنيسة هي أيضًا أم وعذارء، أم في أحشاء حبنا، وعذراء في إيمانها غير المزعزع. هي أم لأمم كثيرة الذين يمثِّلون جسدًا واحدًا، وذلك على مثال العذراء أُم الكثيرين وفي نفس الوقت هي أُم للواحد.]

يقول القدّيس كيرلس الكبير: [لنُطوِّب مريم دائمة البتوليّة بتسابيح الفرح، التي هي نفسها الكنيسة المقدَّسة.]

رابعًا: يحدّد الإنجيل اسم المدينة التي جاء إليها الملاك ليلتقي بالقدّيسة العذراء مريم، وهى "ناصرة". مدينة في الجليل بشمال فلسطين، تبعد 88 ميلاً شمال أورشليم، و15 ميلاً جنوب غربي طبريّة. عاش فيها القدّيس يوسف والقدّيسة العذراء مريم، وقد قضى السيِّد المسيح القسط الأوفر من الثلاثين عامًا الأولى في حياته فيها (لو 3: 23؛ مر 1: 9)، فدُعيَ بالناصري (مت 12: 11؛ مر 1: 24). إذ بَدَأ رسالته رفضَهُ أهلها مرّّتيْن (لو 4: 28-31؛ مت 4: 13؛ 13: 54-58؛ مر 6: 1-6). تقع على تل (لو 4: 29)، ولم يكن لها أهميّة تُذكر، فلم ترد في العهد القديم، ولا في وثائق الدول العظمى قبل مجيء المسيح، ولا في كتابات المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس. لعلَّ كلمة "ناصرة" تعني "قضيب" أو "غصن"... ولهذا السبب كثيرًا ما دُعي السيِّد المسيح بالغُصن.

خامسًا: جاءت تحيّة الملاك: "سلامٌ لكِ أيَّتها الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء" [28]. لم تكن بالتحيّة العاديّة وإنما جاءت تحيَّة فريدة، حملت كل معنى الفرح، فالكلمة اليُّونانيّة "شيريه" التي تُرجمت هنا "سلام" ورد فعلها حوالي 80 مرة في الترجمة السبعينيّة للعهد القديم، تُرجم نصفها "يفرح" والنصف الآخر استخدم للتعبير عن فرح شعب الله بعمل مثير يمس خلاصهم. وكأن القدّيسة مريم قد نالت باسم الكنيسة كلها التي هي عضو فيها فرحًا فائقًا خلال تجسّد الله الكلمة وحلوله فيها.

فيما يلي بعض التعليقات للآباء على هذه التحيّة الفريدة:

v انفردت بدعوتها "الممتلئة نعمة"، إذ وحدها نالت النعمة التي لم يقتنيها أحد آخر غيرها، إذ امتلأت بمواهب النعمة.

القدّيس أمبروسيوس

v هذا الميلاد مطلقًا هو نعمة، فيه تمَّ الاتِّحاد، اتِّحاد الإنسان بالله، والجسد بالكلمة... لم تكن الأعمال الصالحة هي الاستحقاق لتحقيقه.

القدّيس أغسطينوس

v التحفت بالنعمة الإلهيّة كثوب،

امتلأت نفسها بالحكمة الإلهيّة،

في القلب تنعَّمت بالزيجة مع الله،

وتسلَّمت الله في أحشائها!

الأب ثيؤدسيوس أسقف أنقرة

سمعت القدّيسة مريم الملاك يقول لها: "الرب معكِ"، وكان لهذا التعبير مفهومه الخاص بالنسبة لها، فقد ذاقت معيّة الله على مستوى فريد، إذ حملت كلمة الله في أحشائها، وقدَّمت له من جسدها ودمها!

"مباركة أنت في النساء"... وكما يقول العلامة أوريجينوس: [الفرح الذي بوَّق به جبرائيل لمريم نزع حكم الحزن الصادر من الله ضد حواء]، [كما بدأت الخطيّة بالمرأة وبعد ذلك عبرت إلى الرجل، هكذا بدأت البشارة بالنسوة (مريم واليصابات).]

سادسًا: "فلما رأتهُ اضطربت من كلامه وفكَّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله" [29-30].

يقول القدّيس جيروم: [لقد اضطربت ولم تستطع أن تجاوبه، إذ لم يسبق لها أن قدَمت تحيّة لرجلٍ من قبل، لكنها إذ عرفته من هو أجابته، هذه هي التي كانت تخاف الحديث مع رجل، صارت تتحدَّث مع ملاك بلا خوف.]

هكذا يرى كثير من الآباء أن السيِّدة العذراء كنموذج حيّ للعذارى اللواتي تكرَّسن للعبادة يسلُكن بحياءٍ شديدٍ، ولا يلتقين برجالٍ، بل يقضين حياتهنَّ في بيوتهنَّ أو في بيوت العذارى، لا يتعاملْن مع الرجال. لكننا لا نستطيع أن ننكر أن مع ما اتَّسَمت به العذراء من حياء شديد وتكريس كامل لحساب الرب، وعدم رغبتها في الزواج، كما يظهر من قولها للملاك: "كيف يكون لي هذا وأنا لست أعرف رجلاً" لكنها كانت الإنسانة الفعّالة في الجماعة المقدَّسة. فعّالة بصلواتها وتقواها، وفعّالة أيضًا بقبولها عطيّة الله الفائقة (تجسّد الكلمة في أحشائها)، وفعّالة في الخدمة، ففي أول معجزة للسيِّد المسيح طلبت منه "ليس لهم خمر" (يو 2: 3)، ورافقت السيِّد حتى الصليب، وبعد الصعود كانت مع التلاميذ تسندهم. فا

http://demiana2010.com

2تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 2 السبت 2 يناير 2010 - 16:17

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 2

لم يجد الصديق السماوي له موضعًا في منزل يُولد فيه، فجاءنا في مزود، لكنه فتح أبواب السماء ليسمع البسطاء الصوت الملائكي يهنِّئهم بالفرح العظيم الذي يعّم الشعب. يُدخل به كطفل إلى الهيكل فيفتح عينيّ سمعان الشيخ الذي اِشتهى بفرح أن ينطلق إلى الفردوس بعد إدراكه للنور الذي يُعلن للأمم؛ ويفتح لسان حَنَّة النبيّة بالتسابيح. وفي سن الثانية عشر دخل الهيكل يُبهت الشيوخ بتعاليمه.

1. ميلاد صديقنا 1-7.

2. البشارة للرعاة 8-20.

3. ختان السيِّد 21.

4. تقديم الذبيحة 22-24.

5. تسبحة سمعان الشيخ 25-35.

6. تسبحة حَنَّة بنت فنوئيل 36-38.

7. العودة إلى الناصرة39-40.

8. يسوع في الهيكل 41-52.

1. ميلاد صديقنا

في الأصحاح السابق رأينا خِطة الله العجيبة بالإعداد لميلاد صديقنا السماوي، فقد انفتحت السماء لتُرسل رئيس الملائكة جبرائيل يبشِّر زكريَّا بميلاد يوحنا السابق للسيِّد، ويبشِّر فتاة الناصرة العذراء بالحبل المقدَّس. امتلأت اليصابات من الروح القدس عند سماعها سلام مريم وابتهج الجنين في أحشائها راكضًا، وانفتح لسان زكريَّا بالتسبيح شاكرًا لله ومباركًا إله إسرائيل، لا من أجل ميلاد يوحنا بل من أجل من جاء يوحنا ليهيئ له الطريق، فقد رأى الآباء والأنبياء الذين رقدوا يتهلَّلون لتحقيق الله وعده المقدَّس بمجيء المسيَّا المخلِّص، والآن يحدّثنا في بساطة عن ميلاد السيِّد، موضَّحا كيف استخدم الله حتى الوسائل البشريّة مثل "الاكتتاب الروماني المصطبغ بالصبغة اليهوديّة"، لتحقيق أهدافه الإلهيّة وإتمام النبوات، إذ يقول الإنجيلي:

"وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يُكتتب كل المسكونة.

وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريّة.

فذهب الجميع ليُكتَتبوا كل واحد إلى مدينته.

فصعد يوسف أيضًا من مدينة الناصرة إلى اليهوديّة

إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم،

لكونه من بيت داود وعشيرته" [1-4].

في أيام الإمبراطور كايس أو اكتافيوس كايبياس الذي وهبه مجلس الأعيان لقب "أوغسطس" ويعني باللاتينية "المبجّل" صدر الأمر باكتتاب "كل المسكونة"، أي جميع الدول الخاضعة للدولة الرومانيّة التي كانت تسيطر على العالم المتمدِّن في ذلك الحين. كان هذا أمر لإشباع شهوة عظمة الإمبراطور، ليبرز امتداد نفوذه وسلطته لكي يسنده في جمع الجزيّة. وكان الاكتتاب حسب النظام الروماني يمكن أن يتم في أي موضع دون حاجة لانتقال كل إنسان إلى مدينته التي نشأ فيها. لكن الرومان وقد أرادوا مجاملة اليهود أمروا بإجرائه حسب النظام اليهودي، حيث يسجِّل كل إنسان اسمه في موطنه الأصلي. وهكذا التزم يوسف ومريم أن يذهبا إلى "بيت لحم" في اليهوديّة لتسجيل اسميهما لكونهما من بيت داود وعشيرته.

كان تنفيذ الأمر شاقًا على يوسف الشيخ ومريم الحامل، خاصة وأن المدينة قد اكتظَّت بالقادمين فلم يجدوا موضعًا في فندق، واضطرَّا أن يبيتا في مذود لتلد القدِّيسة مريم هناك. تحقَّق ذلك حسب الظاهر بناء على الأمر الإمبراطوري بالاكتتاب مع حمل سِمة يهوديّة في طريقة تنفيذه، لكن الحقيقة الخفيّة أن ما تم كان بخطة إلهيّة سبق فأعلنها الأنبياء، إذ قيل: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراثَة وأنتِ صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (مي 5: 2).

فيما يلي تعليقات بعض الآباء إلى العبارات السابقة:

v "وفي تلك الأيام صدر أمر أوغسطس قيصر بأن يكتتب المسكونة"... [1-3]. وُلد المسيح إذن في بيت لحم في حكم أوغسطس قيصر وكان قد أصدر امرًا بإحصاء دولته. ولكن قد يسأل سائل: لِم أتى الكاتب الحكيم على ذكر هذه المسائل؟ والجواب على ذلك أنه كان لابد من تعيين الزمن الذي وُلد فيه المخلِّص، فقد ورد "ولا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب" (تك 49: 10)، بل وكان يجب تعليمنا أنه لم يكن على بني إسرائيل عند ميلاد الفادي ملك من بيت داود، فقد خضعت اليهوديّة في ذلك العصر لصوْلجان الحكم الروماني.

"لكونه من بيت داود وعشيرته" [4].

أشار الإنجيل المقدَّس إلى نسب يوسف لنقف على تسلسله من داود الملك جدُّه الأعلى، بل وأن هذه الأشياء الجليلة تُثبت أيضًا أن مريم العذراء من سبط يهوذا وإليه ينتسب بيت داود، لأن الشريعة الإلهيّة حصرت الزواج في السبط الواحد بمعنى أن الزوج والزوجة لا يُعقد زواجهما إلا إذا كانا من سبط واحد. ومفسر الحقائق السمائيّة الرسول العظيم بولس يعلن هذا العرف، إذ شهد أن السيِّد "طلع من سبط يهوذا" (عب 7: 14).

"مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى" [5].

يقول الإنجيليُّون المقدَّسون أن مريم كانت مخطوبة ليوسف وهذا يدل على أن الحبل تم خلال مدة الخطوبة، وأن عمانوئيل وُلد بمعجزة لا تتَّفق مع النواميس الطبيعيّة المعروفة، لأن مريم العذراء لم تحبل من زرعٍ بشريٍ. وسبب ذلك أن المسيح هو "باكورة الجميع"، هو آدم الثاني، كما ورد في الأسفار المقدَّسة، فقد وُلد بالروح القدس حتى ينقل إلينا بميلاده الروحي النعمة والحق، إذ شاء الله ألا نُسمى بعد أبناء الإنسان بل أبناء الله مخلِّصنا حسب الميلاد الروحي الجديد بالمسيح أولاً، لأنه يتقدَّمنا في كل شيء، كما يقول الحكيم بولس في كو 1: 15.

القدِّيس كيرلس الكبير

v ماذا يفيدني هذا الأمر الذي يرويه بخصوص "الاكتتاب الأول" للمسكونة كلها في عهد أوغسطس قيصر، حيث أخذ يوسف مريم زوجته الحامل وذهبا وسط كل العالم ليُسجِّلا في هذا السجل الخاص بالاكتتاب عن مجيء يسوع إلى العالم؟

كان مجيئه يدل على سرٍّ، إذ كان يجب أن يُسجِّل اسم يسوع في هذا الاكتتاب، يسجل مع الكل لكي يخلِّص كل البشريّة ويقدِّسها واهبًا إيَّاهم أن يعيشوا معه في حياة واحدة! كان يريد بهذا السجل أن تُسجَّل أسماء الكل معه في سفر الحياة (في 4: 3)؛ كل الذين يؤمنون به يكتب أسماءهم في السماوات (لو 10: 20) مع القدِّيسين.

العلامة أوريجينوس

v ما هي العلاقة بين صدور أمر من سلطة بشريّة وميلاد المسيح إلا الإعلان عن التدبير الإلهي، فقد كان الأمر البشري مصدره المشيئة الإلهيّة، وكان يجب أن ينفذ باسم الملك السماوي لا الأرضي.

هنا يكمن عمل الإيمان باكتتاب النفس... إذ يليق بكل إنسان أن يُكتتب كل أيام حياته في المسيح... هذا الأمر بالاكتتاب لا يصدر عن أوغسطس بل عن المسيح للمسكونة كلها... إذ "للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها" (مز 23: 1). أوغسطس لم يحكم قبائل الغوط ولا الشعب الأرمني، أما المسيح فيملك على الجميع.

القدِّيس أمبروسيوس

انتقل القدِّيس يوسف مع القدِّيس مريم إلى "بيت لحم" الذي يعني "بيت الخبز"، ليُولد هناك "خبز الحياة". وقد سُجل اسمه مع البشر في الاكتتاب ليشاركنا كل شيء حتى في التعداد يُحسب كواحدٍ منا، إذ قيل: "وأُحصيَ مع آثمة" (إش 53: 12)، فنُحصَى نحن في كتابِه الإلهي، ونُحسب أصدقاؤه. هناك في بيت لحم ولدت العذراء، إذ قيل:

"وبينما هما هناك تمَّت أيامها لتلد.

فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود،

إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" [6-7].

فيما يلي تعليقات بعض الآباء على تعبير "ابنها البكر"، وعلى ولادته في مذود.

v هنا نقول إن كل ابن وحيد هو بكر. ولكن ليس كل بكر هو وحيد. فنحن نفهم أن كلمة بكر لا تعني فقط من يتبعه آخرون، ولكنها تعني عمومًا كل من لم يسبقه أحد في الميلاد. فالرب يقول لهرون "كل فاتح رحم من كل جسد يقدَّمونه للرب من الناس ومن البهائم يكون لك. غير أنك تقبل فداء بكر الإنسان وبكر البهيمة النجسة تقبل فداءه" (عد 18: 15). فإنَّ كلام الله يحدّد أن البكر هو كل فاتح رحم. وإلا فإذا كان اللفظ يعني فقط من له إنسانًا أصغر منه فإنَّه يتعذَّر إذن على الكهنة تحديد من هو البكر حتى يولد بعده إنسان آخر، لئلا لا يولد بعده أحد، فلا يُدعى بعد بكر لأنه وحيد!

ويقول الكتاب أيضًا: "وفداؤه من ابن شهر تقبله حسب تقويمك فضة خمسة شواقل على شاقل القدس. هو عشرون جيرة. ولكن بكر البقر أو بكر الضأن أو بكر المعز لا تقبل فداءه. أنه قدسٌ. بل ترش دمه على المذبح..." (عد 18: 16-17). وهكذا تقضي الوصيّة بأن نقدِّس لله كل فاتح رحم من الحيوانات الطاهرة، أما الحيوانات النجسة فإنَّها تُفدى ويُعطى ثمنها إلى الكاهن. فكيف أميز الحيوان البكر؟ أم لعلي أقول للكاهن: من أدراك أن هذا الذي بكر؟! فربَّما يولد بعده آخرون، وربَّما لا يُولد. انتظر حتى يأتي الثاني، وإلا فليس لك عليّ شيء! أليست هذه حماقة يرفضها الجميع، لأن من البداهة أن البكر هو كل فاتح رحم سواء كان له أخوة أم لا؟!

القدِّيس جيروم

v معنى ابنها البكر أي أول مولود، فلا يقصد به أنه أخ من بين عدة إخوة، ولكن واحد من بين الأبكار، فإنَّ الأسفار الإلهيّة تستعمل كلمة بكر أو أول في مواضع شتَّى، ولم يقصد بالكلمة إلا واحد فقط، فقد ورد "أنا الأول والآخر ولا إله غيري" (إش 44: 6).

فأُضيفت كلمة أول إلى المولود للدلالة على أن العذراء لم يكن لها ابن سوى يسوع ابن الله على حد قول الوحي "أنا أيضًا أجعله بكرًا أعلى من ملوك الأرض" (مز 89: 27)، ويقول أيضًا الحكيم بولس "وأيضًا متى أُدخل البكر إلى العالم يقول: فلتسجد له كل ملائكة الله" (عب 1: 6).

وكيف دخل المسيح البكر إلى العالم وهو بعيد عن العالم بطبيعته، ويختلف عن الجُبْلة البشريّة بطبيعتها؟

دخله بأن الله صار إنسانًا، ومع أنه ابن الله الوحيد إلا أنه بكر لنا، لأننا جميعنا اخوة له وبذلك أصبحنا أبناء الله.

لاحظوا أن المسيح يُدعى بكرًا بالنسبة لنا. وابن الله الوحيد بالنسبة للإله الواحد، فالمسيح ابن الله الوحيد لأنه كلمة الآب، فليس له إخوة يشاركونه هذه البنوَّة، لأن الابن متَّحد مع الآب، إله واحد لا غيره ولكن المسيح بكر لنا لأنه شاء فنزل إلى مستوى المخلوقات الطبيعيّة، ولذلك تجدون الأسفار الإلهيّة تشير إلى المسيح ابن الله بالقول: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" (يو 1: 18). أما إذا استعمل الكتاب المقدَّس كلمة البكر فإنَّ الوحي يفسِّرها بما يبيِّن مضمونها فورد "ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو 8: 29)، وورد أيضًا "بكر من الأموات" (كو 1: 18).

المسيح بكر من الأموات لأنه شاركنا في كل شيء ما عدا الخطيّة ولأنه أقام جسده من فساد الموت.

أضف إلى ذلك أن المسيح بطبيعته هو ابن الله الوحيد، إله من إله، ووحيد من وحيد، ونور من نور، ولكنه بكر بالنسبة لنا حتى أن كل من يشبهه يخلص به فهو البكر ونحن إخوته.

v وجد الله الإنسان قد انحطَّ إلى مستوى الحيوان ولذلك وضع نفسه كطعام في المذود حتى إذا نبذنا الطبيعة الحيوانيّة ارتفعنا إلى درجة الفهم والإدراك التي تليق بالطبيعة الإنسانيّة، فباقترابنا إلى المذود، إلى مائدته الخاصة لا نجد طعامًا ماديًا بل خبزًا سمائيًا هو الجسد الحيّ.

القدِّيس كيرلس الكبير

v كرّم المذود، فإنَّك وإن كنت قد فقدت الحس (صار الإنسان كحيوانٍ) تجد في المذود الكلمة طعامًا لك.

القدِّيس غريغوريوس النزينزي

v وُلد في مذود ليرفعكم إلى المذبح،

جاء إلى الأرض ليرفعكم إلى السماء،

لم يجد له موضعًا إلا في مذود البقر، لكي يعد لكم منازل في السماء (يو 14: 2)، وكما يقول الرسول: "إنه من أجلكم افتقر وهو الغني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 8: 9). فميراثي هو فقر المسيح، وقوَّتي هي ضعف المسيح.

القدِّيس أمبروسيوس

v أيها الرهبان، لقد وُلد الرب على الأرض ولم يكن له حتى قلاية يُولد فيها، ولا موضع في الفندق.

الجنس البشري كله له موضع، والرب عند ميلاده ليس له موضع.

لم يجد له موضعًا بين البشر، لا في أفلاطون ولا في أرسطو، إنما وجد له موضعًا بين البسطاء والأبرياء في المذود... لهذا قال الرب في الإنجيل: "للثعالب أوْجِرة ولطيور السماء أوْكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه".

القدِّيس جيروم

2. البشارة للرعاة

تمََّت ولادة السيِّد المسيح في المذود بعيدًا عن الأنظار، لم يسمع عنها الملوك والعظماء، ولا أدركها الكهنة ورؤساء الكهنة وجماعات الكتبة والفرِّيسيين والناموسيِّين والصدِّوقيِّين. هكذا استقبلت الأرض خالقها في صمتٍ رهيبٍ، لكن لم يكن ممكنًا للسماء أن تصمت، فقد جاء ملاك الرب إلى جماعة من الرعاة الساهرين الأمناء في عملهم، وربَّما كانوا في بساطة قلوبهم منشغلين بخلاصهم، جاءهم ووقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم [9]، فخافوا خوفًا عظيمًا.

"فقال لهم الملاك: لا تخافوا،

فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ يكون لجميع الشعب.

إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الرب.

وهذه لكم العلامة تجدون طفلا مقمَّطًا مُضجعًا في مذود" [10-12].

فيما يلي بعض تعليقات الأباء علي هذه البشارة المفرحة:

v أعلن جمهور الأنبياء ولادة المسيح بالجسد وأخذ صورة إنسان في ملء الأزمنة، وأنشدت جماهير السماء أنشودة الفرح والتهليل بميلاد المخلِّص الفادي، وكان الرعاة في بيت لحم أول من بُشِّروا بهذا النبأ السار. هؤلاء الرعاة هم رمز للرعاة الروحيِّين الذين يظهر لهم الرب يسوع المسيح فيبشِّرون باسمه في كل مكان كما بشَّر رعاة بيت لحم بالمسيح في بلدتهم هذه علي أثر سماعهم أنشودة الفرح والابتهاج من الملائكة الأطهار، فكان الملائكة كما ترى أول من أعلنوا ميلاد المسيح للعالم، ونادوا بمجد المسيح، وهو الإله المتأنِّس من امرأة بحالة عجيبة.

وقد يسأل أحد فيقول: كان المسيح طفلاً ملفوفًا بقماطٍ وضيعٍ، وموضوعًا في مذود، فلِمَ القوَّات السمائيّة تبجِّلُه إلهًا وربًّا؟

أيها الإنسان تعمَّق في فهم السرّ العظيم. لقد ظهر الله كما تظهر أنت، واِتَّخذ جسم عبد من الرقيق، ولكن لم تنفصل عنه أُلوهيَّته بحال من الأحوال. ألا تفهم أن ابن الله الوحيد تجسّد ورضيَ أن يولد من امرأة حبًا فينا ليَطرح اللعنة التي حلَّت علي المرأة الأولي، فقد قيل لها "بالوجع تلدين أولادًا" (تك 3: 16)؟! بولادة المرأة عمانوئيل المتجسّد اِنحلَّ رباط اللعنة عنها!

وليس ذلك فحسب، ولكن يقول الحكيم بولس "لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيّة والموت، لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه فيما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شِبه جسد الخطيّة، ولأجل الخطيّة دان الخطيّة في الجسد، لكي يتم حُكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" (رو 8: 3-4).

وما هو المُراد بالقول "شِبه جسد الخطيّة" ؟

يُراد به أن ناموس الخطيّة كامن في الجسد مع الأهواء الباطلة والميول الفاسدة، ولكن ما أن تجسّد المسيح واِتَّخذ صورتنا أصبح جسده مقدَّسًا وطاهرًا. إذن أصبح المسيح مثلنا، ولكن ليس فيه ميولنا الباطلة، إذ تحرَّر المسيح من جميع الرغبات والنزعات الفاسدة التي تقودنا إلى فعل المُحرَّم المرذول والدنيء الممقوت. فكلما رأيت الطفل يسوع ملفوفًا بالأقمطة فلا تنظره وهو بالجسد، بل دقِّق النظر في مجده الإلهي. وارتفع بعقلك إلى سماء السماوات لتشاهد مجده الفائق "وهو جالس علي كرسي عالٍ ومرتفعٍ" (إش 6: 1)، وتسمع أناشيد السيرافيم مقدِّمين المجد والإكرام والسجود والعبادة للرب يسوع المسيح الذي يملأ الأرض بمجده وعظمته.

أنظر مجد المسيح علي الأرض وقد تلألأ بالنور، وسطع علي الرعاة، وجمهور الملائكة ينشدون أناشيد الفرح والسرور. فقد تنبَّأ موسى منذ قرون عديدة فقال: "تهلَّلوا أيها الأمم شعبه".

ألم يولد أنبياء كثيرون ولكن لن تتهلَّل الملائكة في ميلاد أحدهم كما تهلَّلت عند ميلاد المسيح لأن هؤلاء الأنبياء كانوا من البشر مثلنا خُدامًا لله وحاملين الكلمة، ولكن لم يكن هذا شأن المسيح لأنه إله ورب مُرسل الأنبياء والقدِّيسين. أو كما يقول المرنِّم: "لأنه من في السماء يعادل الرب بين أبناء الله" (مز 89: 6). فإنَّ المسيح شاء ومنحنا البنوَّة نحن الذين تحت نير العالم وبطبيعتنا أرِقَّاء، أما المسيح فهو الابن الحقيقي، فهو بطبيعته ابن الله الآب حتى بعد تجسّده، فقد ظلَّ كما قلت لكم كما كان قبلاً رغمًا عن أخذه جسدًا لم يكن له قبلاً. وما أقوله هو عين الصِدق فإنَّ إشعياء يؤكِّد متنبِّئًا: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل. زِبدًا وعسلاً يأكل، متى عرف أن يرفض الشرّ ويختار الخير، لأنه قبل أن يَعرف الصبي أن يَرفض الشرّ يختار الخير" (إش 7: 14-15).

وما معنى هذا كله؟ معناه أن المسيح وهو بعد طفل رضيع أكل زبدًا وعسلاً، ولأنه هو الله المتجسّد، عرف فقط الخير وتجرَّد من خطيّة الإنسان، وهذه الصفة لا تلازم إلا الله العليّ فقد ورد "ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله" (لو 18: 10)، أو كما تنبَّأ إشعياء "فاقتربت إلى النبيّة فحبلت وولدت ابنًا، فقال لي الرب ادع اسمه مهير شلال حاش بز (أي اَسرع واْسِر أسرًا واَغنم غنيمة) لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي تحمل ثروة دمشق" (إش 8: 3). وبولادة المسيح كُسرت شوكة إبليس ونُهبت محلَّته، وقد صار له أنصار كثيرون في دمشق يعبدونه ويسجدون له، ولكن لما ولدت العذراء يسوع المسيح اضمحلَّت قوّة إبليس وتلاشى حُكمة الظالم الغشوم، فإنَّ الوثنيِّين أنفسهم علموا بظهور كوكب الصبح الرب يسوع، وسافر رسلهم "المجوس" من الشرق إلى أورشليم، ولم يكن لهم معلِّم سوى السماء، ولا مهذِّب سوى النجم. فلا تنظروا إذن إلى الطفل المولود في المزود كأنه رضيع فقط، بل انظروا إليه إلهًا غنيًا قديرًا وفاديًا، مخلِّصا عظيمًا يفوق الأجناد السمائيّة قوّة واِقتدارًا، فحقَّ له أن تنادي الملائكة بولادته في فرح وسرور وابتهاج وحبور، فما أجمل تحيَّات الملائكة للطفل يسوع وهم ينشدون.

القدِّيس كيرلس الكبير

v لاحظوا جذور ميلاد الكنيسة، فقد وُلد المسيح والرعاة يسهرون، هؤلاء الذين يحرسون الخراف التي جاءت من الأمم في حظيرة الرب فلا تهاجمها الوحوش... يستطيع الرعاة أن يسهروا كما علَّمهم الراعي الصالح. الرعيّة هي الشعوب، والليل هو العالم، والرعاة هم الكهنة.

القدِّيس أمبروسيوس

v نزل ملاك الرب من السماء وأعلن عن ميلاده.

ها نحن نرى ملاك الرب قد دُعي ليُبشر بميلاد المسيح،

فلم يذهب إلى أورشليم، ولا بحث عن الكتبة والفرِّيسيين، ولا دخل مجمع اليهود، لكنه بحث عن رعاة يحرسون حراسة الليل للقطيع...

v جاء ملاك الرب للرعاة وكلَّمهم: اسمعوا يا ملائكة الكنائس فإنَّ ملاك الرب لا يزال ينزل من السماء ليُعلن لكم: "إنه وُلد لكم اليوم مخلِّص هو المسيح الرب". حقًا لو لم يأتِ هذا المخلِّص لما استطاع رعاة الكنائس أن يعتنوا برعيَّتهم من أنفسهم. فاشلة هي رعايتهم إن لم يرعها المسيح معهم! ها نحن بصدد قراءة ما جاء عن الرسل: "نحن فلاحة الله"، فالراعي الصالح هو ذاك الذي يتبع سيِّده الراعي الصالح، فيعمل مع الله (الآب) ومع المسيح.

العلامة أوريجينوس

v هوذا الملائكة ترتِّل، ورؤساء الملائكة تغنِّي في انسجام وتوافق...

الشاروبيم يسبِّحون تسابيحهم المفرحة، والسيرافيم يمجِّدونه.

الكل اتَّحد معًا لتكريم ذلك العيد المجيد، ناظرين الإله على الأرض، والإنسان في السماء؛ الذي من فوق يسكن هنا على الأرض لأجل خلاصنا، والإنسان الذي هو تحت يرتفع إلى فوق بالمراحم الإلهيّة!

هوذا "بيت لحم" تضاهي السماء، فتسمع فيها أصوات تسبيح الملائكة من الكواكب، وبدلاً من الشمس أشرق شمس البر في كل جانب.

القدِّيس يوحنا ذهبي الفم

v اليوم ابتهج الحرَّاس، لأن الساهر (دا 4: 13) جاء لإيقاظنا.

من يستطيع أن ينام الليلة التي فيها العالم كله ساهرًا؟!

لقد جلب آدم النُعاس على العالم بالخطيّة، لكن الساهر نزل لإيقاظنا من نوم الخطيّة العميق.

v الليلة اتَّحد الحرَّاس العلويُّون مع الحرَّاس الساهرين (الأرضيِّين)، فقد جاء "الحارس" ليخلق حُرَّاسًا وسط الخليقة!

هوذا، فإنَّ الحرَّاس الساهرين قد صاروا زملاء الحرَّاس العلويِّين. انشدوا بالتسبيح مع السيرافيم!

طوبى لمن يصير قيثارة لتسبيحك، فإنَّ نعمتك تكون هي مكافأته!

v لقد نطق الحراس العلويُّون بالسلام للحراس الساهرين.

لقد جاء الحراس العلويُّون يعلنون البشائر المفرحة للساهرين!...

لقد امتزج الحرَّاس بالحرَّاس، وفرح الكل لأن العالم جاء إلى الحياة!

القدِّيس مار أفرام السرياني

هكذا أرسل الرب ملاكه يبشِّر الرعاة الحارسين بالفرح العظيم، "لجميع الشعب"، ولم يكن هذا الملاك ناقلاً للرسالة فحسب، إنما كان شريكًا مع البشريّة في فرحهم هو وجميع الطغمات السمائيّة، إذ انفتحت السماء لتنزل جوقة من الملائكة تشاركنا بهجتنا الروحيّة. يقول الإنجيل:

"وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي

مسبِّحين الله وقائلين:

المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام

وبالناس المسرة (الإرادة الصالحة)" [13-14].

v "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس الإرادة الصالحة". في السماء (الأعالي) لا توجد خطيّة إنما يوجد تمجيد وتسبيح دائم وترنُّم بغير ملل، أما على الأرض حيث ملك العصيان وتسلَّط النزاع والانقسام، فصارت الحاجة ماسة إلى السلام الذي يُقتنى بالصلاة، هذا الذي لا يحل بكل الناس وإنما بذوي الإرادة الصالحة.

القدِّيس جيروم

v ذكر ظهور الجند السماوي الذين تبعوا رئيس الجند؛ ولمن يرسل الملائكة الكرامة إلا لربِّهم كما قيل: "سبِّحوا الرب من الأعالي"؟!

القدِّيس أمبروسيوس

v إن أردت أن تتعلَّم شيِّئًا من الشاروبيم أو السيرافيم فلتسمع أنشودة قداسته السريّة، فإنَّ السماء والأرض مملوءتان من مجده (إش 6: 3).

القدِّيس يوحنا ذهبي الفم

لقد سحبت هذه الأنشودة الملائكيّة نظر الكنيسة فاشتاقت أن تسبِّح بها مع الجند السماوي، لهذا استخدمت في صلاة باكر كما جاء في "دساتير الرسل"، ولا زلنا نستخدمها في تسبحة باكر، فنبدأ يومنا بالتهليل مع الملائكة من أجل عمله الفائق خلال تجسّده الإلهي.

علّق القدِّيس أغسطينوس كثيرًا على تعبير "وبالناس الإرادة الصالحة"، مؤكدًا تقديس الله للحرِّية الإنسانيّة، ليكون لنا الإرادة الصالحة عن اختيار لا عن قسْرٍ، وفي موضع آخر يقول: [البرّ ينتمي للإرادة الصالحة.]

إذ مضت الملائكة تشاور الرجال معًا منطلقين بشوق وبسرعة [16] ليلتقوا بهذا المولود العجيب. جاءوا يشهدون بما قيل لهم عنه، فصاروا كارزين به، إذ قيل:

"وكل الذين سمعوا تعجَّبوا ممَّا قيل لهم من الرعاة" [18].

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [أسرع الرعاة في البحث عن يسوع بلا تراخٍ، فقد آمن الرعاة بكلمات الملاك...] ويقدَّم لنا القدِّيس مار أفرام صورة مُبهجة للقاء الرعاة بالطفل الراعي، إذ يقول:

[جاء الرعاة حاملين أفضل الهدايا من قطعانهم: لبنًا لذيذًا ولحمًا طازجًا وتسبيحًا لائقًا... أعطوا اللحم ليوسف، واللبن لمريم، والتسبيح للابن!

أحضروا حملاً رضيعًا، وقدَّموه لخروف الفصح!

قدَّموا بكرًا للابن البكر، وضحيّة للضحيّة، وحملاً زمنيًا للحمل الحقيقي.

إنه لمنظر جميل أن ترى الحمل يُقدَّم إليه الحمل!...

اقترب الرعاة منه وسجدوا له ومعهم عصِيِّهم. حيُّوه بالسلام، قائلين: السلام يا رئيس السلام. هوذا عصا موسى تسبِّح عصاك يا راعي الجميع، لأن موسى يسبِّح لك. مع أن خرافه قد صارت ذئابًا، وقطيعه كما لو صار تنِّينًا!

أنت الذي يسبِّحك الرعاة، إذ صالحت الذئاب والحملان في الحظيرة!]

تأثَّرَت جدًا القدِّيسة مريم بهذا اللقاء، وكما يقول الإنجيلي: "وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذه الكلمات متفكِّرة به في قلبها" [19]. ويعلّق القدِّيس أمبروسيوس على ذلك بقول: [من كلمات الرعاة تحصد مريم عناصر إيمانها.] كما يقول: [إن كانت مريم قد تعلَّمت في مدرسة الرعاة، فلماذا ترفض أنت أن تتعلَّم في مدرسة الكهنة، وإن كانت مريم قد حفظت السرّ... فلماذا تريد أنت التعليم أكثر من الصمت؟]

3. ختان السيِّد

في دراستنا لسفر التكوين رأينا التزام كل ذكر ابن لإبراهيم أن يُختتن، علامة العهد المقدَّس مع الله ودخوله إلى العضويّة في الجماعة المقدَّسة (تك 15). وكل من لا يُختتن تُنزع نفسه من وسط الشعب المقدَّس. لكن إذ جاء كلمة الله متجسّدًا لم يكن محتاجًا للختان لنفعٍ خاص به، وإنما وقد قبِل أن ينحني بإرادته كصديقٍ حقيقيٍ لنا، خاضعًا مثلنا تحت الناموس (غل 4: 4) يرفعنا من تحت الناموس، إذ هو وحده غير الكاسر للناموس. إذن ختان السيِّد هو خطوة جديدة يسلكها الرب في طريق الصليب والإخلاء، بخضوعه للناموس من أجلنا، مكمِّلاً كل برٍّ (مت 3: 15).

فيما يلي تعليقات بعض الآباء على ختان السيِّد:

v خُتن الطفل الذي تكلَّم عنه إشعياء: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا" (إش 9: 6)، وقد صار تحت الناموس ليعتق الذين تحت الناموس (1 كو 9: 5).

القدِّيس أمبروسيوس

v الآن نجده مطيعًا لناموس موسى، وبعبارة أخرى نجد الله المشرِّع ينفِّذ القانون الذي شاء فسنَّه! أو كما يقول الحكيم بولس: "لما كنَّا قاصرين كنَّا مُستعبَدين تحت أركان العالم، ولكن لما جاء مِلء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنِّي" (غل 4: 3-5).

فالمسيح إذن افتدانا من لعنة الناموس نحن الذين كنَّا عبيدًا للناموس، وأظهرنا عجزًا تامًا في العمل بشرائعه.

وكيف افتدانا؟... بحفظه وصايا الناموس. وبعبارة أخرى أطاع المسيح الفادي عِوضًا عنَّا الله الآب، إطاعة تامة، كما هو مكتوب: "لأنه كما بمعصيّة الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضًا بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبرارًا" (رو 5: 19).

سلَّم المسيح نفسه للناموس أُسوَة بنا، لأنه يليق به أن يكمِّل كل برّ، واتَّخذ صورة عبدٍ وأصبح واحدًا منَّا نحن الذين بطبيعتنا تحت نير الناموس، بل دفع نصف الشاقل، وهو المقدار الذي فرضته الحكومة الرومانيّة على أفراد الشعب...

مع أن المسيح هو ابن الله، ولكن لا مفر من دفع هذا المبلغ، لأنه رضيَ أن يتَّخذ صورتنا...

فإذا ما رأيت المسيح يُطيع الناموس فلا تتألّم ولا تضع المسيح الحُر في زمرة العبيد الأرِقَّاء، بل فكّر في عمق السرّ العظيم، سرّ الفداء والخلاص!

ترون أنه خُتن في اليوم الثامن، وهو اليوم الذي عُيِّن للاختتان الجسدي طبقًا للناموس، وقد سُمِّيَ الفادي "يسوع"، ومعنى هذه الكلمة "مخلِّص" الشعب!

القدِّيس كيرلس الكبير

4. تقديم ذبيحة

يقول القدِّيس كيرلس الكبير:

[وبعد ختان المسيح انتظرت مريم يوم تطهيرها، وعند تمام الأربعين يومًا من الميلاد حملت أورشليم السيِّد المسيح، الله الكلمة، الذي يجلس عن يمين الآب. وهناك مثَّل في الحضرة الإلهيّة على صورة إنسان كما نمثل نحن، وطبقًا للناموس اُعتبِر بكرًا، فقد اعترف الناموس حتى قبل تجسّد الفادي بمركز البكر الممتاز فكان يُعتبر مقدَّسًا ويُكرَّس لله ويقدِّم ذبيحة للعزَّة الإلهيّة. حقًا ما أعظم وأعجب سرّ الخلاص والفداء: "يا لعمق غِنى الله وحكمته وعلمه" (رو 11: 33). إن الذي في حضن الآب، ذلك الابن القدِّوس الذي يشارك الآب في العرش السمائي والذي به خُلقت الأشياء بأسرها، يخضع لما تتطلَّبه الطبيعة البشريّة، ويقدَّم الذبيحة لأبيه الإله العظيم، وهو الذي تعبده الخليقة طُرًا، وتمجّده مع أبيه السماوي كل حين!

وماذا كانت تقدمة المسيح؟ قضى الناموس أن كل بكر يقدِّم ذبيحة هي "زوج يمام أو فرخا حمام". وما الذي يشير إليه اليمام والحمام؟ تعالوا معي ندرس هذه الإشارة.

إن اليمام أكثر طيور الحقل جلبة وضوضاء، بينما الحمام طائر وديع هادئ. كان الفادي كذلك، فقد أظهر لنا منتهى اللطف والرحمة، وكان أيضًا كيمامة يسير في كل مكان ليملأه عطفًا ورقَّة وبركة وعزاء، فإنَّه مكتوب في سفر نشيد الأناشيد "صوت اليمامة سُمع في أرضنا" (نش 2: 12). فالمسيح اسمعنا كلمة الإنجيل وهي كلمة الخلاص للعالم أجمع.

قُدِّم اليمام والحمام ذبيحة إذن كما أن المسيح الابن مثَل أمام الله الآب في الهيكل، فكنت ترى في موضع واحد الرمز والحقيقة.

قدَّم المسيح نفسه رائحة زكيّة عطرة لكي يقدَّمنا نحن إلى الله الآب، وبذلك محا العداء الذي اُستحكمت حلقاته بين الإنسان والخالق على أثر تعدِّي آدم على شريعة الله العظيم، ونزع سلطان الخطيّة الذي استعبدنا جميعًا، فإنَّنا نحن الذين كنَّا نصرخ في الزمن القديم، كل منَّا ينادي الله قائلاً: "التفت إليّ وارحمني" (مز 25: 16).]

ويقول القدِّيس يعقوب السروجي:

[أُعطيَ الناموس لموسى على الجبل مع أبيه، وأتى ليكمِّل الترتيب الذي علم بأقنومه.

أتى للختان لكي لا يكفُر أحد بتأنُّسِه، وأتى بالذبيحة ليُري أنه ليس غريبًا عنَّا.

تقدَّم باليمام الذي صاغ رمزه!

حملت مريم قابل الكل مع قربانه، ليأتي بالذبيحة لهيكل القدس حسب الناموس. حمل يوسف الفراخ، وجاء من أجل الصبي، ولبيت القدس صعد ليقدِّم كالناموسي.]

ويقول القدِّيس أمبروسيوس:

[هذا هو معنى المكتوب: "إن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدِّوسًا للرب" (خر 13: 12). لقد كانت كلمات الشريعة رمزًا لثمرة بطن العذراء القدِّوس الحقيقي الذي بلا دنس، يؤيِّد ذلك كلمات الملاك: "القدِّوس المولود منك يُدعى ابن الله" (لو 1: 35). فالعذراء لم تحبل بزرعٍ بشريٍ، بل من الروح القدس الذي حلّ فيها وقدّسها. والرب يسوع هو الوحيد الكُلي القداسة بين المولودين من النساء...

ولكن كيف يمكننا أن ندعو كل ذكر قدِّوسًا بينما نلاحظ أن كثيرين منهم كانوا أشرارًا؟! هل كان آخاب قدِّوسًا؟... لكن هذا هو القدِّوس الذي فيه تتحقَّق الأسرار التي رمزت إليها الشريعة، ألا وهو المخلِّص المنتظر الذي به وحده يمكن للكنيسة المقدَّسة البتول أن تلد شعبًا لله برحم مفتوح ولميراث بلا دنس، هذا الذي وحده خرج من أحشاء العذراء.]

إذن إذ قدَّمت العذراء الابن البكر قدِّوسًا للرب، إنما قدَّمت ذاك الذي من أجله جعلت الشريعة كل ذَكَر فاتح رحم قدِّوسًا كرمزٍ له.

5. تسبحة سمعان الشيخ

تتلخَّص قصَّة سمعان الشيخ كما وردت في التقليد الكنسي في أنه كان أحد الاثنين وسبعين شيخًا من اليهود الذي طلب منهم بطليموس ترجمة التوراة إلى اليونانيّة، والتي سُمِّيت بالترجمة السبعينيّة. قيل أنه أثناء الترجمة أراد أن يستعيض كلمة "عذراء" في نبوَّة إشعياء النبي: "ها العذراء تحبل..." بكلمة "فتاة"، إذ تشكَّك في الأمر، فظهر له ملاك الرب وأكّد له أنه لن يموت حتى يرى مولود العذراء هذا. وبالفعل إذ أُوحى له الروح القدس حمل الطفل يسوع على يديه وانفتح لسانه بالتسبيح، مشتهيًا أن ينطلق من هذا العالم بعد معاينته بالروح خلاص جميع الشعوب والأمم.

قَدَّمت لنا أحداث الميلاد بالحقيقة صورة مفرحة لصداقة ربنا يسوع مع الجميع، فها عذراء فقيرة تحبل وتلد رمزًا للكنيسة التي تنعم بالعذراويّة الروحيّة خلال اتِّحادها بالعريس البتول فتُنجب أولادًا بتوليِّين روحيًا، والعاقر الشيخة تلد، والكاهن الصامت يسبِّح، والجنين في الأحشاء يرتكض وحَنَّة الأرملة تمجِّد الله وسمعان الشيخ البار المتوقِّع تعزيّة إسرائيل يقوده الروح ليحمل صديقه السماوي بين ذراعيه...

اسم "سمعان" يعني "المُستمع" أو "المُطيع" فيشير إلى المؤمنين الطائعين من اليهود الذين طال بهم الزمن مترقِّبين تحقيق النبوَّات، والتمتَّع بذاك الذي هو مشتهى الأمم. وإذ قادهم الروح القدس إلى الهيكل حملوا السيِّد بين أذرعتهم واشتهوا بصدق أن يخرجوا من العالم بعد ما استراحت قلوبهم من جهة خلاص الشعوب وإعلان مجد الله بين الأمم.

v إن كانت امرأة قد لمست ملابسه الخارجيّة (هُدب ثوبه) فشُفيت في الحال، فأي نفع ناله سمعان الذي حمله على ذراعيه وتهلَّل بالفرح؟!

إنه يحمل الطفل الآتي ليحرِّر المأسورين ويخلِّصهم من رباطات الجسد. إنه يعلم أنه لا يوجد من يُخرجه من سجن الجسد مع الوعد بالحياة الأبديّة إلا هذا الطفل الذي بين يديه. إليه وجّه الحديث: "الآن يا سيِّد تطلق عبدك حسب قولك بسلام". لأنه منذ زمان طويل لم أحمل السيِّد المسيح، لم أضمُّه بين ذراعيّ. كنت مسجونًا ولم أستطع أن أفك رباطاتي.

هذه الكلمات لا تخص سمعان وحده، إنما تخص كل البشريّة التي تنتظره...

v لم يدخل سمعان الهيكل اِعتباطًا أو محض الصدفة، إنما ذهب منقادًا بروح الله... وأنت أيضًا إن أردت أن تأخذ المسيح وتضمُّه بين ذراعيك وتتأهَّل للانطلاق من السجن جاهد أن يقودك الروح ويدخل بك في هيكل الله. هناك يوجد يسوع، داخل الكنيسة في الهيكل المقام من الحجارة الحيّة.

العلامة أوريجينوس

v بالتأكيد أكّد برهانًا وحمل شهادة أن لخدام الله سلامًا وحرِّيَّة وراحة هادئة، فعندما ننسحب من زوابع هذا العالم نبلغ ميناء مدينتنا وأمننا الأبدي، عندما يتحقَّق هذا الموت نبلغ الخلود.

الشهيد كبريانوس

v سمعان انطلق؛ لقد تحرَّر من عبوديّة الجسد. الفخ انكسر والطير انطلق.

القدِّيس غريغوريوس النيسي

v الآن إذ حمله سمعان الكاهن على ذراعيه ليقدَّمه أمام الله أدرك أنه ليس هو الذي يقدَّمه، بل سمعان يُقدِّم لله بواسطته. فالابن لا يقدِّمه العبد لأبيه، إنما بالحري الابن يقدِّم العبد لربِّه... الذي ينطلق لله بسلام إنما يُقدِّم تقدِمة للرب!

القدِّيس مار أفرام السرياني

v حُمل المسيح إذن إلى الهيكل وهو بعد طفل يُحضَن، وما وقع نظر سمعان المغبوط على الطفل يسوع حتى أخذه على ذراعيه، وبارك الله وقال: "الآن تطلق عبدك يا سيِّد حسب قولك بسلام لأن عينيّ قد أبصرت خلاصَك الذي أعددته قدَّام وجه جميع الشعوب، نور إعلان للأمم، ومجدًا لشعبك إسرائيل". فإنَّ سرّ الفداء كان منذ القدَّم وقبل تكوين العالمين، ولكن لم يُعلن إلا في آخر الزمان فكان نورًا للساكنين في الظلمة، أولئك الذين تملكهم يد الشيطان القويّة "الذين عبدوا المخلوق دون الخالق" (رو 1: 25)، الذين ألّهوا التنِّين مصدر الشرّ والإثم وأطاعوا طغمة الشيَّاطين النجسة وسجدوا لها كما يسجدون للإله الواحد، رغمًا عن كل هذا دعا الله هؤلاء الأقوام إلى نور ابنه الحقيقي، إذ يقول النبي: "أُصفِّر لهم وأجمعهم لأني قد فديتهم ويكثرون كما كثروا، وأزرعهم بين الشعوب فيذكرونني في الأراضي البعيدة" (زك 10: 8). حقًا إن الذين ضلَّوا هم شعب كثير إلا أن الله دعاهم وقبلهم وافتداهم ونالوا كضمان للسلام نعمة التبنِّي بيسوع المسيح.

زُرع الرسل الأطهار بين الشعوب وماذا كانت النتيجة؟ اقترب كل من كان بعيدًا إلى العرش الإلهي، حتى أن بولس الرسول يبعث برسالة إليهم يقول فيها: "الآن في المسيح يسوع أنتم الذين كنتم بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح" (أف 2: 13). وباقتراب هؤلاء الناس إلى المسيح سيتمجَّدون به كما وعدهم الله الآب.

يقول: "وأقوِّيهم بالرب فيسلكون باسمه" (زك 10: 12)، ويقول المرنِّم المغبوط في هذا الصدد: "يارب بنور وجهك يسلكون، باسمك يبتهجون اليوم كله، وبعد ذلك يرتفعون" (مز 89: 15-16) ويتضرَّع النبي إرميا إلى الرب، فيقول: "يا رب عزِّي وحصْني وملجأي في يوم الضيق. إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل وما لا منفعة فيه" (إر 16: 19).

كان المسيح إذن نورًا ومجدًا لإسرائيل، ومع أن بعض اليهود ضلُّوا الطريق وجهلوا الكتب وأنكروا المسيح، إلا أن قومًا منهم خلصوا وتمجَّدوا بيسوع وكان على رأسهم الرسل المقدَّسون الذين أضاءوا بنورهم مصباح الإنجيل في أقاصي الأرض.

والمسيح مجد إسرائيل أيضًا لأنه يُنسب إليهم حسب الجسد مع أنه "على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد" (رو 9: 5).

القدِّيس كيرلس الكبير

ويلاحظ في تسبحة سمعان الشيخ الآتي:

أولاً: يعلن عموميّة الخلاص وجامعيّة الكنيسة، فإنَّ كان شعبه إسرائيل الذي تجسّد منه وحلّ في وسطه قد تمجَّد، وقبِل بعض اليهود الإيمان به خاصة الاثنى عشر رسولاً، لكن إسرائيل الجديد ضم من كل الأمم، إذ أعلن انفتاح ذراعيّ الله بالحب العملي على الصليب لأجل كل الأمم، إذ يقول:

"لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك (صليبك)،

الذي أعددته قدَّام وجه جميع الشعوب.

نور إعلان للأمم" [30-32].

هذه النظرة الروحيّة تلقَّفتها الكنيسة بفرح، فقد قيل:

v علّق على الشجرة ذاك الذي يجمع الكل فيه.

v إذ فقدناه خلال شجرة، فبالشجرة أيضًا أُعلن للجميع، مظهرًا نفسه الارتفاع والطول والعرض والعمق، وكما أخبرنا أحد السالفين أنه أعاد الاتِّحاد بين الشعبين في الله خلال انبساط يديه. فقد كانت هناك يدان إذ وُجد شعبان منتشران إلى أقاصي الأرض، ووُجدت رأس واحدة، إذ يوجد إله واحد.

القدِّيس إيريناؤس

v الصليب هو طريق رباط المسكونة.

القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص

v الصليب هو سُلم يعقوب، هذه الشجرة ذات الأبعاد السماويّة ارتفعت من الأرض إلى السماء، أقامت ذاتها غرسًا أبديًا بين السماء والأرض، لكي ترفع المسكونة... وتضم معًا أنواع مختلفة من الطبيعة البشريّة.

القدِّيس هيبوليتس

إن كانت الكنيسة في بهجتها بالتسبحة الملائكيّة (المجد لله في الأعالي...) صارت تترنَّم بها كل صباح، فإنَّ في فرحها بهذه التسبحة التي لسمعان الشيخ (الآن يا سيِّد تُطلق عبدك...) صارت تتغنَّى بها في تسبحة نصف الليل كما في تسبحة النوم.

ثانيًا: إذ سمع يوسف والقدِّيسة مريم هذه التسبحة كانا يتعجَّبان، لأنه ما أعلنه لهما الله عند البشارة صار معلنًا لسمعان الكاهن والشيخ بصورة واضحة. وإذ تمتَّعا ببركة سمعان الكاهن، وجَّه هذا الشيخ حديثه للقدِّيسة مريم، قائلاً: "ها إن هذا قد وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم" [34].

إن كان الله الآب قد أرسل ابنه لخلاص العالم (يو 3: 16) خلال علامة الصليب، لكن ليس الكل يقبل هذه العلامة ويتجاوب مع محبَّة الله الفائقة، بل يقاوم البعض الصليب ويتعثَّرون فيه. هذا ومن ناحية أخرى فإنَّ سقوط وقيام الكثيرين يشير إلى سقوط ما هو شرّ في حياتنا لقيام ملكوت الله فينا، فعمل السيِّد المسيح أن يهدم الإنسان القديم ليُقيم الإنسان الجديد؛ يقتلع الشوك ليغرس في داخلنا شجرة الحياة.

هذا الفكر من جهة سقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، أي سقوط الجاحدين وقيام المؤمنين، وسقوط الشرّ فينا لقيام برّ الله داخلنا قد وضَّح في كتابات الآباء، إذ جاء فيها:

v "لأننا رائحة المسيح الزكيّة لله في الذين يخلُصون وفي الذين يهلَكون" (2 كو 2: 15). يقول سواء في الذين يخلُصون أو الذين يهلِكون يستمر الإنجيل في عمله اللائق؛ وكما أن النور وإن كان يحسب عَمَى بالنسبة للضعيف لكنه يبقى نورًا... والعسل في فم المرضى مُرّ لكنه في طبعه حلو؛ هكذا للإنجيل رائحته الزكيّة حتى وإن كان البعض يهلك بسبب عدم إيمانهم به، لأنه ليس هو السبب في هلاكهم إنما ضلالهم هو السبب... بالمخلِّص يسقط ويقوم كثيرون لكنه يبقى هو المخلِّص حتى وإن هلك ربوات... فهو لا يزال مستمرًا في تقديم الشفاء.

القدِّيس يوحنا ذهبي الفم

v هوذا سمعان يتنبَّأ بدوره أن ربَّنا يسوع المسيح قد جاء لسقوط وقيام كثيرين حتى يجازي أعمال الأبرار والأشرار، ويعطي كل واحد حسب أعماله كديّان حقيقي وعادل، إما بالعذاب أو بالحياة.

القدِّيس أمبروسيوس

v في رأيي أن الرب هو لسقوط وقيام الكثيرين (لو 1: 34)، ليس لأن البعض يسقط والبعض الآخر يقوم، إنما يسقط فينا ما هو شرّ ويقيم فينا ما هو أفضل. مجيء الرب محطَّم للشهوات الجسديّة ومقيم لسمات النفس الصالحة، وكما يقول بولس: "حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قوي" (2 كو 12: 10). في الشخص نفسه يوجد ما هو ضعيف وما هو قوي، إذ يكون ضعيفًا في الجسد وقويًا في الروح…

الذي يقوم تسقط خطيَّته وتموت بينما يحيا في البرّ ويقوم، هذا هو ما تمنحه إيَّانا النِعم الخاصة بإيماننا بالمسيح.

ليسقط فينا ما هو شرِّير لكي يجد ما هو أفضل الفرصة ليقوم! فإن لم يسقط الزنا عنَّا لا تقوم الطهارة فينا. وإن لم يتحطَّم فينا ما هو مخالف للعقل لن يبلغ عقلنا إلى الكمال. هذا هو معنى "لسقوط وقيام كثيرين".

القدِّيس باسيليوس الكبير

إذن السيِّد المسيح الذي هو حجر الزاويّة المختار الكريم الذي أقامه الآب في صهيون، لكي من يؤمن به لن يخزى (رو 2: 9)، إذ سقط علي غير المؤمن سحقه، وإن سقط غير المؤمن عليه يترضَّض (لو 20: 18). هذا الحجر الكريم يُعلن في صهيوننا الداخليّة، فيحطِّم فينا كل فسادٍ ويسحق كل شرٍ، لكي يقوم بناء الله الداخلي في استقامة وبرّ. إنه الحجر الذي لا يقوم علي أساس خاطئ، لذلك به "يسقط ويقوم كثيرون"!

وحينما نتحدّث عن السيِّد المسيح إنما نتحدّث عنه بكونه "المصلوب"، إذ يكمل سمعان الشيخ حديثه قائلاً: "لعلامة تقاوم"، وكما يقول القدِّيس باسيليوس الكبير: [نفهم بلياقة العلامة في الكتاب المقدَّس أنها الصليب.] ويقول القدِّيس كيرلس الكبير: [أما العلامة التي تُقاوم فيقصد بها علامة الصليب، إذ يقول الحكيم بولس: "لكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا لليهود ولليونانيِّين جهالة، وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوّة الله" (1 كو 1: 18)، فترون أن علامة الصليب عند قوم جهالة وعند آخرين رحمة وحياة.]

مرة أخري يرى القدِّيس باسيليوس الكبير أن العلاقة التي قاومها الهراطقة هي "حقيقة تجسُّد المسيح" فالبعض قالوا أنه جسد سماوي منكرين حقيقة التجسُّد وذلك كالغنوسيِّين، والبعض قال أنه جسد موجود قبل كل الدهور، وآخرون قالوا أن المسيح بدأ وجوده من مريم، أي أنكروا لاهوته.

ثالثًا: إن كان السيِّد المسيح الذي جاء لخلاص العالم قد صار موضع مقاومة، فإنَّ القدِّيسة مريم تشارك ابنها الصليب بكونها تمثِّل الكنيسة، التي تحمل صورة عريسها المصلوب المقاوَم. إذ يقول: "وأنتِ أيضًا يجوز في نفسك سيف. لتعلَن أفكار من قلوب كثيرين" [35]. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [يُراد بالسيف الألم الشديد الذي لحق بمريم وهي ترى مولودها مصلوبًا، ولا تعلم بالكليّة أن ابنها أقوى من الموت، وأنه لابد من قيامته من القبر، ولا عجب أن جهلت العذراء هذه الحقيقة فقد جهلها أيضًا التلاميذ المقدَّسون، فلو لم يضع توما يده في جنب المسيح بعد قيامته، ويجس بآثار المسامير في جسم يسوع لما صدق أن سيِّده قام بعد الموت.] وجاء في قطع الساعة التاسعة: [عندما نظرت الوالدة الحمل والراعي مخلِّص العالم علي الصليب معلَّقا، قالت وهي باكية: أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا ابني وإلهي.]

يقدَّم لنا القدِّيس أمبروسيوس مفهومًا آخر للسيف الذي يجوز في نفس القدِّيسة مريم، ألا وهو "كلمة الله" التي يليق بنا أن نتقبَّلها في أعماقنا كسيفٍ ذي حدين (عب 4: 12)، تفصل الشرّ عن الخير الذي يقوم... [لم يذكر الكتاب ولا التاريخ أن مريم استشهدت، غير أن السيف المادي لا يجوز في الروح بل في الجسد، إنما كلمة الله قويّة وفعّالة وأمضى من كل سيف ذي حدِّين، وخارقة إلى النفس والروح (عب 4: 12).]

رابعًا: ماذا يعني بقوله "لتُعلن أفكار من قلوب كثيرة" [35]؟ إن كان السيف - سواء الألم أو كلمة الله - يجتاز نفس القدِّيسة مريم، فإنَّ هذا يفضح فكر الكثيرين وقلوبهم، مثل الكتبة والفرِّيسيِّين الذين يتظاهروا بحفظ الناموس والغيرة علي الشريعة، فإنَّهم أمام الله مع القدِّيسة مريم تنفضح حقيقتهم الداخليّة، ويظهر رياءهم الباطل.

6. تسبحة حنة بنت فنوئيل

كان يلزم أن تفرح كل الفئات بالطفل العجيب، فيقدَّم لنا الإنجيلي لوقا حنَّة الأرملة كنبيَّة تسبِّح له، وكأنها تقوم بهذا الدور نيابة عن فئة الأرامل.

إن كان سمعان يحضر إلى الهيكل ككاهنٍ ليخدم في نوبته، فإنَّ هذه الأرملة كانت ملازمة للهيكل لا تفارقه "عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهارًا" [37]، حوالي 84 عامًا. إذ رأت الطفل "وقفت" [38] بالرغم من شيخوختها إذ ناهزت المائة عام، وانطلق لسانها بالتسبيح، وانفتح فمها بروح النبوَّة.

كتب القدِّيس جيروم إلى الأرملة فيوريا Furia ، مقدَّما لها حنَّة مثلاً حيًا، إذ يقول:

[أتريدين أن تعرفي ما يجب أن تكون عليه الأرامل؟ لنقرأ الإنجيل بحسب لوقا، فإنَّه يقول: "وكانت نبيّة حنَّة بنت فنوئيل من سبط أشير". فإنَّ كلمة "حنَّة" تعني "نعمة (حنان الله)"، وفنوئيل في لساننا يعني "وجه الله"، "وأشير" يمكن ترجمتها "غنى" أو "طوباويّة"، وكانت منذ صباها قد تحمَّلت الترمُّل لمدة 84 عامًا لا تفارق الهيكل، عابدة بأصوام وطلبات ليلاً ونهارًا لذلك نالت النعمة روحيًا وتقبَّلت لقب "ابنة وجه الله" وتمتَّعت بنصيب في "الطوباويّة والغنى" إذ تنسب له.]

7.العودة إلى الناصرة

"ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب،

رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة.

وكان الصبي ينمو ويتقوَّى بالروح ممتلئًا حكمة،

وكانت نعمة الله عل

http://demiana2010.com

3تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 3 السبت 2 يناير 2010 - 16:20

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 3

قبل أن يحدّثنا عن عمل هذا الصديق السماوي خاصة مع الفئات المرذولة والمنبوذة حدّثنا عن طبيعة هذا الصديق، معلنًا عنها خلال السابق له "يوحنا المعمدان"، وخلال شهادة السماء نفسها "العماد"...

1. ظهور يوحنا المعمدان 1-6.

2. الحث على التوبة 7-14.

3. شهادة عن المسيح 15-20.

4. عماد السيِّد 21-22.

5. نسب السيِّد المسيح 23-27.

1. ظهور يوحنا المعمدان

نظرًا لأهميّة الدور الذي يقوم به القدِّيس يوحنا المعمدان، حتى اهتم رجال العهد القديم بالتنبؤ عنه، يحدّثنا الإنجيلي لوقا عن تاريخ ظهوره كحقيقة واقعة تمت، وعن طبيعة عمله، وعن شهادته عن السيِّد المسيح. فمن جهة تاريخ ظهوره قال:

"وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر،

إذ كان بيلاطس بنطس واليًا على اليهودية،

وهيرودس رئيس ربع على الجليل،

وفيلبس أخوه رئيس ربع على إيطوريَّة وكورة تراخونيتس،

وليسانيوس رئيس ربع على الأبليّة.

في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا

كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريَّا في البرِّيَّة" [1-2].

عند البشارة بالحبل به حدَّد الوحِّي الإلهي التاريخ بإعلان اسم ملك اليهوديَّة الذي تم فيه ذلك الحدث (1: 5)، أما في بداية ظهوره للعمل فأعلن اسم الإمبراطور الروماني، والوالي الروماني وثلاثة رؤساء كل منهم رئيس ربع (حيث قُسِّمت اليهوديَّة إلى أربعة أقسام) واسمي رئيس الكهنة... بين هؤلاء جميعًا من رؤساء زمنيِّين ودينيِّين لم يوجد من تأهَّل لتكون عليه كلمة الله إلا يوحنا الذي تربَّى في البرِّيَّة.

ولعلَّه ذكر هذه الأسماء ليظهر ما بلغ إليه إسرائيل من مذلَّة، فلم يعد فقط خاضعًا للإمبراطور الروماني، إنما تقسَّمت مملكة إسرائيل إلى أربعة أقسام يحكمها ولاة رومانيُّون، حتى رئيس الكهنة كان الحاكم الروماني هو الذي يقيمه! هذا الذل المرير هو أحد علامات مجيئ المسيح، إذ قيل: "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون" (تك 49: 10). وسط هذا الجو القاتم ظهر يوحنا يهييء الطريق للسيِّد المسيح، وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس ظهر الصوت يهييء الطريق للكلمة.

يعلّق القدِّيس أمبروسيوس على كلمات الإنجيلي لوقا: "كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريَّا في البرِّيَّة" [2]، قائلاً بأن كلمة الله، أي السيِّد المسيح، كان يعمل سرِّيًا في يوحنا وهو في البرِّيَّة قبل أن يعمل في كنيسته، التي كانت برِّيَّة مقفرة، فغرسها بأشجار مقدَّسة جاء بها من وسط الشعوب، كانت قبلاً عاقرًا فصار لها أولاد (إش 54: 1).

يمكننا أن نقول بينما كان الرومان يسيطرون على اليهود حتى في الأمور الدينيّة إذ أقال الحاكم الروماني رئيس الكهنة "حنَّان" وأقام " قيافا" عوضًا عنه كان الله يدبر لهم ما هو أعظم، لا أن يحطَّم المملكة الرومانيّة ويقيم إسرائيل من مذلَّة زمنيّة، إنما يعد يوحنا في وسط البرِّيَّة بطريقة خفيّة ليهيء الطريق لإسرائيل كما للرومان لكي يقبلا العضويّة في جسد المسيح المقدَّس، يرتبطان معًا بالرأس الواحد على مستوى فائق، على صعيد الأبديّة التي لا تنتهي.

قد تسوَدْ الحياة في وجهك وتظن أن الشرّ قد ساد وحطَّم المؤمنين، لكن في كل زمان يعمل الله في وسط البرِّيَّة القاحلة ليقيم منها فردوسًا مقدَّسا يضم أشجارًا من كل أُمَّة وشعب ولسان!

من جهة منطقة عمله وطبيعة خدمته يقول:

"فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن

يكرز بمعموديّة التوبة لمغفرة الخطايا" [3].

منطقة عمله "الكورة المحيطة بالأردن"، ولعلَّ كلمة "كورة" تعني منطقة مستديرة، وهي محيطة بالأردن، لأن جوهر رسالته هو "العماد"، المرتبط بالتوبة، جاء يوحنا بمعموديَّته يهيئ الطريق لمعموديّة السيِّد المسيح لا لمغفرة الخطايا فحسب، وإنما للتمتَّع بروح البنوَّة لله وحلول الروح القدس فينا، حتى ننعم بصداقة مع السيِّد على مستوى الاتِّحاد الحق وشركة أمجاده.

هذا العمل الذي قام به المعمدان لم يتحقَّق بطريقة عشوائيّة، لكنه جاء جزءًا من خطة الله الخلاصيّة، سبق فنظرها الأنبياء من بعيد وتحدّثوا عنها، إذ يقول الإنجيلي:

"كما هو مكتوب في سفر أقوال إشعياء النبي القائل:

صوت صارخ في البرِّيَّة،

اَعدُّوا طريق الرب،

اِصنعوا سبله مستقيمة.

كل وادٍ يمتلئ وكل جبل وأكَمَة ينخفض،

وتصير المُعوجَّات مستقيمة، والشِعاب طرقًا سهلة.

ويبصر كل بشرٍ خلاص الله" [4-6].

أولاً: إن كان السيِّد المسيح هو "كلمة الله"، فإن يوحنا مجرَّد الصوت الذي يعد الطريق للكلمة. إن كان السيِّد المسيح هو "الحق" عينه، فيوحنا صوت يدوي في البرية لقبول الحق خلال "السبل" أو الطرق المستقيمة. إنه ينادى للنفوس اليائسة التي تشبه الوديان المنخفضة أن تمتلئ رجاءً، والنفوس المتشامخة كالجبل أو الأكَمَة أن تتَّواضع... بهذا يتمتَّع الكل بالخلاص. ولعلَّه يقصد بالوديان "الأمم" التي حطَّمتها الوثنيّة وأفقدتها كل رجاء في الرب، بالجبل والأكَمَة "شعب إسرائيل ويهوذا" الذي تعجرف، فالدعوة موجَّهة للجميع... "يبصر كل بشر خلاص الله".

ثانيًا: كانت الدعوة متَّجهة إلى التوبة العمليّة والسلوك: "تصير المعوجَّات مستقيمة والشِعاب طرقًا سهلة"، دعوة لترك كل طريق معْوج أو مُلتو، فإنه لن يبصر أحد الخلاص وهو قابع في شرِّه واعوجاج حياته،

ثالثًا: جاءت كلمة "بشَرْ" هنا في الأصل اليوناني "جسد"، وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [اعتاد الكتاب المقدَّس أن يصف الطبيعة البشريّة بقوله "كل جسد".] وأيضًا: [لا يعني جسدًا بدون نفس ولا عقل، بل "كل جسد" تعني "كل إنسان".]

رابعًا: إن دعوة يوحنا لا تزال قائمة في كل نفس، فإن أعماقنا لن تبصر خلاص الله ما لم نسمع صوت يوحنا في داخلنا يملأ قلوبنا المنسحقة بالرجاء، ويحطِّم كل عجرفة وكبرياء، ويحول مشاعرنا الداخليّة عن المعوجَّات ويجعل شِعابنا العميقة سهلة!

خامسًا: لما كان إنجيل لوقا موجَّها لليونان، فقد اقتبس كلمات إشعياء النبي هنا التي تفتح أبواب الرجاء لكل الأمم، إذ يقول: "ويَبصر كل بشر خلاص الله". وكما يعلِّق القدِّيس كيرلس الكبير، قائلاً: [وكل إنسان أبصر خلاص الله الآب، لأنه أرسل ابنه فاديًا ومخلِّصًا، ولم يقتصر الأمر على قومٍ دون آخرين، فإن عبارة "كل بشَر" تُطلق على جميع شعوب العالم بأسره، فلا يراد بها شعب بني إسرائيل فحسب، بل جميع الناس في أقاصي الأرض قاطبة، لأن رحمة المخلِّص غير محدودة، فلم تخلِّص أُمَّة دون أخرى بل اِفتدى المسيح جميع الأمم، وأضاء بنوره على كل الذين في الظلمة. وهذا هو الذي قصد إليه المرنِّم: "كل الأمم الذين صنعتهم يأتون ويسجدون أمامك يا رب ويمجِّدون اسمك" (مز 86: 9)، بينما في الوقت نفسه تخْلص البقيّة الباقية من الشعب الإسرائيلي كما أعلن موسى، إذ قال: "تهلَّلوا أيها الأمم شعبه" (تث 32: 43).]

2. الحث على التوبة

"وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا منه:

يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي.

فاصنعوا ثمارًا تليق بالتوبة،

ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا،

لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم.

والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر،

فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار" [7-9].

ويلاحظ في هذا النص الآتي:

أولاً: خروج الجموع بأعدادٍ وفيرةٍ للمعموديّة لم يكن في ذاته يُفرِّح قلب القدِّيس يوحنا المعمدان، ولا يحسبه نجاحًا للخدمة، إنما كان يلزم أن ترتبط المعموديّة بالتوبة العمليّة النابعة عن الإيمان الحق، وفي المسيحيّة يرتبط العماد بالإيمان العملي، وإن قُدِّمت للأطفال فيتعهَّد الإشْبين، وغالبًا ما يكون أحد أو كلا الوالدين هما الإشْبينين، يتعهدان بتربية الطفل في الإيمان المسيحي العملي.

جاء في مقالات القدِّيس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: [هل دخلتَ لأن الحارس لم يمنعك... أم لأنك تجهل الزي اللائق بدخولك الوليمة؟!... اُخرج الآن بلياقة واُدخل غدًا وأنت أكثر اِستعدادًا.] [حقًا أن العريس يدعو الجميع بغير تمييز لأن نعمة الله غنيّة، وصوت الرسل يعلو صارخًا لكي يجمع الكل؛ لكن العريس نفسه يقوم بفرز من دخلوا معه في علاقة زوجيّة رمزيّة. آه! ليته لا يسمع أحد ممَّن سُجِّلت أسماءهم هذه الكلمات: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لِباس العرس ( مت 22: 12).]

ثانيًا: دعاهم "أولاد الأفاعي"، قائلاً: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم تهربوا من الغضب الآتي؟!" [7]. وقد أخذ هذا التشبيه من واقع البيئة التي عاش فيها، إذ تكثر الأفاعي في البراري. ولعلَّه يقصد بالأفاعي هنا اِتِّسامهم بثلاث سِمات: الأولى: حب الأذيَّة للآخرين، فالأفعى سامة وقاتلة للإنسان. حب الأذى حتى للمقرَّبين فيقال أن بعض الأنواع من الأفعى تأكل الصِغار الأم. كما تزحف الأفعى على بطنها فتُمثِّل الفكر الترابي الأرضي.

v يُقصد بهذه الكلمات شرور اليهود الذين تدنَّسوا بسِموم قلوبهم الشرِّيرة، هؤلاء الذين أحبُّوا معوجَّات الأفاعي وجحورها المُختفية في باطن الأرض، عوضًا عن محبَّتهم لأسرار معرفة الله، ومع ذلك فإن الكلمات: "من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي" تشير إلى رحمة الله التي وهبتهم فرصة للتوبة عن خطاياهم، متوسِّلاً إليهم موضَّحًا لهم بأمانة كاملة الدنيويّة الرهيبة العتيدة.

يقصد يوحنا بـ "أولاد الأفاعي" اليهود كجنس لا كأفراد، فقد قيل: "كونوا حكماء كالحيَّات" (مت 10: 16)، فقد وُهبت لهم الحكمة الطبيعيّة، لكنهم اِستغلُّوها لذواتهم دون التفكير في ترك خطاياهم.
القدِّيس أمبروسيوس

v حسنًا دعاهم أولاد الأفاعي، إذ يُقال أن ذلك الحيوان عند ولادته تأكل الصغار بطن أُمِّها وتُهلكها فيخرجون إلى النور، هكذا يفعل هذا النوع من الناس، إذ هم قتلة آباء وقتلة أُمَّهات (1 تي 1: 9) يبيدون معلِّميهم بأيديهم.
القدِّيس يوحنا ذهبي الفم

ثالثًا: يسألهم ألا يتَّكلوا على نسبهم الجسدي لإبراهيم: "لا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا"، إنما يليق بهم أن يحملوا البنوَّة لإبراهيم خلال السلوك العملي فكأبناء حقيقيِّين يتمثِلون بإيمانه كما بسلوكه، وإلا فإن الله قادر أن يُقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم، وقد أقام بالفعل، ويبقى على الدوام يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم، أقام في العهد القديم من أحشاء سارة العاقر والتي تشبه الحجر إسحق ونسله غير المُحصى أولادًا لإبراهيم، ولا يزال يُقيم من القلوب المتحجِّرة قلوبًا مؤمنة تحمل البنوَّة لإبراهيم أب المؤمنين.

v أنذرهم أن يتأيَّدوا لا بنُبل جنسهم بل ببريق أعمالهم، فالمولد لا يُعطي أي اِمتياز ما لم يزكِّيه ميراث الإيمان.

v كان الله يستعد لتليين قسوة قلوبنا ليصنع من هذه الحجارة شعبًا مؤمنًا.
القدِّيس أمبروسيوس

v ما فائدة الحسب والنسب إذا كان الأبناء لا يسيرون في طريق الشرف والنبل كما يسير أجدادهم وأسلافهم؟! لذلك يقول المخلِّص: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم" (لو 8: 39)، يريد الله أن تكون القرابة مؤسَّسة على الأخلاق والأعمال، لأنه من العبث أن تفتخر بالوالدين الصالحين المقدَّسين، وأنت قاصر عن بلوغ شأنهم في الصلاح والفضيلة.

v يطلق يوحنا المعمدان المغبوط لفظة الحجارة على الأمم، لأنهم لم يعرفوا المسيح الذي بطبيعته إله، فجنحوا عن عبادة الله وسجدوا للخليقة لا الخالق، ولكن المسيح دعاهم فلبُّوا دعوته، وأصبحوا أبناء لابراهيم، واعترفوا بإيمانهم بيسوع بأُلوهيّة المخلِّص يسوع المسيح.
القدِّيس كيرلس الكبير

v يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم؛ يشير هنا إلى الأمم، إذ هم حجارة بسبب قسوة قلوبهم، لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر عن لحمك وأعطيكم قلب لحم" (خر 36: 26)، فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوّة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا.

القدِّيس چيروم

رابعًا: يستخدم أسلوب التهديد بالعقوبة: "والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتُلقي في النار" [9].

v لنتمثل بالأشجار المثمرة، فتنمو فضائلنا تسندها جذور التواِضع المستمر، ولنرتفع عن الأرضيَّات ونحمل في القمَّة أعمال التوبة المثمرة، فلا يأتي فأس المزارع ليقطع الغُصن البرِّي (غير المُثمر)، إذ "ويل لي إن كنتُ لا أبشِّر" (1كو 5: 6)، هذا ما نطق به الرسول، أما أنا فأقول: ويلٌ لي إن كنت لا أبكي على خطاياي؛ ويلٌ لي إن كنت لا "أقوم في نصف الليل لأشكرك على أحكام عدلك" (مز118: 12)؛ ويلٌ لي إن وشيْت بقريبي؛ ويلٌ لي إن كنت لا أنطق بالحق.

هوذا الفأس على أصل الشجرة، فليْتها تنمو وتقدِّم ثمر الشكر وثمرة التوبة.

هوذا الرب يقف يجني الثمار ويَهب الحياة عِوض الثمر، ويكتشف الشجرة التي لم تثمر ولها ثلاث سنوات (لو 13: 7). إنه لم يجد ثمرًا لليهود، لعلَّه يجد فينا ثمرًا، إذ هو مزمع أن يقطع من لا ثمار لهم حتى لا يشغلوا الأرض باطلاً.

ليجاهد من هم بلا ثمر أن يكون لهم في المستقبل ثمر، فإن زارع الأرض الطيِّب يشفع فينا نحن الذين بلا ثمر وبلا نفع لكي تُترك لنا فرصة، ويطيل الله أناته علينا لعلَّنا نقدر أن نقدِّم بعضًا من الثمار.
القدِّيس أمبروسيوس

v وتشير الفأس إلى سخط الله وغضبه من جراء تعدِّي اليهود على المسيح وعظَم جرمهم ضد السيِّد، فيقول زكريَّا في هذا الصدد: "في ذلك اليوم يعظم النوح في أورشليم كنوح هدد رمون..." (زكريَّا 12: 11) ويخاطب إرميا أورشليم أيضًا فيقول: "زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك، بصوت ضجَّة عظيمة أوقد نارًا عليها فانكسرت أغصانها ورب الجنود غارِسك قد تكلَّم شرًا" (إر 11: 16)، ويمكنكم فوق ذلك أن تضيفوا إلى هذا القول مثَل التينة في الأناجيل المقدَّسة، لأنه لمَّا كانت شجرة التينة غير مثمرة فإن الله شاء فجفَّت جذورها،

ولاحظوا أن المعمدان لا يقول "إن الفأس" وُضعت في "داخل" أصل الشجرة بل على أصل الجذور، ويراد بذلك أن الأغصان ذبُلت وهوَت، أما النبات فلم يُستأصل من جذوره، لأنه توجد بقيّة من شعب إسرائيل تابت إلى الله فخلُصت ولم تهلك هلاكًا أبديًا.
القدِّيس كيرلس الكبير

ما هي هذه الفأس التي توضع على أصل الشجرة لتقطعها وتُلقيها في النار إلاّ كما يقول القدِّيس چيروم "السيف ذي الحدِّين"، كلمة الله التي تقطع كل ما هو غير مُثمر فينا، كلمة الله قويَّة وفعّالة قادرة أن تحطِّم فينا كل عُقْم لتُقيم فينا بالدم الطاهر ثمارًا حيَّة.

خامسًا: إذ هدَّد بقطع الشجرة التي بلا ثمر من جذورها والإلقاء بها في النار، أوضح أن الثمر هو "الحب العملي" أو الرحمة، إذ يقول:

"وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟

فأجاب وقال لهم: من له ثوبان فليُعطِ من ليس له،

ومن له طعام فليُفعل هكذا" [10-11].

لقد سأله عشَّارون وجند أيضًا، وكانت وصيَّته لهم تتركَّز في الرحمة والحب العملي، إذ طلب من العشَّارين لا أن يتركوا عملهم، بل في أمانة لا يستغلُّوا مركزهم، فيجمعوا ضرائب أكثر ممَّا يجب لحسابهم الخاص، كما لم يطلب من الجند أن يتركوا عملهم، بل لا يستغلُّوا وظيفتهم فيظلموا الآخرين، أو يَشُوا بأحدٍ، إنما يكتفون بالعمل بأمانة، ولا يطلبوا سِوى أجرتهم (اِكتفوا بعلائفكم).

v أجاب يوحنا المعمدان إجابة واحدة تناسب كل عمل بشري... الرحمة هي فضيلة عامة، والمبدأ الأساسي الذي يجب أن يُعمل به في كل مكان ويمارسه كل سن، فلا يستثني منه الفرِّيسي ولا الجندي ولا الفلاح... لا الغني ولا الفقير، إذ الجميع مدعوُّون أن يُعطوا من ليس معهم، لأن الرحمة هي كمال الفضائل.
القدِّيس أمبروسيوس

v حقًا لم يمنعهم من الخدمة كجنودٍ عندما أمرهم أن يكتفوا بأجورهم حسب الخدمة.
القدِّيس أغسطينوس

3. شهادته عن المسيح

كان الشعب اليهودي غريبًا، فبينما نجده قد رفض السيِّد المسيح، ولم يكن قادرًا على قبوله مخلِّصًا وفاديًا نراه يظن في يوحنا أنه "المسيح"، إذ يقول الإنجيلي: "وإذ كان الشعب ينتظر، والجميع يفكِّرون في قلوبهم عن يوحنا لعلَّه المسيح..." [15] ولعل السبب في ذلك ما رأوه في يوحنا من تقشُّف شديد في أكلِه وشُربه وملبسه وحزمه في تبكيته الخطاة، فظنَّوه أنه قادر أن يخلِّصهم من الرومان متى قام بدور قيادي حاسم.

عجيب هو الإنسان فإنه كثيرًا ما يرفض حب الله الفائق ويستهين بطول أناته منجذبًا للمخلوق دون الخالق! لكن يوحنا في أمانته لم يقبل أن يسلب مجد المسيح، رافضًا بشدَّة التكريم الزائد غير اللائق به، شاهدًا عن المسيح الحقيقي، معلنًا أنه ليس هناك مجال مقارنة بين السيِّد المسيح وبينه، وبين معموديَّة السيِّد ومعموديَّته، إذ "أجاب يوحنا الجميع قائلاً: أنا أعمِّدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى منِّي، الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه، هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار. الذي رفْشُه في يده وسينقِّي بيٍدَرَه، ويجمع القمح إلى مخزنه، وأما التِبن فيحرِقه بنارٍ لا تُطفأ" [16-17].

يقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم: [هذا هو دور الخادم الأمين ليس فقط لا ينسب لنفسه كرامة سيِّده، بل يمقت ذلك عندما يقدِّمها له كثيرون.]

يقول العلامة أوريجينوس: [كان كل الشعب معجبًا به ويحبُّه، فمن المؤكَّد أن يوحنا كان إنسانًا غريبًا يستحق إعجابًا شديدًا من كل الناس، فقد كانت حياته مختلفة تمامًا عن بقيّة الناس... فمحبَّتهم له كان لها ما يبرِّرها، لكنهم تجاوزوا الحد المعقول في محبَّتهم، إذ تساءلوا إن كان هو المسيح. والرسول بولس كان يخشى مثل هذا الحب غير الروحي الذي غيَّر موضعه، إذ يقول عن نفسه: "ولكن أتحاشى لئلاّ يظن أحد من جِهتي فوق ما يراني أو يسمع منِّي، ولئلاّ أرتفع من فرط الإعلانات" (2 كو 12: 6-7)... وأنا نفسي أتألّم من هذه المغالاة في كنيستنا، فالغالبيّة يحبُّونني أكثر ممَّا اَستحق ويمدحون أحاديثي وتعاليمي... وإن كان البعض على العكس ينتقد وعظنا وينسبوا إليّ آراء ليست لي... فإن الذين يبالغون في حبِّنا والذين يبغضوننا كلاهما لا يحتفظون بقانون الحق، هؤلاء يكذبون في حبِّهم المُبالغ وأولئك في كراهيَّتهم، لذلك يجب أن نضع ضوابط للحب ولا نتركه في حريّة يحملنا هنا وهناك... فقد جاء في سفر الجامعة: "لا تكن بارًا كثيرًا ولا تكن حكيمًا بزيادة، لماذا تخرب نفسك؟!" (جا 7: 16).... فلا تحب إنسانًا "من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوَّتك"، ولا تحب ملاكًا هكذا من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوَّتك، إنما أتبع كلام الرب واحفظ تعليمه: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك" (لو 10: 27).]

ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [لم يقصد يوحنا بهذه المقارنة إثبات أن المسيح أعظم منه، فليس من وجه للمقارنة بين الله وإنسان... يوحنا لم يشأ أن يقارن نفسه بالمسيح إذ قال: "لست مستحقًا أن أحل سِيور حذائه"... ربَّما أراد القدِّيس يوحنا أن ينقص من شأن الشعب اليهودي بقوله: "ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص" (يو 3: 30)، كان ينبغي أن ينقص الشعب اليهودي حتى يزداد الشعب المسيحي في المسيح.]

يقول القدِّيس كيرلس الكبير:

[دُهش الناس لما رأوا من الجلال الرائع في عيشة يوحنا الهادئة، عظمة أخلاق وسِمو تقوى وصلاح، فقد هال الشعب اليهودي سِمو يوحنا ورُقيِّه في عيشته وتعاليمه، حتى ظنَّوا أنه لابد وأن يكون المسيح الذي أشار إليه الناموس بمختلف الرموز، ووصفه كثير من الأنبياء والرسل، إلا أن يوحنا سرعان ما لاحظ ظنونهم حتى وقف يبدِّدها بحزمٍ وعزمٍ، فأعلن في غير لبس أنه ما هو إلا خادم لسيِّده، وأن المجد والكرامة والسجود والعظمة لا تليق إلا بالمسيح الذي اسمه يفوق كل اسم.

عَلَم يوحنا أن المسيح أمين لكل من يخدمه، فما على الخادم إلاّ أن يعلن الحق والصدق، إذ الفرق شاسع بين الخادم وسيِّده، أي بين يوحنا والمسيح ولذلك يقول: "أنتم أنفسكم تشهدون لي أني قلت لست أنا المسيح بل أني مرسل أمامه" (يو 3: 28)، فحقًا أن يوحنا عظيم في رسالته وعظيم في شهادته، فقد كان رائع الجلال ككوكب الصباح الذي يعلن شروق الشمس من وراء الأفق.

أراد يوحنا أن يثبت للملأ أنه دون سيِّده مرتبة ومقامًا، فقال: "أنا أعمِّدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى منِّي الذي لست أهلاً أن أحل سيور حذائه" (3: 16).

حقًا أن الفرق شاسع بين المسيح ويوحنا، بل لا تصح المقارنة بينهما، ولذلك صدَق المعمدان المغبوط رغمًا عن سِمو فضيلته وكريم خلقه بأنه "غير أهل لأن يحل سِيور حذائه"، لأنه إذا كانت القوَّات السمائيّة والعروش والسيرافيم المقدَّسة تقف حول عرش المسيح الإلهي مقدِّمة له المجد والتسبيح، فمن ذا الذي يستطيع من سكان الأرض أن يقترب من الله؟! نعم يحب الله الإنسان فهو رؤوف به رحوم عليه، ولكن يجب ألا ننكر بأي حال من الأحوال بأننا لا شيء بالنسبة له فنحن بشر ضعفاء جهلاء.]

ويقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم: [إنه عالٍ جدًا ولا أستحق أن أُحُسب أقل عبد عنده، فإن حلْ سيور الحذاء هو أكثر الأعمال وضاعة.]

ويقدَّم لنا الأب غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لكلمات القدِّيس يوحنا المعمدان: فيرى في حذاء السيِّد إشارة إلى الجسد الذي اِلتحف به، فإن حلْ سيوره إنما يعني فكْ أسرار التجسُّد، إذ يشعر نفسه عاجزًا عن إدراك هذا السرْ الإلهي وبحثه، بينما يقدِّم لنا القدِّيس چيروم تفسيرًا آخر وهو أن يوحنا المعمدان لا يتجاسر أن يمد يده ليحل سيور حذاء سيِّده، لأن السيِّد يريد عروسه المترمِّلة ولا يرفضها، إذ جاء في الشريعة أن الوليّ الذي يرفض الأرملة كزوجة ليُقيم منها نسلاً للميِّت يخلع نعليْه أمام شيوخ المدينة ويُعطيه لمن يَقبل الزواج منها، كما فعل وليّ راعوث (را 4: 7-8). مسيحنا لن يخلع نعليْه ليعطيهما لأحد، إذ يوَد أن يقتنينا عروسًا له، ويشترينا بحبُّه ودمه المبذول.

لم يجد القدِّيس يوحنا وجهًا للمقارنة بينه وبين سيِّده، ولا بين معموديَّته ومعموديّة سيِّده، إذ قال: "أنا أعمِّدكم بماء... هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار" [16].

v الماء يطهِّر الجسد، والروح يطهِّر القلب من الخطايا، نحن نقوم بالعمل الأول ونصلِّي لكي يتم العمل الثاني حيث ينفخ الروح في الماء فيقدِّسه، الماء وحده ليس دليلاً على التطهير وإن كان الاثنان لا ينفصلان: الماء والروح، لذلك اِختلفت معموديّة التوبة (ليوحنا) عن معموديّة النعمة التي تشمل العنصرين، أما الأولى فتشمل عنصرًا واحدًا. إن كان كل من الجسد والروح يشتركان في الخطيّة فالتطهير لازم لكيهما.
القدِّيس أمبروسيوس

v المعموديّة هي الكُور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يُسبك الناس ليصيروا غير أموات.
القدِّيس يعقوب السروجي

v الروح القدس هو نار كما جاء في أعمال الرسل، إذ حلّ على المؤمنين على شكل ألسنة ناريّة. وهكذا تحقَّقت كلمة المسيح: "جئت لأٌلقي نارًا على الأرض، فماذا أريد لو إضطرَمَت؟!" (لو 12: 49). يوجد تفسير آخر وهو أننا نعتمد حاليًا بالروح، وبعد ذلك (في يوم الرب) بالنار كقول الرسول: "ستمتَحِن النار عمل كل واحد ما هو" (1 كو 3: 13).

القدِّيس چيروم

v يقول يوحنا ذلك ثانية للدلالة على ضعفه وجهله "أنا أعمِّدكم بماء ولكن هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار" (لو 3: 16)، وهذا برهان جليل على أُلوهيّة المسيح، لأنه من خاصيَّات يسوع الذي يفوق الكل قوَّته على منح الناس الروح القدس حتى أن كل من يقبله يتمتَّع بالطبيعة الإلهيَّة، ولكن لاحظوا أن هذه القوّة في يسوع المسيح لم يمنحها ولم يرسلها أحد بل هي له وفيه، وخاصة به، إذ ورد "يعمِّدكم بالروح القدس". فالله الكلمة المتأنِّس هو ثمرة الله الآب، فلا يعترض أحد بأن الذي يُعمِّد بالروح القدس هو الله الكلمة، وليس ذاك الذي أتى من ذُرِّيَّة داود، فلم يشاء أن يقسِم المسيح ابنين، فقد وصف الكتاب المقدَّس هؤلاء الناس بأنهم: "حيوانات ومعتزلون بأنفسهم ولا روح لهم" (يه 19).

وما معنى ذلك كله؟ يجب أن نؤكِّد تمام التأكيد غيرَ مكتَرثين بنقض أو اِعتراض بأن الله الكلمة يَمنح الروح القدس الذي له، لكل من كان جديرًا بهذه الهِبة

وحتى لما تأنَّس الله الكلمة وهبنا الروح القدس، لأنه ابن الله الوحيد الذي صار جسدًا، فهو والآب واحد بطريقة لا يًدركها العقل ولا يحدَّها الوصل، يقول المعمدان "لست أهلاً أن أحلْ سِيور حذائه" ثم يعطف على ذلك قوله "هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار"، فمن الواضح أنه كانت هناك قدمان للبس الحذاء،غير مرتبطة بالجملة السابقة، وما معنى القدمان قبل وبعد التجسد؟؟؟؟؟؟؟ ولا يمكن للإنسان العاقل أن يفترض أن المسيح كان يلبس قبل تجسُّده حذاء فلم يحدث ذلك إلا عند تجسُّده، ولما كان المسيح بتجسُّده لم يكُف عن أن يكون إلهًا، وجب أن يعمل أعمالاً تليق بأُلوهيَّته، فأعطى الروح القدس لكل الذين آمنوا، لأنه هو واحد وشخص واحد وفي الوقت نفسه إله وإنسان أيضًا...
القدِّيس كيرلس الكبير

إذ أعلن عن معموديّة المخلِّص، تحدّث كديَّان: "الذي رفْشُه في يده، وسينقِّي بيدَرَه، ويجمع القمح إلى مخزنه، وأما التبن فيحرقه بنار لا تُطفأ" [17].

v تكشف الإشارة إلي رفْشْ المسيح إلى سلطانه في تمييز عمل كل واحد. حينما يُذَرِّي القمح يفصل الفارغ عن الملآن، المثمر عن الذي بلا ثمر بفضل نسمة الهواء... سيميِّز الرب في يوم الدينونة بين الأعمال المثمرة بفضائل ممتلئة وبين الأعمال الفارغة، فيدعو الكاملين إلى الوطن السماوي... بينما يمقُت القَشْ ولا يحب الأعمال العقيمة، لذلك: "قدَّامه تذهب نار" (مز 97: 3)، [لكنها نار من طبيعة غير مؤذيّة تحرق أيضًا أعمال الظلمة وتُظهر بريق أعمال النور.]
القدِّيس أمبروسيوس

v أريد أن أكشف عن السبب الذي لأجله يمسك ربَّنا الرفْشْ وعن النفخة التي ترفع التِبن ليتطاير هنا وهناك، بينما القمح الأكثر ثقْلاً يبقى في مكانه...

الهواء على ما أظن يعني التجارب التي تكشف المؤمنين، إن كانوا تِبنًا أو قمحًا، لأنه عندما تحل بنفسك بعض التجارب، فليست التجربة هي التي تجعل المؤمنين تبنًا أو قمحًا، إنما إن كنتم تبنًا خفيفًا بلا إيمان تكشف التجارب عن طبيعتك المختفية؛ وعلى العكس إن واجَهْتُم التجربة بشجاعةٍ فليست التجربة هي التي تجعلكم أوفياء صابرين، إنما تكشف عن فضيلة الصبر والقوّة التي فيكم وكانت مختفية.

v عندما تهبْ العاصفة لا يمكنها أن تزعزع المبنى المٌقام على الصخر، إنما تكشف عن ضعف حجارة المبنى المزعزع المُقام على الرمل.
العلامة أوريجينوس

v يشبِّه يوحنا سكان الأرض بسنابل الحنطة وبالأحرى يقارنهم بقمح في حقل دَرَّاس. فإن كُلاً منَّا ينمو كسُنبلة قمح، وقد بين ربَّنا مرَّة وهو يخاطب الرسل المقدَّسين هذه الحقيقة، فقال لهم: "إن الحصاد كثير، ولكن الفعَلة قليلون، فاُطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعَلة إلى حصاده" (لو 10: 2). نحن الذين نعيش على الأرض نُسمَّى سنابل الحنطة وقمحًا وحصادًا، وهذا الحصاد يملك عليه الله لأنه رب الجميع. لكن تأمَّلوا في كلام المعمدان المغبوط فإنه يصف حقل الدَرَّاس بأنه ملك المسيح، فهو الذي ينقِّي بيدَرَه ويجمع القمح إلى منزله ويحرق التبن بنار لا تُطفأ. فالقمح هو رمز للأخيار الذين ثبتوا في إيمانهم ورسخوا في عقيدتهم، أما التِبن فُيشير إلى أولئك الناس الذين ضعُفت عقولهم وسقُمَت قلوبهم، فأصبحوا قلقين تهب عليهم الرياح فتفرِّقهم...، فلا غرابة بعد ذلك إن جُمع القمح في مخزنه لأنه جدير بأن يُحفظ في مكان أمين بعناية الله له ورحمته ونعمته، ولكن التِبن يُحرق بنار لا تُطفأ إذ لا يساوي قلامة ظفر.
القدِّيس كيرلس الكبير

v هذا التِبن لا يُهلك من هم حنطة الرب، والذين هم قليلون، إن قورنوا بالآخرين، لكنهم هم جمع عظيم.
القدِّيس أغسطينوس

أبرز الإنجيلي لوقا عمل القدِّيس يوحنا المعمدان الرئيسي، وهو الشهادة للسيِّد المسيح وعمله الخلاصي، ومعموديَّته بالروح القدس، وقد جاءت هذه الشهادة ممتزجة بكلمة التبكيت للتوبة مع بث روح الرجاء، مبشِّرًا إيَّاهم برحمة الله، إذ يقول: "وبأشياء أُخر كثيرة كان يعظ الشعب ويبشِّرهم" [18].

لم تكن كرازته وعظاته خاصة بالعامة فحسب، إنما اِمتدَّت إلى الرؤساء بلا مُداهنة ولا مُجاملة. يقول:

"أما هيرودس رئيس الرُبع فإذ توبَّخ منه لسبب هيروديَّا امرأة فيلبس أخيه،

ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها.

زاد هذا أيضًا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن" [19-20].

لقد سبق فدرسنا قصَّة سجن يوحنا بواسطة هيرودس، الذي أراد أن يكتم أنفاس الحق، ويقيِّد الكلمة والوصيّة بالسجن والقيود والسيف، فكان الصوت يزداد علوًّا خلال الضيق، وكيف صار هذا رمزًا لمحاولة اليهود تقييد الكلمة النبويّة (يوحنا النبي) ومنعها من الإعلان عن المسيَّا.

4. عماد السيِّد

أن كان يوحنا قد شهد للسيِّد ولمعموديَّته، فإنه إذ قبل الجموع القادمة إليه لتعتمد جاء السيِّد نفسه يعتمد:

"ولما اِعتمد جميع الشعب اِعتمد يسوع أيضًا،

وإذ كان يصلِّي اِنفتحت السماء.

ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسميّة مثل حمامة،

وكان صوت من السماء قائلاً:

أنت ابني الحبيب بك سُررت" [21-22].

فيما يلي بعض تعليقات الآباء على معموديّة السيِّد:

v جاء إلى المعموديّة بدون خطيّة تمامًا، وهكذا لم يكن بدون الروح القدس، لقد كُتب عن خادمه وسابقه يوحنا نفسه أنه من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو 1: 15)، فإن كان وقد وُلد من أبيه (من زرع بشر) تقبَّل الروح القدس وهو يتشكَّل في الرحم، فماذا يمكننا أن نفهم ونعتقد بالنسبة للمسيح نفسه الذي حبل به، لا بطريقة جسدانيّة بل بالروح القدس؟!
القدِّيس أغسطينوس

v لم يّحلْ الروح القدس على جموع اليهود بل على يسوع وحده، إن أردت أن تقبل الروح القدس أيها اليهودي آمن بيسوع فإن الروح القدس حالْ فيه.
القدِّيس جيروم

v المسيح يوُلد، والروح هو المهيئ له!

إنه يعتمد، والروح يشهد له!

إنه يُجرب، والروح يقوده (4: 1، 18)!

إنه يصنع معجزات، والروح يرافقها!

إنه يصعد إلى السماء، والروح يحل محلُّه!
القدِّيس غريغوريوس النزينزي

v لم يعتمد الرب ليتطهَّر... الذي لم يعرف خطيّة له سلطان على التطهير، بهذا كل من يدفن في جرن المسيح يترك فيه خطاياه...

v شرح الرب نفسه سبب عماده: "اسمح الآن لأنه ينبغي لنا أن نكمِّل كل برْ" (مت 3: 15). من بين مراحمه الكثيرة بناؤه الكنيسة، فبعد الآباء والأنبياء نزل الابن الوحيد وجاء ليعتمد، هنا تظهر بوضوح الحقيقة الإلهيّة التي ذُكرت بخصوص "الكنيسة"، وهي إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً تعب البنَّاؤون". إذ لا يستطيع الإنسان أن يبني ولا أن يحرس: "إن لم يحرُس الرب المدينة، فباطل سهِر الحُرَّاس" (مز 126: 1). إني أتجاسر فأقول أنه لا يستطيع الإنسان أن يسلك في طريق ما لم يكن الرب معه يقوده فيه، كما هو مكتوب: "وراء الرب إلهكم تسيرون وإيَّاه تتَّقون" ( تث 13: 4)، "الرب يقود خُطى الإنسان" (حك 20: 24)... الآن تُخلق الكنيسة... يقول "اسمح الآن"، أي لكي تُبني الكنيسة، إذ يليق بنا أن نكمِّل كل برْ.

v اغتسل المسيح لأجلنا، أو بالحرى غسلنا نحن في جسده، لذا يليق بنا أن نُسرع لغسل خطايانا...

v دُفن وحده ولكنه أقام الجميع،

نزل وحده ليرفعنا جميعًا،

حمل خطايا العالم وحده ليطهِّر الكل في شخصه، وكما يقول الرسول: "نقُّوا أيديكم إذن وتطهَّروا" (يع 4: 8)، فالمسيح غير محتاج إلى التطهير، تطهَّر لأجلنا.

القدِّيس أمبروسيوس

v هل كان المسيح في حاجة إلى العماد المقدَّس؟ وأية فائدة تعود عليه من ممارسة هذه الفريضة؟ فالمسيح كلمة الله، قدُّوس من قدُّوس كما يصفه السيرافيم في مختلف التسبيحات (إش 3: 6)، وكما يصفه الناموس في كل موضع، ويتَّفق جمهور الأنبياء مع موسى في هذا الصدد.

وما الذي نستفيده نحن من العماد المقدَّس؟ لا شك محو خطايانا، ولكن لم يكن شيء من هذا في المسيح، فقد ورد: "الذي لم يفعل خطيَّة ولا وُجد في فمِه مكْر" (1 بط 2: 22)، "قدُّوس بلا شرْ ولا دنَس قد اِنفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات" (عب 7: 26).

ولكن رُبَّ سائل ضعُف إيمانه يقول: هل اعتمد الله الكلمة وهل كان المسيح في حاجة إلى موهبة الروح القدس؟ كلاَّ لم يكن شيء من ذلك. ما اعتمد المسيح إلا لتعليمنا بأن الإنسان الذي من ذرِّيّة داود وهو المتَّحد بالله الابن عُمد وقبِل الروح القدس. فلماذا تقسِمون غير المقسُوم إلى ابنين وتقولون أنه عُمد في سن الثلاثين فأصبح مقدَّسًا.

ألم يكن المسيح مقدَّسًا حتى بلغ الثلاثين من عمره؟ من هو الذي يرضى بقولكم هذا، وأنتم تُلبِسون الحق بالباطل، وتزيِّفون العقيدة بالزيغ والريب إذ يوجد "رب واحد يسوع المسيح" (1 كو 8: 6)، ولذلك نُعلن على رؤوس الأشهاد: إنه لم ينفصل من روحه لمَّا اِعتمد، لأن الروح القدس وإن كان ينبثق من الله الآب فإنه يخُص أيضًا الله الابن، إذ "من مِلئِه نحن جميعًا أخذنا" (يو 1: 16). بل وكثيرًا ما سُميَ الروح القدس روح المسيح، مع أنه منبثق من الله الآب على حد قول الرسول بولس: "فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يُرضوا الله، وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم... يهب الروح القدس لكل من كان جديرًا به، إذ قال: "بما أنكم أبناء الله أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبَا الآب" (راجع غل 4: 6)، فبالرغم من أن الروح القدس ينبثق من الله الآب، فإن المسيح الكلمة ابن الله الوحيد الذي يشترك مع الآب في العظمة والسلطان لأنه بطبيعته ابن حقيقي يرسل الروح القدس إلى الخليقة ويهبه لكل من كان جديرًا به، إذ قال: "حقًا كل ما للآب هو لي" (16: 15)...

كان من الضروري إذن أن الله الكلمة وقد أفرغ نفسه بتواضعه بأن يتَّخذ صورتنا ويكون شبهنا، فهو بِكرُنا في كل شيء، ومثالُنا الذي نحتذي به في كل أمر، وعليه فلكي يعلِّمنا قيمة العماد وما فيه من نعمة وقوّة بدأ بنفسه وتعمَّد، ولما تعمَّد صلَّى، لنتعلَّم يا أحبائي أن الصلاة ضروريّة، فيصلِّي كل حين من أصبح جديرًا بنعمة العِماد المقدَّس.

ويصف الإنجيلي السماء بأنها اِنفتحت كما لو كانت مُغلقة، فإن المسيح يقول: "مِن الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزِلون على ابن الإنسان" (يو 1: 51)، لأن طغمة الملائكة في السماء، وبني الإنسان على الأرض يظلِّلهم جميعًا علَم واحد، ويخضعون لراعٍٍ واحد هو السيِّد المسيح. اِنفتحت السماء فاقترب الإنسان من الملائكة المقدَّسين. نزل الروح القدس إشعارًا منه بأنه وُجدت خليقته ثانية. حلّ أولاً على المسيح الذي قبِل الروح القدس لا من أجل نفسه بل من أجلنا نحن البشر، لأننا به وفيه ننال نعمة فوق نعمة.

فترون أن المسيح حبًا في خلاصنا وفدائنا أخذ صورتنا، وفي هذه الصورة إخلاء ما بعده إخلاء للطبيعة الإلهيّة، وكيف يمكن أن يكون فقيرًا إن لم ينزل إلى درجة فقرنا وعوْزنا، وكيف كان يمكن أن يُخلي نفسه إذا لم يقبل اِحتمال الطبيعة البشريّة؟!

والآن وقد أخذْنا المسيح مثلْنا الأعلى فلِنقترب إلى نعمة العماد الأقدس، وبذلك نجرُؤ على الصلاة بجِدٍ وحرارة، ونرفع أيدينا المقدَّسة إلى الله الآب، فيفتح لنا كُوَى السماوات...
القدِّيس كيرلس الكبير

v هؤلاء ظهروا كمنفصلين لفهمنا، لكنهم بالحقيقة ثالوث غير منفصل.
القدِّيس أغسطينوس

v لنتأمَّل الآن في سر التثليث، فإذ نقول أن الله واحد لكننا نعترف بالآب والابن... الذي أعلن أنه ليس وحده بقوله: "وأنا لست وحدي لأن الآب معي" (16: 32)... والروح القدس حاضر، الثالوث القدِّوس لن ينفصل قط.

القدِّيس أمبروسيوس

5. نسب السيِّد المسيح

في دراستنا للإنجيل بحسب متَّى (الأصحاح الأول) سبق لنا المقارنة بين نسب السيِّد المسيح كما ورد في إنجيل متَّى مع ما ورد في إنجيل لوقا، لذلك نكتفي بتقديم ملخَّص مع إبراز جوانب أخرى:

أولاً: القديس متَّى كيهودي يكتب لإخوته اليهود اِهتم بإبراز السيِّد المسيح بكونه "ابن داود"، المسيَّا الملك المنتظر، وأنه ابن إبراهيم الذي به تحقَّقت العهود والمواعيد الإلهيّة، أما القديس لوقا وهو يكتب للأمم فيهتم بإبراز أنه أب كل البشريّة.

ثانيًا: قلنا أن القديس متَّى الإنجيلي إذ يقدِّم لنا النسب قبل أحداث الميلاد، حيث أخلى كلمة الله ذاته بالتجسُّد، جاء النسب تنازليًّا من إبراهيم حتى يوسف خطيب مريم، أما في إنجيل القديس لوقا فجاء النسب بعد عماد السيِّد حيث فيه رفعنا إلى البنوَّة لله لذلك جاء النسب تصاعديًا من يوسف حتى آدم "ابن الله".

يقول العلامة أوريجينوس: [اِبتدأ متَّى بذكر الأنساب مبتدئًا بإبراهيم ليصل إلى القول: "أمَّا ولادة يسوع فكانت هكذا" لأنه يهتم ويفرح بذلك الذي جاء إلى العالم... أما لوقا فيصعد بالأنساب ولا ينزل بها، فإنه إذ تحدَّث عن عِماده اِرتفع (بنا) إلى الله نفسه.]

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لم يذكر لوقا الأنساب في البداية، بل بعد حادثة العماد، إذ أراد أن يُظهر بذلك أن الله هو أبونا جميعًا بالمعموديّة، كما أكَّد أن المسيح أتى من قِبل الله (الآب) بحسب نسبه، مُظهِرًا أنه ابنًا للآب بالطبيعة وبالنعمة وبالجسد (إذ جاء من نسل آدم ابن الله)، وقد أوضح البُنوَّة الإلهيّة بشهادة الآب: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت".]

لنفس السبب يكرِّر القديس متَّى البشير كلمة "وُلد"، قائلاً مثلاً "إبراهيم وَلد" إسحق... أما الإنجيلي لوقا فيكرِّر كلمة "ابن"...، فالأول يُعلن تسلُّل الخطيّة إلينا خلال الولادات البشريّة، وقد جاء السيِّد الذي بلا خطيّة يحمل خطايا الأجيال كلها، أما القديس لوقا فيرفعنا إلى البُنوَّة لنبلغ "البُنوَّة لله".

ثالثًا: الاختلاف بين الأسماء المذكورة في الإنجيلين يرجع إلى اِستخدام أحدهم النسب الطبيعي حسب الجسد، والآخر حسب الناموس، كأن ينسب الطفل لوالدين أحدهما أبوه حسب الطبيعة والآخر حسب الشريعة. ففي الشريعة إن مات رجل بلا أولاد تتزوَّج امرأته ولِيَّها، ويكون الولد الأول منسوبًا للميِّت حسب الشريعة.

كما أوضح القدِّيس أمبروسيوس أن الإنجيلي متَّى ذكر النسب من جهة سليمان أما الإنجيلي لوقا فمن جهة ناثان، الأول أراد تأكيد نسبه الملوكي والثاني نسبه الكهنوتي: [فهو مَلِك بالملوك وكاهن بالكهنة، لكن مُلكه إلهي وكهنوتُه فائق، ولهذا السبب أيضًا صار الثور رمز الإنجيلي لوقا لأنه تكلَّم كثيرًا عن الكهنوت.

رابعًا: يرى العلامة أوريجينوس أن القديس متَّى أورد أسماء نساء خاطئات وأمميَّات في الأنساب، لأنه جاء يحمل خطايانا ولا يستنكف من نسبه لأحد، أما القديس لوقا فإذ ذكر الأنساب بعد العماد لا نجد أسماء نساء خاطئات، إذ يريد أن يرفع الكل فوق مستوى الضعف.

تحدّثنا قبلاً كيف يريد الله في الكل "رجال ونساء" أن يكونوا رجالاً لا من جهة الجنس، وإنما من جهة الرجولة أو النُضج الروحي، بلا تدليل النساء ولا ضعف الأطفال.

خامسًا: يرى العلامة أوريجينوس أن قول الإنجيلي "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يظن ابن يوسف" [23]. يذكرنا بيوسف بن يعقوب حينما بلغ حوالي الثلاثين من عمره (تك 12: 2) حيث تحرَّر من السجن وصار وكيلاً لفرعون على مخازن القمح يقوم بتوزيعها في وقت الجوع، هكذا السيِّد المسيح إذ يحمل مخازن القمح الروحي من كلمة الشريعة وكتابات الأنبياء، يفيض على تلاميذه الجائعين ليُشبعهم روحيًا من القمح الجديد بلا خمير عتيق!

http://demiana2010.com

4تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 4 السبت 2 يناير 2010 - 16:33

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 4

تمثل الأصحاحات الثلاثة السابقة "سفر التكوين الجديد"، إذ حلَّ كلمة الله المتجسِّد في أحشاء البتول كجنين، ثم صار طفلاً فصبيًا يبارِك الطفولة بحلوله في وسط الأطفال، ويهب حِلقة جديدة للبشريَّة فيه. والأصحاح الرابع يمثِّل سفر الخروج الجديد، فلا ينطلق بالشعب إلى البرِّيَّة 40 عامًا، إنما يدخل بنفسه إليها ليُجُرَّب واهبًا النصرة لشعبه فيه. في القديم تعثَّر الشعب، وهلك في البرِّيَّة بسبب السقطات المستمرَّة، أما الآن، فقدَّم لنا بتجُرَّبته قوَّة وخلاصًا.

1. التجربة في البرِّيَّة 1-13.

2. يسوع في الجليل 14-15.

3. يسوع المرفوض من خاصَّته 16-30.

4. يسوع العامل بسلطان 31-37.

5. شفاء حماة بطرس 38-41.

6. كرازته في مجامع الجليل 42-44.

1. التجربة في البرِّيَّة

في الأصحاحات الثلاثة السابقة رأينا صديقنا السماوي ينزل إلينا يشاركنا كل شيء، صار جنينًا في الأحشاء مثلنا، وخضع للناموس، وإنطلق مع الجموع إلى المعموديَّة، وإذ ليس له خطيَّة يعترف بها، حملنا فيه خليقة جديدة تتمتَّع بالبنوَّة للآب، وتحمل فيها روحه القدُّوس. فما أُعلن في نهر الأردن من أمجاد كان لحسابنا وباسمنا، فيه استرددنا طبيعتنا الأولى الصالحة، وصار لنا حق التمتَّع بالفردوس المفقود واللقاء مع الآب في دالة البنوَّة. الآن إذ صار مثلنا أكَّد هذه الصداقة على صعيد العمل، فانطلق بالروح إلى البرِّيَّة يُجُرَّب أربعين يومًا. عوض البرِّيَّة التي انطلق إليها إسرائيل يحمل روح التذمر المستمر، حملنا هو في جسده إلى البرِّيَّة بطبيعته الغالبة والمنتصرة.

v تعالوا نسبِّح للرب ونرتِّل أناشيد الفرح لله مخلِّصنا، ولِندُس الشيطان تحت أقدامنا، ونهلِّل بسقوطه في المذلَّة والمهانة. لنخاطبه بعبارة إرميا النبي: "كيف قُطعتْ وتحطَّمتْ مطرقة كل الأرض... قد وُجدت وأُمسكت لأنك قد خاصمت الرب" (إر 50: 23-24).

منذ قديم الزمان وقبل مجيء المسيح مخلِّص العالم أجمع والشيطان عدوُّنا الكبير يفكِّر إثمًا وينضح شرًا، ويشمخ بأنفه على ضعف الجبلة البشريَّة، صارخًا "أصابت يدي ثروة الشعوب كعشٍ، وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض ولم يكن مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفِّف" (إش 10: 14).

والحق يُقال لم يجرؤ أحد على مقاومة إبليس، إلا الابن يسوع المسيح الذي سكن المغارة، كافحه كفاحًا شديدًا وهو على صورتنا، ولذلك انتصرت الطبيعة البشريَّة... في يسوع المسيح، ونالت إكليل الظفر والغلبة، ومنذ القِدم يخاطب الابن على لسان أنبيائه عدوُّنا اللدود إبليس بالقول المشهور: "هأنذا عليك أيها الجبل المُهلك، (يقول الرب) المُهلك كل الأرض" (إر 51: 25).

والآن تعالوا معي لنرى كيف يصف الإنجيلي المغبوط يسوع المسيح وهو يقاتل بالنيابة عنَّا مهلك الأرض بأسرها. "أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس" (لو 4: 1).

انظروا طبيعة الإنسان في المسيح وقد دهنتها نعمة الروح القدس، وتوَّجتها بالإجلال والإكرام، فإن الله سبق أن وعد قائلاً: "إنّي أسكب روحي على كل بشر" (يوئيل 2: 28). وقد تمَّت هذه النبوَّة لأول مرَّة في يسوع المسيح، لأن الله لم يهب روحه للناس قديمًا، وكانوا ضعاف العقول صغار النفوس، فقد ورد: "لا يدين روحي في الإنسان لزيغانه، وهو بشر" (تك 6: 3). ولكن في المسيح وُجدت خليقة جديدة تقدَّست بالماء والروح، فلم نصبح أولاد لحم ودم، بل أبناء الله الآب، فلنا الآن نعمة التبنِّي، وبهذا العطف الأبوي صرنا شركاء في الطبيعة الإلهيَّة.

فلم يكن بمستغربٍ إذن أن يكون بِكْرنا أول من يتسلَّم الروح القدس، مع أنه هو مانح الروح القدس حتى يهبه لنا نحن إخوته الأعزَّاء. وأشار إلى ذلك بولس الرسول بالقول: "لأن المقدَّس والمقدَّسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة قائلاً: "أُخبر باسمك إخوتي" (عب 2: 12).

لذلك يصف الإنجيلي المسيح: "رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس" (لو 4: 1) وأرجو ألا تنحرفوا عن جادة الحق ولا يُسيئكم القول بأن المسيح الكلمة تقدَّس، بل فكَّروا بالأولى في حكمة الفداء والخلاص، فإن المسيح تأنَّس وتجسَّد لا حبًا في تجنُّب ما اِختصَّ به الإنسان، بل شاركنا في إنسانيَّتنا حتى يزيدنا من غناه، ويشرِّفنا بعظمة مكانته فإن المسيح شاركنا في كل شيء ما عدا الخطيَّة.

القدِّيس كيرلس الكبير

v كان هدف ربَّنا يسوع المسيح في صومه وخلوته هو شفاؤنا من جاذبيَّة الشهوة، فلأجل الجميع قبِل أن يُجُرَّب من إبليس لنعرف كيف ننتصر نحن فيه.

v جاء الرب ليعتمد لأنه صار للكل كل شيء (1 كو 9: 20). خضع للناموس لأجل الذين هم تحت الناموس، فاختتن ليكسب الذين تحت الناموس، وشارك الذين بلا ناموس في أكلهم ليربح الذين بلا ناموس. صار للضعفاء كضعيفٍ بالآلام التي تحمَّلها في جسده ليربحهم (2 كو 8: 9). فرحًا مع الفرحين، بكاءً مع الباكين (رو 12: 15)، جاع مع الجياع... كريمًا مع الأغنياء وسجينًا مع الفقير (إش 26: 20)، عطش مع السامريَّة (يو 4: 7)، وجاع في البرِّيَّة (مت 4: 6) ليُكفِّر بصومه عن سقوط آدم الأول الذي سبَّبه شهوة الطعام والتلذُّذ به، فشبع آدم من معرفة الخير والشر لضررنا، وجاع المسيح لفائدتنا.

القدِّيس أمبروسيوس

"وكان يُقتاد بالروح في البرِّيَّة،

أربعين يومًا يجُرَّب من إبليس،

ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام،

ولما تمَّت جاع أخيرًا" [1-2].

v سكن المسيح البرِّيَّة بالروح، أي روحيًا، وصام فلم يهب الجسم حاجاته الضروريَّة. قد يسأل أحدكم: وأي ضرر ينشأ إن سكن المسيح المدن على الدوام؟ وكيف اِستفاد المسيح من عيشته في البرِّيَّة، وهو لم يكن في حاجة إلى صلاح؟ ولمَ صام المسيح مع أنه لم يكن في حاجة إلى الصوم؟ فقد وُضعت هذه الفريضة لقتل اللذَّات والشهوات وإخضاع ناموس الخطيَّة الذي في داخلنا والمتملُّك على مختلف الانفعالات التي تبعث فينا شهوة الجسد الدنيئة؟ فهل كان المسيح في حاجة إلى الصوم، وهو الذي به قَتل الآب الخطيَّة في الجسد، حتى أن بولس الرسول الحكيم يقول: "لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه فيما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيَّة، ولأجل الخطيَّة دان الخطيَّة في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح" (رو 8: 3)؟

فالمسيح إذن دان الخطيَّة في الجسد ومحا الإثم الذي تمَلَّك الطبيعة البشريَّة رِدحًا من الزمن؟ مارس المسيح الصوم وهو مقدَّس ونقي بطبيعته لا عيب فيه ولا نقص ولا تغيير ولا ظل دوران! لمَ صام المسيح فاعتزل عيشة المدن وسكن البرِّيَّة وتحمَّل تعب الصوم؟ أن هذا العمل العظيم الذي قام به المسيح هو لتعليمنا يا أحبائي. فقد رسم لنا المسيح الخُطَّة التي يجب علينا انتهاجها، ومهَّد لنا طريقًا قويمًا نسير عليه، هذا الطريق الذي يسير فيه جماعة الرهبان المقدَّسين؟ وإلا كيف كان الناس يعشقون عيشة البراري، ويستفيدون من حياة العُزلة والانفراد ويرون فيها خلاصًا لنفوسهم وسلامًا لأرواحهم؟ إن جماعة الرهبان يهجرون العالم ليبتعدوا عن أمواجه الهائجة وعواصفه الثائرة، ويحرَّروا نفوسهم من الفوضى والاضطراب والغرور والشهوات، أو كما قال يوسف المغبوط يخلع الناس عنهم ما عليهم ليقدِّموا للعالم مقتنياته وممتلكاته. ويشير بولس الرسول إلى أولئك الذين تعوَّدوا العيشة مع المسيح: "ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24). ويُضيف إلى ذلك قوله بأن عيشة الزهد لابد منها، وأن ثمار هذه العيشة الصوم والتحمُّل ونبذ الأطعمة قليلاً أو كثيرًا فإنه بذلك يمكن قهر الشيطان، ولكن لاحظوا أن المسيح عُمِّد أولاً ثم امتلأ بالروح القدس، وبعد ذلك سكن البرِّيَّة واتَّخذ الصوم سلاحًا له في محاربة إبليس وجنوده، وكل هذا لتعليمنا، حتى ننسج على منواله، ونحتذي منهجه، فعليكم بادئ ذي بدء أن تلبسوا خوذة الله، وتتمنطقوا بدِرع الإيمان، وتتمسَّكوا بصولجان الخلاص. يجب في بداية الأمر أن تُمنحوا قوَّة من الأعالي، وذلك عن طريق العماد المقدَّس، فيمكنكم بهذه أن تسلكوا حياة شريفة مع الله العظيم، ثم بشجاعة روحيَّة تعتزلون الناس للسكن في البراري، ثم تصومون صومًا مقدَّسا، فتقمعون أهواء الجسم، وتهزمون إبليس إذا ما أراد تجريبكم، ففي المسيح إذن نجد كل سلاح نتقوَّى به.

نعم يظهر المسيح بين المقاتلين فيَمنح الجائزة ويتوِّج المنتصرين بإكليل الفوز والغلبة. والآن فلنتأمَّل مصارعات المسيح مع إبليس؟ "صام أربعين يومًا، وجاع أخيرًا".

كيف يجوع المسيح وهو الذي يُشبعنا من دسم نعمته؟ أليس المسيح هو الخبز السماوي الذي نزل من السماء حتى لا يجوع من يتغذى منه؟ صام المسيح "وجاع" لأنه قَبِلَ أن يكون مثلنا، فكان لابد أن يتحمَّل ما يجب أن يتحمَّله إنسان بشري.

القدِّيس كيرلس الكبير

v [يقدِّم لنا مقارنة بين تجرِبة آدم في الفردوس، وتجرِبة آدم الثاني في البرِّيَّة] لنتأمَّل كيف طُرد آدم الأول من الفردوس، ولنعرف كيف رجع آدم الثاني من البرِّيَّة إلى الفردوس، ولنتأمَّل أيضًا كيف تمَّ الإصلاح وبأي ترتيب حدث. وُلد آدم من أرض بكر، ووُلد المسيح من العذراء (البكر)، خُلق آدم على صورة الله، أما المسيح فهو صورة الله (الجوهريَّة). كان للأول سلطان على كل الحيوانات غير العاقلة، أما الثاني فله سلطان على كل شيء.

اتَّصفَت حواء بالتردُّد، واتَّصفت العذراء بالحكمة.

جاءت الشجرة بالموت، وجاء الصليب بالحياة.

كان الأول في الفردوس، أما المسيح فكان في البرِّيَّة، لكنه جاء ليبدِّد ضلال المحكوم عليه ويردُّه للفردوس...

لم يكن ممكنًا أن يتراجع الله عن حُكمه، فتمَّ حُكم الموت في واحد عوض الآخر.

إن كان آدم قد سقط وهو في الفردوس لعدم وجود الراعي، فكيف كان يمكنه أن يجد الطريق وهو في البرِّيَّة بلا راعٍ يقوده؟ ففي البرِّيَّة تكثر التجارب... ويسهل الانحدار نحو الخطيَّة...

أي راع يستطيع أن يعيننا أمام فِخاخ هذه الحياة وخِداعات إبليس "لكي نجاهد ليس ضد لحم ودم، بل ضد الرؤساء والسلاطين وأجناد الشر الروحيَّة في الهواء" (أف 6: 11)؟! هل يُرسل الله ملاكًا وقد سقط بعض الملائكة؟!... هل يرسل ساروفًا، هذا الذي نزل على الأرض وسط شعب نجِس الشِفتين (إش 6: 6)، لم يُطهِّر سوى شَفتيّ نبي واحد بجمرَّة من نار؟! إذن كان يلزم البحث عن راعٍ آخر نتبعه جميعنا؛ فمن هو هذا الراعي العظيم الذي يستطيع أن يهيئ الخير للجميع إلا ذاك الذي هو أعلى من الكل؟! من يرفعني فوق هذا العالم إلا مَن هو فوق العالم؟! من هو هذا الراعي العظيم الذي يستطيع بقيادة واحدة يرعى الرجل والمرأة، اليهودي واليوناني، أهل الختان وأهل الغُرلة، البربري والسكِّيثي (كو 3: 11)، العبد والحر، إلا ذاك الذي هو الكل في الكل؟!

الفخاخ كثيرة أينما ذهبنا، فخاخ الجسد، وفخاخ الناموس (حرفيَّته)، والفخاخ التي ينصبها إبليس على جناح الهيكل وعلى قمَّة الجبل، وفخاخ الفلسفات، وفِخاخ الشهوات، لأن العين الزانية هي فخْ الخاطئ (أم 7: 22)، وفِخاخ محبَّة العالم، وفِخاخ التديُّن (الرياء)، وفِخاخ في حياة الطهارة (احتقار سرّ الزواج)... غير أن أفضل طريقة تحطِّم هذه الفِخاخ هو عرض طُعم لإبليس لينقَضْ على فريسته فينطبق الفخْ عليه، عندئذ نستطيع أن نردِّد: "نصبوا لرجلي فخاخًا فسقطوا فيها" (مز 56: 7). ما هذا الطُعم إلا الجسد... فقد أخذ الرب جسد تواضعنا وضعفنا، ليُعطي فرصة للعدو أن يحاربه فينهزم العدو إبليس...

الآن المسيح في البرِّيَّة يقود الإنسان ويعلِّمه ويشكِّله ويدرِّبه ويدهنه بالمسحة المقدَّسة، وعندما يراه قويًا يقوده إلى المراعي الخضراء المخصبة... أخيرًا يقوده إلى البستان أثناء الآلام، كما هو مكتوب: "تكلَّم يسوع بهذا ثم خرج مع تلاميذه إلى جبل الزيتون، حيث كان بستان دخله مع تلاميذه" (يو 18: 1)... أخيرًا فإن إرجاع الإنسان بقوَّة الرب تؤكِّد لنا هذه الحقيقة التي أبرزها القدّيس لوقا بين كل البشريِّين، بتلك الكلمات التي قالها الرب للِّص: "أنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 44).

v رجع يسوع ممتلئًا من الروح القدس إلى البرِّيَّة يتحدَّى إبليس، فلو لم يجُرِّبه إبليس لما اِنتصر الرب لأجلي بطريقة سِرِّيَّة، محرِّرا آدم من السبي.

القدِّيس أمبروسيوس

v "لقد أُصعد يسوع إلى البرِّيَّة من الروح"، بلا شك من الروح القدس، ليس كمن هو مُلزم أو من هو أسير، إنما اُقتيد باشتياق إلى المعركة ليُصارع.

القدِّيس جيروم

v يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يُعلِّم أولاده كيف يحاربون.

القدِّيس أغسطينوس

أ. تجربة الخبز

إذ دخل السيِّد المسيح المعركة نيابة عنا، ليغلب باسمنا ولحسابنا، بدأت التجارب بتجربة الخبز، فقد طلب الشيطان من السيِّد المسيح أن يحول الحجر إلى خبز ليأكله في جوعه. من جانب فإن هذه التجربة تقابل تجربة آدم الأول الذي سقط في العصيان خلال الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. فجاء السيِّد صائمًا يقاوم العدُو ويغلبه رافضًا السماع له رغم إمكانيَّته من تحويل الحجر إلى خبز، كما حوّل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل. ومن جانب آخر فإن هذه التجربة سمح بها الرب ليُعلن أُبوَّة الشيطان المخادعة للخطاة، فإن الآب الحقيقي لا يقدِّم حجرًا إن طلب منه ابنه خبزًا كقول السيِّد المسيح (لو 11: 11)، أما هذا العدو فيقدِّم حجرًا عوض الخبز ليأكله الإنسان، فيحمل في أحشائه حجرًا قاسيًا!

ليتنا نرفض كل حجر يقدِّمه العدو فلا نأكله كخبز لننمو قساة القلب بلا حب ولا حنو!

يرى العلامة أوريجينوس أن الحجر الذي يقدِّمه العدو هو الهرطقات التي يقدِّمها العدُو كخبزٍ غاشٍ، فنظنَّها كلمة الله المشبعة.

"وقال له إبليس:

إن كنتَ ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا.

فأجابه يسوع، قائلاً:

"مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،

بل بكل كلمة تخرج من فم الله" [3-4].

v قفز إبليس إلى حيث كان المسيح، ونظر إلى الحجر وخاطب المسيح، قائلاً: "إن كنت ابن الله، فقلْ لهذا الحجر أن يصير خبزًا" (لو 4: 3). ترون أن إبليس يدنو من المسيح كإنسانٍ، كأحد القدِّيسين، ومع ذلك يرتاب في المسيح. لكن كيف سعى الشيطان ليتحقَّق من لاهوت المسيح؟ كان يعلم أنه لا يمكن تغيير طبيعة المادة إلى طبيعة أخرى تغايرها في الجوهر إلا بقوَّة إلهيَّة، فإما المسيح يُغيِّر المادة فيرتبك إبليس في أمره، أو يعجز عن القيام بهذا العمل، فيُسَر الشيطان لأنه لم يجد أمامه سوى إنسانًا ضعيفًا يمكن مقاومته.

علم السيِّد المسيح ما كان يجول بخُلد إبليس، فلم يغيِّر الخبز ولم يعلن عجزه عن تغييره. اِنتهر المسيح الشيطان بالقول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" (لو 4: 5). ومعنى ذلك أنه إذا منح الله الإنسان القوَّة أمكنه أن يحيا بدون أكل، وعاش كما عاش موسى وإيليَّا بقوَّة أربعين يومًا ولم يذوقا شيئًا، فإذًا استطاع المسيح أن يعيش بدون طعام، فلم يحوِّل الحجر خبزًا إلا أن المسيح لم يقل قط أنه "لا يستطيع ذلك" حتى لا يتطرَّق الشك بأنه إنسان لا إله، ولم يقل أستطيع ذلك لئلا يتركه الشيطان وشأنه، وكان المسيح يريد تعليمنا دروسًا أخرى.

لاحظوا يا أحبائي كيف أن طبيعة المسيح نبذَت شراهة آدم ونهمه، فبأكل آدم غُلبنا، وبزهد المسيح انتصرنا.

الجسم يأكل ما تُخرجه الأرض من دسم، أما النفس العاقلة فطعامها كلمة الله الخالدة. فإن الخبز الذي تجود به الأرض يُغذي جسمًا عناصره هي عناصر الخبز الأرضي، أما الخبز السماوي الذي يبعث به الله من فوق يُغذِّي النفس الباقية. هذا هو الخبز السماوي الذي يتغذَّى به جمهور الملائكة.

القدِّيس كيرلس الكبير

v ينكشف لنا من هذه التجربة أن لإبليس ثلاثة سهام اعتاد أن يستخدمها ليجْرح قلب الإنسان: شهوة الأكل، المجد الباطل، الطمع! (يبدأ من حيث اِنتصر إبليس) هكذا تبدأ نُصرتي في المسيح من حيث غلبني إبليس في آدم...

يقول: "إن كنتَ ابن الله"، فقد كان إبليس يعلم تمامًا أنه ينبغي أن يأتي ابن الله، لكنه لم يكن يعتقد أنه يأتي في ضعف، لهذا أراد أن يتأكَّد ثم يُجرِّبه بعد ذلك...

انظروا أسلحة المسيح التي بها اِنتصر من أجلكم وليس لأجل نفسه، فإنه قادر أن يحوِّل العناصر (كما في عرس قانا الجليل)، لكنه يعلِّمنا ألا نطيع إبليس في شيء، ولا لإظهار قوَّتَك. لنعرف أيضًا من هذه التجربة مهارة إبليس الخادعة فهو يجُرِّب ليتأكَّد من الحقيقة ليخترق الإنسان ويُجرِّبه... ولم يستخدم الرب سلطانه كإله وإلا فإننا لم نكن نجني فائدة، إنما استخدم الإمكانيَّة العامة وهي استخدام كلام الله.

القدِّيس أمبروسيوس

v قل لهذا "الحجر"، أي حجر هو هذا؟ بلا شك الحجر الذي كان إبليس يريه إيّاه طالبًا أن يحوِّله إلى خبز. إذن ما هي التجربة؟...

الشيطان العدو المخادع يقدِّم حجرًا عوض الخبز (لو 11: 11). هذا ما يريده الشيطان أن يتحوَّل الحجر إلى خبز، فينمو الناس لا على الخبز، وإنما على الحجر الذي يُريه الشيطان على شكل خبز. وإنني اعتقد أن الشيطان لا يزال يُرينا الحجر ويقول لكل أحد: "قل لهذا الحجر أن يصير خبزًا..." فإن رأيت الهراطقة يأكلون تعاليمهم الكاذبة كخبزٍ، فاِعلم أن مناقشاتهم وتعاليمهم هي الحجر الذي يُظهره الشيطان لنأكله كخبز...

لنسهر إذن ولا نأكل حجارة الشيطان ظانِّين أننا ننمو بخبز الرب...

العلامة أوريجينوس

v يخضع الجسد لتجربة الجوع لتُعطى فرصة لإبليس كي يجُرِّبه.

القدِّيس جيروم

v تأكَّد تمامًا أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن.

الأب يوحنا من كرونستادت

ب. تجربة الصليب

في التجربة السابقة أراد إبليس أن يقدِّم للسيِّد الحجر خبزًا، لكن السيِّد رفض تحويل الحجر خبزًا، مقدَّما نفسه "الخبز الحيّ النازل من السماء" شبعًا لمؤمنيه. والآن إذ كان إبليس يعلم أن المسّيا القادم يملك إلى الأبد خلال الصليب والألم. أراه ممالك العالم ليملُك، لكن ليس خلال الصليب، وإنما خلال الطريق السهل والباب الواسع وهو "السجود لإبليس نفسه". رفض المسيح بهذا الطريق الواسع الرحب بقوَّة، فتح لنا الباب لنملُك نحن أيضًا معه خلال آلامه لا خلال الشر.

v يريد ابن الله كما ضد المسيح أن يملُكا، لكن ضد المسيح يريد أن يملك ليُهلك من له، أما المسيح فيملُك ليخلِّص (بالصليب). فمن كان فينا أمينًا يملُك المسيح عليه بكلمته وبالحكمة والعدل والحق؛ أما إذا فضَّلنا الشهوة عن الله فتملُك الخطيَّة علينا، حيث يقول الرسول: "إذًا لا تملُكنَّ الخطيَّة في جسدكم المائت" (رو 6: 12).

إذن ملِكان يبادران لكي يملُكا، تملُك الخطيَّة أو الشيطان على الأشرار، ويملُك العدل أو المسيح على الأبرار.

إذ كان إبليس يعلم أن المسيح جاء ليغتصب ملكوته، ويُخضع لقوته وسلطانه أولئك الذي كانوا قبلاً خاضعين للمخادع، "أراه جميع ممالك المسكونة" وكل سكان العالم، أراه كيف يملك على الواحد بالشهوة، وعلى الآخر بالبُخل، وثالث بحب المجد الباطل، ويأسِر آخرين خلال جاذبيَّة الجمال... وكأن الشيطان يقول له: أتريد أن تملك على كل الخليقة؟! وأراه الجموع غير المحصية التي تخضع له، والحق يُقال لو قبلنا أن نعرف في بساطة بؤسنا ونُدرك مصيبتنا لوجدنا الشيطان يملك في معظم العالم، لذلك يسمِّيه الرب "رئيس هذا العالم" (يو 12: 31؛ 16: 11). وعندما يقول إبليس ليسوع: أترى جميع الشعب الخاضع لسلطاني؟ يكون قد أراه ذلك "في لحظة من الزمان"، إذ يحسب الوقت الحالي لحظة أن قورن بالأبديَّة... حينئذ قال إبليس للرب: أجئت لتصارع ضدِّي، وتنزع عنِّي كل الذين هم تحت سلطاني؟ لا، لا تحاول أن تقارن نفسك بي، ولا تعرض نفسك لصعاب هذه المعركة. انظر كل ما أطلبه منك، "إن سجدت أمامي يكون لك الجميع".

بدون شك يريد ربَّنا ومخلِّصنا أن يملك، لكن بالعدل والحق وكل فضيلة... لا يريد أن يكلَّل كملكٍ بدون تعب (الصليب)...

أجابه الرب قائلاً: "مكتوب للرب إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد" (تث 6: 13). إرادتي هي أن يكون الكل لي يعبدونني، ولا يسجدون لغيري. هذه هي الرغبة الملوكيَّة. أتريدني أن أخطئ أنا الذي جئت لأبيد الخطيَّة وأُحرَّر الناس منها؟!

لنفرح ولنبتهج نحن إذ صرنا له، ولنُصَلِ إليه ليقتل الخطيَّة التي ملَكت في أجسادنا (رو 6: 6) فيملك وحده علينا.

العلامة أوريجينوس

v "وأراه جميع ممالك المسكونة" [5] كيف تجرؤ أيها الشيطان المارد اللعين فتُري السيِّد ممالك العالم وتخاطبه بالقول: "لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن... إن سجدتَ أمامي" (لو 4: 6)؟ كيف تعد بأن تهب ما ليس لك؟! من الذي نصَّبك وارثًا على مملكة الله؟! ؟إنك اِغتصبت هذه الممالك غشًا وزورًا، فرُد ما اغتصبته إلى الابن المتجسِّد رب العالم بأسره، واسمع ما يصرح به النبي إشعياء ضد إبليس وجنوده: "لأن تُفتة مرتَّبة منذ الأمس مهيَّأة، هي أيضًا للملِكِ عميقة واسعة، كومتها نار وحطب بكثرة، نفخة الرب كنهر كبريت توقدها" (إش 30: 33).

فكيف تتقدَّم أيها الشيطان، ونصيبك الهاويَّة السحيقة مِلكًا؟... وكيف يسجد السيِّد لك، والسيرافيم وجميع طغمات الملائكة لا يغفلون طرفة عين عن التسبيح لاسمه لأنه مكتوب: "للرب إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد" (لو 4: 8)؟!

حقًا لقد أصابت هذه الآية مقتلاً من إبليس لأنه كان قبل نزول المسيح ومجيئه يخدع كل الذين تظلِّلهم القبَّة الزرقاء، فتجثو له كل ركبة، أما وقد جاء المسيح فقد شاءت رحمته أن يرجع الناس عن غلوائهم ويقدِّموا له السجود والعبادة والإكرام.

القدِّيس كيرلس الكبير

v ليس العيب في السلطان في ذاته، وإنما في الطمع الباطل، وعلى هذا فإن تأسيس السلطان يأتي من قِِبل الله، ومن يستعمله يكون سفيرًا لله بكونه خادم الله للصلاح (رو 13: 3-4). العمل في ذاته ليس خطيَّة، لكن العيب في الذي ينفِّذه... يجب أن نميِّز بين الاستخدام الصالح للسلطان والاستخدام الطالح...

القدِّيس أمبروسيوس

v أراه مجد العالم على قمَّة جبل، هذا الذي يزول، أما المخلِّص فنزل إلى الأماكن السفليَّة ليهزم إبليس بالتواضع.

القدِّيس جيروم

v أعلن الرب أن الشيطان كذَّاب من البدء، وليس فيه الحق (يو 8: 44)، وبكونه كذَّابًا وليس فيه الحق فإنه لا ينطق بالحق بل بالكذب، عندما قال: "إليّ قد دُفع وأنا أعطيه لمن يريد" (لو 4: 6).

v لقد كذب الشيطان في البداية وبقي في كذبه حتى النهاية، فإنه ليس هو الذي يقيم ممالك هذا العالم بل الله إذ "قلْب الملك في يد الله" (أم 21: 1). كما يقول الكلمة خلال سليمان: "بي تملك الملوك وتقضي العظماء عدلاً، بي تترآس الرؤساء والشرفاء وكل قضاة (ملوك) الأرض" (أم 8: 15).

v لقد فضحه الرب كاشفًا حقيقة شخصيَّته، إذ قال له: "اذهب يا شيطان" [8]... مُظهرًا ذلك من ذات اسمه، فإن كلمة "شيطان" في العبريَّة تعني "مرتد".

القدِّيس إيريناؤس

ج. تجربة في المقدَّسات

إن كان عدو الخير إبليس قد حاول أن يُجرِّب "يسوع" في لقمة العيش بتحويل الحجر إلى خبزٍ، وقد فشل إذ قدَّم السيِّد المسيح نفسه خبزًا حقيقيًا يُنعش النفس وينزع عنها طبيعتها الحجريَّة، وفي التجربة السابقة أراد تحطيم هدفه بفتح طريق سهل وقصير لكي يملك دون الحاجة إلى صليب، لكن الرب أصرَّ ألا يقبل إلا أن يدخل دائرة الصليب. أما التجربة التي بين أيدينا فتمس العبادة ذاتها، إذ تمّت في أورشليم على جناح الهيكل، وقدَّم الشيطان عبارة من الكتاب المقدَّس: "لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك، وأنهم على أياديهم يحملونك، لكي لا تصدم بحجر رجلك" [10-11]، سائلاً إيّاه أن يطرح نفسه من جناح الهيكل إلى أسفل.

هذه التجربة يتعرَّض لها بالأكثر الرعاة والخدَّام والمتديِّنون، فإن عدو الخير يحاربهم في أورشليم في هيكل الرب، يقدِّم لهم كلمات الكتاب المقدَّس مشوَّهة سواء في بعض كلماتها أو في فهمها ليحوِّل عبادتهم إلى شكليَّات واستعراضات ورياء، طالبًا منهم عوض أن يصعدوا منطلقين نحو السماويَّات أن ينطرحوا من جناح الهيكل إلى أسفل، إذ يحدرهم الشكل أو الرياء عن غايتهم الحقَّة.

v لنلاحظ بداية هذا الإنجيل الذي سمعناه اليوم، ولنضع في النور الأمور المخفية فيه "جاء (إبليس) به إلى أورشليم"، الأمر الذي يبدو غير مُصدق أن إبليس يقود ابن الله، وهو يتبعه؛ فإنه يشبه المصارع الذي يذهب إلى التجربة ولا يخشاها، ولا يرهب مصيدة العدو المخادع للغاية وغير المحتملة، وكأنه يقول: ستجدني أقوى منك.

قاده إلى قمَّة الهيكل وطلب منه أن يطرح نفسه من فوق، وكان هذا العرض تحت ستار أنه يتم لمجد الله...

يتكلَّم الشيطان ويستند على الكتاب المقدَّس... لكن ليته لا يخدعني الشيطان حتى وإن استخدم الكتاب المقدَّس...

تأمَّل العبارة التي يعرضها إبليس على الرب: "مكتوب أن يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك وعلى أيديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك". انظر كم هو مخادع حتى في اختياره للعبارات، فإنه يريد أن يقلِّل من مجد الرب، كما لو كان يسوع محتاجًا إلى معونة الملائكة؛ كما لو كان يمارس عملاً خاطئًا ما لم تسنده الملائكة. هكذا يقتبس إبليس عبارة من الكتاب لا تناسب المسيح ويطبِّقها عليه، إنما تناسب القدِّيسين بوجَّه عام... المسيح ليس بمحتاج لمعونة الملائكة، إذ هو أعظم منهم، ويرث اسمًا أعظم وأسمى: "لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟!" (عب 1: 5-7؛ مز 2: 7)...

بعد ما قال: "إنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصطدم بحجر رجليك"، يصمت إبليس عن التكملة وهي: "على الأسد والصل تطأ، الشبل والثعبان تدوس" (مز 91: 13). فلماذا تعبر على هذه العبارة بصمت أيها الشيطان؟! لأنك أنت هو الصل وملك كل الحيَّات. أنت تعرف أنك تحمل على جانبيك قوَّة عدوانيَّة أخرى تسمى "الأسد"، تخضع للأبرار تحت أقدامهم، لذلك لا تتكلَّم عن هذا الأمر.

أنت هو الشِبل والثعبان، حيث مكتوب: "لى الأسد والصل تطأ، الشِبل والثعبان تدوس". إن كنت تصمت ولا تذكر شيئًا ضدَّك، لكننا نحن إذ نقرأ الكتاب باستقامة ندرك تمامًا أن لدينا سلطانًا أن نطأك بالأقدام، هذا السلطان لم يوهب لنا في العهد القديم حيث كان المزمور يرنَّم به، وإنما أيضًا في العهد الجديد. ألم يقل المخلِّص: "ها أنا أعطيكم السلطان أن تدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو ولا يضرُّكم شيء؟!" (لو 10: 19). لنستند على هذا السلطان ونأخذ سلاحنا، ونطأ بسلوكنا الشِبل والثعبان...

العلامة أوريجينوس

v "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل" [9]. أما التجربة الثالثة فكان محورها الزَهْو والخيلاء "اطرح نفسك من هنا" حتى تثبت أمام المِلأ لاهوتك، إلا أن المسيح أجابه: "لا تجُرِّب الرب إلهك" (لو 4: 12) فإن الله لا يساعد من يجرؤ على تجربته ولم يُعط المسيح قط آية لمن جاءه بقصد تجربته، إذ ورد: "فأجاب وقال لهم جيل شرِّير وفاسق يطلب آية ولا يُعطى له آية إلا آية يونان النبي" (مت 12: 39).

لا غرابة أن يتقهقر أمام المسيح بعد هذه الثلاث تجارب، فيقدِّم لنا المسيح المنتصر إكليل الفوز والغلبة على حد قول الصادق: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو ولا يضرُّكم شيء" (لو 10: 19).

"لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك" [10]

وانظروا كيف يقتبس إبليس من الأسفار الإلهيَّة ليستعين بها على تصويب سهمه الدنيء، لأن هذه الآية التي وردت في المزامير لا تشير إلى المسيح، لأن المسيح ليس في حاجة إلى ملائكة. أما جناح الهيكل فقصد به البناء المرتفع الذي أقيم بجوار الهيكل.

القدِّيس كيرلس الكبير

v هذا هو شيطان المجد الباطل، فعندما يظن الإنسان أنه قد ارتفع عاليًا ويشتهي القيام بالأعمال العظيمة يسقط في الهاوية.

قال له: "إن كنتَ ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل" لا ينطق بهذه الكلمات إلا الشيطان الذي يحاول أن يُحدر الروح الإنسانيَّة إلى أسفل من حيث سمت بفضائلها؟! هل شيء يوافق الشيطان إلا النصح بالانحدار إلى أسفل؟!...

لا يستطيع إبليس أن يؤذي إلا من يدفع نفسه إلى أسفل، أي يترك السماء ليختار الأرض...

القدِّيس أمبروسيوس

v هذه هي كلمات إبليس دائمًا إذ يتمنَّى السقوط للجميع.

القدِّيس جيروم

ختم حديثه عن التجربة "ولما أكمل إبليس كل تجاربه فارقه إلى حين" [13]. إن كان الشيطان لا يمِلّ عن المصارعة بالرغم من هزيمته المُرَّة في كل التجارب، إذ يقول "فارقه إلى حين"... فقد جاء بقيَّة السفر عبارة عن صراع مستمر بين السيِّد المسيح وإبليس بكل طريقة، سواء مباشرة أو خلال خدَّامه، لهذا يليق بنا ألا ننخدع إن تركنا العدو، فإنه يفارقنا إلى حين لكي يعود فيصارعنا.

v لما سمع إبليس اسم "الله" فارقه إلى حين، إذ جاء بعد ذلك لا ليُجربه وإنما ليُحاربه علانيَّة. والكتاب المقدَّس يُعرِّفك أنك في حرب ليس مع لحم ودم بل مع السلاطين والرؤساء مع أجناد الشر الروحيَّة (أف 6: 12).

اُنظر رِفعة المسيحي الذي يُحارب رؤساء العالم (الشياطين)، فمع أنه يعيش على الأرض لكنه يبسط قوَّته الروحيَّة أمام أرواح الشرّ في السماويَّات. ونحن لا نُكافأ بأمور أرضيَّة في حربنا من أجله إنما مكافآتنا روحيَّة هي ملكوت السماوات وميراث المسيح.

يليق بنا أن نجاهد بكل مقاومة لإبليس، فالإكليل مقدَّم لنا، ويلزمنا أن نقبل الدخول معه في حرب. لا يكلَّل أحد ما لم يَغلب، ولا يمكن له أن يغلب ما لم يحارِب (2 تي 2: 5). والإكليل يعظُم كلما كثر الألم، لأنه ضيق وكرب هو الطريق المؤدِّي للحياة، وقليلون هم الذين يجدونه، وواسع هو الطريق المؤدِّي للموت (مت 7: 13).

يليق بنا ألا نخشى تجارب هذه الحياة قط، فهي فرصة مقدَّمة للغلبة ومادة للنصرة...

المُضل يُكثر من جرح المجاهد، ومع ذلك فالمُجاهد في شجاعته لا يضطرب قلبه...

إن تعرَّضت للتجارب فاعلم أن الأكاليل تُعد!....

أُلقي يوسف في السجن كثمرة لطهارته، لكنه ما كان يشارك في حكم مصر لو لم يبعه إخوته.

القدِّيس أمبروسيوس

2. يسوع في الجليل

"ورجع يسوع بقوَّة الروح إلى الجليل،

وخرج خبر عنه في جميع الكورة المحيطة،

وكان يعلِّم في مجامعهم ممجَّدا من الجميع".

لم يحمل السيِّد المسيح "قوَّة الروح" كقوَّة جديدة لم تكن فيه من قبل، وإنما إذ ترك المدن واعتزل في البرِّيَّة وصام هناك وجُرِّب من إبليس وغلبه بعدما اعتمد، عاد إلى مدن الجليل ليُقدِّم ما فعله باسم البشريَّة، فتحمل به "قوَّة الروح". بمعنى آخر ما صنعه ربَّنا يسوع من انطلاق إلى البرِّيَّة وممارسة للصوم وغلبة على إبليس، هو رصيد يتمتَّع به كل من يوَد التلمذة له، فلا يليق أن ينطلق أحد للخدمة بغير هذا الرصيد من الغلبة والنصرة في الرب.

يعلِّق العلامة أوريجينوس على العبارة: "كان يعلِّم في مجامعهم، ممجَّدا من الجميع"، قائلاً: [احذروا من تطويب هؤلاء الذين كانوا يسمعون كلمات المسيح، وتحكموا على أنفسكم كأنكم محرومون من تعاليمه... فالرب لم يتكلَّم قديمًا فحسب في جماعة اليهود، وإنما إلى اليوم يتكلَّم في جماعتنا، ليس فقط عندنا، وإنما في الاجتماعات الأخرى في العالم أجمع. يسوع يُعلِّم ويطلب آلات يستخدمها لنقل تعليمه، صلُّوا لعلَّه يجدني مستعدًا لذلك وأترنَّم له... اليوم يسوع يتمجَّد من الجميع بالأكثر لأنه لم يعد معروفًا في مكان واحد فقط (الشعب اليهودي)!]

3.يسوع المرفوض من خاصته

قدَّم لنا لوقا البشير صورة حيَّة لعمل هذا الصديق العجيب، فقد جاء إلى الناصرة حيث تربَّى ليخدِم، ومع أن الجميع كانوا يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه لكنهم تعثَّروا فيه لأنهم حسبوه ابن يوسف. وحين بدأ يحدِّثهم عن انفتاح صداقته على الجميع - حتى الأمم - قرَّروا طرحه من حافة الجبل، أما هو فجاز في وسطهم ومضى.

نشأ السيِّد المسيح في الناصرة، ذاك الذي وهب العالم الخلاص والحياة، بينما حكمت مدينته على نفسها بالهلاك والموت. ما فعله أهل الناصرة هو جزء لا يتجزَّأ من خُطَّة الصليب.

"وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربَّى،

ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت، وقام ليقرأ" [16].

v لما كان من الضروري ظهور المسيح للإسرائيليِّين حتى يعرفوا حقيقة التجسَّد إذ كانوا يجهلونه، وبما أن المسيح مسحه الله الآب مخلِّصًا للعالم بأسره، لزم من أجل كل ذلك أن يظهر المسيح نفسه للشعب اليهودي وغيره من الشعوب الأخرى ويكشف عن عمله الفدائي للشعوب قاطبة. إلا أن السيِّد المسيح أوْلى يهود الناصرة فضلاً عظيمًا بأن زارهم، وكان قد تربَّى كإنسانٍ في وسطهم.

وما أن دخل المسيح بلدة الناصرة أخذ مجلسه في مجمعها، وفتح السفر وقرأ فصلاً يشير إلى الفداء، وكيف أن المسيح الكلمة يظهر للعالم كإنسانٍ بقصد امتلائه وتخليصه. وإننا نعتقد بحقٍ أنه لم يكن هناك طريقة بها يمسح المسيح المسحة المقدَّسة سوى أن يأتي إلى العالم كإنسانٍ ويتَّخذ طبيعة إنسان.

كان المسيح إلهًا متأنِّسًا، وبصفته إلهًا يهب الروح القدس للخليقة بأسرها، وبصفته إنسانًا يتسلَّم الروح القدس من الله أبيه. بينما المسيح يقدِّس الخليقة قاطبة سواء كان ذلك بإشراق طلعته البهيَّة من المسكن الأعلى مسكن الله الآب، أم يمنح الروح القدس للعالم السماوي الذي يَدين به، وللعالم الأرضي الذي يعترف بتجسُّده.

القدِّيس كيرلس الكبير

"فدُفع إليه سفر إشعياء،

ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه:

روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين" [17-18].

v لم يحدُث هذا على سبيل الصدفة، وإنما بتدخُّل النعمة الإلهيَّة، إذ بسط يسوع الكتاب ووجد الأصحاح الذي يتنبأ عنه... قرأ النص الذي يخص "سرّ المسيح": بدقَّة: "روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين". فالنص يتحدَّث عن المسيح، وقد جاء ليس صدفة، بل حسب المشيئة الإلهيَّة والنعمة.

بهذه المناسبة لاحظوا هذه الكلمات وكيف طبَّقها يسوع على نفسه في المجمع.

"مسحني لأبشِّر المساكين" بالحق كانوا هم المساكين الذين لا يملكون قط لا الله ولا نبي ولا العدل ولا أية فضيلة، قد أُرسل لهذا السبب يسوع من أجل المساكين.

العلامة أوريجينوس

v يؤكِّد الرب نفسه أنه هو الذي تكلَّم في النبوَّات. لقد أخذ المسحة المقدَّسة والقوَّة السماويَّة... ليحل سبي الروح وينير ظلمة الفكر، ويكرز بسَنة الرب التي تمتد عبر السنين اللانهائيَّة، وتهب البشر استمراريَّة الحصاد والراحة الأبديَّة. لقد أغنى كل المهن واحتضنها، ولم يحتقر مهنة ما، بينما نحن الجنس الوضيع نرى جسده ونرفض الإيمان بلاهوته الذي يُعلن خلال معجزاته.

القدِّيس أمبروسيوس

v "وروح الرب علي، لأنه مسَحني لأبشِّر المساكين" [18]. يستنتج من هذه الكلمات أن المسيح أخلى نفسه من الأمجاد السماويَّة حبًا في خلاصنا، لأن الروح القدس بطبيعته في المسيح، فكيف ينزل على السيِّد من أعلى؟! كذلك في نهر الأردن نزل الروح القدس ليمسح يسوع، لا لسبب إلا لأن المسيح وطَّد نفسه على إسداء نعمة الخلاص لنا وتقديم الروح القدس لنا، فإننا كنا خالين من نعمة الروح القدس على حد قول الوحي: "فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد" (تك 6: 3). نطق المسيح المتجسِّد بهذه الكلمات لأنه إله حق من إله حق، وتجسَّد بدون أن يتغيَّر أي تغيير ومُسِح بدُهن الفرح والابتهاج، ونزل عليه الروح القدس على شكل حمامة. وإننا نعلم أن الملوك والكهنة مُسِحوا في الزمن القديم حتى تقدَّسوا بعض التقديس، أما المسيح فدُهِن بزيت التقديس الروحي، متسلِّمًا هذه المسْحة ليس من أجل نفسه، بل من أجلنا لأنه سبق أن حُرم الناس من الروح القدس، فخيَّمت سحابة الحزن والكآبة على وجّه الأرض.

القدِّيس كيرلس الكبير

"أرسلني لأشفي المنكسري القلوب،

لأُنادي للمأسورين بالإطلاق،

وللعُمي بالبَصر،

وأرسل المنسحقين في الحريَّة.

وأكرز بسَنة الرب المقبولة" [18-19].

v كنا مأسورين في أسر إبليس وسجنه، وجاء يسوع ينادي للمأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر، إذ كلماته وبشارته تجعل العُمي يبصرون...

كان الإنسان مذنبًا وقاتلاً ومأسورًا قبلما يحصل على الحريَّة ويشفيه يسوع.

العلامة أوريجينوس

v نادى المسيح بإطلاق سراح الأسرى بأن قيَّد قدميّ الشيطان بالأغلال، وكان طاغية باغية يتسلَّط على رِقاب الناس، وسرق من المسيح رعيَّته وخليقته، فرَدَّ السيِّد ما نهبه إبليس ظُلمًا وعُدوانًا. أرسل المسيح ليهدي قلوبًا غواها الشيطان، فأسدل ستارة من الظلام الدامس، أما المسيح فبدَّد غشاوة الليل الحالك، وأصبحت رعيَّته تسير في الضوء الوهَّاج والنور الساطع، كما ورد في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا من ظلمة" (1 تس 5: 5).

لقد أبصر العميان، وأُنيرت الطرق، ومُهِّدت المرتفعات، وذلك بمجيء المسيح المخلِّص الفادي: "أنا الرب دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم" (إش 42: 6).

جاء المسيح فأعلن عهدًا جديدًا لإخوته الإسرائيليِّين، ولكن لم يحتكر اليهود هذا الضوء الوهَّاج، بل سطع نور المسيح البهي على الأمم، فأطلق المأسورين وحرَّر المنسحقين، وكل ذلك يدل على أن المسيح إله بطبيعته فهو إله حق من إله حق.

وما المراد بالقول: "أنادي المأسورين بالإطلاق"؟ تُشير هذه الآية إلى جمهور البؤساء التُعساء الذين أوقعهم الشيطان في حبائله.

وما معنى القول: "أكرز بسَنة الله المقبولة"؟ تُشير هذه الآية إلى جلال الأخبار المُفرحة التي تُعلن قدوم السيِّد المسيح، هذه هي السَنة المقبولة التي شاء المسيح فصُلب فيها نيابة عنَّا، لأن بصلبِه قبِلَنا الله الآب وكنَّا بعيدين عنه، إذ ورد: "وأنا إن اِرتفعت من الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو 12: 32). حقًا قام المسيح في اليوم الثالث، منتصرًا على قوَّة الموت، ولذلك يقول: "دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (مت 28: 18).

أليست هذه السَنة سنَة مقبولة، وقد انضممنا إلى أسرة المسيح، وخفق علينا علم يسوع، وتطهَّرنا بالعِماد المقدَّس، واشتركنا في طبيعة المسيح الإلهيَّة، بنيْلنا الروح القدس؟!

إنها السَنة مقبولة تلك التي أَظهر فيها المسيح مجده بمعجزات باهرة، وقبِلْنا بفرح وابتهاج نعمة الخلاص والفداء على حد قول بولس الحكيم: "هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو 6: 2). حقًا أنه مقبول إذ فيه فازت الأمم بكنز الإنجيل السمائي، ونالت رسالة السماء المُفرحة، وكانت في الماضي بعيدة عن نعمة الخلاص، لا أمل لها بالنجاة، وليس إله تقصد إليه في العالم. أما الآن فنحن أعضاء في المملكة المسيحيَّة، وشركاء طغمة القدِّيسين الصالحة، وورثة نعم وبركات يقصُر عن تصوُّرِها العقل وعن وصفها اللسان: "ما لم ترَ عين ولم تسمع به إذن ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو 2: 9).

وتشير عبارة: "المُنكسري القلوب" إلى ضعاف القلوب مزعزعي العقيدة، هؤلاء الذين لا يُمكنهم مقاومة الميول والشهوات، فيرخون العنان لعواطفهم الدنيئة، فيشتدْ الخِِناق عليهم ويضيق بهم مكان الأسر. أما المسيح فيعد مثل هؤلاء المأسورين بالإطلاق ويناشدهم قائلاً: إرجعوا إليّ فأشفيكم، وأغفر لكم إثمكم وخطيَّتكم.

أما الذين عمَت بصائرهم فإن المسيح يهبهم الضوء والنور؛ هم عميان لأنهم عبدوا المخلوق دون الخالق: "قائلين للعود أنت أبي وللحجر أنت ولدتني" (إر 2: 27). هؤلاء الناس جهلوا طبيعة المسيح الإلهيَّة فحُرم عقلهم من النور الروحي الحقيقي.

وليس هناك من معترضٍ على نسبة هذه الأمور كلها إلى جماعة الإسرائيليِّين، فقد كانوا فقراء ومنكسري القلوب وأسرى، يهيمون في دُجى الليل الحالك "الكل قد زاغوا معًا وفسدوا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد" (مز 14: 3).

نزل المسيح فبُشِّر الإسرائيليِّين قبل غيرهم من الشعوب، أما الأمم الأخرى فلم تكن دون الإسرائيليِّين عُمي وجُهلاء، ولكن المسيح أغناها بحكمته وهذبها بعلمه، فلم تظل ضعيفة العقل سقيمة الرأي، بل أصبحت سليمة المذهب قويَّة الحجة.

القدِّيس كيرلس الكبير

"ثم طوى السفر وسلَّمه إلى الخادم وجلس.

وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه.

فابتدأ يقول لهم:

إنه اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم" [20-21].

جاءت كلمات السيِّد المسيح مفسِّرة لهذه النبوَّة جذَّابة، لأنها لم تكن مجرَّدة، وإنما كانت عملاً إلهيًا تحقَّق بمجيئه، لذلك يقول: "كانت عيونهم شاخصة إليه".

v لما نطق المسيح بهذه الآيات البيِّنات دُهش سامعوه، وتساءلوا فيما بينهم من أين له هذه الحكمة البليغة، ولم يدرس الآداب اليهوديَّة؟! لأنه كان عادة اليهود أن يفسِّروا النبوَّات الخاصة بالمسيح بأنها تمَّت، إما في ملوكهم أو في أنبيائهم، لأنهم جنحوا عن طريق السداد والرشاد واتَّخذوا مسلكًا ملتويًا مرذولاً.

وتجنبًا للخطأ الذي طالما سقط فيه اليهود، ومنعًا لكل غموض قد يقعون فيه، خاطبهم المسيح في صراحة تامة: "أنه اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم" (لو 4: 21). صارحهم المسيح بأنه هو الذي تُشير إليه النبوَّة، لأن المسيح هو الذي بشَّر بكلمة الخلاص للشعوب الوثنيَّة، وكانوا مساكين معدمين لا إله ولا شريعة ولا أنبياء. وبالأولى بشَّر قومًا حُرموا زمانًا طويلاً من المواهب الروحيَّة، وأطلق سراح مأسورين، تحمّلوا مرارة الأغلال والأصفاد. وأنار سبيل الحق والفضيلة، وكانت سحابة الظلام الحالك تسُد عليهم المنافذ والطرق، ولذلك قال السيد: "قد جئت نورًا إلى العالم" (يو 12: 46). حطَّم المسيح أغلال الإثم، وأعلن قضاء العدل وأخيرًا نادى بسَنة مقبولة، هي علامة مجيئه الأول، وراية خلاصه وشعار الجنس البشري أجمع.

"وكان الجميع يشهدون له ويُعجبون" (لو 4: 22).

لم يُدرك الإسرائيليُّون مكانة المسيح، ولم يعرفوا أنه مسيح الرب إله القوَّات والمعجزات، فزاغوا عن تعاليمه وتكلَّموا بالباطل ضِدُّه، ومع أنهم قدَّروا كلمات الحكمة التي نطق بها السيِّد المسيح إلا أنهم سعوا بروح الشك والغموض فقالوا: "أليس هذا ابن يوسف؟!" (4: 22). وهل حجب هذا السؤال نور المعجزات الساطع، ولِمَ لا يُقابَل المسيح بالاحترام والإجلال رغمًا عن كونه ابن يوسف؟ ألم ير الإسرائيليُّون المعجزات؟! وألم تُقبَر الخطيئة في لحْدِها ويُسجن الشيطان في الهاوية، وتُهزَم جيوشه هزيمة منكَرة؟!

أثنى اليهود على سيل النعمة الذي جرى على لسان المسيح، ولكن غمروه حِقدًا، لأنه ينتسب إلى يوسف. إنه لجهلٍ ليس بعده جهل، فحق عليهم قول الوحي: "اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم الذين لهم أعين ولا يُبصرون، لهم آذان ولا يَسمعون" (إر 5: 21).

القدِّيس كيرلس الكبير

v "وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه" [20].

حتى وقتنا الحاضر يحدث هذا، ففي مجمعنا واجتماعاتنا يمكن أن تشخص عيوننا إلى المخلِّص، توجَّه نظرات أكثر عمقًا، فتتأمَّل في ابن الله الوحيد، الحكمة والحق... كم اشتاق في هذه الجماعة أن يكون للكل من موعوظين ومؤمنين ورجال ونساء وأطفال عيون للنفس لا الجسد مشغولة بالنظر إلى يسوع. فإن النظر إليه يجعل نوره ينعكس فتصير وجوهكم أكثر ضياء.

العلامة أوريجينوس

"فقال لهم: على كل حال تقولون لي هذا المثل:

"أيها الطبيب اِشف نفسك.

كم سمعنا أنه جرى في كفر ناحوم فافعل ذلك هنا أيضًا في وطنك.

وقال: الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولاً في وطنه" [23-24].

كأنهم يقولون له: يا من رفعت نفسك في البلد الغريب خلال عمل المعجزات، اِصنع معجزات بين أهلك وأقاربك في بلدك، إذ ظنُّوا أن السيِّد المسيح يطلب مجدًا زمنيًا أو كرامة من البشر.

v "على كل حال تقولون لي هذا المثل اِشف نفسك" (لو 4: 23).

كان هذا المثل مألوفًا لدى اليهود وأُُطلق على جماعة الأطبَّاء والحُكماء، فإذا أصاب طبيبًا مرضًا ما قالوا له: "أيها الطبيب اشف نفسك" بيّن المسيح لليهود بأنهم يطلبون إليه أن يجري أمامهم مختلف المعجزات، خصوصًا وأن بلدته التي تربَّى فيها أحَق من غيرها بهذه القوَّات والعجائب، إلا َّأن المسيح أفهمهم أن المألوف منبوذ، بدليل أنه بعد سماعهم كلمات الحكمة والنعمة التي نطق بها امتهنوه بالقول: أليس هذا ابن يوسف؟! فليس بعيدًا إذن أن يتمادوا في حجب عيونهم عن النظر إلى تعاليمه "الحق الحق أقول لكم أنه ليس نبي مقبولاً في وطنه" (4: 24).

القدِّيس كيرلس الكبير

لم يرفض السيِّد المسيح هذا المثل، إذ يليق بكل معلِّم أن يُعلن تعاليمه خلال حياته قبل كلماته، وإلا انطبق عليه هذا المثل بكونه يقوم بدور الطبيب الذي يدَّعي قدرته على شفاء المرضى، بينما يُعاني هو نفسه من المرض. إنما أوضح أنه لا ينطبق عليه. إذ كانت أعماله تشهد بالأكثر عن أقواله... إنما سِرّ تعثُّرِهم في السيِّد إنما ينبع عن رفضهم له لم

http://demiana2010.com

5تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 5 السبت 2 يناير 2010 - 16:35

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 5

انطلق السيِّد المسيح في خدمته يسند المُتعبين، فيملأ شباك من تعبوا الليل كله بلا صيْد، ويطهِّر إنسانًا مملوءًا برصًا، ويصحِّح الأفكار الداخليّة للفرِّيسيِّين ومعلِّمي الناموس، ويجتذب العشّارين من مكان الجباية، ويُعلن عن الحياة الجديدة التي يهبها لتلاميذه. إنه يسند كل من يقبَله، يهبْه ثمرًا وطهارةً وتقديسًا للفكر والسلوك خلال الحياة الجديدة.

1. صيد السمك 1-11.

2. تطهير أبرص 12-16.

3. شفاء المفلوج 17-26.

4. دعوة لاوي العشّار 27-32.

5. الإعلان عن الخمر الجديدة 33-39.

1. صيد السمك

في دراستنا لإنجيليّ القدِّيسين متّى (4: 18) ومرقس (1: 16-20) رأينا السيِّد المسيح في اختياره للتلاميذ يبدأ بهؤلاء الرجال الأربعة صيَّادي السمك الأممين: سمعان بطرس ممثِّل صخرة الإيمان، وأندراوس ممثِّل الجِدِّية والرجولة، ويعقوب ممثِّل الجهاد والتعقب المستمر، ويوحنا ممثِّل حنان الله ونعمته. اختارهم السيِّد ليكرزوا، لا بفلسفة العالم وحكمة هذا الدهر، وإنما بنعمة الله العاملة فيهم. قلنا أن هؤلاء الأربعة يمثِّلون الفرس الحاملة للكنيسة كمركبة الله المنطلقة نحو السماء، ألا وهي الإيمان مع الجدية، والجهاد المرتبط بنعمة الله وحنانه.

ورأينا أنه على ما يبدو أن هؤلاء الرجال كانوا في البداية يتبعون السيِّد، لكنهم على فترات متقطِّعة خلالها يعودون للصيد حتى صدر الأمر لهم نهائيًا بتبعيَّته، فتركوا كل شيء وتبعوه.

على أي الأحوال يقدِّم لنا معلِّمنا لوقا البشير لقاء السيِّد معهم وهم في غاية الإرهاق النفسي والجسدي، فقد تعبوا الليل كله ولم يأخذوا شيِّئًا [5]، وكأنه قد صدر أمرًا فائقًا ألا تدخل سمكة واحدة في شباك السفينتين طوال الليل حتى يأتي شمس البرّ، ربنا يسوع، ويدخل سفينة منهما، ويصدر أمره بالدخول إلى العمق في وسط النهار لتلقى شبكة كفيلة بصيدها أن تملاْ السفينتين.

إن تتبعنا هذا الحدّث كما ورد في إنجيل لوقا ندرك الآتي:

أولاً: "رأي سفينتين واقفتين عند البحيرة والصيَّادون قد خرجوا منهما وغسلوا الشباك" [2].

يقول القدِّيس أغسطينوس: [كان يوجد سفينتان، منهما دُعي تلاميذه (الأربعة)، وهما تشيران إلى الشعبين عندما ألقوا شباكهم وجاءوا بصيدٍ كثيرٍ، بسمكٍ كثيرٍ جدًا حتى كادت الشباك تتخرَّق... تشير السفينتان إلى كنيسة واحدة من شعبين اتَّحدا معًا في المسيح بالرغم من أنهما من مصدرين مختلفين. عن هذا الأمر نجد زوجتين لهما رجل واحد هو يعقوب، وأما هما فليئة وراحيل كانتا رمزين (تك 29: 23، 28). وأيضًا لذات السبب وُجد أعميان كرمزين، جلسا بجوار الطريق وهبهما السيِّد البصيرة (مت 20: 3). وإن تأمَّلت في الكتاب المقدَّس تجد الكنيستين اللتين هما بالحقيقة كنيسة واحدة قد رُمز إليهما في مواضعٍ كثيرةٍ، جاء لخدمتهما حجر الزاويّة (يربطهما معًا) ويجعلهما واحدًا.]

ثانيًا: غسل الرجال شباكهم إذا انقضى الليل كله بلا صيد، فيبقون نهارهم في مرارة ليعاودوا الصيد من جديد في الليلة الجديدة، ولم يدرك هؤلاء الصيَّادون أن فشلهم هذا كان بسماحٍ من الله لأجل نجاح أبدي وزمني أيضًا. فإنَّ كانت السفينتان قد فرغتا تمامًا من السمك، إنما لكي لا ينشغل الصيَّادون بجمعه وفرزه وبيعه بل يستقبلون السيِّد في السفينة ليستخدمها منبرًا للتعليم، يصطاد خلاله الصيَّادين وجمهورًا من الشعب، وعندئذ لا يحرمهم حتى من السمك، إذ يسألهم أن يلقوا شباكهم للصيد فتمتلئ السفينتان حتى أخذتا في الغرق.

حينما تُغلق الأبواب في وجوهنا ونظن أن حظنا سيئ، هذا التعبير الذي لا يليق بالمؤمن، فلننفتح بالقلب أمام السيِّد ونقدِّم له سفينة حياتنا يدبرها حسب مشيئته الصالحة، فيردّ لنا "بهجة خلاصنا"، مقدِّّما لنا ثمارًا روحيّة دون حرمان حتى من ضرورات الحياة الزمنيّة.

ثالثًا: اختبر التلاميذ لذَّة صيد السمك، الأمر الذي يعرفه هواة الصيد، والآن يرفعهم إلى لذَّة أعمق، وهي لذَّة صيد النفوس ليخرجوها من بحر هذا العالم فتعيش؛ هذه الخبرة ما كان يمكنهم أن يتذوقوها ما لم يصطادهم السيِّد نفسه في شبكته ويدخل بهم إلى سفينته، الكنيسة المقدَّسة. في هذا يقول القدِّيس كيرلس الكبير: ]فلنمدح الطريقة التي أصبح بها التلاميذ صيَّادي العالم قاطبة، خاضعين للمسيح خالق السماوات والأرض، فبالرغم من أنه طُلب من تلاميذ المسيح أن يصطادوا الشعوب الأخرى، فقد وقعوا في شبكة المسيح المطمئنة، حتى إذا ما ألقوا بدورهم شباكهم أتوا بجماهير المؤمنين إلى حظيرة المسيح الحقيقيّة. ولقد تنبَّأ أحد الأنبياء القدِّيسين بذلك، إذ ورد: "هأنذا أرسل إلى جزَّافين كثيرين يقول الرب، فيصطادونهم ثم بعد أرسل إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم" (إر 16: 16). ويراد بالجزافين في الآية السابقة الرسل الأطهار وتشير كلمة "القانصين" إلى ولاة الكنائس ومعلميه. [

يقول القدِّيس أمبروسيوس:] ما هي شباك الرسول التي أُمر بإلقائها في العمق إلا العظة وقوّة الحجة التي لا تسمح بهروب من اقتنصتهم؟! من الجميل أن تكون الشباك هي الأدوات التي يستخدمها التلاميذ، هذه التي لا تُهلك من تصطادهم بل تحفظهم وتخرجهم من الهاويّة إلى النور، وترتفع بمن في الأعماق إلى المرتفعات العاليّة.]

هذه الخبرة عاشها معلِّمنا بولس الرسول الذي اصطادته شبكة مراحم الرب فلا يكف عن إلقاء الشبكة ليصطاد هو بنعمة الله، إذ يقول: "لنا هذه الخدمة كما رُحمنا لا نفشل" (2 كو 4: 1).

رابعًا: صدر الأمر الإلهي: "ابعد إلى العمق، والقوا شباككم للصيد" [4].

لو أن هذا الأمر قد صدر من إنسان عادي لحسبه الصيَّادون تجريحًا لكرامتهم إذ هم أصحاب خبرة في الصيد لسنوات طويلة، ويعلمون أن الصيد يكون بالأكثر في الليل، ويكاد ينقطع في الظهيرة، كما أن الصيد يكون على الشاطئ لا في الأعماق!

كانت إجابة سمعان تحمل نغمتين: نغمة الخبرة البشريّة القديمة بما حملته من فشل ويأس، ونغمة جديدة تفصلها عن السابقة كلمة "ولكن"، إذ يدخل من الخبرة البشريّة البحتة إلى خبرة الإيمان بكلمة الرب الفعّالة.

لاحظ القدِّيس أغسطينوس أن السيِّد المسيح لم يقل للصيَّادين أن يلقوا شباكهم على الجانب الأيمن ليدخل فيها الصالحون وحدهم ولا الأيسر ليدخلها الأردياء إنما يلقونها في الأعماق لتحمل الاثنين معًا، فالدعوة موجهة للجميع أن يدخلوا شباك الكنيسة لعلهم يتمتَّعون بالحياة الإنجيليّة. كما لاحظ أن الصيَّادين لم يأتوا بالسمك إلى الشاطئ بل فرغوا الشباك في السفينتين، إذ أراد أن ينعم الكل بالحياة داخل الكنيسة لا خارجها.

خامسًا: "فأجاب سمعان، وقال له: يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيِّئًا، ولكن على كلمتك ألقى الشبكة" [5]. لقد حسب الرسول بطرس أن ما يمارسه الإنسان من جهاد في الخدمة دون الاتكال على الله والتمسك بكلمة الرب ومواعيده تعبًا خلال ظلمة الليل بلا ثمر، لكن على كلمة الرب يلقي الإنسان شباكه فيأتي بالثمر. في هذا يقول القدِّيس أمبروسيوس على لسان سمعان بطرس: [أنا أيضًا يا رب أعلم تمامًا أن ظلام (الليل) يكتنفني عندما لا تكون أنت قائدي، فيحيط بي الظلام عندما ألقى ببذار الكلمة الباطلة (التي من عندي).]

يكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه معلنًا أن جهاد سمعان بطرس طول الليل الذي بلا ثمر يمثِّل من يكرز ببلاغة بشريّة وفلسفات مجردة، لذا صارت الحاجة ملحة أن تكون الكرازة في النهار حيث يشرق المسيح شمس البرّ مقدَّمًا كلمته الفعّالة التي تملأ شباك الكنيسة بالسمك الحيّ، إذ يقول: [لم يصطادوا شيِّئًا حتى الآن، لكن على كلمة الله نالوا سمكًا كثيرًا جدًا، ليس هو ثمرة البلاغة البشريّة بل من فعل بذار السماء. لنترك إذن الإقناع البشري ولنتمسك بعمل الإيمان الذي به تؤمن الشعوب.]

سادسًا: الصيد الكثير "ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا فصارت شباكهم تتخرق. فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدهم، فأتوا وملأوا السفينتين حتى أخذتا في الغرق" [6-7]. اعتدنا في السيِّد المسيح يصنع المعجزات ترفَّقا بمريضٍ أو تحننًا على من ساده روح شرير، أو يقيم إنسانًا لأرملة متألّمة، أو ليشبع الجموع الجائعة. لكن هذه المعجزة جاءت، لا لتشبع احتياجًا جسديًا أو تُعلن ترفَّقا بنفس محطَّمة، وإنما تعلن عن عمل السيِّد المسيح في كنيسته القادمة من اليهود والأمم ليملأها بالسمك المتمتَّع بالحياة.

في دراستنا للرموز رأينا "السمكة" ترمز للسيِّد المسيح نفسه كما ترمز لمؤمنيه، وكأن الكنيسة تمتلئ بالمختارين، السمك الذي يعيش دومًا في مياه المعموديّة ملتصقًا بالسمكة واهبة الحياة!

يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على هذا الصيد الكثير، بالقول:

]امتلأت شباكهم سمكًا عن طريق المعجزة، وذلك ليثق التلاميذ بأن عملهم التبشيري لا يضيع سدى وهم يلقون شباكهم على جمهور الوثنيِّين والضالين. ولكن لاحظوا عجز سمعان ورفاقه عن جذب الشبكة، فوقفوا مبهوتين مذعورين صامتين، وأشاروا بأيديهم إلى إخوانهم على الشاطئ ليمدوا إليهم يد المساعدة. ومعنى ذلك أن كثيرين ساعدوا الرسل القدِّيسين في ميدان عملهم التبشيري، ولا زالوا يعملون بجدٍ ونشاط وخصوصًا في استيعاب معاني آيات الإنجيل الساميّة، بينما آخرون من معلمي الشعب ورعاته وولاته برزوا في فهم تعاليم الحق الصحيحة. لا زالت الشبكة مطروحة والمسيح يملأها بمن يخدمه من أولئك الغارقين في بحار العالم العاصفة والثائرة، فقد ورد في المزامير: "نجني من الطين فلا أغرق، نجني من مبغضي ومن أعماق المياه" (مز 69: 14).]

سابعًا: استجابة بطرس للعمل الإلهي

رأى معلِّمنا بطرس الرسول الصيد الكثير، فلم يهتم بالصيد في ذاته، إنما بالأكثر استنارت أعماقه منجذبًا لشخص المسيَّا صاحب السلطان على السماء والأرض والبحار (مز 8: 8)، فسجد له على ركبتيه، وشعر بمهابة تملأ أعماقه مكتشفًا خطاياه الداخليّة أمام رب السماء والأرض، فصرخ، قائلاً: "أخرج من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ" [8]. لم يقوَ على إدراك هذا النور الفائق، وشعر بالعجز عن الدنو من هذا القدِّوس معترفًا بخطاياه.

لقد صرخ "أخرج من سفينتي" إحساسًا بالمهابة الشديدة، فاستحق في تواضعه وإدراكه لضعفه أن يدخل الرب أعماق قلبه ويقيم فيه مملكته! وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل. هذا هو الأساس الأول لكل الحكمة العمليّة.[

لم يكن تواضع بطرس الرسول كلامًا أو عاطفة بل هو تفاعل مع العمل الحيّ الإيجابي، إذ قيل عنه وعن زملائه: "ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر، تركوا كل شيء وتبعوه" [11]... تركوا كل شيء ليكرَّسوا كل القلب لمن أحبوه، بالعبادة الحقيقية والكرازة. وكأن التواضع ليس مجرد شعور بالضعف، إنما هو الارتماء في حضن العريس السماوي ليعيش الإنسان بكل قلبه وطاقاته لحساب العريس وبإمكانيَّاته.

ويعلّق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الترك بالقول: [اخبرني أي شيء عظيم تركه بطرس؟ أليست مجرد شبكة ممزقة (5: 11) وعصا وصنارة؟! ومع ذلك فقد فتح له الرب بيوت العالم، وبسط أمامه الأرض والبحر، ودعاه الكل إلى ممتلكاتهم، بل باعوا ما كان لهم ووضعوه عند قدَّميه وليس حتى في يديه[.

ويعلّق القدِّيس أمبروسيوس على تواضع بطرس هذا الممتزج بالعمل والترك، فيقول: [تعجب بطرس من البركات الإلهيّة التي تدفقت عليه، فكلما أخذ ازداد انسحاقًا. وأنت أيضًا قل: "أخرج يا رب من سفينتي، لأني رجل خاطئ" فيجيبك المسيح: "لا تخف". اعترف للرب الذي يغفر لك خطاياك. لا تتردّد في أن ترد إليه مالك (أترك كل شيء) لأنه هو أيضًا وهبك ما له... تأمَّل محبَّة الله التي وهبت الإنسان السلطان ليأخذ الحياة.]

2. تطهير أبرص

إن كان السيِّد المسيح كصديقٍ للبشريّة جاء إلينا نحن الذين تعبنا الليل كله بلا صيد فوهبنا بكلمته صيدًا كثيرًا جدًا قادمًا من الأعماق يملأ السفينتين، أي الروح والجسد، فنحمل، لا سمكًا ماديًا، بل ثمرًا روحيًا متكاثرًا للروح والجسد معًا، الآن نراه يمد يده بلا استنكاف ليشفي رجلاً أبرصًا يخشى الكل من لمسه أو لمس ثيابه أو متاعه لئلا يتنجسوا حسب الشريعة (لا 13).

سبق لنا فرأينا في دراستنا لإنجيل متى (أصحاح 8) وإنجيل مرقس (الأصحاح الأول) أن هذا الأبرص يمثِّل صورة صادقة لمن يقدِّم صلاة حقيقيّة، فينعم بلمسة يدّي سيِّده ليطهر، كما رأينا الأسباب التي لأجلها أرسله السيِّد إلى الكاهن ليقدِّم القربان حسب ناموس موسى؛ ورأينا في دراستنا لسفر اللاويِّين (أصحاح 14) المفاهيم الحقيقيّة لطقس تطهير الأبرص.

يرى القدِّيس أمبروسيوس في تطهير الأبرص رمزًا لتطهير البشريّة المؤمنة التي لم يشمئز السيِّد من لمسها: [لم يطهر الرب أبرصًا واحدًا بل جميع الذين قال لهم: "أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به" (15: 2). إن كان تطهير الأبرص قد تم بكلمة الرب، فإنَّ احتقار كلمة الرب هو البرص الذي يصيب الروح.]

ويعلّق على لمس السيِّد المسيح للأبرص عند شفائه، هكذا: [لمسه لا لأنه لا يقدر أن يشفيه (بدون اللمس) بل ليثبت أنه ليس أسير الناموس، وأنه لا يخشى انتقال العدوى، إذ لا يمكن أن تمسك به.]

في الوقت الذي فيه لمس الأبرص دون أن يخشى نجاسة البرص (حسب الشريعة)، إذا به يطالب الأبرص أن يتمم ما جاء في الناموس بعد شفائه ليعلن أنه ليس بكاسرٍ للناموس.

يحدّثنا العلامة ترتليان عن إرسال السيِّد المسيح الأبرص للكاهن في طاعة للناموس، قائلاً: [إذ كان يجحد كل مجد بشري أمره ألا يخبر أحدًا عن الشفاء، لكن لأجل تكريم الشريعة سأله أن يسلك ما هو متبع فيها... فقد أراد أن تتم العلاقة الرمزيّة للشريعة من أجل دورها النبوي. هذه الرموز تعني أن الإنسان الذي كان خاطئًا وقد تطّهر من الأدناس بكلمة الله يلتزم بتقديم تقدَّمه لله في الهيكل، أي صلاة وشكر في الكنيسة بالمسيح يسوع الذي هو كاهن الآب المسكوني. لقد أضاف: "شهادة لهم"، فإنَّه بهذا شهد أنه لم يكن محطَّما للناموس بل مكملاً له، وبه أيضًا يشهد أنه ذاك الذي سبق فتُنبىء عنه أنه يحمل أمراضنا وضعفاتنا[.

ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [يأمر الناموس بأن يتقدَّم الأبرص للكاهن لا ليقدِّم ذبيحة خارجيّة، بل يقدِّم نفسه لله ذبيحة روحيّة، فتُمحى نجاسات أعماله السابقة، ويصير مكرَّسا للرب كذبيحة مرضيّة..."فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدَّسة مرضيّة عند الله" (رو 12: 1).]

إن كان الأبرص قد التجأ بالصلاة والطلبة إلى السيِّد المسيح لينعم بالطهارة، فالإنجيلي لوقا يود أن يسحبنا من حين إلى آخر لحياة الصلاة كينبوع للحياة المقدَّسة، مقدَّما لنا السيِّد المسيح نفسه، ممثِّلنا ونائبنا، مصليًا... وهو قابل الصلوات، إذ يقول: "وأما هو فكان يعتزل في البراري ويصلي" [16].

مع أن الجموع كانت عطشى للقاء معه، وكثيرون تمتَّعوا بالشفاء خلال التلامس معه أو سماع كلمة من فيه، لكنه كان "يعتزل ليصلي" ليعلن عن حاجتنا إلى الحياة العاملة المتأمَّلة بلا انفصال. بالحب يتسع قلبنا للعمل لحساب إخوتنا وبذات الحب نلتقي مع الله سريًا لننعم بعمله فينا. بمعنى آخر لا انفصال بين العمل والتأمَّل، الكرازة أو الخدمة والعبادة!

يعلّق القدِّيس كبريانوس على صلاة السيِّد المسيح، قائلاً:

[إن كان الذي بلا خطيّة صلى فكم بالأكثر - يليق بالخطاة أن يصلوا؟! وإن كان السيِّد يصلي على الدوام ساهرًا الليل كله بطلبات غير منقطعة فكم بالحري يليق بنا أن نسهر نحن كل ليل في صلاة مستمرَّة متكررة؟!

لا يصلى الرب أو يطلب عن نفسه، إذ ماذا يطلب ذاك الذي بلا خطيّة؟! إنه يطلب عن خطايانا كما أعلن عندما قال لبطرس: "... طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" ( لو22: 31).]

[إن كان قد تعب وسهر وصلى من أجلنا ومن أجل خطايانا، فكم بالحري يلزمنا نحن أن نصلي على الدوام، نصلي ونتوسل إلى الرب نفسه وخلاله لنرضي الآب. لنا الرب يسوع المسيح إلهنا محامٍ وشفيع من أجل خطايانا، إن كنا نتوب عن خطايانا الماضيّة ونعترف مدركين خطايانا التي بها عصينا الرب، وننشغل بالسلوك في طرقه ومخافة وصإيَّاه.]

3. شفاء المفلوج

الآن إذ يجتمع السيِّد المسيح في بيت وقد أحاط به فرِّيسيون ومعلمو الناموس جاءوا من كل قريّة من الجليل واليهوديّة وأورشليم [17]، كان يعلمهم. وإذ رأى مفلوجًا يدليه أربعة رجال من السقف قطع حديثه ليهب غفرانًا للمفلوج وشفاءً لجسده، وكأنه في صداقته معنا لا يحب التعليم في ذاته كما يحدّث في كثير من المعلمين، وإنما يطلب راحة البشريّة على صعيد الروح والجسد معًا.

سبق لنا الحديث عن هذا المفلوج من واقع كتابات بعض الآباء (إنجيل متى 9، مرقس 2)، ولذا أود الكتابة هنا في شيء من الإيجاز.

تمَّت هذه المعجزة في مدينة السيِّد، أي "كفرناحوم" (مر 2: 1)، أي كفر النياح أو الراحة، لأنه حيث يوجد السيِّد المسيح حالاً في موضع يهب نياحًا للنفس كما للجسد.

اجتمع به جماعة من الفرِّيسيين. "والفرِّيسيون" كلمة آراميّة معناها "المفروزون"، لكن للأسف فرزوا أنفسهم عن عامة الشعب لا لخدمتهم في الرب، بل ليعيشوا في أرستقراطيّة دينيّة عمادها العجرفة والكبرياء؛ هذا هو داءهم الذي أفسد حياتهم وحجبهم عن اللقاء الحقيقي مع السيِّد المسيح بالرغم من صحة عقيدتهم. أما معلمو الناموس فهم "الحاخامات" الذين ركزوا اهتمامهم على "التلمود"، يعيشون في حرفيّة قاتلة.

جاء الفرِّيسيون والحاخامات يتكئون في عجرفة على معلوماتهم الدينيّة وحكمتهم البشريّة، أما ربنا يسوع فكان في وسطهم يعلم ويشفي بقوّة وسلطان!

إذ كان الجمع يزحم البيت انطلق الرجال حاملو المفلوج على السلم الخارجي للبيت حتى بلغوا السطح، فكشفوه ودلوا المريض مع الفراش من بين الأجر إلى الوسط قدام يسوع [19]. وإذ كشفوا السطح بنزع الأجر (الطوب) دلوا المريض في الوسط أمام السيِّد المسيح. وكأنهم يمثِّلون الكنيسة بكل طغماتها وأعضائها (أساقفة - قسوس - شمامسة - شعب)، ينزعون الأجر أي الفكر الترابي والارتباكات الأرضيّة ليكشفوا السقف، فيروا السيِّد جالسًا كما في المساء يهب بركاته بلا حدود.

لم يحتمل الفرِّيسيون أن يروا هذا المنظر. الكنيسة متمثِّلة في هؤلاء الرجال يقدِّمون المفلوج ليسوع دونهم، فأحسوا بانهيار سلطانهم وفقدانهم الكرامة، لذا أرادوا اصطياد خطأ للسيِّد. فلما قال للمفلوج: "مغفورة لك خطاياك" اتهموه بالتجديف، وقد إهتم السيِّد لا بإفحامهم فحسب، إنما بالإعلان عن نفسه، لعلهم يقبلونه ويؤمنون به.

وإذ سبق لنا عرض الكثير من كتابات الآباء في أمر هذا المفلوج (مت 9؛ مر 2) أكتفي هنا بالمقتطفات التاليّة:

v إذ قال المسيح للمفلوج: "أيها الإنسان مغفورة لك خطاياك" قصد السيِّد بذلك أن يخاطب الإنسانيّة بأسرها، كل الذين يؤمنون بالمسيح تُشفى نفوسهم من أسقام الخطيّة وتُغفر لهم آثامهم التي ارتكبوها، وبعبارة أخرى يخاطب المسيح المفلوج قائلاً: لابد وأن أشفي روحك قبل جسدك، أما إذا لم أقم بذلك فإنَّك بقوّة الجسم تمشي على قدَّميك وتعود إلى حياة الإثم والرذيلة، ولو أنك لم تطلب أيها المريض شفاء الروح، فإنَّي أنا إله ورب أرى أمراض النفس وأسقامها، وكيف أتت بك إلى هذا المرض الوبيل.

ولما كان هناك جمع كبير من الكتبة والفرِّيسيين وكان لابد من صنع آيّة لتعليمهم، نظرًا لامتهانهم السيِّد فإنَّ المسيح قام بعمل فائق غريب.

انطرح أمام المسيح على فراش المرض رجل أنهكه الفالج وأعياه ولم ينفع فيه علاج أو دواء واعترف نفس الأطباء بقصورهم عن شفاء رجل دكه المرض دكًا، فيئس أقاربه منه، إلا أنهم رأوا إشعاع الأمل يبدو عن كثب، فأسرعوا إلى حيث المسيح الطبيب العظيم الذي أتى من فوق من السماء، وقدَّموا له مريضهم، وقبل المسيح إيمانه، فبدد الإيمان سحابة المرض، إذ أن المسيح يخاطب المفلوج بالعبارة المشهورة: "مغفورة لك خطاياك".

قد يسأل إنسان: "كان المفلوج في حاجة إلى شفاء جسمه، فلماذا يعلن المسيح له مغفرة الخطايا؟" ليعلمنا بأن الله يشاهد سكون أعمال الإنسان ويرى الطريق الذي يسلكه في حياته، إذ أنه مكتوب "لأن طرق الإنسان أمام عيني الرب وهو يزن كل سبله" (أم 5: 21). ولما كان الله صالحًا ويريد أن كل الناس يخلصون وإلى معرفته يقبلون، فكثيرًا ما يطهر الإنسان الذي يرتكب الإثم والشر بتعذيب جسمه بمرض ينهكه داء يقعده، على حد قول الوحيّ: "تأدبي يا أورشليم... أمامي دائمًا مرض وضرب" (إر 6: 8). وورد في سفر الأمثال: "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بابن يُسّر به" (أم 3: 10). فحسنًا يعلن المسيح محو الخطايا والآثام فإنَّ في هذه جميعها منبع المرض وجرثومة الداء، فإذا ما مُحيت الخطيّة شُفي الإنسان من مرض الجسم الذي اتصل بها واستبشعها.

"فابتدأ الكتبة والفرِّيسيون يفكرون قائلين: من هذا الذي يتكلَّم بتجاديف" [21].

أعلن المسيح (كما أشرنا إلى ذلك آنفًا) مغفرة الخطايا بسلطان إلهي، ولكن هذا الإعلان أثار الفرِّيسيين وكانوا طغمة جهل وحسد، فتخاطبوا فيما بينهم: "من هذا الذي يتكلَّم بتجاديف؟"

ما كان يمكنكم أن تسألوا أيها الفرِّيسيون هذا السؤال لو كنتم وقفتم على معاني الأسفار المقدَّسة، وطالعتم نبوات الكتاب المقدَّس، وفهمتم سّر التجسد العظيم القدر والفائق الوصف. فبدلاً من درس النبوات اتهمتم السيِّد برذيلة التجديف وحكمتم عليه بالموت، لأن شريعة موسى أعدمت كل إباحي مجدّف، فقد ورد: "ومن جدف على اسم الرب فإنَّه يقتل" (لا 24: 16).

خاطب المسيح الفرِّيسيين قائلاً: "ماذا تفكرون في قلوبكم" [23]، والمعنى الصريح من هذه العبارة "إنكم أيها الفرِّيسيون تعترفون بأنه لا يمكن لغير الله غفران الخطايا؟ ولكن اعلموا أيضًا أنه لا يمكن لغير الله معرفة ما يدور في خلد الإنسان فهو وحده الذي يكشف عن أعماق القلب فيقف على أسراره ونيَّاته، إذ ورد على لسان النبوَّة "أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى" (إر 17: 10)، ويشير داود إلى ذلك بالقول: "المصور قلوبهم جميعًا المنتبه إلى كل أعمالهم" (مز 33: 15)، فالله الذي يصور القلوب والكلى هو الله الذي يغفر الخطيّة والإثم.

"ولكن لكي تعلَّموا أن لابن الإنسان سلطانًا" [24].

حتى يبدد المسيح سحابة الشك والريب التي تظلل بها الكتبة والفرِّيسيون، لم يغفر السيِّد خطايا الرجل المفلوج فحسب لأن الإنسان يعجز عن رؤيّة الخطايا المغفورة بعيني رأسه، بل أمر المرض فزال عن جسم المفلوج، فقام الرجل يمشي سليمًا صحيحًا، مشيرًا إلى عظمة القوّة الإلهيّة التي شفته من مرضه. فلم يؤجل كلمات المسيح للمفلوج: "قم وأحمل فراشك واذهب إلى بيتك" [25]، فقد قام الرجل لساعته وعاد إلى بيته سليمًا معافي. حقا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا.

ولكن إلى من تشير هذه الآية؟ هل تكلَّم المسيح عن نفسه أو عنا؟ الواقع أن هذه الآية تطلق على المسيح وعلينا، لأن السيِّد يغفر الخطايا بصفته الإله المتجسد رب الناموس وواضعه، وقد تسلمنا نحن هذه القوّة الفائقة، وذلك بتتويج طبيعة الإنسان بشرفٍ عظيم القدر، حيث خاطب المسيح رسله المقدَّسين بالقول "الحق أقول لكم أن كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء" (مت 18: 18)، وورد في موضع آخر "من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت" (يو 20: 23).

القدِّيس كيرلس الكبير

v "فلما رأي إيمانهم" [20]. عظيم هو الرب الذي يغفر للبعض من أجل طلبة الآخرين، ويقبل تضرعات البعض من أجل غفران خطايا الغير!...

خادم الله له الحق أن يطلب عنك، وله دالة فُيستجاب له!...

تعلَّم أيها المريض كيف تتضرع، وإن كنت لا ترجو غفرانًا لخطاياك فالجأ لمن يشفع عنك، إلى الكنيسة التي تصلي من أجلك، ومن أجلها يهبك الرب الغفران...

القدِّيس أمبروسيوس

v يقول البعض بأن هذا الرجل قد شُفي لمجرد إيمان الحاملين له، ولكن هذه ليست الحقيقة، لأن القول: "فلما رأى يسوع إيمانهم" لا يشير إلى إيمانهم وحدهم بل وإيمان الذي كان يحملونه، لماذا؟

تقول: ألم يشِف أحدًا لأجل إيمان آخر؟ في رأيي ما أظن هذا إلا في حالة عدم نضج السن (القاصر) أو الضعف الشديد لدرجة عدم القدرة على الإيمان...

لا تصغي بلا اهتمام إلى العبارة القائلة أنهم دلوه من السقف، بل تأمَّل كيف أن مريضًا يمكن أن يكون له الثبات على مكابدة إنزاله مدليًا من السقف. أنت تعلَّم أن المرضى قلوبهم واهيّة حتى أنهم غالبًا ما يرفضون المعاملة التي يلاقونها وهم على أسرة مرضهم، غير راغبين في احتمال آلام العلاج، مفضَّلين احتمال آلام المرض عنها. أما هذا الرجل فكان له من العزم أن يخرج من المنزل، ويُحمل وسط السوق، ويصير منظرًا وسط الجماهير، مع أنه عادة يُفضَّل المرضى الموت على أسرة مرضهم عن أن تنفضح مصائبهم الخاصة. هذا المريض لم يفعل هذا فحسب، بل وعندما رأى أن مكان الاجتماع مزدحم والمقتربين متكتلين وميناء الأمان معاق خضع للتدليّة من السقف... لقد نظر أنها كرامة له أن يشهد كثيرون شفاءه.

ونحن نتفطن إلى إيمانه لا من هذا فحسب، بل ومن كلمات السيِّد المسيح أيضًا، لأنه بعدما ألقوا به وقدَّموه للسيِّد، قال له: "ثق يا بني مغفورة لك خطاياك". وعندما سمع هذه الكلمة لم يغتظ ولا تذمر، ولا قال للطبيب: ماذا تقصد بهذه الكلمات؟ أنا أتيت لتشفيني من شيء، وها أنت تشفيني من شيء آخر... إنه لم يفكر في هذا ولا نطق به، بل انتظر تاركًا للطبيب أن يتبنى طريقة الشفاء التي يريدها.

لهذا السبب أيضًا لم يذهب السيِّد المسيح إليه، بل انتظره حتى يأتي إليه، لكي يعلن إيمانه أمام الجميع.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v لماذا لم يقدِّم للمفلوج الشفاء بل قال له: "ثق يا بني مغفورة لك خطاياك"؟ لقد صنع هذا بحكمة، لأن هذه هي عادة الأطباء أن ينزعوا أصل المرض قبل أن ينزعوا (أعراض) المرض نفسه...

أكد بولس هذا عندما وبخ أهل كورنثوس على خطيّة معينة، قائلاً: "من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى" (1كو 11: 30).

لهذا أزال السيِّد المسيح سبب الشر، وقال: "ثق يا بني مغفورة لك خطاياك". لقد رفع الروح، وأقام النفس المطروحة، لأن قوله هذا كان كافيًا... فلا شيء يخلق السرور ويعيد الثقة قدر التحرر من العذاب الداخلي، وحيث توجد مغفرة الخطايا توجد البنوة، لذلك لا نقدر أن ندعو الله الآب إلا بعدما تُزال خطايانا في بركة الماء المقدَّس (المعموديّة)... فنقول: "أبانا الذي في السماوات".

القدِّيس يوحنا ذهبي الفم

4. دعوة لاوي العشّار

يقدِّم لنا الإنجيلي لوقا جانبًا حيًا من جوانب صداقة السيِّد المسيح للبشريّة، فإنَّه عند اختياره لخواصه اجتذبهم من أماكنٍ متعددةٍ، تارة من بين الصيَّادين البسطاء، وأخرى من بين العشّارين الذين يحتقرهم اليهود ويَّتهمونهم بالخيانة والعمل لحساب الدولة الرومانيّة.

دعا السيِّد المسيح لاوي العشّار الذي صار فيما بعد "الإنجيلي متى"، وكانت الدعوة مختصرة للغاية: "اتبعني" [27]، لكنها قويّة وفعّالة، إذ "ترك كل شيء وقام وتبعه" [28]، وأقام له وليمة ضيافة ليتذوق إخوته العشّارون اللقاء العذب مع السيِّد المسيح.

يقول القدِّيس جيروم أن بعض المقاومين للمسيحيّة استخفوا بأتباع المخلِّص إذ ساروا وراءه بمجرد دعوته لهم خلال النداء الأول لهم، فقبلوه في سذاجة دون تفكير. ويُرد على ذلك بأمرين، الأول أن هؤلاء قد سمعوا وربَّما شاهدوا العلامات والعجائب الكثيرة التي صنعها السيِّد قبل دعوته لهم، والثاني أن السيِّد يحمل جاذبيّة خاصة بكونه رب الخليقة يجتذب الكل حوله.

كما لاحظ القدِّيس جيروم أيضًا أن متى البشير وحده هو الذي ذُكر اسمه "متى" عند دعوة الرب له (مت 9: 9) أما الإنجيليان الآخران فلم يذكرا اسمه، مكتفيِّين بذكر اسمه القديم "لاوي" احتشامًا من زميلهما الإنجيلي متى (مت 9: 9، مر 2: 13-14).

v اتبع متى مبدأ سليمان: العادل يبدأ بمعاتبه نفسه، فدعا نفسه عشّارًا، ليظهر للقارئ أنه لا يجب أن ييأس أحد من خلاص نفسه مادام يرجع إلى حياة أفضَّل، فقد تغير هو من عشّار إلى رسول.

القدِّيس جيروم

v كان لاوي عشّارا يهيم وراء الكسب المرذول لا حّد لجشعه الممقوَّت، يزدري بقانون العدل والإنصاف، حبًا في تملك ما ليس له. فبهذه الخلق الذميمة اشتهر العشّارون، إلا أن المسيح اختطف أحدهم وهو غارق في بحر الإثم والرذيلة ودعاه إليه وأنقذه وخلصه، إذ ورد: "فقال له اتبعني فترك كل شيء وقام وتبعه" [27-28]. فما أصدق بولس المغبوط وهو يصف المسيح بأنه "جاء إلى العالم ليخلص الخطاة" (1 تي 1: 15). أفلا ترون كيف أن كلمة الله الابن الوحيد وقد أخذ لنفسه جسدًا يردّ إلى نفسه عبيد إبليس وممتلكاته؟!

القدِّيس كيرلس الكبير

v عندما اختار رسله الخواص ليكرزوا بإنجيله، اختارهم من بين الخطاة... ليظهر أنه جاء لا ليدعوا أبرارًا بل خطاة إلى التوبة.

الأب برناباس

لم يحتمل الكتبة والفرِّيسيون لقاء السيِّد المسيح مع العشّارين، فقالوا لتلاميذه:

"لماذا تأكلون وتشربون مع عشّارين وخطاة؟

فأجاب يسوع، وقال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.

لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" [30-32].

v لماذا يلوم الفرِّيسيون المخلِّص لتناوله الطعام مع الخطاة؟ لأن الناموس فرق بين المقدَّس والمحلل، وميّز بين النجس والطاهر (لا 10: 10). اِعتقد الفرِّيسيون أنه لا يصح الجمع بين المقدَّس والنجس، فقاموا يطالبون المسيح بحفظ شريعة موسى، ولكن لم يكن تهجمهم على السيِّد ناشئًا عن غيرة على الشريعة، بل عن حسدٍ وخبثٍ، فكثيرًا ما هبوا في وجه المسيح لإسقاطه في شركٍ منصوبٍ، إلا أن المسيح أفلت منهم رادًا السيئة بالحسنى، إذ أعلمهم أنه ما جاء الآن قاضيًا للحكم، بل طبيبًا للشفاء، ولذلك كان لزامًا عليه وهو طبيب أن يقرب المرضى لشفائهم من أسقامهم.

القدِّيس كيرلس الكبير

وللعلامة ترتليان تعليق جميل على كلمات السيِّد المسيح: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" [21-22]. فإنَّه إذ ظهر في القرن الثاني بعض البدع تُدنِس الجسد وتحقر من شأنه وتحسبه عدوًا يلزم تحطيمه، يعلن العلامة ترتليان أن الجسد مع ما بلغه من فساد لكنه قريب لنا، يشارك النفس حياتها، يلزم أن نحبه كما نحب قريبنا، خاصة وأن السيِّد المسيح حمل جسدنا الذي في شبه الخطيّة فصار قريبًا له... بارك طبيعته فيه. هذا وإن كان جسدنا قد تلوث بمرض الخطيّة فإنَّ السيِّد المسيح جاء لا كديان بل كطبيب يشفي الجسد والنفس معًا.

نستطيع أن نتلمس قدسيّة نظرة الكنيسة الأولى للجسد، من كلمات العلامة ترتليان: [يطالبنا (المسيح) أن نحب قريبنا بعد حبنا له، وها هو يمارس ما يأمرنا به إذ يحب الجسد الذي هو ملاصق له جدًا وبطرقٍ كثيرةٍ، والذي هو قريبه، يحبه بالرغم من ضعفه، فإنَّ قوَّته تكمل في الضعف (2 كو 12: 9)، يحبه بالرغم من ارتباك جسدنا، إذ لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، وبالرغم ممَّا يبدو أنه (جسدنا) غير مكرم، إذ تُعطي كرامة أفضَّل للأعضاء ناقصة الكرامة (1 كو 12: 23). يكرمه مع أنه محطَّم، إذ يقول: جئت لأخلص ما قد هلك (19: 10)؛ يكرمه مع أنه خاطئ، إذ يقول: أريد خلاص الخاطئ لا موته؛ وأيضًا بالرغم من كونه تحت الحكم فإنَّه يجرح ويعصب (تث 32: 39).]

5. الإعلان عن الخمر الجديدة

لم يستطع الفرِّيسيون مقاومة السيِّد في صداقته للبشريّة، فحين اعترضوا عليه لأنه يأكل مع عشّارين وخطاة بينما يميز الناموس بين المقدَّس والنجس أكدّ أنه لا يكسر الناموس بل يحققه في أعماق جوهره بحبه للإنسانيّة وترفَّقه بالضعفاء، فقد جاء طبيبًا للمرضى لا ديانًا للخطاة... الآن يهاجمونه في تلاميذه، قائلين: "لماذا يصوم تلاميذ يوحنا كثيرًا ويقدِّمون طلبات، كذلك تلاميذ الفرِّيسيين أيضًا، وأما تلاميذك فيأكلون ويشربون؟" [33].

جاءت إجابة السيِّد لا ترد على التساؤل فحسب، وإنما تكشف عن رسالته التي تتركز في أمرين:

أولاً: أنه جاء عريسًا يخطب البشريّة كعروسٍ له... فالوقت الآن ليس مناسبًا للصوم، بل للإعلان عن العريس والفرح به، فمتى ارتفع إلى السماء يطلبونه بأصوام وطلبات... وكأن غاية العبادة ليست الأصوام والنسكيات بل التمتَّع بالاتحاد مع العريس السماوي، خلال هذه الأصوام والنسكيات إن قدَّمت بالروح والحق.

ثانيًا: أنه ما جاء ليقدِّم ثقلاً في العبادات، إنما جاء أولاً لينزع ما هو قديم ويقيم ما هو جديد، يصلب الإنسان العتيق ويَّهب الإنسان الروحي الجديد.

لقد سبق لنا أن أوردنا بعض تعليقات للآباء على إجابة السيِّد المسيح في تفسيرنا لإنجيلي متى (9: 14) ومرقس (2: 21).

http://demiana2010.com

6تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 6 السبت 2 يناير 2010 - 16:38

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 6

كان اليونانيُّون يحبُّون أن يسمعوا على الدوام شيئًا جديدًا لإشباع الفكر لكن بدون جدوى، أم المعلِّم السماوي فقبْلَ أن يقدِّم التعليم الجديد قدَّم الإمكانيّة الجديدة، فرفع الإنسان فوق الحرف القاتل بإعلانه عن نفسه أنه رب السبت، فيه لا ينحني المؤمن لحرفيَّة حفظ السبت بطريقة جافة، بل يحمل قوَّة الروح؛ كما شفى صاحب اليد اليُمنى اليابسة ليُطلِقها للعمل الروحي، واختار الاثنى عشر تلميذًا للكرازة والعمل، عندئذ قدَّم عظاته وتعاليمه.

1.المسيح رب السبت 1-5.

2. شفاء اليد اليُمنى 6-11.

3. دعوة التلاميذ 12-16.

4. تعاليمه:

أ. حديث شخصي للمتألِّمين 17-26.

ب. دعوة حب فائق 27-46.

ج. الحاجة للبناء على الصخر 47-49.

1. المسيح رب السبت

ذكر الإنجيليُّون الثلاثة: متَّى (12: 1)، ومرقس (2: 43) ولوقا كيف كان قوم من الفرِّيسيِّين يمثِّلون جوًا من المعارضة للسيِّد، فإنَّهم إذ رأوا التلاميذ في جوعهم يقطفون السنابل ويأكلونها وهم يفركونها بأيديهم حسبوا ذلك كسرًا للناموس، إذ حسبوهم كمن قاموا بعمليَّتيّ الحصاد والدرْس بطريقة مصغَّرة. لذلك احتجُّوا قائلين: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟ وإذ سبق لنا الحديث عن ذلك في دراستنا لإنجيلي متى ومرقس، لنا هنا بعض الملاحظات التاليّة:

أولاً: يذكر الإنجيلي لوقا: "وفي السبت الثاني بعد الأول" [1]، ماذا يعني بهذا؟

اختلف الدارسون في تفسير هذه العبارة، ويمكن تلخيص آرائهم في الآتي:

أ. يقصد بالسبت الأول عيد الفصح اليهودي، والثاني بعده يقصد به عيد الباكورات أو الخمسين، عيد الأسابيع (سبعة أسابيع من بدء الفصح)، والذي يوافق السادس من شهر سيوان (حزيران).

ب. إذ جاءت الترجمة عن اليونانيّة: "السبت الثاني بعد الأول"، لهذا يرى البعض أنه يقصد السبت الثاني بعد الفصح، وبالتالي يكون السبت الأول بعد عيد الفطير، ويُعرف بسبت "العومر" أو سبت "الأغمار".

ج. ربَّما يعني بالسبت الأول هو سبت الشهر الأول من السنة اليهوديّة، بينما السبت الثاني هو سبت الشهر الثاني. أو أن السبت الأول هو السبت الذي يقع فيه رأس السنة المدنيّة (شهر تشري، أو تشرين الأول أو ليثانيم) بينما السبت الثاني هو الذي يقع فيه رأس السنة الدينيّة (نيسان).

د. يري البعض أن السبت الثاني يعني أول سبت يقع في السنة الحوليّة، أي في السنة السابقة بعد سنة اليوبيل.

هـ. الرأي الأرجح لدى كثير من المسيحيِّين هو السبت الثاني بعد عيد الفصح مباشرة.

و. يرى بعض الآباء المهتمِّين بالتفسير الروحي أن السبت الأول يشير إلى السبت الناموسي بمفهومه الحرفي اليهودي ، وأن السبت الثاني هنا إنما هو السبت الجديد، حيث انطلق بنا السيِّد من الراحة الحرفيّة الجسديّة إلى الراحة الحقيقية فيه خلال إنجيله. لذلك ما فعله تلاميذه حيث اجتاز بهم إلى الحقول، إنما يشير إلى الدخول بهم إلى حقول أسفار العهد القديم ليقتطفوا سنابل الرموز والنبوات ، ويفركونها بروحه القدِّوس ، ليجدوا فيها طعام الروح الإنجيلي واهب الشبع الحق.

يمكننا أيضًا أن نقول بأن ما فعله التلاميذ كان باسم الكنيسة كلها حيث تدخل بالروح القدس إلى المذبح الإلهي ، لتتقبَّل سنبلة "الإفخارستيا" كعطيّة إلهيّة تقتات بها ، لكي تبلغ إلى الكمال ، فتتهيَّأ للمسيح يسوع عريسها الأبدي. ويرى القدِّيس أمبروسيوس أن السيِّد المسيح قاد تلاميذه كما إلى حقل هذا العالم الحاضر لينعموا بثمار الكنيسة التي هي من عمل روحه القدِّوس خلال الخدمة الرسوليّة . فقد جاع التلاميذ إلى خلاص البشر وأرادوا التمتَّع بحصاد الروح، الأمر الذي رفضه اليهود.

ثانيًا: كان تساؤل الفرِّسيِّين "لماذا تفعلون ما لا يحلْ فعله في السبوت؟" [2]، كما قلنا ليس عن غيرة على الشريعة، وإنما بدافع النقد وتشويه خدمة السيِّد المسيح، وكانت إجابة السيِّد المسيح لهم لا لإفحامهم، إنما بالحري للكشف عن أسرار العهد الجديد، لعلَّهم يُدركون الحق ويرجعون إليه. أراد السيِّد بإجابته أن يرفعهم إلى العهد الجديد الروحي عِوض حرف الناموس القديم، وكما يقول الرسول بولس: "لأنه يقول لهم لائمًا: أيام تأتي يقول الرب حين أُكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا... فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال" (عب 8: 8، 13)، وقد اقتبس الرسول هذه النُبوَّة عن سفر إرميا الذي بين أيديهم (إر 31: 31).

يقول القدِّيس كيرلس الكبير:

[لكننا نرى أن الكتبة والفرِّيسيِّين جهلوا هذا العهد الجديد كل الجهل، لأنهم حجبوا عيونهم عن رؤية الأسفار المقدَّسة، وهم يحدّقون النظر في تعاليم المسيح السماويّة لعلَّهم يجدون فيها نقصًا أو عيبًا للإيقاع به. لذلك تربَّصوا لتلاميذ المخلِّص، وخاطبوه قائلين: "ألا ترى كيف أن تلاميذك يفعلون ما لا يحلْ فعْلة في السبوت، فبينما الناموس يفرض على الناس الراحة في السبت، نجد تلاميذك يقطفون السنابل ويفركونها بأيديهم ويأكلون؟" ولكن قل لي أيها المعترض ألا تكسر خبزك وأنت تتناول طعامك يوم السبت، فلماذا تعيب على غيرك ما تقوم به أنت؟ وحتى نكون على بيِّنة بجهلهم الكتب المقدَّسة قرع المسيح حجَّتهم بما يأتي:

فأجاب المسيح: "وقال لهم أما قرأتم ولا هذا الذي فعله داود حين جاع" [3]. فمع أن داود سلك مسلكًا مغايرًا للناموس، ولكن له في نفوسنا كل إكبار وإجلال، فهو قدِّيس ونبي. وحيث أن شريعة موسى توصينا بالقضاء بالحق بين الإنسان وأخيه، فلماذا تعتبرون إذن داود نبيًا وقدِّيسا بينما تبكِّتون تلاميذي وتسلقونهم بألسنة حداد ولم يفعلوا أمرًا أردأ؟

يجب أن نلاحظ أن خبز التقدِّمة الوارد ذكره في رواية داود يشير إلى الخبز النازل من السماء الذي تراه على موائد الكنائس المقدَّسة، وأن جميع أمتعة المائدة التي نستعملها في خدمة المائدة السرِّيَّة لهي رمز للكنوز الإلهيّة الفائقة.]

إن كان قد جاز لداود أن يكسر حرف الناموس ويأكل مع رجاله خبز التقدِّمة الذي يُرفع يوم السبت ليأكله الكهنة وحدهم ويوضع عوضه خبزًا جديدًا، وقد أكله داود ورجاله في السبت كما يظهر من قول الكتاب: "فأعطاه الكاهن المقدَّس لأنه لم يكن هناك خبز إلا خبز الوجوه المرفوع من أمام الرب، لكي يوضع خبز سخن في يوم أخذه" (1 صم 21: 6)، فكم بالحري يليق برب داود أن يسمح لتلاميذه أن يأكلوا من السنبلة الجديدة في السبت؟! حقًا لقد ثار شاول الملك ضد الكاهن أخيمالك الذي قدَّم خبز الوجوه لداود ورجاله وأرسل ليقتله مع الكهنة، وها هو عدو الخير يثير الفريسيِّين ضد السيِّد المسيح رب داود وتلاميذه، لأن السيِّد سمح لتلاميذه أن يتمتَّعوا بطعام جديد!

ثالثًا: "وقال لهم: إن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا" [5].

بينما أرادوا إتمامه بكسْر السبت أعلن أنه "ابن الإنسان، رب السبت"، فمن جهة دعا نفسه "ابن الإنسان"، لأنه وهو واضع ناموس السبت وشريعته إنما من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت (مر 2: 27). إن كان "كلمة الله" قد صار ابنًا للإنسان من أجل الإنسان وهو ربه، فكم بالحري يليق أن يكون السبت لخدمة الإنسان؟!

لم يُحقّر السيِّد المسيح من الشريعة ولا حطَّمها، بل بالحري رفعها بالأكثر بدعوة نفسه "رب السبت". حقًا إنه هو "رب السبت" المسئول عن هذه الشريعة أو هذا العيد الأسبوعي، وضعه لا ليهدمه أو يحطِّمه، وإنما لكي يدخل بنا إلى مفاهيم أعمق لهذا العيد، بتحريرنا من حرفيّة السبت القاتلة إلى عيد الأحد المُفرح للنفس.

لقد قدَّم السيِّد نفسه "سبتًا" لنا، إذ هو سرْ راحتنا، وهو عيدنا، فيه ننعم بالحياة المُقامة ونتمتَّع بالمصالحة مع الآب.

2. شفاء اليدْ اليُمنى

في السبت الجديد انطلق السيِّد المسيح بتلاميذه وسط الزروع لكي يهبهم السنبلة الجديدة سِرْ شبع روحي لهم، مقدِّما فهمًا جديدًا للسبت، بكونه سِرْ راحة داخليّة وشبع عميق، يملأ النفس خلال التقائها بالله واتِّحادها معه. والآن إذ يدخل المجمع في سبت آخر أراد أن يكشف عن السبت أنه ليس يومًا للخمول والكسل، إنما هو راحة خلال العمل الروحي الحق، لذا التقى بصاحب اليدّ اليُمنى اليابسة ليردّ لها الحياة لكي تكون عاملة في الرب.

يرى القدِّيس أغسطينوس أن اليد اليُسرى تشير للعمل المادي، أما اليُمنى فتُشير للعمل الروحي. فالرجل ذو اليد اليمنى اليابسة يشير إلى المجمع اليهودي نفسه، وقد يبست يمينه عن العمل الروحي، إذ تحوَّل السبت إلى توقُّف عن العمل وممارسة حرفيَّات جامدة. وقد جاء السيِّد لينزع هذه اليبوسة، واهبًا للسبت فهمًا جديدًا روحيًا.

في تفسيرنا لإنجيل مرقس (3: 1-6) رأينا القدِّيس أمبروسيوس يتحدَّث عن هذا الرجل بكونه يمثِّل آدم الأول الذي مدّ يده على الشجرة في عصيان لخالقه، فيبِست بالخطيّة واحتاجت إلى السيِّد أن يأتي ليشفيها، لتمتدْ سليمة تمارس الحياة الفاضلة، خلال محبَّة القريب وإنقاذ المظلوم. لقد يبست يدّ يربعام عندما أراد التبخير للأوثان وبسطها عندما صلَّي (1مل 13: 4-6). ورأينا القدِّيس كيرلس الكبير في تعليقه على المعجزة كيف اِهتم السيِّد المسيح ليس فقط أن يشفي اليد اليابسة، وإنما أن يحاور الفريسيِّين في أمر السبت لعلَّهم يقبلون شفاء يُبوسِة فكرهم الحرفي.

يقول الإنجيلي: "ثم نظر حوله إلى جميعهم، وقال للرجل: مدّ يدك"، نظر إليهم السيِّد وهو يئن في داخله من أجل قسوة قلوبهم، فعِوض الاهتمام بشفاء أخيهم من يُبوسة يده والتمتَّع بالحياة العاملة اهتموا بالنقد، متربِّصين للسيِّد ليشتكوا عليه. فإنَّه حتى بعد تمتَّع الرجل بالشفاء عوض مشاركته فرحته "امتلأوا حمقًا، وصاروا يتكلَّمون فيما بينهم ماذا يفعلون بيسوع" [11]. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [ألم تكن المعجزة كافية لغرس روح الإيمان؟ ينظرون المسيح يعمل بسلطانٍ إلهيٍ، فيشفي المريض بقوّة فائقة، ومع ذلك يقابلون رحمته بغلظة وقسوة بسبب الحسد والنميمة؟!]

3. دعوة التلاميذ

إن كان السيِّد المسيح قد جاء صديقًا للبشريّة، لا تقوم صداقته على العاطفة المجرَّدة، إنما خلال الحب العامل، فإنَّنا رأيناه يدخل بنا إلى الحقول ليقدِّم لنا ذاته السنبلة الجديدة المبذولة على الصليب، نتناولها سِرْ شبع لنا في سبت الراحة الحقيقية. كما نراه يدخل بنا إلى مقدَّساته "المجمع" بكونه رب السبت، يشفي يميننا اليابسة، محولاً حياتنا من الحرف الناموسي الجامد إلى الحياة الإنجيليّة العاملة به وفيه. والآن نراه باسمنا ولحسابنا يخرج إلى الجبل ليصلي، ويقضي الليل كله في حديث ودّي مع الآب. كصديق لنا يعلن عن "الصلاة" طريقًا للصداقة وانفتاحًا على رب السماء!

في مقدِّمة هذا السفر قلنا أنه سفر "الصداقة الإلهيّة" التي تقوم خلال الصلاة، لذلك يظهر السيِّد نفسه كمعلم لنا عن الصلاة، لا بالوصايا الخاصة بممارسة الصلاة الدائمة واللجاجة فيها، وإنما أيضًا بظهوره في أكثر من موضع مصلِّيًا. وقد رأينا الفارق بين صلاة ذاك الذي بلا خطيّة وصلواتنا نحن الخطاة، إذ هو يصلِّي ويشفع بدمه لغفران خطايانا (راجع تفسير لو 5: 16).

يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على قول الإنجيلي: "خرج إلى الجبل ليصلِّي" [12]، قائلاً: [كل ما عمله المسيح لبنياننا ولفائدة المؤمنين باسمه. فلم يقم المسيح بشيء ما، إلا ليقدِّم نموذجًا ساميًا للحياة الروحيّة حتى نعبده عبادة حقيقيّة. والآن فلندرس المثال الحيّ الذي قدَّمه المسيح لنا عند التماس أمر من الإله العلي. يجب أن نصلِّي في الخفاء، فلا يرانا أحد. "فمتى صلَّيت فادخل إلى مخدعك" (مت 6: 6). ليس الغرض من الصلاة طلب المجد والظهور، بل يجب عندما نقف "رافعين أيادي طاهرة" (1 تى 2: 6) أن نصعد إلى السماء إلى مسكن الله متَّخذين مكانًا هادئًا لنكون في معزل عن ضوضاء العالم وهمومه ومتاعبه، ولنعمل كل هذا بنشاطٍ وسرورٍ، لا بقلقٍ وتعبٍ. لنقم بذلك بشوقٍ وغيرةٍ وصبرٍ جديرٍ بالثناء والإعجاب لأنكم تقرأون أن المسيح لم يصلِ فحسب بل مضى الليل كله في الصلاة... مع أنه مولود من الله الآب وتواضع إلى حدِ إخلاء نفسه من أمور عدة، حتى يكون أخًا وشبيهًا بنا في كل شيء ما عدا الخطيّة. شاركنا المسيح في الطبيعة البشريّة ولطَف بنا، فهو لا يزدرى بنا وبطبيعتنا، بل أخذ شبهنا لنقتفي خطواته وننسج على منواله.]

ويعلّق القدِّيس أمبروسيوس قائلاً: [لا يتسلَّق الجبال كل مُصلٍِّ إذ توجد صلاة تحسب خطيّة (مز 108: 7). من تعلَّم الصلاة يسمو فوق الغنى الأرضي إلى السماوي، ويظل متسلِّقًا حتى يبلغ قمَّة الخلوَة العُليا، أما الذي يهتم بغنَى العالم فلا يتسلَّق الجبال إنما يشتهي ما لقريبه (من السُفليَّات). من يتطلَّع إلى رفقة الله يطلب الله فيصعد، هكذا النفوس القويّة تتسلَّق الجبال. لم ينصح النبي أي شخص أن يتسلَّق الجبال إنما يقول: "علي جبلٍ عالٍِ اصعدي يا مُبشِّرة صهيُّون، ارفعي صوتك بقوّة يا مُبشِّرة أورشليم" (إش 40: 9). تسلُّق الجبال لا يكون بالأقدام إنما بسِموّ الأعمال، فإنَّك إذ تتبَّع المسيح تصير أنت نفسك أحد الجبال التي تحيط بك (مز 124: 2).]

ويكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه، فيقول: [الرب يصلِّي لا ليطلب لنفسه، وإنما لأجلنا... فهو شفيعنا... لا تظن أن المسيح يطلب عن ضعف ليأخذ أمرًا يعجز عن تحقيقه، فهو مؤسِّس كل سلطة... إنما يشكِّلنا بقدوتِه في الفضيلة. أيضًا لنا شفيع واحد عند الآب (1 يو 2: 1)، يشفع في خطايانا، ومن ثم فهو لا يطلب عن ضعف وإنما عن حب... لقد قضي الليل كلُّه في الصلاة، مقدِّما لك مثالاً ورسمًا كقدوة نمتثل بها.]

إذ قضى السيِّد المسيح الليل كله في الصلاة، دعا تلاميذه واختار اثنى عشر في النهار، ويلاحظ في هذا الاختيار:

أولاً: يقول القدِّيس أغسطينوس: [اختار التلاميذ من أصل وضيع وبلا كرامات، أُميِّون، حتى إذ يصيروا عظماء ويمارسون أعمالاً عظيمة يكون ذلك بحلوله فيهم وعمله داخلهم.] وكما يقول الرسول بولس: "اختار الله جُهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمُزدرَى وغير الموجود ليُبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه" (1 كو 1: 27-29). لم يختارهم فقط من بين الطبقات الفقيرة، وإنما أيضًا من بين الخطاة ليترفَّقوا بإخوتهم الخطاة.

ثانيًا: شعر التلاميذ بفضل السيِّد عليهم، وكما قال لهم: "لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم، لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم، لكي يُعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي" (يو 15: 16). ليس لهم فضل في الاختيار، إنما الفضل لله الذي اِختارهم. فهو ملتزم بهم، يسندهم ويثمر بروحه فيهم حتى يتمِّموا رسالته، لكن دون سلبيَّة من جانبهم، إنما يجب عليهم التجاوب مع عمل نعمته، والعمل به ومعه لحسابه. هذا ما يؤكِّده الرسول بولس الذي يدرك أنه قد أُفرِز للعمل وهو في الأحشاء في بطن أُمّه (غل 1: 15)، يلتزم بالعمل الإلهي، إذ يقول: "فإذ نحن عاملون معه نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلاً" (2 كو 6: 1).

يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على اختيار التلاميذ بقوله: [أخذوا من المسيح قوّة، فأَدهشوا العالم بأعمالهم، ولكن يجب أن نلاحظ تواضع الإنجيلي ووداعته، فلم يقل: "إن الرسل القدِّيسين اُنتخِبوا"، ولكن مضى في ذكر أسمائهم ببساطة ما بعدها من بساطة حتى لا يعمل أحد على الانخراط في جماعة الرسل المنتخبين. وقد قال بولس في هذا الصدد: "ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله" (عب 5: 4). ومع أن الرسل المقدَّسين أفرزهم الله بالاسم لهذه الرسالة السامية إلا أن بعض الناس من وقت لآخر تحرِّكهم نزعة الجنون والجرأة فيزِجُّون أنفسهم وسط الرسل وينتحلون اسمًا لم يُعطوه، وقد أشار الرسل المقدَّسون إلى مثل هؤلاء المغتصِبين بالقول: "لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة، فعلة ماكرون مغيرون شكْلهم إلى شبه رسل المسيح، ولا عجب لأن الشيطان نفسه يُغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور، فليس عظيمًا إن كان خدَّامه أيضًا يُغيِّرون شكلهم كخُدَّام للبرْ" (2 كو 11: 13-14).]

ثالثًا: في ذكر أسماء الاثنى عشر تلميذًا ذكرهم اثنين اثنين، ليؤكِّد حياة الشركة بينهم، فسِرْ القوّة في التلاميذ هو تجلِّي السيِّد المسيح "الحب الحقيقي" في حياتهم معلنًا في حياتهم الخاصة الداخليّة، كما في حياة الشركة الحيّة. لقد سبق فكرَّرنا كثيرًا أن رقم "2" يشير إلى الحب، الذي يجعل الاثنين واحدًا، وكأنها إرساليّة حب توحِّد القلوب في الرب، وتضم كل النفوس معًا خلال المصالحة مع الآب في ابنه بروحه القدُّوس.

رابعًا: فيما يلي معنى أسماء التلاميذ:

أ. "سمعان" معناها: "السميع" أو "المُطيع"، وقد دعاه السيِّد المسيح "بطرس" وتعني "صخرة"، بكونه أول من أعلن الإيمان بالسيِّد المسيح ابن الله.

ب. "أندراوس" معناها: "الجاد" أو "القوي" أو "البسالة".

ج. "يعقوب" معناها: "المتعقِّب" أو "المُجاهد".

د. "يوحنا" معناها: "الله يتحنَّن" أو "الله ينعِم".

ه. "فيلبس" معناها: "محب الفرس" أو "فم المصباح".

و. "برثلماوس" معناها: "ابن الحارث".

ز. "متَّى" يعني "هبة" أو "عطيّة".

ح. "توما" يعني "التوأم".

ط. "يهوذا" يعني "يحمد" أو "يعترف".

وقد سبق لنا عرض بعض مقتطفات من أقوال الآباء في هذا الشأن عند دراستنا لإنجيل معلِّمنا مرقس البشير (3: 15).

4. تعاليمه

إن كان السيِّد المسيح في صداقته لنا دخل بنا إلى الزروع ليُشبعنا به، وإلي مقدَّساته (المجمع) ليشفي يميننا للعمل الروحي، وأقام التلاميذ لينادوا بالمصالحة السماويّة، الآن يتقدَّم إلينا كصديق معلِّم يحدّثنا عن ناموسه السماوي الذي نحيا به:

أ. حديث شخصي للمتألِّمين

كصديقٍ معلِّمٍ ينزل إلينا وسط آلامنا ليحدِّثنا حديثًا عمليًا واقعيًا وهو حالْ في وسطنا يسندنا وسط أتعابنا، إذ يقول الإنجيلي:

"ونزل معهم ووقف في موضع سهل،

هو وجمع من تلاميذه وجمهور كثير من الشعب،

من جميع اليهوديّة وأورشليم وساحل صور وصيدا،

الذين جاءوا ليسمعوه ويُشفوا من أمراضهم.

والمعذَّبون من أرواح نجسة وكانوا يبرأون.

وكل الجمع طلبوا أن يلمسوه،

لأن قوّة كانت تخرج منه، وتَشفي الجميع" [17-19].

إن كان السيِّد في صلاته طوال الليل اعتزل على الجبل، إذ لا يستطيع أحد أن يُدرك سِرْ الوحدة الفريدة بين الآب والابن، لكنه نزل إلى السهل ليلتقي مع التلاميذ والشعب اليهودي وأيضًا الأممي. هؤلاء الذين جاءوا يسمعونه ويلمسونه لينالوا قوّة تخرج منه! بهذا كان السيِّد يُتلمِذ خدَّامه، أنه وإن لاق بهم أن يرتفعوا على الجبال العالية ليدخلوا مع الله في شركة سرَّيَّة روحيَّة عميقة، لكنهم هم خدام الشعب، والعاملون لحساب البشريَّة لإراحتهم!

إن كان ربّتا يسوع قد جاء صديقًا معلِّمًا، إنما جاء يهب قوّة لمن يلمسه، واهبًا عطايا فائقة للنفوس المعذَّبة التي بقيت في السهل غير قادرة أن ترتفع إلى الجبل لتلقي معه. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [تأمَّلوا بدقَّة في كل كلمة... كيف ينزل إلى الجمع، وأين يمكن للجمع أن تراه إلا في السهل. إذ لا يتبعه الجمع إلى المرتفعات ولا يصعدوا إلى قمم الجبال، فينزل هو إلى الضعفاء مادام الضعفاء لا يصعدون إلى المرتفعات... ينال المرضى الشفاء في السهل لينموا في القوّة شيئًا فشيئًا، ويستطيعوا تسلُّق الجبال. ينزل الرب ليشفي جراحاتنا لكي يجعلنا نشاركه طبيعته باتِّحاده بنا.]

الآن إذ قدَّم قوّة للذين يلمسونه حتى يرفعهم من السهل إلى قمم جبال الفضيلة، بدأ يحدِّثهم حديثًا شخصيًا عن "بَركة الآلام"، إذ يقول الإنجيلي:

"ورفع عينيه إلى تلاميذه، وقال:

طوباكم أيها المساكين، لأن لكم ملكوت الله" [20].

إذ أراد أن يلتقي بالشعب لشفائهم نزل إلى السهل، لكنه حين يتحدَّث يرفع عينيه ليرفع بصيرتهم معه نحو السماء. أنه يطوِّب المساكين لا لأنه ينزع عنهم الحرمان الزمني أو الألم، وإنما ليرفعهم وسط الآلام إلى ملكوته الإلهي. جاء صديقنا متألِّما يعيش وسط المتألِّمين، ليحملهم وسط الآلام إلى شركة أمجاده!

يقدِّم تطويبًا شخصيًا لسامعيه بقوله: "طوباكم أيها..."، واصفًا إيَّاهم أنهم مساكين وجياع وباكون ومبغَضون من الناس ومضطهَدون منهم ظلمًا... ليعود فيقدِّم الويلات لحاملي السِمات المناقضة: للأغنياء، الشباعى، الضاحكين الآن، الممدوحين من كل جميع الناس. وقد سبق لنا الحديث عن هذه التطويبات في دراستنا لإنجيل معلمنا متَّى (5: 2-12). ويلاحظ في هذه التطويبات الآتي:

أولاً: بدأ بالتطويبات لا بالويلات؛ في التطويب يوجِّه الحديث لسامعيه أما الويلات فيوجِّهها بصيغة الغائب؛ وهكذا يقدِّم لنا السيِّد المسيح الصديق الحقيقي المعلِّم صورة حيَّة للتعليم، مركزها تشجيع السامعين وبث الرجاء فيهم، فهو يفترض في سامعيه طاعته والتمتَّع ببركاته الإلهيَّة، وعندما يحذِّر يفترض أنهم لا يرتكبون الخطأ. إنه إيجابي في تعاليمه.

لقد حمل معلمنا بولس الرسول روح سيِّده ففي رسائله ينعت من يكتب إليهم أنهم قدِّيسون ومختارون ومدعوُّون للملكوت الخ. وبعد التشجيع الكثير يوبِّخ في حزمٍ دون أن يجرح مشاعرهم!

ثانيًا: يعلِّق القدِّيس كيرلس الكبير على القول الإلهي: "طوباكم أيها المساكين بالروح، لأن لكم ملكوت السماوات" [20]، قائلاً:

[هذه هي كلمات المخلِّص يوم أن فتح للتلاميذ كنوز العهد الجديد، وقادهم في طريق الإنجيل وهم على أهبَّة المناداة بالرسالة المقدَّسة، ونريد أن نعرف من هم المساكين الذين أشار إليهم المسيح في الآية السابقة، فوعدهم بملكوت السماوات؟ إن متَّى يقول في هذا الصدد "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 3)، ومعنى ذلك أن المسكين بالروح هو كل من اتَّضع ولم يشمخ بأنفه، فكان قلبه وديعًا وذهنه بعيدًا عن الكبرياء والزهْو متحرِّرًا من رذيلة العُجب.

رجل بمثل هذا الخلق جدير بالمدح والثناء، فهو صديق الإله جلَّت قدرته، فقد وصفه النبي بالقول: "إلي هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2)، ويقول داود النبي: "القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17)، ويقول المسيح نفسه "تعلَّموا منِّي، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29).

في الدرس الذي أمامنا نرى الآية تَعِد المسكين بكل بَركة سماويّة بدون أن تضيف كلمة "بالروح" وصفًا للمسكين، ولكن يجب أن نعلم أن الإنجيليِّين لا يناقضون الواحد الآخر، فإنِّهم يجزِّئون الرواية فيما بينهم، فأحيانًا يذكر جميعهم نص القصَّة بحذافيرها وأحيانًا يذكر أحدهم ما تركه الآخر حتى لا يفوت المؤمنين بيسوع المسيح شيء أفاد التلاميذ وجدَّدهم.

تجِدون إذن من الآية السابقة أن المسيح أراد "بالمسكين بالروح" الجدير بالبركات والنعيم، ذاك الذي لم يهتم بالغنى واحتقر الجشع والطمع، وازدرى العطايا الممقوتة، ورغب عن محبَّة المال المرذولة، وارتفع بنفسه فلم يعبأ بمظاهر الحياة وغرور المال.

حقًا يهدينا بولس الحكيم إلى طريق المبادئ القويمة بقوله: "لتكن سيرتكم خالية من محبة المال" (عب 13: 5). ويضيف إلى ذلك قوله: "فإن كان لنا قوت وكِسوة فلنكتفِ بهما" (1 تي 6: 8)، ولأن من رغب في فداء المسيح وخلاصه يمتهن الأموال الزائلة، ويمنطِق حقويْه بالأعمال السامية الباقية. ولا نقصد بامتهان المال التعريض بالأغنياء الذين فاضت موارد رزقهم بالثروة بل أن كلامنا ينسب إلى أولئك الذين مالوا بكليَّتهم إلى المال، ورغبوا فيه كل الرغبة، ومن هم هؤلاء الناس؟ أشار إليهم المخلِّص بالقول: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض" (مت 6: 19).]

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [بدأ كل من البشيريين تطويباته بهذه العبارة، فهي الأولي حسب الترتيب والأم التي تلد كل الفضائل، فباحتقار ممتلكات هذه الحياة تستحق الممتلكات الأبديّة، أما إن كنت أسيرًا لشهوات العالم فمن المستحيل أن تطفو فوقها.] كما يقول: [ليس كل المساكين مطوَّبين، فالفقر عمل سلبي، إذ يوجد فقراء صالحون وآخرون أشرار... طوبى لمن كان مسكينًا في الخطيّة ومسكينًا في الرذائل، ليس لرئيس هذا العالم موضع فيه (يو 14: 3). طوبى للمسكين الذي يُمتثل بسيِّده الذي افتقر لأجلنا وهو غني (2 كو 8: 9).]

ويقول القدِّيس يوحنا التبايسي: [إن لم يقصد الإنسان أولاً التجرُّد لا يستطيع أن يدنو من الحزن والنوح، لأن حياتنا لا تستطيع أن تدوم في صحَّة الروح، مادمنا مالكين في أنفسنا شيئًا معوَّقًا، إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يقتني حب الله إذا كان حب الاقتناء يتحرَّك فيه، لأنه مكتوب: من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني (مر 8: 34). لا يستطيع الإنسان أن يحمل الصليب دون أن يجحد العالم، بل ينبغي له أن يبتعد عن كل الأشياء، إذ أن العزاء الخارجي يعطِّله عن الشيء الذي يقتنيه، فلا يمكن أن يثبت الحق في إنسانٍ إلا إذا قطع أولاً من ضميره أصل محبَّة المال، ولا يستطيع أن يسكن حب المسيح في الضمير إن لم يتجرَّد أولاً من حب المال... لا تندم ولا تحزن أيها الإنسان عندما تكون فقيرًا ومحتاجًا من أجل الله، لأن رجاء عزائك هو في الملكوت، ولا تصغر روحك إذا تضايقت بالجوع والعري، ولا تضجر بل اِفرح واِبتهج بالرجاء الموضوع لك.]

ويحدّثنا القدِّيس يوحنا الذهبي الفم عن المسكنة (أو الفقر) بأنه التواضع بكونه رأس كل فضيلة، قائلاً: [إنه المذبح الذهبي، وهو موضع الذبيحة الروحي، لأن الروح المنسحق ذبيحة لله (مز 51: 17). التواضع هو والد الحكمة، إن كان للإنسان هذه الفضيلة فتكون له بقيّة الفضائل.]

ثالثًا: "طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تُشبعون" [21].

 ورد في متَّى النص الآتي: "طوبى للجياع والعطاش إلى البِر، لأنهم يُشبعون" (مت 5: 6). أما في لوقا فيكتفي بالقول: "طوباكم أيها الجياع لأنكم تُشبعون". ومن الثابت أن الجياع والعطاش إلى البِرْ يقومون بعملٍ جليلٍ شريفٍ، لأنهم يسعون بِجِدٍ وراء التقوى والصلاح، كما يسعون في طلب الطعام والشراب.

ويُراد أيضًا بهذه الآية تطويب من يرغب في عيشة الفقر والدعة في غير ما إكراه أو امتعاض، فإنَّ هذا التطويب يعمل على نمو ذهنهم ومضاء عزيمتهم، فيسيرون على نهج الحياة الرسوليّة الرشيدة غير مبالين للكسب الباطل، فلا يعنون بالذهب والفضة ولا تهمُّهم الثياب الفاخرة والملابس الثمينة، وليس عندهم إلا الطعام القليل الذي يكاد لا يسد رمقًا أو يشفي غِلِّة.

مثل هؤلاء الناس الذين استعاضوا عن الحياة الدنيا بالحياة الآخرة، يأنسون بوعد السيِّد المسيح لهم، فلا يأس بعد ذلك ولا قنوط، إذ يصرح يسوع جهارًا بأنهم يُشبعون بما يُفتح لهم من كنوز البركات الروحيّة والعقليّة.

القدِّيس كيرلس الكبير

 عندما يُصاب المرء بمرض خطير لا يشعر بالجوع، فالألم يَبتلع الجوع. لكن ما هو هذا الجوع الذي للبِر؟ وما هي الخيرات التي يجوع إليها البار؟ أليست تلك الخيرات التي قيل عنها: "كنتُ فتى وقد شخت الآن، ولم أر صدِّيقًا تُخُلِّيَ عنه، ولا ذُرِّيَّة له تلتمس خبزًا" (مز 36: 22). من يشعر بالجوع يود أن تنمو قوَّته وتتقوَّى الفضيلة.

القدِّيس أمبروسيوس

رابعًا: "طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" [21].

إذ يدعونا السيِّد المسيح للبكاء وسكب الدموع، انشغلت الكنيسة منذ بدء انطلاقها بممارسة حياة التوبة الصادقة في دموعٍ لا تنقطع. ولكن بحكمة وتمييز، دون فقدان الفرح الداخلي خلال الرجاء والسلام الفائق للعقل. لهذا لا نعجب إن رأينا القدِّيس إكليمنضس السكندري وهو يحثُّنا على الدموع قائلاً: [إنه لأمر صالح أن تبكي وتحزن من أجل العدل، بهذا تحمل شهادة لأعجب شريعة]، يؤكِّد التزامنا بعدم المبالغة في الدموع كما في الضحك. بنفس الفكر يحدِّثنا القدِّيس كيرلس الكبير عن تطويب السيِّد المسيح للباكين بالتمتُّع بحياة الفرح، لكن ليس لكل الباكين، إذ يوجد غير مؤمنين يبكون بسبب الهَمْ والغَم.

لنبكِ ولنسكب الدموع هنا، لكن بحكمة وفي رجاء من أجل خلاصنا وخلاص اخواتنا، وليكن بكاؤنا أمام الرب نفسه حتى يملأنا بتعزيات روحه القدُّوس:

 يليق بكم أن تبكوا على العالم، لكن تفرحوا في الرب؛ تحزنوا للتوبة وتبتهجوا بالنعمة، لذلك يأمر معلِّم الأمم موصيًا بكمال أن نبكي مع الباكين ونفرح مع الفرحين.

 من يقتنى فرحًا عظيمًا إلا ذاك الذي يبكي كثيرًا، وكأنه نعمة المجد العتيد بثمن دموعه؟!

القدِّيس أمبروسيوس

 "للبكاء وقت وللضحك وقت". وقت البكاء هو زمان الألم، كقول الرب: "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون" (يو 16: 20)، أما الضحك فيخص القيامة، إذ يقول: "ولكن حزنكم يتحوّل إلى فرح" (يو 16: 20).

الأب ديُّونسيوس السكندري

 الزمان الحالي هو وادي الدموع. هذا العالم هو موضع الحزن لا الفرح... العالم العتيد هو عالم الفرح، أما الآن فساحة الصراع والاحتمال.

 في العام الحاضر لا يوجد الفرح الأبدي، إنما يكون فرحنا سريع الزوال.

 من لا يبكي في العالم الحاضر سيسكب الدموع في الحياة العتيدة.

القدِّيس جيروم

 الصلاة الممتدَّة والدموع الغزيرة تجتذبان الله للرحمة.

 البكاء وحده يقود للضحك المطوَّب.

 أراد يسوع أن يُظهر في نفسه كل التطويبات، إذ قال: "طوبى للباكين"، وقد بكى هو نفسه لكي يضع أساس هذا التطويب حسنًا.

العلامة أوريجينوس

 [في تأبينه للقدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص.]

إذ أبدأ فأذكر فيض دموعه أبتدئ أنا نفسي أبكي، إذ يستحيل علي عبور محيط دموعه بعينين جافتين. لم يوجد نهار أو ليل، ولا نصيب من نهار أو ليل، ولا حتى لحظة مهما قصرت لم تَظهر فيها عيناه الساهرتان سابحتان في الدموع. أحيانًا كان يبكي من أجل البؤس العام والغباوة التي يسقط فيها الكل، وأحيانًا من أجل رذائل خاصة كما قال. كنتَ تجده يبكي وينوح، ليس فقط عندما كان يتحدَّث عن التوبة والأخلاقيَّات وتدبير الحياة، وإنما حتى في صلاة التسبيح والحمد.

 النفس ميِّتة خلال الخطيّة. إنها تتطلَّب حزنًا وبكاء ودموعًا وتنهدًا مرًا على الشر الذي دفعها إلى الهلاك.

ولول، ابك، احزن، رد النفس إلى الله!

أنظر كيف تتألّم الأم التي تفقد ابنها بالموت، فيُلقى في القبر، فإنَّها تبكي لرحيل محبوبها. بالحري يلزم أن يكون الحزن أشد بالنسبة للإنسان الذي تفصله الخطيّة عن الله، فيفقد صورة صلاحه المحبوبة... يحزن الله بسبب فقدان الإنسان للصورة، فإنَّ النفس عنده أعزْ من كل بقيّة خليقته. بالخطيّة تموت النفس، وأنت ألاَ تُفكر في هذا يا خاطي! بالحري يلزمك أن تحزن من أجل هذا الإله الذي يحزن عليك! نفسك ميَّتة بالرذيلة، اِذرف الدموع وأقمها. لتُفرِّح الله بقيامة نفسك.

القدِّيس مار أفرام السرياني

نود أيضًا أن نوضَّح أننا إذ نبكي في هذا العالم على خطايانا، فإنَّ هذا البكاء لا يعني فقدان الرجاء، وإنما كما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم إننا إذ نتوب بصدق تغفر لنا خطايانا بسبب حب الله لنا. نذكر هذه الخطايا على الدوام حتى لا نسقط فيها. لقد غفرت تمامًا، لكننا نقول مع المرتل: "خطيَّتي أمامي في كل حين"... جاء عن الأب بفنوتيوس تلميذ القدِّيس مقاريوس أنه كثيرًا ما كان يردّد هذا القول عن الشيخ: [عندما كنت صغيرًا، اعتدت أن آكل مع الأطفال الآخرين، وقد اعتادوا أن يذهبوا ويسرقوا قليلاً من التين. وإذ كانوا يجرون سقطت تينة منهم، فأمسكتها وأكلتها. كلما أذكر هذا أجلس وأبكي.]

لا يكون هذا البكاء على خطايانا وحدنا، وإنما على خطايا الآخرين أيضًا. لقد أجاب القدِّيس باسيليوس الكبير على السؤال: إن كان يجوز للإنسان أن يضحك؟ بأنه لا يقدر أن يفهم كيف يمكن لمسيحي صالح أن يضحك [خاصة عندما يرى كثيرين يهينون الله بكسْرهم الناموس واقترابهم للموت بالخطيّة، إذ يليق بنا أن نحزن ونبكي على هؤلاء.] كما يقول في عظته عن الشهيدة يوليطة: [عندما ترى أخاك ينوح في توبة عن خطاياه اِبك معه. هكذا خلال أخطاء الغير تربح نفسك من الخطأ. من يسكب الدموع الساخنة على أخطاء قريبه يبرأ هو بحزنه على أخيه. هذا هو حال القائل: "الكآبة امتلكتني من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك" (مز 118: 53).] ويقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لنبكِ عليهم ليس يومًا أو يومين بل كل حياتنا.]

يقدِّم لنا القدِّيس يوحنا التبايسى تداريب عمليّة تسند المؤمن لممارسة البكاء والتمتَّع بالدموع منها: تذكُّر آلام المخلِّص، المحاسبة للنفس، تذكر الدينونة، توقُّع الموت، وطلب الدموع من الله. فمن كلماته: [كان آباؤنا السعداء الطوباويُّون تأتيهم الدموع بسهولة في وقت التضرُّع، لأنهم كانوا على الدوام يتألِّمون ويتفرَّسون في آلام سيِّدنا]، [حاسب نفسك كم ليلة سهرت لأجل الدموع، أو كم من الأعمال قدَّمت إلى الله ليجود عليك بحزن الدموع]، [كثرة حزن الدموع هي موهبة من الله تُعطى باجتهاد طلبات السائل.]

خامسًا: "طوباكم إذا أبغضكم الناس" [22].

كصديق حقيقي لنا دخل إلى حياتنا وشاركنا آلامنا، فلا نرى تعليمه كلمات فلسفيّة برَّاقة، وإنما خبرة حياة يقدِّمها لنا وسط ضيقاتنا. لقد حلّ بيننا كمسكينٍ وظهر كجائعٍ وعطشانٍ وبكى حتى يطوِّب المساكين والجياع والباكين، والآن قبل أن يكون مرذولاً من الناس ليجد المرذولين والمبغَضين من الناس لهم موضعًا فيه.

إن كانت المسكنة بالروح أو التواضع هو رأس كل فضيلة وبداية كل تطويب حق، فإنَّ احتمال بغض الناس وتعييراتهم ومضايقاتهم بقلب متسع بالحب من أجل الملكوت هو نهايّة التطويب، إذ فيه يبلغ المؤمن الرجولة الروحيّة أو النضوج الحق. بمعنى آخر، ما تبغيه كلمة الله منا في احتمالنا الآخرين بفرح هو التمتَّع بسمات السيِّد المسيح المتألّم من أجل أعدائه، فنحسب بحق أعضاء جسده الناضجين. لهذا لخص القدِّيس جيروم التطويبات في العهدين القديم والجديد في عبارة واحدة: [طوبى للإنسان - ليس كل إنسان - بل ذاك الذي يبلغ كمال الرجولة في المسيح.]

 "طوبى لكم إذا أبغضكم الناس" [22].

بين السيِّد للرسل ما ينتظرهم من ضنك واضطهاد وهم يعلِّمون الناس، ووصف الإنجيلي عن طريق النبوَّة الويلات المروِّعة التي تصيب الرسل وهم يُعلنون رسالة الفادي، وينصحون اليهود أن ينبذوا عبادة الفرائض والناموس للتسربل بِحلَّة الحياة المُثلى، ويُنيرون للوثنيِّين طريق الحق والصدق حتى يقلعوا عن عيشة الفجور والرذيلة.

لكن لا يقبل عدوْ الفضيلة نُصحًا ولا إرشادًا، فهو يثير على الناصح والهادئ حربًا شعواء، حتى يكون الرسل على بيَّنة من أمرهم وهم يكرزون بكلمة الإنجيل، فلا يقلقل أحدهم ولا يقنط، أظهر لهم المسيح نصيبهم الروحي وحلاَّهم بلباس الغِبطة السمائيّة في حالة اضطهاد الناس لهم، وبغض الأشرار لنصحهم وإرشادهم. وأوصاهم بأن كل ما يعمله الخطاة الآثمة معهم من تشريد وتجريد ونفيْ وامتهان ومقْت واضطهاد، كل ذلك لا يؤْبه له ولا يُعنى به، فبتحمُّلهم هذه الويلات والضيقات يَسعدون روحيًا ويَنعمون قلبيًا.

وزاد السيِّد وعلَّم تلاميذه بأن اضطهادهم في المستقبل ليس بالشيء الجديد؛ طالما اُضطهد الأنبياء والرسل من قبل. فكثيرا ما قُتل الأنبياء ونُشروا، وضرب بعضهم بحد السيف وأُهْلِكوا، فلا غرابة إن نسج الرسل على منوال سلفهم الصالح، وصبروا على عيشة المذلَّة والمهانة في سبيل نُصرة الحق والعدل، ففي ذلك نصر لهم وظفر إذ يُتوَّجون بإكليل السماء ويشتركون في مجد القدِّيسين المُنير.

القدِّيس كيرلس الكبير

 من أراد أن يتشبَّه بالله فليكن وديعًا هادئًا بقدر ما يمكن للإنسان، وليتحمَّل بسِعة صدر ما يزعجه من الآخرين... إن تعرضَّتَ لإهانة ثقيلة لا تُطاق، وأَخذ الغيْظ والحمق يغليان في أحشاك، فأذكُر وداعة المسيح لتحصل مع عدوَّك على فائدة عظيمة، وبوداعتك تجعله صالحًا.

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

 صلَّوا ألا يوهب لي إحسان أعظم من أن أُقدَّم لله، مادام المذبح لا يزال معدًا، ففي اجتماعكم معًا بمحبَّة غنَّوا لله أغنية شكر للآب بالمسيح يسوع...

أطلب إليكم ألاّ تُظهروا لي عطفًا في غير أوانه، بل اسمحوا لي أن أكون طعامًا للوحوش الضارية، التي بواسطتها يوهب لي البلوغ إلى الله. اتركوني أُطحن بأنياب الوحوش لتصير قبرًا لي، ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما مُتْ لا أتعِب أحدًا. فعندما لا يعُدْ العالم يرى جسدي أكون بالحقيقة تلميذًا للمسيح.

توسَّلوا إلى المسيح من أجلي حتى أُعَدّْ بهذه الطريقة لأكون ذبيحة لله.

القدِّيس أغناطيوس الثيوفورس

سادسًا: بعد أن قدَّم التطويبات الأربعة ذكر اللعنات الأربعة التي تخص الأغنياء والشباعى والضاحكين والذين يمدحهم جميع الناس، فماذا يعني بهذه الفئات؟

بلا شك يقصد بالأغنياء المتَّكلين على أموالهم، والذين أعمت الثروة عيونهم عن معاينة الله وإخوتهم. والشباعى هم الذين اِمتلأوا، فيشعرون أنهم ليسوا في عوز إلى الله، فلا يطلبون عمله فيهم. ويقصد بالضاحكين الذين يلهيهم العالم بإغراءاته عن طريق التوبة، أما الذين يمدحهم جميع الناس فيعني بهم الذين يسعون وراء المجد الباطل لا المجد الخفي الداخلي.

فمن جهة الأغنياء يقول القدِّيس أمبروسيوس: [إن كان كثرة المال يحوي نداءات كثيرة نحو الشرّ، فهو أيضًا يمكن أن يحوي دعوة نحو الفضيلة. حقًا أن الفضيلة لا تحتاج إلى مال كثير، فإنَّ القليل الذي يقدِّمه الفقير أفضل من الهبات الكثيرة التي يقدِّمها الغني، لكن الرب لا يدين من له أموال إنما يدين من يسيء استخدامها.] ويرى القدِّيس أمبروسيوس أيضًا أن الأغنياء الذين سقطوا تحت اللعنة هم اليهود والفلاسفة، فقد اغتنى اليهود بالرموز والنبوَّات والمواعيد، لكنهم في غناهم رفضوا بساطة الإيمان، وأيضًا اغتنى الفلاسفة بالفلسفات البشريّة فرفضوا الإيمان.

لقد سجَّل لنا القدِّيس إكليمنضس السكندري في كتابه: "من هو الغني الذي يخلص؟" المفهوم المسيحي للغنى، موضَّحًا كيف أن المال يُمثِّل وزنة يجب إضرامها لحساب ملكوت الله. بنفس الفكر أكدّ القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في كثير من مقالاته أن الغنى في ذاته ليس صالحًا ولا شرِّيرًا، ولكن الإنسان يمكن أن يستخدمه في البِر أو في الشرّ. ويؤكِّد القدِّيس كيرلس الكبير أنه من بين الأغنياء من يشفق على الفقير ويرحم لعازر المسكين فينال إكليل السماء، إذ يتمِّم الوصيّة الإلهيّة: "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبديّة" (لو 16: 9).

أما الشباعى، فيُقصد بهم أمثال ذاك الذي قيل له: "لأنك تقول إني أنا غنيّ وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء، ولستَ تعلم أنك الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان، أُشير عليك أن تشتري منِّي ذهبًا مُصفَّي بالنار لكي تستغنَي، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريك، وكَحِّل عينيك بكُحْلٍ لكي تُبصر" (رؤ 3: 17-18). وكأن هؤلاء الشباعى قد ظنُّوا أنهم أغنياء، متَّكلين على ذواتهم وإمكانيَّاتهم الخاصة، لا على كلمة الله التي كالذهب المصفَّي تهب غنى حقيقيًا، ولا على السيِّد المسيح نفسه الذي يليق بنا أن نُلبسه، فيستُر ضعفنا وخِزينا ببرِّه المجَّاني، ولا على الروح القدس الذي يفتح البصيرة الداخليّة ككُحْل للعينين.

الضاحكون هم السالكون في الحياة باستهتار، لا يُبالون بخلاص نفوسهم وميراثهم الأبدي، يقضون أيَّامهم كمن يلهون بالضحك، عوض الجِدِّيّة في ممارسة التوبة.

أخيرًا الذين يطلبون مديح الناس، هؤلاء يَستعبدون أنفسهم للناس لا لله، يطلبون إرضاء الغير على حساب الحق، ويفرحون بكلمة المديح الزمني عِوض المجد الأبدي.

ب. دعوة حب فائق

إذ أراد أن يرفعنا كصديقٍ لنا لننعم بالتطويبات ونحذر اللعنات، فإنَّه يدخل بنا إلى سِمته "الحب الفائق"، فتكون المحبَّة فيض داخلي متفجِّر في أعماقنا، نُحب حتى الأعداء، نحب بالعمل لا بالكلام، لذلك جاءت وصاياه هكذا:

"لكني أقول لكم أيها السامعون:

أحبُّوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم.

باركوا لاعنيكم،

وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم" [27-28].

يطالبنا بفيض حب ينبع في الداخل دون انتظار مقابل، إذ يقول: "أحبُّوا أعداءكم"، فنرد العداوة بالحب. هذا الحب يترجم إلى عمل محبَّة ورحمة: "اَحسنوا إلى مبغضيكم"، ويقوم خلال الحياة المقدَّسة والمباركة التي تبارك الآخرين ولا تلعن أحدًا: "باركوا لاعينكم"، ويمتزج بالعبادة فنشتهي خلاص المسيئين إلينا وشركتهم معنا في المجد بالصلاة عنهم لتوبتهم. بمعنى آخر، جاءت وصيّة الحب مرتبطة بكل كياننا في الرب، عميقة في النفس، مترجمة إلى سلوك وعمل، ممتزجة بالحياة المقدَّسة، ومُرتبطة بعبادتنا!

 "أحبُّوا أعداءكم" [27]. يقول بولس الحكيم وهو صادق فيما يكتب: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2 كو 5: 17)، لأن كل الأمور تجدَّدت في المسيح وبالمسيح. انظروا كيف تجدَّد نظام حياة أولئك الرسل الذين عُهد إليهم نشر كلمة الخلاص للعالم أجمع. انظروا كيف يأمرهم السيِّد بمقابلة سيِّئات أعدائهم لهم وكانت مؤامرات مضطهديهم محبوكة الأطراف ودسائسهم لا تعرف رحمة ولا شفقة.

طُلب إلى الرسل ألا ينتقموا لشرّ أحبَّائهم حتى لا يُعطِّلوا نشر الكلمة. نصحهم أن يضبطوا أذهانهم بالصبر والهدوء، فلا يخرجوا عن حلمهم وأناتِهم، محتمِّلين بسرور كل ضررٍ يلحق بهم وكل أذى يصيبهم، متَّخذين يسوع المسيح مَثَلهم الأعلى في الصبر والصفح، فقد هزأ به اليهود كبار وصغار، وبالرغم من سخريَّتهم صلَّى إلى الله الآب قائلاً: "اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (23: 34). وقد جثا إسطفانوس المغبوط أمام الله والحجارة تتساقط حوله طالبًا إلى المولي القدير أن يغفر آثام راجميه، وصرخ بصوت عظيم: "يا رب لا تُقم لهم هذه الخطيّة" (أع 7: 60). ويقول الحكيم بولس في هذا الصدد "نُشتَم فنبارِك، نُضطهد فنحتمل" (ا كو 4: 12).

كان تحذير المسيح إذن ضروريًا للرسل المقدَّسين ومفيدًا لنا نحن المؤمنين، حتى نعيش باستقامة ونزاهة، فإنَّ في هذا التحذير معنى فلسفيًا عميقًا، ففينا من الميول النفسانيّة الثائرة ما يجعل الطريق وعرًا للسير لتحذير المسيح لنا، إلا أن المسيح سبق وأفهمنا ضرورة محاربة ميولنا الفاسدة، وفصل بين العاملين برغبة والعاصين كلمته، إذ قال: "لكني أقول لكم أيها السامعون" (6: 27). ويضيف بطرس الرسول ثبات المسيح وعظيم صبره وطول أناته بالقول: "الذي إذ شُتم لم يكن يَشتم عوضًا، وإذ تألّم لم يكن يهدِّد، بل كان يُسلم لمن يقضي بالعدل" (1 بط 2: 23).

ولكن قد يعترض أحدكم قائلاً: "كان المسيح إلهًا أما أنا فإنَّسان ضعيف، ولي ذهن غير سليم ولي من الميول النفسيّة ما يقف في سبيل إخماد روح الطمع والتغلُّب، أيها الإنسان اعلم أن الله لم يجرِّدك من روح رأفته ومحبَّته، فهو بجوارِك لا بل في داخلك، هو فيك بالروح القدس، لأننا نحن مسكنه وهو يسكن في نفوس محبِّيه ومريديه، هو الذي يعضِّدك بيمينه، فلا تتزعزع ويمسك بك فلا تسقط. إذن "لا يغلبنَّك الشرّ، بل اغلب الشرَ بالخير" (رو 12: 21).

القدِّيس كيرلس الكبير

 لقد منعنا أن نحب الرذيلة التي فيه (في العدو)، وأن نرتبط بمحبَّة طبيعيّة معه.

القدِّيس أغسطينوس

 إن أمكنك لا تجعل لك عدوًا. وإن وُجد من يبغضك لا تحزن بهذا، لأنك لست وحدك من أبغضوه بل سيِّدك قبلك قد أبغضوه...

يمكنك أن تنتفع من عدوَّك كمثل من صاحبك، جاعلاً من عدوَّك كمن هو نافع لك، لأنه بسببه يتفاضل حبَّك عند الله، وبتألّمك عليه يُكثر نفعك، لأن وصيّة سيِّدنا تكمل بذلك فيه. فإنَّ كان عدوَّك قد آذاك ولم تقدر أن تنتفع منه، فاعرف ضعفك، وأبحث من أي شيء لم تقدر أن تنتفع، لأنه بماذا يُعرف صِدقك مع سيِّدك إذا لم يكن لك شيء يخالف راحتك، فتبقى كإنسان بلا جهاد.

القدِّيس يوحنا التبايسي

 أذكر الحمل الوديع وكم صبر، فبالرغم من أنه لم يكن له خطيّة، لكنه احتمل الشتم والضرب وسائر الأوجاع حتى الموت.

القدِّيس برصنوفيوس

 توجد وسيلة لرد الشرّ بالشرّ ليس فقط خلال الأعمال، وإنما أيضًا بالكلمات وبالاتِّجاه (النيّة الداخليّة)... فإنَّه في بعض الأوقات يسبب الإنسان اضطرابًا لأخيه خلال اتِّجاهه (الداخلي)، أو حركاته، أو نظراته، عن عمد ليرُدّ الشرّ بالشرّ.

الأب دوروثيؤس

"من ضربكَ على خدَّك، فأعرض له الآخر أيضًا،

ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضًا،

وكل من سألك فأعطه،

ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه" [29-30].

سبق لنا دراسة هذه الوصايا في تفسير الإنجيل بحسب متّى (5: 39-42).

تعلِن هذه الوصايا عن ترجمة طاقات الحب عمليًا، فإن أُصيب الإنسان في كرامته الزمنيّة (الضرب على الخد)، أو في ممتلكاته الخاصة كالرداء، يكون لديه الاستعداد لاحتمال أكثر فأكثر من أجل كسب أخيه الذي يعاديه. هذ

http://demiana2010.com

7تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 7 السبت 2 يناير 2010 - 16:41

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 7

في الأصحاح السابق أبرز الإنجيلي شخص السيِّد المسيح كصديقٍ معلِّمٍ، يود أن يرفعنا معه إلى سماواته لنحيا بالناموس السماوي. ولئلاً يظن البعض أنه جاء لفئةٍ معينةٍ خاصةٍ كما فعل كثير من الغنوسيِّين الذين احتقروا البسطاء والعامة ليقيموا فئة أرستقراطيّة فكريًا حولهم، يكشف الإنجيلي عن هذا الصديق السماوي كيف يهتم أن يقتنص بحبُّه الغرباء (عبد قائد المائة)، ويهتم بالأرامل (إقامة ابن أرملة نايين)، ويترفَّق بالخطاة (قصَّة المرأة الخاطئة). يود تقديم صداقته لكل إنسانٍ بغض النظر عن جنسه أو إمكانيَّاته أو سلوكه الحالي، ليرفع الكل بروحه القدُّوس إلى العضويّة الحقيقية في جسده المقدَّس.

1. شفاء عبد قائد المائة 4-10.

2. إقامة ابن أرملة نايين 11-17.

3. إرساليّة يوحنا للمسيح 18-23.

4. شهادته عن يوحنا 24-35.

5. قصة المرأة الخاطئة 36-50.

1. شفاء عبد قائد المائة

في دراستنا لإنجيل متَّى (ص 8) رأينا قائد المائة يبعث بإرساليّة للسيِّد تشفع فيه بكونه غريب الجنس لكي يشفي الرب غلامه، وهو في هذا يمثِّل جماعة الأمم التي كانت تعاني من العذاب خلال هذا العبد الأسير لعدو الخير، وقد أظهر الأمم إيمانًا أعظم ممَّا لليهود، مع أن السيِّد لم يظهر بالجسد في وسطهم كما ظهر وسط اليهود، إذ حلّ بينهم كواحدٍ منهم بتجسُّده من القدِّيسة مريم. وفي إيمانه مملوء تواضعًا اِستحق غريب الجنس أن يسمع مديحًا من فم السيِّد المسيح لم يسمعه أصحاب الناموس والنبوَّات والمواعيد الخ.

على أي الأحوال إن كان السيِّد المسيح أعلن صداقته بتجسُّده من القدِّيسة مريم اليهوديّة الجنس، فإنَّه يُعلن صداقته للأمم أيضًا بمدحه لقائد المائة غريب الجنس. إنه يفتح ذراعيه للعالم كله ليضُم الجميع بذات الحب!

ربَّما يتساءل البعض: لماذا ذكر الإنجيلي متَّى أن القائد التقى مع السيِّد في الطريق يعلن عدم استحقاقه أن يدخل السيِّد بيته، مظهرًا إيمانه بكلمة السيِّد القادرة بسلطان أن تشفي دون حاجة إلى دخول السيِّد بيته، بينما يذكر الإنجيلي لوقا أن جماعة من شيوخ اليهود انطلقوا يسألون السيِّد أن يشفي عبد قائد المائة، وأن إرساليّة أخرى قد جاءت من قبل القائد تتحدّث بلسانه لتُعلن عدم استحقاقه لدخول بيته مع إيمانه بسلطان كلمة السيِّد في إبراء العبد؟

يوضِّح القدِّيس الذهبي الفم أنه قد تمَّت اللقاءات الثلاثة، لقاء الجماعة من شيوخ اليهود وإرساليّة القائد نفسه، وأن الإنجيلي متَّى اِكتفي باللقاء الثالث، أما لوقا فاكتفى باللقاءين الأول والثاني. ويعلِّل ذلك بأن قائد المائة في إيمانه بالسيِّد المسيح أراد الانطلاق إليه يسأله شفاء عبده، لكن شيوخ اليهود بدافع الحسد لئلاَّ يُعلن قائد المائة إيمانه أمام الجماهير، ذهبوا هم إليه ليأتوا به إلى بيت القائد تحت مظهر عمل الرحمة، قائلين: "لأنه يحب أُمَّتنا، وهو بنَى لنا المجمع" [5]. لكن الرب العارف بأسرار القلوب اِنتظر حتى تأتي الإرساليّة، بل ويأتي القائد نفسه ليمجِّده بسبب إيمانه!

ويلاحظ في هذا اللقاء بين السيِّد والقائد أو من جاءوا عنه الآتي:

أولاً: إن افترضنا حتى في هؤلاء الشيوخ من اليهود حسن النيّة، فإنَّ شفاعتهم عن القائد تكشف عن اهتمامهم بالذات "يحب أُمَّتنا"، وتركيزهم على الأمور المنظورة "بنى لنا المجمع"، أما السيِّد المسيح فمدحه من أجل ما حمله قلبه من إيمان خفي مملوء تواضعًا.

ثانيًا: إن كان قائد المائة يشير إلى الأمم القادمين إلى السيِّد المسيح بالإيمان لشفاء العبد، أي نفوسهم التي اِستعبدها عدو الخير زمانًا، حتى كادت أن تموت أبديًا كما يقول القدِّيس أمبروسيوس، فإنَّ قبول هذا القائد أيضًا يشير إلى قبول كل الفئات إلى الإيمان. فقد اِتَّسم القوَّاد والجند الرومان بالعنف الشديد والاستبداد، حتى تساءل كثير من مسيحيِّي القرون الأولى إن كان يمكن أن يبقى القائد أو الجندي في موقعه بعد قبول الإيمان المسيحي، فقد تشكَّكوا إن كان لمثل هذا الإنسان أن يحيا كمسيحي في مركزه. فقبول السيِّد المسيح لطلبه هذا القائد، ومدْحه أمام الجمهور معلنًا أنه لم يجد في إسرائيل إيمانًا كهذا يكشف عن إمكانيّة الحياة في شركة مع الرب، أيًا كان عمل المؤمن أو مركزه. يقول العلامة ترتليان: [جاء جند إلى يوحنا وقبلوا منه تدبيرًا لنظامهم (لو 3: 12-13)، وآمن قائد المائة... فليس لبس ما (مثل الزي العسكري) غير شرعي بيننا مادام الإنسان لا يقوم بعملٍ غير شرعيٍ.]

ثالثًا: يعلّق القدِّيس أمبروسيوس على اهتمام السيِّد المسيح بشفاء عبد قائد المائة وانطلاقه نحو البيت، ليهبه عطيّة الصِحَّة، قائلاً: [تأمَّل معي تواضع رب السماء الذي لم يستنكف من افتقاد عبد صغير لقائد المائة معبِّرًا عن أعمال رحمته الإلهيّة وعن مشاعر تحنُّنه. فكان انطلاقه نحو بيت قائد المائة ليس عن عجزِه عن شفاء العبد من بعيد، وإنما ليُعطيكم مثالاً في التواضع نمتثل به، ويعلِّمكم احترام المساكين كالعظماء.]

رابعًا: أبرز القدِّيس أمبروسيوس دور قائد المائة نحو عبده، فقد آمن وجاهد خلال هذا الإيمان ببعث إرساليّة للسيِّد وذهابه بنفسه... [نال العبد الشفاء خلال إيمان القائد، الذي شفع في العبد لا بالإيمان فقط، وإنما خلال الجهاد أيضًا.] هكذا يخجلنا هذا الأممي بإيمانه بالرب مع جهاده من أجل عبده المريض!

خامسًا: يقارن القدِّيس كيرلس الكبير بين إيمان شيوخ اليهود الذين جاءوا يشفعون في قائد المائة وإيمان قائد المائة نفسه، قائلاً: [ترون إذن شيوخ اليهود وهم يتوسَّلون إلى يسوع بأن يزور قائد المائة في منزله طبقًا لمشيئة، اعتقادًا منهم أنه لا يمكن شفاء المريض إلا بهذه الوسيلة. فبينما ترون من جهة أخرى رجلاً يجاهر على ملأ من الناس بأن المسيح يمكنه شفاء المريض من على بعد! فقط يقول كلمة فيبرأ الغلام، لم يطلب قائد المائة إلا أن ينطلق المسيح بكلمة. أن يعلن قبوله للرجاء، أن يفوه بالنطق السامي، أن يظهر رغبته ومشيئته، ولذلك كان هذا القائد جديرًا بتهنئة المسيح له بالقول المأثور: "لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا" فإنَّ في سلوك هذا الرجل دليلاً على سلامة إيمانه وقوّة عقيدته. وقد كافأه السيِّد وأجزل مكافأته وشفي عبده في اللحظة عينها وخلَّصه من قبضة الموت، وكان قد نشب أظافره فيه فكاد يخرج نفسه من بين أضلاعه.]

2. إقامة ابن أرملة نايين

إن كان السيِّد قد فتح قلبه للغرباء، فتقدَّم قائد المائة الروماني من أجل عبده الغلام ليحتل بإيمانه مركز الصدارة في عيني الرب، ويحسب صديقًا أقرب إلى الله من بني إسرائيل نفسه، فإنَّنا الآن نراه يترفَّق بأرملة فقدت وحيدها الشاب، وكأن السيِّد في صداقته اِلتقى بالأرامل والمساكين كما التقى بالغرباء. صداقته جامعة تضم كل البشر.

من جانب آخر، فإنَّ قائد المائة كما يقول كثير من الآباء كالقدِّيسين كيرلس الكبير وأغسطينوس وأمبروسيوس يشير إلى الكنيسة القادمة من بين الأمم، الذين نالوا الكثير من الزمنيَّات، لكنهم وقفوا في عجز أمام مرض الغلام العبد، غير قادرين على إبراء نفوسهم الداخليّة التي أسَرَها العدوْ كعبدٍ مسكينٍ، وحطَّمتها الخطيّة كمرضٍ يدفعها نحو الموت، أما الأرملة فتشير إلى البشريّة بوجه عام ترمَّلت وها هي تفقد وحيدها الشاب الذي صار في الطريق يحمله الرجال في نعش. إنها البشريّة التي صارت كأرملة بفقدها الله نفسه رجلها الحق، أما وحيدها الشاب الميِّت، فيُشير إلى كل نفس وقد أفقدتها الخطيّة حياتها فصارت ميَّتة، يحملها الجسد الذي أفسده الشرّ، وكأنه بالرجال حاملي النعش، وقد خرجت إلى الطريق إذ لم يعد للنفس موضع في بيت الرب، أو في الفردوس البيت الأول للإنسان.

ويلاحظ في إقامة هذا الشاب الآتي:

أولاً: في أيام السيِّد المسيح، بلا شك مات كثيرون كأطفال بيت لحم، والقدِّيس يوحنا المعمدان الذي استشهد ومئات وربَّما آلاف من رجال ونساء وشيوخ وأطفال، ولا نعلم إن كان السيِّد قد أقام كثيرين أم اكتفى بإقامة هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم الإنجيليُّون: لعازر، والشاب ابن أرملة نايين، والصبيّة ابنة يايرس. فإنَّ السيِّد المسيح لم يأتِ لينزع عنَّا موت الجسد، إنما لكي يحطِّم موت النفس، ويرفعنا فوق سلطان الموت، فنجتازه معه غالبين ومنتصرين لنبلغ اللقاء معه وجهًا لوجه أبديًا.

لم يعدْنا السيِّد بطرد الموت عنَّا وإنما إذ مات معنا وعنَّا، حوَّل الموت إلى جسر للعبور بنا إلى الفردوس على انتظار يوم الرب العظيم، لذلك نسمع عن والدة القدِّيس غريغوريوس النزينزي أنها ارتدت ثياب العيد عندما حضرت دفن جثمان ابنها قيصريوس.

تهتم الكنيسة بقيامة النفس أولاً، فإنَّ الجسد سيقوم حتمًا، فإن كانت النفس متمتِّعة بالقيامة ينعم معها بالمجد الأبدي، لهذا يقول القدِّيس أغسطينوس: [أنه لعمل مُعجزي أعظم أن يقوم شخص ليحيا إلى الأبد عن أن يقوم ليموت ثانية.] كما يقول: [لقد فرحت الأم الأرملة عند إقامة الشاب، وها هم البشر يقومون كل يوم بالروح، والكنيسة كأم تفرح بهم. ذاك كان ميتًا حقًا بالجسد، أما هؤلاء فهم أموات بالروح. موته المنظور جلب بكاءً منظورًا، موتهم غير المنظور لم يكن موضع سؤال الآخرين ولا موضع إدراكهم، فبحث عنهم ذاك الذي يعرف أنهم أموات، هو وحده يعرفهم هكذا وقادر أن يهبهم حياة، فلو لم يأتِ الرب ليقيمهم لما قال الرسول: "استيقظ أيها النائم وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح" (أف 5: 14)... لا يستطيع أحد أن يوقظ أخرًا من سريره بسهوله مثلما يقدر المسيح أن يوقظ من في داخل القبر.]

ثانيًا: إن كانت الكنيسة تركِّز على قيامة النفس أولاً بطريقة غير منظورة، فإنَّها لا تتجاهل أيضًا قيامة الجسد، الأمر الذي أنكره بعض الهراطقة خلال احتقارهم للجسد، فقد أقام الرب هؤلاء الثلاثة ليُعلن أنه واهب القيامة للنفس والجسد معًا. يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [أولئك الأموات الذين أحياهم المسيح أكبر شاهد على قيامة الأموات... وقد أشار الأنبياء المقدَّسون إلى هذه الحقيقة، إذ قيل: "تحيا أمواتك، تقوم الجثث، استيقظوا، ترنَّموا" (إش 26: 19). يراد بالاستيقاظ حياة المسيح التي يهبها بقوّة الروح القدس. وأشار أيضًا المرنِّم إلى ذلك بعبارات خاطب بها الله مخلِّص العالم: "تحجب وجهك فترتاع، تنزع أرواحها فتموت، وإلى ترابها تعود" (مز 104: 29). كانت معصية آدم سببًا في إقصاء وجوهنا عن رؤيّة الله والتصاقها بتراب الأرض، لأن الله حكم على الطبيعة البشريّة بالقول: "لأنكَ تراب وإلى تراب تعود" (تك 3: 19). ولكن عند نهاية العالم يتجدَّد سطح الأرض، لأن الله الآب يهب بابنه حياة لجميع ما في الكون. الموت جلب على الناس الشيخوخة والفساد... أما المسيح فهو المحيي والمجدِّد، لأنه هو الحياة.]

إذن إقامة المسيح لهؤلاء الأموات كانت إعلانًا عن عمله الحالي بإقامة نفوسنا خلال الاتِّحاد معه بكونه الحياة، وإقامة أجسادنا في يوم الرب العظيم على مستوى يليق بالحياة السماويّة الأبديّة.

ثالثًا: في دراستنا لإقامة ابنة يايرس (مت 9: 18-26) رأينا كيف حمل إقامة هؤلاء الثلاثة (لعازر، والشاب ابن الأرملة، والصبيّة ابنة يايرس) رمزًا لعمل السيِّد المسيح للنفوس، في مراحل ارتكابها للخطيّة المختلفة، أو كقول القدِّيس أغسطينوس: [هذه الأنواع الثلاثة من الموتى هم ثلاثة أنواع من الخطاة لا يزال يقيمهم المسيح إلى اليوم]، فالصبيّة ترمز لمن يخطئ داخليًا في القلب، والشاب لمن ارتكب الشرّ عمليًا بطريقة واضحة، ولعازر لمن تحوَّلت الخطيّة في حياته إلى عادة، وقد جاء ربَّنا يقيم الكل!

رابعًا: أبرز الإنجيلي جانبًا رئيسيًا لإقامة هذا الشاب، إذ يقول: "فلما رآها الرب تحنَّن عليها" [13]، وكأن السيِّد لم يُقِمْ الشاب استعراضًا لسلطانه على الموت وقدراته على وهْب الحياة، إنما تقدَّم ليهب "حنانه". يتعامل الله معنا على مستوى السلطة والسيادة، مع أنه الخالق وسيِّد الكل، لكنه يتعامل مع الإنسان على مستوى الحب والرحمة، بكونه الأب والعريس والصديق والحبيب لكل إنسان يقبله.

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [نؤمن أن الأحشاء الإلهيّة تحركها دموع أُم أرملة أضناها الألم لموت وحيدها وهي أرملة. مشاركة الجموع لها في آلامها لم يسد الفراغ الذي تركه موت ابنها وحرمانها من الأمومة... لكنها ببكائها نالت قيامة ابنها الشاب، الابن الوحيد.]

ليتنا نكون كهذه الأرملة، إذ نفقد رجلنا الذي اخترناه خلال العصيان، أي إبليس، هذا الذي دفع بابننا الوحيد أي نفسنا إلى الموت، فصارت محمولة في الجسد كما على نعش، خارج البيت الإلهي بلا حياة. نلتقي مع واهب الحياة إذ وحده يتحنَّن علينا، فينزع عنَّا ثقل هذا الموت، ويردّ لنا نفوسنا حيّة فيه، وأجسادنا مقدَّسة بروحه القدِّوس.

خامسًا: يعلّق أيضًا القدِّيس أمبروسيوس على القول الإنجيلي: "ثم تقدَّم ولمس النعش فوقف الحاملون" [14]، ناظرًا إلى النعش الخشبي بكونه الشجرة التي من خلالها حُملنا إلى القبر، فقد لمسها السيِّد بارتفاعه على خشبة الصليب لتصير لنا سِرْ حياة. وكأن الخشبة التي كانت لنا نعشًا تحملنا إلى الهاويّة، صارت بالمسيح يسوع ربَّنا "قوّة الله" (1 كو 1: 18).

سادسًا: يرى القدِّيس أمبروسيوس في هذا المنظر صورة حيّة للكنيسة التي لا تتوقَّف عن البكاء من أجلنا متضرِّعة إلى مسيحها ليردّ لها وحيدها ينطق بكلمة الحياة، إذ قيل "فجلس الميِّت، وابتدأ يتكلَّم، فدفعه إلى أُمّه" [15].

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [إن أخطأت خطيّة مُميتة لا تستطيع أن تغسلها بدموعك، فاجعل أُمَّك تبكي عليك، التي هي الكنيسة، فإنَّها تشفع في كل ابن لها كما كانت الأرملة تبكي من أجل ابنها الوحيد. إنها تشترك في الألم بالروح، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لها حينما ترى أولادها يدفعهم الموت في الرذائل المُهلكة، فإنَّنا نحن أحشاء رأفتها. حقًا توجد أحشاء روحيّة كتلك التي لبولس القائل: "نعم أيها الأخ ليكن لي فرح بك في الرب، أرحْ أحشائي في الرب" (فل 20). نحن أحشاء الكنيسة، لأننا أعضاء جسدها من لحمها وعظامها. لتبكِ إذن هذه الأم الحنون ولتشاركها الجموع لا الجمع وحده، حينئذ تقوم أنت من الموت وتخرج من القبر. يتوقَّف حاملو الموت الذي فيك وتنطق بكلمات الحياة، عندئذ يخاف الجميع ويرجع الكل وهم يباركون الله الذي قدَّم لنا مثل هذا الدواء الذي يخلصنا من وطأة الموت.]

سابعًا: يتساءل القدِّيس كيرلس الكبير عن سِرْ لمس السيِّد المسيح للنعش مع أنه كان قادرًا أن يقيمه بكلمة، ويجيب، قائلاً: [كان ذلك يا أحبائي لتعلموا أن لجسم المسيح تأثير في خلاص الإنسان، لأن جسد الكلمة، المسيح العظيم، هو جسم الحياة المتسربل بالقوّة والسلطان، وكما أن الحديد إذا ما لمس النار بدت فيه مظاهر النار وقام بوظائف النار، كذلك جسد الكلمة المسيح تجلَّت فيه الحياة، وكان له السلطان على محو الموت والفساد.]

هكذا أظهر السيِّد ما كان لجسده من قدرات على إعطاء الحياة، خلال الاتحاد الذي للاهوت مع الناسوت أبديًا... بهذا رفع من شأن الجسد الذي كان موضع عداوة الإنسان والازدراء به، مباركًا طبيعتنا فيه.

3. إرساليّة يوحنا للمسيح

القدِّيس يوحنا المعمدان الذي سبق فركض في أحشاء أمه متهلَّلاً بقدوم المخلِّص المتجسِّد في أحشاء البتول، والذي أعلن عن أزليَّته (يو 1: 30)، وعن رسالته كحمل الله الذي يرفع خطيّة العالم (يو 1: 29)، وقد رأي الروح القدس نازلاً عليه والآب يشهد له في لحظات العماد... الآن يبعث إرساليّة إلى السيِّد المسيح تقول: "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟" [20].

لم يكن يوحنا يشك في شخص السيِّد المسيح، لكنه أراد أن يعطي للسيِّد المسيح المجال ليقتنص تلاميذه له. فالقدِّيس يوحنا لا يريد لنفسه تلاميذ يعملون لحسابه، إنما يودْ في تلمذته للآخرين أن يبعث بهم إلى مخلِّصه، دافعًا إيَّاهم إلى "الصداقة الإلهيّة". وقد رأي ألا يدخل في حوارٍ مع تلاميذه في شأن المخلِّص، إنما يبعث بإرساليّة إليه ليقدِّم السيِّد نفسه باجتذابهما إليه، فيجتذبان معهما بقيّة التلاميذ.

أقول ما أنجح الراعي الذي يدفع بشعب الله إلى التلاقي مع السيِّد المسيح نفسه لكي يسحب قلوبهم إليه وينعمون بالصداقة الإلهيّة، بهذا يكون عمل الراعي هو مجرد تلاقي شعب الله بالمخلِّص نفسه. مثلَ هذا الراعي لا يعمل لحساب كرامته أو شعبيَّته، وإنما لحساب ملكوت الله.

يحدّثنا القدِّيس كيرلس الكبير عن سبب هذه الإرساليّة في شيء من الاسترسال، قائلاً:

[لا تظنُّوا إذن أن المعمدان المغبوط عجز عن معرفة كلمة الله، المسيح المتجسِّد - فقد كان واثقًا من المسيح ومن شخصيَّته. وأما سؤاله عن المسيح فقد أملاه له روح الحكمة والفراسة ليجعل من السؤال درسًا مفيدًا لتلاميذه. كان هؤلاء التلاميذ في عزلة عن المسيح، فلم يُدركوا مجده وسلطانه، بل واشتعلت فيهم نيران الحقد، إذ سمعوا بتفوُّقه على سيِّدهم يوحنا في إجراء المعجزات والعجائب، وقد ظهرت نيَّاتهم السيِّئة هذه في إحدى المرَّات، إذ اقتربوا من المعمدان، وسألوه عن المسيح قائلين: "يا معلِّم هوذا الذي كان معك في عبْر الأردن الذي أنت قد شهدتَ له هو يعمِّد، والجميع يأتون إليه" (يو 3: 26). أجاب يوحنا وقال: "لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئًا إن لم يكن قد أعطيَ من السماء. أنتم أنفسكم تشهدون إني قلت لست أنا المسيح بل أنا مرسل أمامه، من له العروس فهو العريس، وأمَّا صديق العريس الذي يقف ويسمعه، فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس، إذن فرحي هذا قد كمُل، ينبغي أن ذلك يزيد وإنِّي أنا أنقص" (يو 3: 27-30).

إننا لا نقول أن المعمدان انحطَّ مقامه في الوقت الذي زاد فيه مجد المسيح بأن التفَّ حوله عدد كبير من الناس، ولكن يُراد بنقص يوحنا وزيادة المسيح أن يوحنا كان إنسانًا فلابد من أن يصل إلى درجة ما بعدها من مزيد، أما المسيح فهو إله متأنِّس فلا حد لنموُّه ولا نهاية لعظمته ولذلك يقول المعمدان: "ينبغي أن ذلك يزيد وأنِّي أنا أنقص". إن كل من وقف في مستوى واحد ينقص، وذلك بالنسبة لمن لا يقف أمامه عائق عن النمو والتقدُّم، وحتى يُثبِت المعمدان أنه على حق في قوله هذا أشار إلى لاهوت المسيح، وبرهن لهم أنه لابد من أن يفوق جميع الناس، إذ قال: "الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلَّم" (يو 3: 31). من الذي أتى من فوق، ومن ذا الذي يفوق جميع الناس؟ من الواضح هو كلمة الله المتجسِّد، هو مثال الآب ومساوٍ له في الجوهر، ونظرًا لمحبَّته شاء فنزل وتواضع ليصير مثلنا. فالمسيح إذن يفوق كل من في الأرض، ولما كان المعمدان أحد سكان الأرض، ويتَّفق معهم في الإنسانيّة، لزم أن يفوقه المسيح الإله.

لا ننكر أن يوحنا كان حميد الخصال. مقطوع النظير فضلاً ونُبلاً، بلغ درجة عظيمة في البرّ والصلاح يستحق عليها المدح والثناء، إذ وصفه السيِّد بالقول المأثور: "لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (مت 11: 11) ولكن رغمًا عن كل هذا لم يكن المعمدان من فوق، بل كان أرضيًا مثله مثلنا.

فترون إذن أن تلاميذ يوحنا إذ لم تتطهَّر قلوبهم بعد من أمراض اليهود الوبيلة، نسبوا ليوحنا ما رأوه في المسيح من قوّة إلهيّة... أما يوحنا فقد أدرك مكانة المسيح السامية، وسُِرَّ كل السرور بالإشارة إلى مجد السيِّد العظيم، وحتى يطهِّر يوحنا قلوب تلاميذه من أدران الشكوك والريب، ويقرِّبهم إلى شمس البرّ إله المجد الرب يسوع المسيح، قبِل أن يتنكَّر يوحنا تحت زي الجهل والسذاجة، وأوفد رسله إلى المسيح ليسألوه: "أنت هو الآتي أم ننتظر آخر".]

الآن نتساءل: لماذا أورد الإنجيلي لوقا هذه الإرساليّة بعد ذِكره شفاء عبد قائد المائة وإقامة الشاب ابن أرملة نايين؟

إن كان قائد المائة يمثِّل الغرباء الذين اِحتضنهم الصديق السماوي بحبِّه نازعًا عنهم موت الخطيّة، وإن كانت الأرملة تشير إلى قبول السيِّد المسيح للأرامل والمساكين أصدقاء له، يرُدّ لهم بهجة خلاصهم، فالآن إذ يلتقي بتلميذيّ يوحنا، ويصطادهم في شباك محبَّته، يُعلن شوقه لاقتناء الشعب اليهودي للتلمذة له. فيوحنا يمثِّل الناموس، وتلميذاه أو إرساليته تشير لتلاميذ الناموس أو الذين تحت الناموس. بعث يوحنا تلميذيه ليعلن أن "غاية الناموس هي المسيح" (رو 10: 4). وقد بعث تلميذين، إذ رقم 2 يشير إلى المحبَّة. فإنَّنا لن نلتقي بمسيحنا خلال الناموس بدون المحبَّة!

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [يوحنا يمثِّل الناموس، كان من الطبيعي أن هذا الناموس الذي يتكلَّم عن المسيح وقد صار سجينًا في قلوب المؤمنين، ووُضع في الحبس أن يفتقر للنور، فقد قاسى عذابات خلف قضبان عدم الفهم، لهذا فهو لا يقدر أن يسير إلى النهاية كشاهد للمقاصد الإلهيّة ما لم تسنده بشارة الإنجيل... لذلك بعث يوحنا اثنين من تلاميذه ليزداد معرفة، لأن المسيح هو كمال الناموس... وكان التلميذان رمزًا لشعبين، آمن الأول لأنه من اليهود، وأمن الثاني حينما سمع لأنه كان من الأمم.]

أما موقف السيِّد المسيح تجاه هذه الإرساليّة فقد اِنصبَّ على الكشف عن أعمال محبَّته الفائقة، تاركًا أعماله تجيب كل تساؤل. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ يعرف المسيح غاية يوحنا، لم يقل: "أنا هو"... وإنما تركهم يتعلَّمون خلال أعماله... فإنَّهم بالطبع يحسبون شهادة أعماله أكثر تأكيدًا فوق كل شك عن شهادة الكلمات.] ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [يؤمن الإنسان كل الإيمان بشهادة الأعمال أكثر من دعوة الكلمات.]

يوحنا كمُمثِّل الناموس والنبوَّات أرسل التلميذين، أما السيِّد المسيح فدخل بهما إلى العمل الإلهي عينه، ليقولا مع الرسول يوحنا: "الذي رأيناه بعيُّوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة" (1 يو 1: 1).

قدَّم لهما الأعمال التي طالما تنبَّأ عنها الأنبياء، إذ قال لهما: "إن العمي يُبصرون، والعرج يَمشون، والبرص يُطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون، وطوبى لمن لا يعثُر فيّ" (لو 7: 22-23). وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [هذه هي الشهادة الكاملة التي بها يمكن معرفة الرب من أجل النبوَّة التي خُصِّصت لشخصه وليس لآخر: "المعطي خبزًا للجياع، الرب يطلق الأسرى، الرب يفتِّح أعين العميان، الرب يقوِّم المنحنين" (مز 146: 7-8)، "الذي يفعل هذا يملك إلى الأبد". إذن فعلامات السلطان الإلهي لا البشارة (بالعمل لا بالكلام) فهي تجعل ظلمة الليل الذي لا ينتهي تنقشع عن أعين العميان، فينالوا شفاءً عندما يُسكب النور على جراحات أعينهم الفارغة، ويجعل الصم يسمعون، وتقوم الأيدي المسترخية والرُكَب المخلَّعَة، وينجذب الأموات إلى النور، وتنبعث منهم قوّة الحياة.]

حذرهما السيِّد بقوله: "طُوبى لمن لاَ يعثُر فيّ"، لأن الصليب قادم، هذا الذي فيه يتعثَّر كثيرون، كقول الرسول بولس: "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، أما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوّة الله" (1 كو 1: 18). فإنَّ كان السيِّد قد جاء ليفتح الأعين على معاينة أسراره والآذان لسماع صوته الإلهي، ويطلق النفوس من أسر الخطيّة، ويطهِّرها من النجاسة الداخليّة، ويُقيم النفوس من الموت، فإنَّ ثمن هذا كله "الصليب" الذي هو "لليهود عثرة ولليونانيِّين جهالة" (1 كو 1: 23).

4. شهادته عن يوحنا

إذ فرح يوحنا أنه ينقص بينما السيِّد المسيح يزداد (يو 3: 30)، بعث بإرساليته بهدف سحب كل تلاميذه إلى التلمذة على يديّ المخلِّص نفسه. لم يقلِّل هذا العمل من شأن يوحنا المعمدان، بل بالأكثر وقف السيِّد المسيح نفسه يمجِّده متحدّثًا مع الجموع عنه، هكذا:

"ماذا خرجتم إلى البريّة لتنظروا،

أََقَصَبة تُحرِّكها الريح؟

بل ماذا خرجتم لتنظروا أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟

هوذا الذين في اللِباس الفاخر والتنعُّم في قصور الملوك.

بل ماذا خرجتم لتنظروا؟

أنبيًا! نعم أقول لكم وأفضل من نبي..." [24-26].

في دراستنا لإنجيل معلمنا متَّى (لو 11: 7-14) قدَّمنا الكثير من تعليقات الآباء في هذا المديح الربَّاني، لذا أكتفي بعرض بعض التعليقات الأخرى: مكملاً ما سبق عرضه:

أولاً: رأينا أن السيِّد المسيح لم يمدح القدِّيس يوحنا في حضرة تلميذيه، بل بعد رحيلهما حتى لا يبدو متملِّقًا. ليتنا نحن أيضًا لا نهتم بمديح الآخرين في وجوههم، بقدر ما نمدحهم من ورائهم، فنظهر بالحق محبِّين لهم بلا رياء ولا بهدف زمني لنوال مكافأة أدبيّة أو ماديّة.

ثانيًا: يقدِّم لنا القدِّيس كيرلس الكبير تفسيرًا لمدح السيِّد المسيح القدِّيس يوحنا المعمدان يختتمه بإعلان أن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه؛ بأن السيِّد المسيح انتقى هذا القدِّيس بكونه أعظم من نال برّ الناموس، فهو أفضل مَنْ ولَدَتْه امرأة من بين اليهود، نبي فاق غيره من الأنبياء، شهد عنه ملاخي النبي (3: 1) أنه ملاك الرب. ومع هذا فإنَّ قورنت هذه العظمة التي في الناموس ببشارة الإنجيل حُسبت كلا شيء، فخلال الناموس مهما جاهد الإنسان يبقى "من مواليد النساء"، أما عطيّة العهد الجديد فترفعنا فوق اللحم والدم لننال البنوَّة لله.

فيما يلي مقتطفات من كلمات القدِّيس كيرلس السكندري في هذا الشأن:

[كان غرض المسيح مخلِّص العالم من كلامه إذن بيان ما في الناموس من فضل وميزة، ولكن رغمًا من مزاياه وخصائصه... ليس له في ميدان البنيان الروحي شأن يقربه له. أما نعمة الإيمان بالمسيح ففيها ضمان البركات والخيرات، فيها من القوّة ما يتوج الهامات بأكاليل لا نهاية لجمالها وحسنها...

هذا ما نتعلَّمه من دراسة أقوال بولس المغبوط، فقد أعلن أنه قد تحرَّر من جهة البِرّ الذي في الناموس فكان بلا لوم، ومع كل ذلك يصرخ قائلاً: "لكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربِّي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (في 3: 7-8). وقد اِعتبر بولس الإسرائيليِّين جديرين باللوم والتقريع بقوله: "لأنهم إذ كانوا يجهلون بِرّ الله، ويطلبون أن يُثبتوا بِِرّ أنفسهم لم يخضعوا لبِِرّ الله، لأن غاية الناموس هي المسيح للبِرّ لكل من يؤمن به" (رو 10: 3-4). ويقول في موضع آخر: "نحن بالطبيعة يهود، ولسنا من الأمم الخطاة، إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرَّر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضًا بيسوع المسيح لنتبرَّر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس" (غل 2: 15).

وعليه فكل من يؤمن بالمسيح يحظى بأمجاد تفوق أمجاد البِرّ الذي يمنحه الناموس، ولهذا اِعتبر المعمدان في موضع من بِرّ الناموس لا يدانيه فيه أحد غيره، ولكن اُعتبر من جهة أخرى أصغر بكثير من أصغر إنسان في ملكوت السماوات، والمراد بملكوت السماوات كما ذكرنا آنفًا نعمة الإيمان بالمسيح، فبها نصبح جديرين بكل بَركة روحيّة تأتي من فوق من الله أبينا، لأنها هي التي تحرِّرنا من كل لوم وتمنحنا حق البنوَّة لله، وتجعلنا شركاء في موهبة الروح القدس ووارثين للكنز السماوي...

يصف السيِّد يوحنا أنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه. وكيف كان ذلك؟ إليك الجواب: فإنَّ يوحنا كان مثْل الآخرين الذين سبقوه، تُنسب ولادته إلى امرأة، أما أولئك الذين قبلوا الإيمان بالمسيح فليسوا أبناء نساء بل أبناء الله على حد قول الإنجيلي الحكيم: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله" (يو 1: 12-13). لقد أصبحنا أبناء الله العليّ، "مولودين ثانية لا من زرع يفنَى، بل ممَّا لا يفنَى بكلمة الله الحيّة الباقية إلى الأبد" (1 بط 1: 23). إذن كل من وُلد لا من زرعٍ فانٍ، بل من كلمة الله الباقية يفوق المولود من امرأة.

وهناك سبب آخر يجعل المولودين من كلمة الله أرقى من المولودين من النساء، وذلك لأن هؤلاء لهم آباء أرضيِّين، أما أولئك فلهم أب سماوي، لأن المسيح أخ لهم، فأصبحوا بنعمة الأخوة أبناء الله، إذ قال المسيح جهارًا: "ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات" (مت 23: 9). ويقول بولس الحكيم بحق مؤكِّدًا النظرية السابقة: "ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح اِبنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبَا الآب" (غل 4: 2). لأنه حالما قام المسيح وحطَّم جهنَّم، مَنح نعمة البنوَّة لكل من آمن باسمه، وكان في رأس القائمة تلاميذه المقدََّسون، لأنه "نفخ وقال لهم أقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم عليه خطاياه أُمسكت" (يو 20: 22-23). وبما أن هؤلاء التلاميذ أصبحوا شركاء في الطبيعة الإلهيّة إذ مُنحوا نعمة الروح العظيم السلطان، الكبير الشأن، لزم أن تكون لهم قوّة إلهيّة، وذلك بغفران خطايا بعض الناس وإمساك خطايا قوم آخرين.]

ثالثًا: إذ نركِّز على كلمات السيِّد المسح في مدحه للقدِّيس يوحنا نجده يبدأ هكذا: "ماذا خرجتم إلى البريّة لتنظروا؟ أقَصَبة تحرِّكها الريح؟ بل ماذا خرجتم لتنظروا أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟..." [24-25].

يتطلَّع الرب إلى العالم، وكأنه قد صار بريّة خربة بلا أشجار مثمرة، إذ أفسدت الخطيّة الخليقة من جنَّة مبهجة ومُشبعة إلى برِّيّة قفراء ومرعبة. هذه البرِّيّة امتلأت بقصب تلعب به الرياح، تميل به يمينًا ويسارًا، أما القدِّيس يوحنا المعمدان فإنَّه وإن كان قد نشأ في برِّيّة العالم كقَصَبةٍ، لكن خلال إيمانه بالمسيَّا المخلِّص ليس بالقَصَبة التي تحرِّكها رياح الهرطقات وتحطَّمها زوابع الشهوات الأرضيّة. إنه بحق تلك القَصَبة التي أمسك بها السيِّد المسيح ليجعل منها قلمًا ماهرًا، كعادة النُسَاخ قديمًا، إذ كانوا يستخدمون القَصَبة في الكتابة بعد تهيئتها لهذا العمل. هكذا كان يوحنا في يديّ المخلِّص القلم الذي يكتب به ليدعو الكل للتمتَّع بخلاصه.

في هذا يقول القدِّيس أمبروسيوس:

]يشبِّه الرب هذه الحياة بالبرِّيّة غير المزروعة ولا منتجة، ليس بها ثمر بعد. يحذّرنا الرب من التشبُه بالذين ينتفخون، وترتبط أفكارهم بالأرضيِات، هؤلاء الذين ليس لهم فضيلة خفيّة، بل يتباهون بمجد هذا العالم الزائل. هؤلاء إذ يتعرَّضون لرياح هذه الحياة وتقلُّباتها يضطربون. لهذا يُشَبَّهون بالقََصََبة، لأنهم بلا ثمر بِر حقيقي، لكن لهم الزينة العالميّة...

لكن إن اقتلعت القصبة من الأرض وشذبتها من كل شائبة، أي خلعت الإنسان القديم وأعماله (كو 3: 9) وسلمتها لتمسك بها يّد كاتب ماهر ليكتب بها بسرعة، إن فعلت هذا ينتعش هذا القلم وصايا الرب في أعماق قلبك، على ألواح قلب لحميّة (2 كو 3: 3)، فقد قيل عن هذا القلم: "لساني قلم كاتب ماهر" (مز 45: 1). [

إن كنَّا مغروسين في البرِّيّة كقَصَبة مرضوضة تلعب بها الرياح، فلنُسلِّم حياتنا في يديّ ذاك الذي قيل عنه: "قَصَبة مرضوضة لا يقصِف" (إش 42: 3)، فإنه يقتلعنا من أرض هذه الحياة ليغرسنا فيه كأعضاء جسده، محوّلاً حياتنا إلى قلمٍ ماهرٍ في يده، يغمسنا في دمه الطاهر مقدِّسًا أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا، فنصير بحق رسالة المسيح المكتوبة لا بحبر ولكن بروح الله الحيّ (2 كو 3: 2-3).

مرة أخرى يقول: "بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة؟..." يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لا يعظ الرب هنا عن الثياب بالرغم من أن كثيرين يتشبَّهون بالنساء في تحلِّيهم بالثياب الناعمة... لكن يبدو أن الرب يشير إلى ثياب أخرى، إن لم أخطئ التقدير ألا وهي الأجساد البشريَّة التي ترتديها الروح، لهذا غُمس قميص يوسف بالدم (تك 37: 31) مثل جسد المسيح...

اللِباس الناعم هو أعمال الشهوة وعاداتها، لهذا يحثّنا الرسول أن نخلع الإنسان القديم لنلبس الجديد (كو 3: 9).]

لم يلبس يوحنا اللباس الناعم كالذين يعيشون في القصور، أي لم يسلِّم جسده للشهوات والملذَّات والعادات الرديئة كمن أُسروا في قصر إبليس، إنما تقدَّس جسده مع نفسه لحساب مملكة الله!

يكمل السيِّد المسيح مديحه، قائلاً: "بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًا؟ نعم أقول لكم، وأفضل من نبي، هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك".

هكذا يؤكِّد السيِّد المسيح أن يوحنا نبي بل وعظيم بين الأنبياء، وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير على لسان السيِّد: [نعم لأنه قدِّيس ونبي، إلا أنه نبي يفوق الأنبياء الآخرين مكانةً ونبلاً، لأنه لم يعلن فقط عن مجيئي بل أشار إليّ... وصرخ قائلاً: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيّة العالم" (يو 1: 29).]

يقول القدِّيس أمبروسيوس: ]نعم وأعظم من نبي، إذ به ينتهي عصر الأنبياء. وهو أعظم من نبي، لأن كثيرين اشتهوا أن يروا (مت 13: 7) ذاك الذي تنبَّأ عنه يوحنا وعاينه وعمده... إنه أعظم من الذين تساوى معهم في الميلاد، أما طبيعة الرب فمُغايرة، ولا تقارَن بميلاد بشري، ولا وجه للمقارنة بين الإنسان والله.[

إذ مدح السيِّد المسيح ملاكه يوحنا المعمدان أوضَح قوّة الكرازة بالإنجيل، فإنَّ يوحنا مع ما بلغه من عظمة إذ دعاه "أعظم مواليد النساء" لكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه، إذ مثّل يوحنا عهد الناموس، أما رسالة الإنجيل فقدَّمت "النبوَّة لله"، خلالها ينعم المؤمن بما هو أعظم ممَّا ناله رجال العهد القديم.

على أي الأحوال جاء يوحنا المعمدان ممثِّلا للناموس صارمًا وحازمًا، ليقود البشريّة إلى حمل الله، وجاء المسيَّا الحمل ذاته صديقًا لطيفًا للبشر، فرفض اليهود هذا وذاك. لذلك يوبِّخهم السيِّد، قائلاً:

"فبمن أشبِّه أناس هذا الجيل؟ وماذا يشبهون.

يشبهون أولادًا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضًا، ويقولون:

زمَّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تبكوا.

لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا،

فتقولون به شيطان.

جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون:

هوذا إنسان أكول وشرِّيب خمر،

محب للعشَّارين والخطاة.

والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها" [31-35].

فيما يلي بعض تعليقات الآباء على هذا الحديث الإلهي:

v لا يتحدَّث الرب هنا عن الرقص المصاحب للملذََّات والترف، بل الرقص الروحي، الذي فيه يسمو الإنسان بالجسد الشهواني، ولا يسمح لأعضائه أن تتنعَّم بالأرضيَّات...

بولس رقَص روحيًا، إذ لأجلنا يقول أمتد إلى قدَّام ناسيًا ما هو وراء، ساعيًا نحو ما هو أمامه، جُعالة السيِّد المسيح (في 3: 13-14)...

هذا هو السِرْ إذن: إننا زمَّرنا لكم بأغنيّة العهد الجديد فلم ترقصوا، أي لم تسمعوا بعد بأرواحكم بواسطة النعمة الإلهيّة.

"نُحنا لكم فلم تبكوا" أي لم تندموا... عندما جاءكم يوحنا مناديًا بالتوبة بنعمة السيِّد المسيح. فالرب معطى النعمة، وإن كان يوحنا قد أعلن عنها كخادم له. أما الكنيسة فتحفظ بالاثنين، حتى تُدرك النعمة دون أن تنزع عنها التوبة. النعمة هي عطيّة الرب الذي وحده يهبها والتوبة هي علاج الخاطئ.

v لم يؤمن اليهود بتسابيح الأنبياء ولا بمراثيهم...

v "زمَّرنا لكم فلم ترقصوا".

ترنَّم موسى عندما عبَر موسى البحر وانشقَّت المياه (خر 15). وترنَّم إشعياء بنشيد كرْمِه المحبوب (إش 5: 1)، ليُشير إلى أن الشعب اليهودي الذي سبق فأثمر فضائل كثيرة سيُصبح كتلة من الرذائل.

وتغنَّى الثلاثة فِتية حينما رُبِطت أرجلهم، إذ صارت لهم النار ندى. فبينما كان كل ما في الداخل والخارج يحترق، صارت النيران تلاطفهم، فلم تلسعهم ولا أضرَّتهم (دا 3: 24).

أعلن حبقوق نشيدًا يتنبَّأ عن آلام المسيح كمصدر تعزية للمؤمنين (حب 3)، مخفِّفًا من حزن الشعب.

هكذا تغنّّى الأنبياء بأغانِ روحيّة ارتفعت إلى الكرازة بالخلاص العام، وأيضًا بكى الأنبياء لكي يميلوا بمراثيهم الحزينة قلوب اليهود المتحجِّرة.

v يعلمنا الكتاب أن نرنِّم للرب (مز 46: 8)، وأن نرقص في حكمة كقول الرب لحزقيال أن يضرب بيده ويخبط برجليْه (حز 6: 11). الله لا يطالب بحركات مضحكة يقوم بها جسم ثائر، ولا يطلب تصفيق النساء... إنما يوجد الرقص الوقور حيث ترقص الروح بارتفاع الجسد بالأعمال الصالحة، عندما نُعلِّق قيثارتنا على الصِفصَاف.

يأمر الرب النبي أن يضرب باليد والرجل وأن يغنِّي لأنه كان يرى عرس العريس، الذي فيه تكون الكنيسة هي العروس والمسيح هو الحبيب. إنه عرس رائع فيه يتََّحد الروح بالكلمة، والجسد بالروح...

هذا هو العُرس الذي حاول داود النبي أن يحقِّقه، وله قد دُعينا... إنه يحثِّنا لنٌسرع نحو هذا المشهد المٌفرح: "ارفعوا نغمة، وهاتوا دفًا، عودًا حٌلوًا مع رباب" (مز 80: 2-3). ألا تتخيَّل النبي راقصًا؟... ألا تسمع صوت ضاربي قيثارة (الرباب) ودقَّات أرجل الراقصين؟ إنه العرس! لتأخذ أنت أيضًا قيثارة حتى إذا ما تمتَّعت بلمسة الروح، تستجيب أوتارك الداخليّة مع صدَى الأعمال الصالحة. لتمسك بالعود فيتحقَّق الانسجام بين كلماتك وأعمالك، وخذ الدف فيهبك الروح أن تترنَّم خلال آلة جسدك من الداخل.

القدِّيس أمبروسيوس

v يظهر أن صبية اليهود كانوا يتسلُّون بلعبةٍ من هذا القبيل؛ ينقسم قوم منهم إلى فريقين، ويوقعوا الاضطراب بمن كان حولهم بأن يمثل أحد الفريقين دورًا مغايرًا لما يقوم به الآخر كل المغايرة. يعزف بعض منهم على آلات الطرب، بينما الطائفة الأخرى تصرخ صرخة المتوجِّع الحزين والبائس التعيس. إلا أن هؤلاء البؤساء لم يشاركوا إخوانهم الفرحين في مسرَّاتهم وملذَّاتهم، كما أن أصحاب اللهو والطرب ضربوا صفحًا عن مواساة إخوتهم. قد اِشتّد كربهم وانكسرت نفوسهم، وهذا يظهر من معاتبة البعض للآخر، إذ يخاطب الفريق الآخر: "زمَّرنا لكم فلم ترقصوا"، فيجيبهم الفريق الآخر: "نُحنا لكم فلم تبكوا". فالمسيح يُعلن جهارًا على أن الشعب اليهودي ورؤساءه يمثِّلون هذا الدور، ويظهرون على المسرح كما يظهر صِبية الشوارع، فإنَّ يوحنا المعمدان جاء لا يأكل خبزًا ولا يشرب خمرًا فتقولون به شيطان، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هوذا إنسان أكُول وشَرِّيب خمر، محب للعشَّارين والخطاة.

ما الذي يحملكم أيها الفرِّيسيُّون الجهلاء إلى الإيمان بالمسيح، وما الوسيلة لجذبكم إلى السيِّد، وأنتم تنظرون إلى كل الأمور بمِنظار أسود، فليس عندكم شيء جدير بالمديح والثناء، "توبوا (كما قال المعمدان) لأنه قد أقترب ملكوت السماوات" (مت 3: 2). وما أصدق حُكمه عليكم، لأنه كان بشهادتكم مثال النُبل والشهامة، قوي الحُجة سامي الشمائل. ألم يسكن الصحراء فاِفترش النراب واِلتَحَف بالسماء، يقتات بالجراد والعسل، ويتدثَّر بلِباس خشن الملمس قليل الثمن؟...

كيف تقولون أن به شيطانًا وهو الذي بزهده ونسكه قتل ناموس الخطيّة القابع في أحشائنا اللحميّة، وحارب ميول العقل، فكان بطلاً صنديدًا ومقاتلاً مِغوارًا؟ هل هناك أعظم من عيشة النسك والزُهد؟ وهي التي بها نخمد لذات الإثم ونلجم بها الشرّ والرذيلة؟ كان المعمدان مخلِصًا كل الإخلاص للمسيح، ليس فيه ميل لشهوات الجسد، فقدَ تعفف عن ملذات العالم وهجر الدنيا وزُخرِفها ليصل إلى الغرض الذي اتَّخذه هدفًا له وهو تمهيد الطريق للسيِّد الفادي.

اخبروني أيها الناس، هل تظنُّون أن مثل هذا الإنسان به شيطان؟ وهو الذي لم يحْنِ ظهره للشرّ والإثم.

لا ننكر أن المعمدان لم يصل إلى هذه الدرجة العالية إلا عن طريق المسيح، لأن السيِّد هو الذي حطّ من مكانة إبليس، وحطََّم أسنانه حتى يعلو مركز القدِّيسين.

ألا تخجلون إذن أيها القوم وأنتم تسيئون إلى المعمدان بألسنة حدَّاد وهو الرسول الذي اِمتاز بالصبر والشجاعة وتتوَّج بأكاليل الغار؟ فلِمَ ترفعون عليه ألسنة الحسد والشر وتنسبون إليه كل كريهة مُنكر، فتنكرون عليه صحَّة العقل وصفاء الذهن وتدعون عليه زورًا وبُهتانًا أنه مجنون معتوه لا يعي ولا يُفكِّر؟

والآن فلندرس شخصيّة أخرى رآها اليهود علي نقيض شخصيّة المعمدان. لم يكن المسيح نزيل الصحراء، بل سكن المدينة في صُحبة رُسله المقدَّسين، ولم يأكل جرادًا وعسلاً ولم يلبس وبَر إبل ولم يشدْ حول وسطه مِنطَقة من جلد...

عاش المسيح كما ترون عيشة سكان المُدن، فلم يتجلَّ فيها شظَف العيش كما عاهدناه في يوحنا، فهل تلومون أيها الفرِّيسيُّون المسيح لسلوكه هذا؟ وهل تطرون سهولة مصاحبته الآخرين وعظيم أُلفته للناس، وعدم عنايته بهذا الطعام أو ذاك؟ كلاَّ لم يكن بالكليّة شيء من هذا، بل طعنتم السيِّد بالكلام القارص، فقلتم "هوذا إنسان أكُول وشَرِّيب خمر، محب للعشَّارين والخطاة". قلتم هذا لأنكم رأيتم أحيانًا المسيح يأكل في غير ما تقتير وشُحْ، فاتهمتموه باطلاً بالنَهَم وشُرب الخمر. وكيف تثبتون ادعائكم. ألم تدع مريم ومرثا مرَّة المسيح في بيت عنيا، ولما رأي السيِّد إحداهن تغالي في خدمته نهاها عن ذلك، وأمرها بالقيام بالقدر الضئيل الضروري، إذ خاطب الفادي مرثا قائلاً: "مرثا، مرثا، أنتِ تهتمِّين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد" (لو 10: 41)...

هل تتهمون المسيح بالنهم والجشع لأنه عاشر العشارين والخطاة؟ وهل هذا هو كل عذركم في اتهامه؟ ولكن قولوا لي: أي ضرر أصاب المسيح من مخالطة الخطاة والأثمة؟ ألم يكن المسيح فوق مستوى البشريّة فما الذي يصيبه من شرورها ومساوئها؟ فقد قال السيِّد وقوله صادق: "رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء" (يو 14: 30)، فلا يمكن والحالة هذه أن يعلّق شيء من مساوئ الخطاة بالسيِّد يسوع المسيح.

ولكن قد يسأل أحد ويقول: "إن شريعة موسى أمرتنا بألا تقطع عهدًا مع الخطاة ولا نعامل الآثمة" (خر 23: 32). فلندرس إذن غرض الناموس اليهودي فنتبين القصد الذي من أجله منع الناموس الإسرائيليِّين من مخاطبة الأشرار ومخاطبة الدساسين والمخادعين. لم يكن الغرض التشامخ على الخطاة، والتفاني في الكبرياء والخيلاء على الأشرار، بل كان الغرض أن عقلك ضعيف ومن السهل أن يقع في الشر والخطيّة. وذلك فخوفًا من أن تنجذب وراء الملذات الفاسدة مُنعت من مخالطة الأشرار حتى تكون في نجوى من مكمن الإثم والشر. "فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة" (1 كو 15: 33). وُضع القانون إذن ليحفظك من الزلل نظرًا لضعفك وعجزك، ولكنك إن كنت متسربلاً بعالي الفضائل، وثابتًا في خوف الرب، فلن يقف الناموس حائلاً بينك وبين الخطاة الضعفاء، فإنَّ في قربك منهم صلاحًا لهم، ودافعًا يبعثهم على التشبه بك، فيسيرون بخطوات واسعة نحو الكمال المنشود والحق المطلوب، فلا تفتخرن إذن علي الضعيف البائس معتمدًا علي شريعة موسى السالفة الذكر ولا يلوم أحد المسيح لأنه عاشر الخطاة والعشارين.

القدِّيس كيرلس الكبير

5. قصة المرأة الخاطئة

قلنا أن السيِّد المسيح كصديقٍ سماويٍ يفتح قلبه للغرباء (يهتم بقائد المائة)، وللأرامل (إقامة أبن أرملة نايين)، ويجذب تلاميذ يوحنا المعمدان كممثِّلي أبناء العهد القديم ليتلامسوا مع أعمال محبَّته الفائقة، الآن تقتحم امرأة خاطئة - تستحق في عيني اليهود الرجم - هذه الصداقة فتلتقي مع ربَّنا يسوع المسيح كعريسٍ سماويٍ لها، بالتقائها معه في بيت سمعان الفرِّيسي دون دعوة ظاهرة توجَّه إليها.

لقاء هذه الخاطئة جذب نفوسًا كثيرة للتوبة، إذ أعلن صداقة الله الحقيقية للخطاة ومحبَّته لكل نفسٍ واشتياقه لخلاص الكل. وقد سجَّل لنا كثير من الآباء تعليقاتهم علي هذا اللقاء، منهم القدِّيس مار أفرام السرياني الذي عرض هذا اللقاء في أسلوب قصصي رائع سبق لي ترجمته ونشرته تحت عنوان "حب ودموع" في سلسلة "القصة المسيحيّة".

يمكننا بروح الآباء أن نقدَّم الملاحظات التالية في قصَّة المرأة الخاطئة:

أولاً: يقول القدِّيس أغسطينوس: [انطلقت المرأة الخاطئة إلي الوليمة بدون دعوة، إذ كان الطبيب على المائدة، وبجرأة مقدَّسة سألته الصحَّة... لقد عرفت جيِّدًا قسوة ما تعانيه من المرض، كما أدركت أن الذي تأتي إليه قادر أن يهبها الصحَّة، لذا انطلقت في الطريق بقوّة... اقتربت لا إلى رأس الرب بل إلى قدَّميه، هذه التي سلكت في الشر زمانًا تطلب (قدميه) خطوات البرّ.[ كأن هذه المرأة وهي تمثِّل النفس المحطَّمة بالرجاسات وجدت قدميّ مخلِّصها سِرْ إمكانيّة السلوك في طريق البِرّ، والانطلاق به وفيه إلى حضن الآب تنعم بالصداقة الإلهيّة أبديًا.

ثانيًا: سأل أحد الفريِّسيِّين السيِّد المسيح أن يأكل معه، فدخل السيِّد بيته لكنه لم يدخل قلبه، فقد أعدَّ الوليمة، وربَّما كلَّفته الكثير وحسده كثيرون، أن المعلِّم في داخل البيت... لكن المرأة دخلت مقتحمة بدالة الحب البيت والتقت مع السيِّد كعريسٍ لنفسها. يمثِّل الفريسي النفس التي تتخفَّى وراء المظاهر الخارجيّة دون الأعماق، تستضيف الرب في البيت لا القلب، أما المرأة فتُمثِّل النفس الجادة في خلاصها تهتم باللقاء الخفي مع العريس السماوي.

يقارن ال

http://demiana2010.com

8تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 7 السبت 2 يناير 2010 - 16:43

admin

admin
Admin
Admin

يقارن القدِّيس أمبروسيوس في إحدى رسائله بين الفريسي والمرأة الخاطئة فيقول:

أ. لم يقدِّم الفريسي ماء لغسل قدَّمي السيِّد أما المرأة فقدَّمت دموعًا لغسلهما. الأول يمثِّل اليهود أو غير المؤمنين الذين ليس لهم ماء لغسل قدَّميّ السيِّد، الذي يود أن يسير في ضميرهم. [كيف يقدر أن يغسل ضميره من لا يتقبَّل ماء المسيح؟ أما الكنيسة فلها هذا الماء (المعموديّة) ولها هذه الدموع (التوبة).]

ويعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على هذا الغسل في موضع آخر، قائلاً: [غسلت خطاياها بغسلها قدَّميّ المخلِّص بدموعها. أيها الرب يسوع، فلتسمح لي أن أغسل قدميْك ممَّا اِنطبع عليهما بسيرك في داخلي (مع أنهما لم يتنجَّسا)... لكن من أين لي أن آتي إليك بماء الحياة الذي أغسل به قدميْك؟ فإذ ليس لي ماء أقدِّم دموعًا. وإذ أغسل قدميك إنما أثق أنني أنا نفسي أغتسل، حيث تقول لي: "خطاياك الكثيرة مغفورة لك، لأنك أحببت كثيرًا".]

في موضع آخر يقول: [اِعترف بخطاياك بدموعك ليقول عنك العدل الإلهي: غسلتْ قدميْ بدموعها ومسحَتها بشعر رأسها... فدموع محبَّتنا لا تستطيع فقط أن تغسل خطايانا، وإنما تغسل أيضًا خطوات الكلمة الإلهيّة لتُثمر خطواته فينا! إنها دموع نافعة ليس فقط تكفِّل قيام الخطاة، وإنما هي غذاء للصدِّيقين. بارٌ هو الإنسان القائل: "صارت لي دموعي خبزًا" (مز 41: 4). إن كنت لا تستطيع الاقتراب من رأس المسيح اِلمس قدميه برأسك.]

ب. لم يكن للفرِّيسي شعر يمسح به القدمين، إذ لم يكن نذيرًا للرب، أما الكنيسة فلها شعر، وهي تطلب النذير. ويرى القدِّيس أمبروسيوس هذا الشعر الذي مسحت به المرأة قدميْ المخلِّص يشير إلى الغِنى الذي لا قيمة له ما لم يقدَّم منه للفقراء - قدميْ المخلِّص- يغسل جراحاتهم وآلامهم.

في موضع آخر يقول: [حِلْ شعرك واَخْضِع له كل مواهب جسدك".] فطاقاتنا الجسديّة ومواهبنا وإمكانيَّاتنا وعواطفنا تبقى كالشعر لا قيمة له ما لم يتقدَّس باستخدامه في مسح قدميْ المخلِّص، أي في خدمة إخوته الأصاغر!

ج. بالنسبة لقبلات هذه المرأة الخاطئة التي لم يمارسها الفريسي، يقول القدِّيس أمبروسيوس: [القبلة هي علامة الحب. لهذا لم يستطع اليهودي (غير المؤمن) أن يمارس قُبلة؛ لأنه لا يعرف سلام المسيح ولا يقبله، هذا الذي قيل عنه: "سلامًا أعطيكم، سلامي أتركه لكم" (يو 14: 7). هكذا ليس للمجمع اليهودي قبلات، وإنما للكنيسة التي ترقَّبت المسيح وأحبَّته، قائلة: "ليُقبِّلني بقبلات فمه" (نش 1: 2). أرادت أن تطفئ لهيب شوقها الطويل مترقبَّة مجيء الرب بقبلاته وأن تروي عطشها بهذه العطيّة.] يكمل القدِّيس حديثه في ذات الرسالة فيقول: [الكنيسة وحدها لها قبلات العروس، بكون القبلة عربونًا للزواج وامتيازًا خاصًا بالعرس.]

قبلات الكنيسة صادقة وأمينة، إذ هي قبلات العروس الملتهبة حبًا نحو عريسها، هذه التي لم يختبرها يهوذا حين قدَّم قبلته الغاشة عند تسليمه سيِّده، لذا يخاطبه القدِّيس أمبروسيوس، قائلاً: [لقد قدَّمت قبلة يا من لا تعرف سِر القُبلة... فالمطلوب هو قُبلة القلب والنفس لا قُبلة الشفتين... فإنَّه حيث لا يوجد حب ولا إيمان ولا عاطفة أيّة عذوبة تكون للقُبلات؟]

ثالثًا: إذ يقارن القدِّيس أمبروسيوس بين المرأة التي سكبت الطيب على رأس المخلِّص حين كان في بيت سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا (مت 26) وبين المرأة المذكورة هنا، يرى أنهما إن كانتا حادثتين مختلفين لكن كلتاهما قدَّمت طيبًا. الأولى تمثِّل النفس التي تدخل إلى الصداقة الإلهيّة وتسمو في الحياة الكاملة في الرب فتسكب الطيب على رأس المخلِّص، إذ تبلغ الكثير من أسراره الإلهيّة، أما نحن فنمتثل بالثانيةk إذ نشعر بخطايانا فنأتي إليه من ورائه ونبكي مشتاقين بلوغ قدميه، لكننا لا نحرم من تقديم الطيب، إذ يقول القدِّيس: [مع أنها خاطئة لكن كان لها الطيب.]

نقول إن كنا خطاة نسلك طريق توبتنا فليتنا نقتحم بيت سمعانk ونلتقي بربَّنا أينما وجد، مقدِّمين طيبًا مسكوبًا على قدميه. طيب التوبة الصادقة الممتلئة رجاءً خلال الدم المقدَّس المنسكب من الجنب المطعون.

مرَّة أخرى في تفسيره لإنجيل لوقا يرى القدِّيس أمبروسيوس هذا الطيب المسكوب على قدميْ المخلِّص خاص بالكنيسة وحدها، إذ يقول: [مغبوط هو الإنسان الذي يستطيع أن يمسح قدميْ المسيح بالطيب، الأمر الذي لم يفعله سمعان!... الطيب هو خُلاصة روائح زهور كثيرة لذا ينشر روائح زكيَّة ومتنوِّعة، وربَّما لا يستطيع أحد أن يسكب هذا الطيب إلا الكنيسة وحدها التي تملك الكثير من الزهور ذات الروائح المتنوِّعة. هنا تندمج صورة المرأة الخاطئة بالمسيح الذي حمل صورة عبد (حاملاً شبة جسد الخطيّة).]

رابعًا: لم ينتفع الفرِّيسي بلقائه مع المخلِّص، بسبب إصراره على الكبرياء أما المرأة الخاطئة فربحت الكثيرk لأنها أحبَّت كثيرًا خلال روح التواضع. بالكبرياء يفقد الإنسان كل بركة روحيَّة. وبالحب المملوء تواضعًا ينعم بحب المخلِّص نفسه ومغفرة خطاياه.

v جلس سيِّد التواضع في منزل فرِّيسي متكبِّر يُدعى سمعان، وبالرغم من جلوسه في منزله لم يكن في قلبه مكان يسند (ابن الإنسان) فيه رأسه (9: 57).

القدِّيس أغسطينوس

v حِبْ كثيرًا فيُغفر لكَ كثيرًا. لقد أخطأ بولس كثيرًا، بل واِضطهد الكنيسة، ولكنه أحبَّ كثيرًا مثابرًا حتى الاستشهاد وغفرت له خطاياه الكثيرة... إذ لم يبخل بدمه لأجل اسم الله.

القدِّيس أمبروسيوس

v لم تضل المرأة الطريق المستقيم، أما الفريسي الجاهل فقد ضل، إذ قال في نفسه: "لو كان هذا نبيًا لعلِم من هذه المرأة التي لمسته، وما هي أنها خاطئة". كان الفرِّيسي إذن فخورًا بنفسه، معجبًا بطائفته، ضعيف المادة العقليّة، فلم يدرك الموضوع على حقيقته. كان لزامًا عليه أن يروِّض حياته، ويزيِّنها بالسجايا السامية، فلا يدين المريض والعليل ويحكم عليه بما هو براء منه. ترك الفريسي هذا كله، وتعلّق بأهداف الناموس الجامد، وطلب إلى الرب يسوع المسيح أن يطيع شريعة موسى، فقد أمرت هذه الشريعة الناس المقدَّسين أن يتجنَّبوا الأشرار الدنسين، ولام الله كل من اُختير رئيسًا لمجمع اليهود، وفرَّط في حقِّه بأن اِقترب من دنس مرذول وصغير ممقوت. فقد ورد على لسان أحد الأنبياء أنهم لا يميِّزون بين "المقدَّس والمرذول" ولكن المسيح قام لا ليُخضِعنا تحت لعنة الناموس، بل ليفدي الخطاة برحمته التي فاقت الناموس، لأن الناموس "قد زيد بسبب التعديَّات" (غل 3: 19)، "لكي يُستد كل فم ويصير كل العالم تحت قصاص من الله، لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرَّر أمامه، لأن بالناموس معرفة الخطيّة" (رو 3: 19).

جاء المسيح حتى يفي للمدين دينه، مهما كثر الدين أو قلَّْ، ويترأف على الناس بأسرهم كبيرهم وصغيرهم، حتى لا يُحرم إنسان أيًا كان مشاركة المسيح في صلاحه. ولكي يقدِّم لنا السيِّد مثالاً واضحًا لرحمته حرَّر هذه المرأة الخاطئة من شرورها بقوله لها: "مغفورة لك خطاياك". ولا يمكن أن تخرج هذه العبارة إلا من فم الله لأنها تتضمَّن سلطانًا فوق كل سلطان لأنه لما كان الناموس يحاكم الخاطئ، فمن ذا الذي يمكنه الارتفاع فوق مستوى الناموس إلا الذي وضعه وأمر به؟ في الحال حرَّر السيِّد المرأة ونبَّه الفريسي ومن جلس معه على المائدة إلى أمور سامية، إذ تعلَّموا أن المسيح الكلمة هو الله، ولذلك فهو ليس أحد الأنبياء بل يفوق كل إنسان ولو أنه تجسَّد وصار إنسانًا...

لا تقلق وتيأس إذا أحسست بثِقل وطأة خطاياك السابقة، فإنَّ رحمة المسيح واسعة المدى. لتكن خطيئتك عظيمة إلا أن رحمة المسيح أعظم، فبنعمته يتبرَّر الخاطئ، ويُطلق سراح الأسير. ولكن اعلم أن الإيمان بالمسيح هو الذي يؤهِّلنا لهذه البركات الخلاصية، لأن الإيمان هو طريق الحياة والنعمة. وفيه نسير إلى المخادع السمائيّة حيث نرث ملكوت القدِّيسين الأبرار ونصبح أعضاء في مملكة المسيح.

القدِّيس كيرلس الكبير

أخيرًا نختم حديثنا عن المرأة الخاطئة، بأنها قد كشفت عن أعماق محبَّة الله الفائقة للبشر، وكما يقول القدِّيس إيريناؤس: [كما يُزكِّي الطبيب بمرضاه، هكذا يعلن عن الله خلال البشر.]

http://demiana2010.com

9تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 8 السبت 2 يناير 2010 - 16:44

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 8

في الأصحاح السابق رأينا السيِّد المسيح يفتح قلبه للجميع ليضم إلى صداقته الغرباء والخطاة..والآن نراه ترافقه نساء كثيرات كن يخدمْنَه من أموالهنَّ دون أن يستنكف هذا العمل [1-3]. فهو ليس فقط يقبل المرأة الخاطئة ويمتدحها أمام الفرِّيسي، إنما يهتم أن يقدِّس مواهب المرأة وإمكانيَّاتها كعضو حيّ في جسده المقدَّس. نراه في صداقته ليس فقط لا يميِّز بين جنس الرجال وجنس النساء، وإنما أيضًا لا يتحيَّز لقرابات جسديَّة حسب الدم [19-21]. أنه يطلب صداقة الكل، عاملاً بلا انقطاع من أجل المُضطهدين [22-25]، والمطرودين حتى وإن كانوا مجانين [26-39]، يُطهِّر الدنسين [43-48]، ويقيم الموتى.

1. اهتمامه بخدمة المرأة 1-3.

2. عمله كزارع (مثَل البذار) 4-15.

3. يهب النور 16-18.

4. يطلب قرابة الكل له 19-21.

5. تهدئة الأمواج 22-25.

6. شفاء مجنون الجدريِّين 26-39.

7. إبراء نازفة الدم 43-48.

8. إقامة ابنة يايرس 49-56.

1. اهتمامه بخدمة المرأة

"وعلى أثر ذلك كان يسير في كل مدينة وقرية

يكرز ويبشِّر بملكوت الله،

ومعه الاثنا عشر، وبعض النساء" [1-2].

بعد وليمة سمعان الفرِّيسي التي كانت تشير إلى ظهور السيِّد المسيح في وسط خاصته اليهود (بيت سمعان) وقد حُرم خاصته منه بسبب كبرياء قلبهم، ليغتصب الأمم (المرأة الخاطئة) صداقته خلال محبَّتها النابعة عن قلب متواضع، ترك المسيح كفرناحوم ليكرز في كل مدينة وقريَّة ومعه الاثنا عشر ونسوة، وكأنه قد ترك الأمم وانطلق إلي العالم خلال كنيسته يعلن عن ملكوته.

هنا يلزمنا أن نقف قليلاً لنرى يوحنا المعمدان قد سبق فكرز باقتراب ملكوت الله، أما السيِّد المسيح فجاء يقدِّم الملكوت حالاً في وسطنا: "ها ملكوت الله داخلكم" (لو 17: 21).

انطلق للعمل ومعه الاثنا عشر وبعض النسوة، وقد ركَّز الإنجيلي لوقا علي هذا الأمر، إذ يقول:

"وبعض النسوة كنَّ قد شُفين من أرواح شرِّيرة وأمراض،

مريم التي تُدعى المجدليَّة التي أخرج منها سبعة شيَّاطين.

ويونا امرأة خوزي وكيل هيرودس، وسوسنَّة،

وأُخر كثيرات كنَّ يخدمْنه من أموالهن" [2-3].

في المقدِّمة قلنا أن الإنجيلي لوقا وهو يكتب لليونان ركَّز علي اهتمام السيِّد بالمرأة، ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:

أولاً: قامت رفقة هؤلاء النسوة للسيِّد المسيح علي أساس خبرة العمل الخلاصي، فقد تمتَّعت المجدليَّة بالخلاص من سبعة شيَّاطين، وذاقت الأُخريات عذوبة كلمة الله، هذه الرفقة دامت طويلاً، فقد كانت النسوة يتبَعن السيِّد حتى في لحظات الصليب، ومنهن من سبقن التلاميذ عند الدفن وزيارة قبر المخلِّص، فصرن كارزات بالقيامة. وكانت أيضًا النساء يرافِقن التلاميذ في عبادتهم، وتمتَّعن معهم بعيد العنصرة كما جاء في سفر الأعمال.

علي أي الأحوال إن كان العهد القديم لم يتجاهل دور المرأة تمامًا، لكن العهد الجديد رفع من شأنها، فقد قيل عن هذا العهد: "ويكون بعد ذلك أنِّي أسكب روحي علي كل بَشَر فيتنبَّأ بنوكم وبناتكم" (يوئيل 2: 28). تتطلَّع الكنيسة إلي الفتيات والنساء كأعضاء في جسد المسيح يُشاركن الرجال عضويَّتهم، وقلوبِهن مذبحًا للرب، وهيكلاً للروح المقدَّس!

ثانيًا: لم تكن خدمتهن للسيِّد وقتيَّة، إذ جاء التعبير "كن يخدمْنَه" تعنى استمراريَّة العمل.

ثالثًا: إن كان السيِّد الخالق قد اِفتقر من أجلنا ليُغنينا، فإنه لم يستنكف من أن تعوله نسوة بأموالِهِنَّ. إنها محبَّة فائقة أن يقبل مُشبِع النفوس والأجساد أن تخدِمه الأيادي البشريَّة الضعيفة!

2. عمله كزارع (مثال البِذار)

كصديق حقيقي يشبِّه نفسه بالزارع الذي لا يتوقَّف عن إلقاء بذار حبُّه في كل تربة، لعلَّها تتقبَّلها، فتنبت وتنمو وتُثمر بلا عائق ثمار حب لا ينقطع. وقد سبق لنا الحديث عن هذا المثَل مع عرض لتعليقات كثير من الآباء في دراستنا لإنجيل متى (13: 10)، ولإنجيل مرقس (4: 2)، أرجو الرجوع إليها.

اكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:

أولاً: يقول الأب ثيؤفلاكتيوس بطريرك بلغاريا (765-840)، أن السيِّد المسيح تحدَّث بأمثال ليجتذب السامعين، فقد اِعتاد الناس أن ينجذبوا للأمور الغامضة، وفي نفس الوقت لكي يبقى السرْ غامضًا لغير المستحقِّين، أي غير المهتمِّين بخلاص نفوسهم.

ثانيًا: لم يأتِ صديقنا السماوي ليدين البشريَّة، إنما ليقوم بزرع قلوبها ببذار فائقة. إنه الزارع الذي يغرس البذار بنفسه، وهو نفسه أيضًا البذار التي تُلقى في القلب. إنه لا يبخل علينا بنفسه، فلا يقدِّم بذارًا خارجيَّة كما فعل رجال العهد القديم، بل قدَّم ذاته حتى إن كنَّا طريقًا أو مملوءين حجارة أو أشواكًا، فإنه محبَّ للكل! يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: ]لا يتوقَّف ابن الله عن بذر كلمة الله في نفوسنا، ليس فقط بكونه يعلِّم، وإنما بكونه يخلق مُلقِيًا البذار الصالحة فينا. [

يؤكِّد القدِّيس غريغوريوس النزينزي أن هذه الأنواع من التربة الواردة في هذا المثال لا تعني وجود طبائع مختلفة بين البَشَر لا يمكن تغييرها، كما قال بعض الهراطقة حاسبين أن الإنسان مصيَّر حسب طبيعته، وإنما جاء تعبير السيِّد "قد أعطى لكم" [10] ليعلن أن المثل قُدِّم لمن لهم إرادة ويستطيعون أن يتمتَّعوا بالتغيير بالرب.

3. يهب النور

يُلقي السيِّد المسيح بنفسه كبذار تعمل في داخل قلبنا لكي يظهر ثمر الروح فينا فنكون نورًا للآخرين، إذ يقول: "وليس أحد يوقد سراجًا ويغطِّيه بإناء، أو يضعه تحت سرير، بل يضعه على منارة، لينظر الداخلون النور، لأنه ليس خفي لا يظهر، ولا مكتوم لا يُعلم ويُعلن" [16-17].

سبق لنا التعليق علي هذه العبارات الإلهيَّة في تفسيرنا (مت 5: 15)، (مر 4: 21)، لذا نكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:

أولاً: ما هو السِراج المتَّقد إلا القلب المُلتهب بنار الروح القدس، إذ نلنا في سِرَيّ العماد والميرون الروح الناري القادر أن يجعل منَّا خدام لله ملتهبين نارًا؟ لقد أكَّد السيِّد: "قد جئتُ لأُلقي نارًا"، وقد ألقى النار في حياتنا الداخليَّة، هذه التي تبقى ملتهبة فينا إن تَجاوَبنا مع عمل روح الله القدُّوس، فنُحسب سراجًا منيرًا، أما إذا تَغطِّينا بإناء، أو وُضعنا تحت سرير عوض وضْعنا علي منارة نفقد هذا النور. لذا يقول الرسول: "لا تطفئوا الروح " (1 تس 5: 19).

إن كان الرسول قد دعا الجسد إناءً خزفِيًا يحمل قوَّة الله فيه ككنز لا يقيَّم (2 كو 4: 7)، فإن إخفاء السراج داخل الإناء يعني عزل عمل الروح خلال شهوات الجسد، عوض تقديس الجسد بنار الروح! بمعنى آخر، ليتنا لا نُبطل عمل الروح فينا خلال أعمال الجسد، إنما نقبل تقديس الجسد بكل طاقاته وأحاسيسه بنار الروح!

إن كان الإناء يمثِّل الجسد، فإن السرير يمثِّل حياة "النوم" والرخاوة، فإنه ليس شيء يفسد حياتنا الروحيَّة مثل التراخي والكسل. بمعنى آخر ليتنا لا نحطِّم النار المقدَّسة فينا خلال سرير إهمالنا وتراخينا، بل بالحري نتجاوب معها خلال السهر والجهاد.

أما المنارة فتُشير لحياة الكرازة والشهادة للحق، فإن النور الذي فينا يتوهَّج بالأكثر خلال الخدمة الروحيَّة والشهادة للرب المصلوب.

ثانيًا: ما هو الخفي الذي يظهر والمكتوم الذي يُعلَم ويُعلَن، إلا حياة السيِّد المسيح نفسه التي يقدِّمها كبذار في داخلنا، إذ تنبت وتنمو شجرة حياة، تملأ القلب ثمرًا روحيًا سماويًا لا يُمكن إخفائه. يُعلن السيِّد المسيح فينا خلال حياتنا الداخليَّة من محبَّة وفرح وسلام وطول أناة ولطف وصلاح وإيمان ووداعة وتعفُّف (غلا 5: 13)، هذه التي تترْجم خلال سلوكنا الظاهر وتحرُّكاتنا! فما نتقبَّله خلال حياتنا السرِّيَّة وعبادتنا الشخصيَّة يُعلَن خلال تصرفاتنا.

ثالثًا: يقدِّم لنا السيِّد المسيح مبدأً أساسيًا في حياتنا الروحيَّة، هو: "من له سيُعطى، ومن ليس له فالذي يظنُّه له يُؤخذ منه" [18]. يمكننا أن ندعو هذا المبدأ "ديناميكيَّة الشركة مع الله في ابنه"، بمعنى أننا إن كنَّا أمناء نقبل "حياة المسيح فينا" بأمانة، فإن هذه الحياة لا تقف خاملة أو جامدة، إنما تنمو علي الدوام فينا. إذ لنا "الحياة في المسيح"، فإنه يُعطي لنا النمو الدائم لعلَّنا نبلغ قياس ملء قامة المسيح. يهبنا المسيح ما له ليصير في ملكيَّتنا "ما لنا"، كبذار حيَّة تُثمر فينا ويتزايد الثمر بلا توقُّف. أما من ليس له، أي الذي لا يقبل عمل الله فيه، فإن ما يظنه له من مواهب طبيعيَّة وبركات وراثيَّة حتى هذه الأمور تُنزع عنه! بمعنى آخر حياتنا في المسيح حركة لا تتوقَّف، والشر أيضًا حركة لا تتوقَّف، فمن يتجاوب مع السيِّد ينمو بلا انقطاع ومن يقبل الشرّ ينحدر فيه بلا حدود.

4. يطلب قرابة الكل له

إن كان السيِّد المسيح كصديقٍ حقيقيٍ يعمل فينا بلا انقطاع، فقد أراد الإنجيلي إبراز مستوى صداقته، أنها لا تنحاز لقرابةٍ جسديَّةٍ، إذ يريد الكل أقرباء له، أعضاء في العائلة السماويَّة. لهذا لما جاءت أُمُّه واخوته (أبناء خالته) يطلبونه ولم يقدروا أن يصِلوا إليه بسبب الجمع، أجاب وقال: "أُمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" [21].

لا يقصد السيِّد المسيح التحقير من الروابط العائلية، وإنما وهو يحب أُمُّه ويهتم بها حتى في لحظات صلبه، يريد أن يرفعنا إلى القرابة علي مستوى الاتحاد معه، لا خلال الاستماع للكلمة فحسب، وإنما بالعمل بها أيضًا (راجع تفسير مت 12: 46، مر 3: 31).

v لم يقل هذا كمن يجحد أُمُّه، إنما ليُعلن كرامتها التي لا تقوم فقط علي حملها للمسيح، وإنما علي تمتُّعها بكل فضيلة.

الأب ثيؤفلاكتيوس بطريرك بلغاريا

v ألا ترى أنه في كل مناسبة لم يُنكر القرابة حسب الطبيعة، لكنَّه أضاف إليها ما هو بواسطة الفضيلة؟

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v يليق به كمعلِّم أن يقدِّم الرب نفسه مثالاً للآخرين، فهو يأمر وينفِّذ ما يأمر به. فإنه إذ يوصي بأنه إن لم يترك الإنسان أباه وأُمُّه لا يستحق ابن الله (مت 10: 37، لو 14: 26) أراد أن يكون أول من يخضع لهذه الوصيَّة، لا ليقاوم إكرام الأم اللائق، إذ سبق فقال أن من لا يُكرم أباه وأُمُّه موتًا يموت (خر 20: 2، تث 27: 6) وإنما كان عالمًا أنه ينبغي أن يكون فيما لأبيه أكثر من عواطفه نحو أُمُّه، فرباطات الروح أقدس من رباطات الجسد.

ما كان يجب علي الذين يطلبون يسوع أن يقفوا خارجًا، لأن الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك (تث 30: 14، رو 11: 8). الكلمة تسمعها من الداخل، والنور أيضًا في الداخل، لذلك قيل: "اقتربوا إلىّ واستنيروا" (مز 33: 6)، فإنه إن كان لا يعرف أهله إن وقفوا خارجًا، فكيف يعرفنا نحن إن وقفنا نحن في الخارج؟...

لم يتعالَ المسيح علي أُمّه هنا، فقد عرفها وهو علي الصليب (يو 19: 26)، إنما أراد تمييز الوصايا الإلهيَّة عن الرباطات الجسديَّة.

يشير المسيح بأهله أنه سيُفضِّل الكنيسة التي آمنت به عن اليهود الذين جاء منهم المسيح حسب الجسد.

القدِّيس أمبروسيوس

5. تهدئة الأمواج

الآن إذ أبرز صداقته العاملة بلا انقطاع لكي يدخل الكل إلى القرابة معه خلال سماع الوصيَّة وممارستها، بدأ يظهر إمكانيَّاته للعمل فينا لتحقيق غايته فينا. ففي إعلان سلطانه علي الطبيعة يأمر الرياح والماء فتُطعيه يعلن إمكانيَّته للعمل فينا حتى وإن بدت الطبيعة مقاوِمة، أنه صاحب سلطان يدخل إلى قلبنا كما إلى السفينة ليأمر الرياح الداخليَّة أن تهدأ والأمواج أن تتوقَّف، مقيمًا سلامه الفائق للعقل داخل قلوبنا! (راجع تفسير مت 8: 23، مر 4: 35).

"وفي أحد الأيام دخل سفينة هو وتلاميذ،

وقال لهم: لنعبر إلى عبر البحيرة، فأقلعوا" [22].

إذ وقف أقرباؤه خارجًا ترك الموقع وانطلق مع تلاميذه في سفينة، متَّجِهًا إلى البر الآخر للبُحيرة. إنها صورة رمزيَّة لعمله الإلهي عندما وقف اليهود خاصته خارج الإيمان، فانطلق بتلاميذه خلال كنيسته أو صليبه (السفينة) إلي الأمم، الَبر الآخر من بحيرة هذا العالم. وإلي الآن السيِّد المسيح منطلق علي الدوام يعمل خلال خُدَّامه في كنيسته بلا توقُّف مشتاقًا إلي تجديد حياة الكل.

"وفيما هم سائرون نام،

فنزل نوء ريح في البحيرة" [23].

هذه هي المرَّة الوحيدة التي قيل فيها عن السيِّد أنه نام، ربَّما ليؤكِّد الإنجيلي حقيقة تجسَّده أنه أكل وشرب ونام وتألم الخ. ولعلَّ تعبير "نام" يشير هنا إلي الراحة، فالسيِّد إذ يدخل بتلاميذه إلى سفينته منطلقًا بهم إلي الخدمة يستريح فيهم، لا نوم الخمول، إنما نوم الراحة من جهتهم. ولعلَّ كلمة "نام" هنا ترمز لما يبدو لنا حين تهب الزوابع علينا حتى تكاد سفينة حياتنا تمتلئ، بينما يبدو الرب نائمًا لا يبالي أننا نهلك، مع أنه ضابط الكل، وكل ما يحدِّث بسماحٍ من عنده. فنومه يعني تأجيل ظهوره لكتم الضيقات، مع تركنا للجهاد بنعمته حتى نصرخ إليه وبه نغلب ونتكلل.

يرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيِّد نام لكي يعطي للتلاميذ فرصة لاكتشاف خوفهم وظهوره فيعالجه فيهم. أما القدِّيس أغسطينوس فيرى في نوم السيِّد رمزًا لنوم إيماننا به في داخلنا، إذ بالإيمان يحل السيِّد المسيح في قلوبنا (أف 3: 17)، فإن نام هذا الإيمان وفتر تهيج الأمواج ضدَّنا وتصير الحاجة مُلحَّة أن نوقظه بصراخنا إليه، أي بتذكُّر كلماته التي فاعليتها في حياتنا. أما القدِّيس أمبروسيوس فيُعلِّق علي نوم السيِّد أثناء اجتياز البحيرة، قائلاً:

]لا يستطيع أحد أن يجتاز هذا العالم بدون المسيح.

إن كان الذين معهم المسيح غالبًا ما يجدون مصاعب في مواجهة تجارب الحياة، وإن كان المسيح قد تصرف هكذا مع تلاميذه إنما ليسحب أنظارك، فتدرك أنه لا يستطيع أحد أن ينطلق من هذا العالم دون أن تعيقه التجارب فيتزكَّى فيه عمل الإيمان.

إن كنا نؤمن أن لله هدف وراء هذه العواصف فلنوقظ القبطان! إن كان حتى قادة السفينة عادة يتعرَّضون للخطر، فإلى من نلجأ، إلا إلي ذاك الذي لا تأسره الرياح، بل يأمر، ذاك الذي كُتب عنه أنه قام واِنتهر الريح؟...

كان نائمًا بالجسد لكنه مهتم بهم بلاهوته...

كان الكل خائفًا، وكان هو وحده نائمًا بلا اضطراب، فهو لا يشاركنا طبيعتنا فحسب، وإنما يكون معنا وسط الخطر ولو كان نائمًا بالجسد، إذ هو عامل بلاهوته...

لقد استحقُّوا اللوم، إذ قال لهم: "يا قليلي الإيمان" (مت 8: 26؛ 14: 31)، لأنهم كانوا خائفين مع أن يسوع كان معهم. أنهم لم يدركوا أن من يثبت فيه لا يمكن أن يهلك.

ثبَّت الرب إيمانهم وأعاد الهدوء وأمر الريح أن تسكت... الريح الذي قال له الملاك ميخائيل: "لينتهِرك الرب" (يه 9)...

لينتهر الرب فينا هذه العواصف الثائرة، فلا تخشى الغرق، بل تهدأ حياتنا المضطربة!

إن كان السيِّد لا ينام الآن، لكننا ليتنا نسهر لئلاَّ نراه نائمًا فينا، حين ينتاب جسدنا نوم الغفلة.[

6. شفاء مجنون الجدريِّين

سبق لنا عرض تعليقات كثير من آباء الكنيسة على شفاء مجنون الجِدريِّين (تفسير مت 8: 28؛ مر 5: 1)؛ أما ما نود أن نؤكِّده هنا أن الإنجيلي لوقا يبرز شخص المخلِّص كصديقٍ عاملٍ بلا انقطاع، يعمل من أجل إنسان أو إنسانين ولو كانا مجنونين مرذولين يسكنان القبور، حتى وإن كان عمله معهما يحطِّم آلاف من الخنازير أو يسبب له طردًا من الكورة. هكذا يقّيم السيِّد المسيح النفس البشريَّة ويقدِّرها، عاملاً فيها مهما كلَّفه الثمن! مستعد أن يربحها على حساب خليقته وعلى حسب مجاملات الكثيرين له.

من هو هذا المجنون الذي بقى زمانًا طويلاً عريانًا لا يلبس ثوبًا، بلا مأوى لا يسكن بيتًا، بل يعيش في القبور، مقيَّدًا بسلاسل وقيود، لا يقوى على العمل أو التفكير؟ إنه يمثِّل البشريَّة التي بقيت زمانًا طويلاً مستعبَدة لعدو الخير، مقيَّدة بسلاسل الخطيَّة وقيود الشرّ، لا تقوَى على العمل لحساب مملكة الله لبنيانها ولا التفكير في السماويَّات. لقد صارت خارج المدينة، خارج الفردوس الذي أقيم لأجلها، بلا بيت، إذ حرمت نفسها من السُكنى مع الله في مقدِسه الحقيقي، تعرَّت من ثوب النعمة الإلهيَّة، تؤذي نفسها بنفسها، تهرب نحو البراري، إذ لا تطيق حياة الحب والشركة مع الله والناس!

يعلق القدِّيس أمبروسيوس على هذا الرجل قائلاً:

[العريان هو مَن فقَدَ ثوب طبيعته (الأولى) وفضيلته...

الرجل الذي به شيطان يشير إلى شعب الأمم وقد غطته الرذائل فتعرَّى بجهالاته، وخُلعت عنه ثوبه...

تعمَّد القدِّيس متَّى أن يذكر أنه كان ساكنًا في القبور، فإن مثل هذه النفوس تبدو كأنها ساكنة في قبور. فإن أجساد غير المؤمنين ليست إلا نوعًا من القبور يُدفن فيها الأموات (النفوس الميِّتة)، حيث لا تسكن فيها كلمة الرب.

لقد اِندفع إلى الأماكن الخالية، أي الأماكن القفرة من فضائل الروح، التي تجنَّبت الناموس وانفصلت عن الأنبياء، فرفضتهم النعمة.

لم يعذِّبه شيطان واحد بل يهاجمه لجيئون.]

هكذا إذ صارت البشريَّة أُلعوبة لا في يد شيطان، بل شيَّاطين كثيرة، تلهو بها وتتبادلها لإذلالها، خرج إليها السيِّد ليحرَّرها من هذا العدو، ويرد لها الثوب الملوكي والبيت الإلهي ويهبها عقلاً وحكمة، وينعم عليها بالشركة معه.

والعجيب أن العدو إذ أدرك خلاص الإنسان على يديّ السيِّد، حسب خلاصنا هلاكًا له. يجد العدو لذّته في عذابنا، وعذابه في خلاصنا، إذ قال الشيطان: "أطلب منك أن لا تعذِّبني" [28]. ولعلَّه أدرك أنه عند تمام العمل الخلاصي يسقط هو تحت الدينونة، إذ يكون قد امتلأ كأسه.

على أي الأحوال مع ما يظهر عليه عدو الخير من قوةٍ وعنف وقسوة، وضحت في حياة هذا الرجل قبل شفائه، وفي قطيع الخنازير الذي هلك في الحال، إلا أنه أمام السيِّد المسيح في غاية الضعف، لا يقدر أن يدخل خنزيرة - كما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم - ما لم يسمح له الرب!

ليتنا لا نكون كخنزيرة في حياتنا الروحيَّة، نتمرَّغ في حمأة الخطيَّة، لئلا يجرفنا العدو وينحدر بنا إلي الهاوية، فنغرق ونهلك!

أخيرًا، إذ طلب الرجل من السيِّد أن يرافقه ليكون وسط الجماهير، قال له: "اِرجع إلي بيتك وحدِّث بكم صنع الله بك" [39]. وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [لننسحب من كل الأمور العالميَّة، ونكرِّس أنفسنا للمسيح، فنُحسب مساوين للرسل حسب إعلانه، وننعم بالحياة الأبديَّة]. بمعنى آخر ليتنا لا نهتم بالمظاهر الخارجيَّة، بل ننسحب إلي بيتنا الجديد، الذي هو "حياتنا في المسيح"، نمارس حقِّنا في العبادة والشهادة، فيتمجَّد الله فينا وتظهر أعماله نورًا يضيء في هذا العالم!

7. إبراء نازفة الدم

سبق لنا الحديث عن هذه المرأة (تفسير مت 9: 18؛ مر 5: 22)، لكن ما نود توضيحه هنا أن إبراء نازفة الدم جاء في الطريق ما بين لقاء يايرس للسيِّد، وإقامة ابنة يايرس، بينما كان السيِّد في طريقه إلى بيت يايْرُس. وقد تمَّ ذلك بهدف خاص وهو أن يايْرُس مع كونه رئيسًا للمجمع لكن إيمانه كان أضعف من إيمان قائد المائة. كان الأول يطلب من السيِّد أن يأتي بيته ليشفي ابنته التي أوشكت على الموت، أما الثاني فآمن أن السيِّد قادر أن يشفي غلامه بكلمة، وأنه لا حاجة لمجيئه إلى البيت، خاصة وأنه لا يستحق أن يدخل السيِّد هذا البيت!

كان قلب يايْرُس مضطربًا جدًا، وكانت اللحظات تعبر كسنوات طويلة، يشتاق أن يُسرع السيِّد لينقذ ابنته لئلا تموت، إذ لم يكن بعد يؤمن أنه قادر على الإقامة من الأموات. من يستطيع أن يُعبِّر عن نفسيَّة يايْرُس حين أوقف السيِّد المسيح الموكب كله ليقول: "من لمسني؟"، بينما كان يتعجَّل اللقاء؟ على أي الأحوال، أعطي الرب لهذا الرئيس درسًا في الإيمان، كيف اغتصبت امرأة مجهولة القوَّة خلال لمسِها هدب ثوبه، ونالت ما لم تنَلْه الجموع الغفيرة، معلنًا له إمكانيَّة التمتُّع بعمل المسيَّا وقوَّته.

ولعل السيِّد وهو منطلق إلى بيت يايْرُس رئيس المجمع أراد أن يقدِّم له كما للجماهير درسًا في "صداقته العاملة"، وأنه وهو يهتم برئيس المجمع لا يتجاهل امرأة مجهولة دنِسة حسب الشريعة، يعمل لحساب الكل ومن أجل الجميع.

قلنا أنه الصديق العامل بلا انقطاع... يعمل لحساب رئيس مجمع جاء يتوسَّل إليه من أجل ابنته، ويعمل أيضًا من أجل امرأة مجهولة، يعمل علانيَّة بانطلاقه إلى بيت يايْرُس، ويعمل خِفية، إذ قال أن قوَّة خرجت منه! هذا ومن ناحيَّة أخرى أراد أن يؤكِّد أنه ليس من وقت معيَّن للعمل، إنما كل وقته هو للعمل. أنه يشفي واهبًا قوَّة خلال الطريق لإقامة ابنة!

هذه المرأة التي فقدت رجاءها في الأذرع البشريَّة، إذ أنفقت كل أموالها على الأطبَّاء، لم تفقد ثقتها وإيمانها بالمخلِّص. لقد لمستْه، فنالت ما لم يناله الذين يزحِمونه، لذلك أراد الرب أن يتمجَّد فيها، فأعلن عن القوَّة التي خرجت منه، أما هي فجاءت مرتعدة [47] تحمل خوف الله، متعبِّدة إذ خرَّت له، شاهدة للحق إذ أخبرت قدام جميع الشعب عن سبب لمسها إيّاه وكيف برِئت في الحال.

لم يرد الرب أن يحاسبها، إنما أن يزكِّيها، إذ صارت تمثِّل الكنيسة الحاملة لخوف الله، العابدة بالحق، الشاهدة لعمل مسيحها.

أمام هذا المنظر الذي سحَب قلوب الكل فاض عليها الصديق الأعظم بهبات محبَّته، إذ قال لها: "ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاكِ، اذهبي بسلام" [48]. هي آمنت وهو يُزيد إيمانها أكثر فأكثر بقولِه "ثِقي"، فالإيمان هو عطيَّة الله لمن يسأله، والنمو في الإيمان هو هِبة لمن يمارس الإيمان. يهبنا الإيمان إن سألناه، ويُزيد إيماننا إن أضرمنا ما أعطانا إيَّاه.

وهبها النمو في الإيمان، كما أعلن عطيَّة البنوَّة بقوله: "يا ابنة"... هذه العطيَّة التي تفوق كل عطيَّة أو موهبة. هي آمنت ونالت، فمجَّدته بإيمانها، ويمجِّدها أيضًا هو بقوله: "إيمانك قد شفاكً". أخيرًا قدَّم لها عطيَّة السلام الروحي والنفسي: "أذهبي بسلام".

يا للعجب، فإنه كصديق اِهتمَّ بجسدها فشفاه، وبنفسها فأعطاها السلام، وبروحها فجعلها ابنة له تشارِكه أمجاده السماويَّة!

8. إقامة ابنة يايْرُس

رأى يايْرُس هذا المنظر، ولعلَّه بعدما اِضطرب في البداية إذ خشي التأخير، امتلأ إيمانًا، فصارت المرأة نازفة الدم معلِّمًا لرئيس المجمع عن طريق الإيمان.

لقد أراد الرب أيضًا أن يُزيد إيمان يايْرُس أكثر فأكثر، فسمح له بضيقة أمَرْ، إذ جاء واحد من داره يقول له: "قد ماتت ابنتك لا تتعِب المعلِّم" [49]. وقبل أن ينطق بكلمة سمع المعلِّم يقول: "لا تخف، آمن فقط فهي تُشفي" [50]. وقد سبق لنا الحديث عن إقامة ابنة يايْرُس (تفسير مت 9، مر 5)

http://demiana2010.com

10تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 9 السبت 2 يناير 2010 - 16:47

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 9

إن كنَّا قد رأينا في السيِّد المسيح الصديق المُحب لكل البشر، العامل بلا انقطاع لنقبل صداقته معنا وفينا، فإن هذا الأصحاح يقدِّم لنا غاية هذه الصداقة ألا وهو تجلِّيه في مؤمنيه وخدَّامه ليُعلن طبيعته السماويَّة في حياتنا. لقد افتقر لأجلنا ودخل معنا الآلام لكي يحملنا إلى غناه ومجدِه السماوي.

لم يقدِّم السيِّد أمجاد تجلِّيه دُفعة واحدة، لكنه إذ اختار الاثنى عشر تلميذًا تجلَّى في حياتهم خطوة خطوة ليعلن سلطان ملكوته خلال إرساليَّتهم بلا إمكانيَّات زمنيَّة لكنهم يحملون سلطانه في شفاء النفوس والأجساد. وهبهم أن يلمسوا تجلِّيه وإمكانيَّاته السماويَّة خلال رُعب هيرودس منه من بعيد. وشبَع الجموع الجائعة، وإعلان الآب عن شخصه لسمعان بطرس، وأخيرًا إذ حدَّثهم عن الصليب حمل معه ثلاثة من تلاميذه ينعمون عيانًا ببهائه على جبل تابور. بعد هذا التجلِّي المنظور خشيَ عليهم من الكبرياء فحدَّثهم عن الالتزام بالصليب والسلوك بروح التواضع مع خدمة الآخرين خلال الطريق الضيِّق.

1. إرساليَّة التلاميذ 1-6.

2. اضطراب هيرودس 7-9.

3. التلاميذ وإشباع الجموع 10-18.

4. التلاميذ والتعرف على شخصه 19-21.

5. التلاميذ والصليب 22-27.

6. التلاميذ ومجد التجلي 28-36.

7. التلاميذ وإخراج الأرواح الشرِّيرة 37-43

8. التلاميذ وتسليم ابن الإنسان 44-45.

9. التلاميذ والتواضع 46-48.

10. التلاميذ وخدمة الآخرين 49-50.

11. التلاميذ والنار من السماء 51-56.

12. شروط التلمذة للسيِّد 57-62.

1. إرساليَّة التلاميذ

سبق لنا الحديث عن هذه الإرساليَّة أثناء تفسير مت 10: 1، مر 6: 7، لذا نكتفي هنا بإبراز أن السيِّد المسيح كصديقٍ سماويٍ نزل إلى أرضنا وحّل بيننا، واختار له تلاميذ من بين الأمميِّين ليتجلَّى فيهم معلنًا ذاته خلال إمكانيَّاته التي قدَّمها لهم، هذه الإمكانيَّات هي:

أولاً: "ودعا تلاميذه الإثنى عشر"، هذه الدعوة الإلهيَّة للتلمذة لا تحمل قسرًا أو إلزامًا لقبولها عُنوة، إنما هي عرض حِبّي من الله نحو مُحبوبيه. لكنها في عيني قابليها تمثِّل توكيلاً، خلاله يعمل الوكيل باسم موكِّله ولحسابه وبإمكانيَّاته. فالتلاميذ خلال هذه الدعوة قبَلوا مركزًا جديدًا هو "الوكالة"، يعملون كوكلاء أسرار الله.

ثانيًا: "وأعطاهم قوَّة وسلطانًا على جميع الشيَّاطين وشفاء أمراض" [1].

إذ أقامهم وكلاء أسراره لم يبخل عليهم بمنحهم قوته وسلطانه على جميع الشيَّاطين وشفاء أمراض.

كثيرون لهم سلطان خلال مراكزهم كملوك أو رؤساء أو أشراف وقضاة، لكنهم لا يحملون في داخلهم قوَّة، فيُسيئون إلى مراكزهم كما إلى نفوسهم، أما السيِّد المسيح فقد وهبهم مع السلطان قوَّة. هذه القوَّة لا تقوم على مظاهر زمنيَّة خارجيَّة، إنما هي "روحه القدُّوس" الذي يسكن فيهم ويعمل بهم.

لقد ادَّعى الشيطان لنفسه سلطانًا، يسنده في ذلك ضعف البشريَّة التي اِنحنت أمامه ليملك عليها، حتى دُعي "رئيس هذا العالم"، كما دُعِي بالقوي. لكن سلطانه قام على خداعه للبشر وضعف البشرية، وجاءت قوَّته خلال ضلاله واِنحرافه. وكان لزامًا للتلاميذ لكي يُجابهوا هذا العدو أن يحملوا سلطانًا مسنودًا بالقوَّة الإلهيَّة.

ثالثًا: وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله، ويشفوا المرضى" [2].

هذه الإمكانيَّة هي "قوَّة الكرازة بالملكوت"، ليست حديثًا فلسفيًا، ولا دعوة لسلوك تقوي فحسب، إنما هي تمتُّع بالملكوت في داخل النفس. بمعنى آخر الكرازة الرسوليَّة هبة يقدِّمها الروح القدس حين ينقل النفس من الظلمة إلى ملكوت النور، لتنعم خلال مياه المعموديَّة بالبنوَّة لله، وتحوِّل الموقع الداخلي إلى سماء مقدَّسة للرب.

رابعًا: "وقال لهم: لا تحملوا شيئًا للطريق، لا عصى ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضَّة، ولا يكون للواحد ثوبان" [3].

إنه يسأل تلاميذه ممارسة الترك والتخلِّي، لا ليعيشوا في حرمان، وإنما ليكون لهم الرب نفسه كل شيء. والعجيب أنه قدَّم لهم القوَّة والسلطان ووهبهم قوَّة للكرازة وعمل الأشفية قبل أن يسألهم الترك؛ يأخذوه هو بكل إمكانيَّاته فيرفضوا الزمنيَّات بكل تفاهاتها.

لقد سألهم ألا يحملوا شيئًا، لا عصى ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضَّة ولا يكون لهم ثوبان، وصيَّة تليق بمن يدخل هيكلاً أو مقدَّسا للرب، فلا يحمل معه شيئًا من أمور هذا العالم، حتى لا يرتبك في شيء أو ينشغل بغير الله. هكذا يليق بالتلاميذ أن تصير حياتهم كلها وكأنها "وجود مع الله في مقدِسه"، يشعرون على الدوام - أينما وُجدوا كمن في مُقدَّسات إلهيَّة.

ليهبنا الله هذا الشعور الذي يملأ القلب مخافة مقدَّسة، ويرفع النفس لتحيا كمن تجلس في السماء، لا ترتبك بحِمل أمور هذه الحياة، ولا تحتاج إلى عصا أو مزود أو خبز أو فضَّة ولا تطلب ثوبين.

خامسًا: "وأيّ بيت دخلتموه فهناك أقيموا، ومن هناك اُخرجوا" [4].

لقد وهبهم أيضًا عطيَّة العضويَّة مع بعضهم البعض في جسدٍ واحدٍ، فإذ يجد الرسول بيوت المؤمنين مفتوحة له بكونها منازله الخاصة به، يقيم في أي بيت بلا كُلفة الضيافة، إنما يعيش كواحدٍ من أعضاء الأسرة، يشاركهم طعامهم اليومي العادي، ويبقى هناك حتى يخرج من المدينة.

لعلَّ هذه الوصيَّة أيضًا تقدَّم للخادم اِلتزامًا بالجديَّة في العمل، فلا يستغل محبَّة الناس له في المسيح ويحوِّلها إلى مجاملات، فتتحوَّل حياته إلى ولائم عِوض التركيز على نشر كلمة الله والكرازة بإنجيله. عدم التنقُّل من بيت إلى بيت ينزع عن العائلات روح المنافسة في واجبات الضيافة، الأمر الذي يشتهر به الشرق حتى يومنا هذا.

أخيرًا ربَّما أراد بهذا أن يكون هذا البيت نواة لإِنشاء كنيسة للمدينة، حيث يعتاد المؤمنون أن يلتقوا بالرسل فيه، وهناك يتعبَّدون خاصة ممارسة سرّ الشركة أو الإفخارستيا في اليوم الأول من الأسبوع. هكذا إذ ينفتح أول بيت للرسول ينال هذه البركة، فإنه على العكس: "كل من لا يقبلكم فاُخرجوا من تلك المدينة، واُنفضوا الغبار أيضًا عن أرجلكم شهادة عليهم" [5].

هكذا فعل برنابا وشاول عند خروجهما من أنطاكية (أع 13: 50). ولعلَّه يقصد بذلك أن الأمور الزمنيَّة مهما سمت فهي كالغبار الذي لا موضع له إلا عند القدمين. فعندما يرفُض الناس الكلمة الروحيّة من الخادم، يرفض هو أيضًا منهم حتى أتفه الأمور الزمنيَّة! الكنيسة لا تطلب مالاً بل تنفضه كغبارٍ عن قدميها، إنما تطلب النفوس! وقد جاءت الكنيسة تشدِّد على الأساقفة والكهنة ألا يقبلوا عطايا الأشرار غير التائبين، وكأنها تنفض الغبار على عتبة أبوابهم شهادة عليهم حتى يتوبوا!

يرى القدِّيس أمبروسيوس أن هذا الغبار يشير إلى الضعفات التي يليق بالراعي أن يحملها عن شعب الله، كقول الرسول: "من يضعف وأنا لا أضعف" 2 كو 11: 29)، لكن لا يترك الضعفات تلتصق به، بل يلقيها تحت قدَّميه، إذ يقول: [من واجب الكارز بالإنجيل أن يأخذ على عاتقه ضعفات المؤمنين الجسديَّة ويحملها بعيدًا ويسحقها تحت قدميه، هذه الأعمال البطَّالة التي تشبه الغبار.]

2. اضطراب هيرودس

إن كان السيِّد قد وهب تلاميذه إمكانيَّات سماويَّة للعمل لحساب صديقهم السماوي، فقد أراد أن يكشف لهم خطوة بخطوة عن سلطانه وإمكانيَّاته، وها هو الإنجيلي لوقا يروي لنا كيف اضطرب هيرودس عند سماعه عن أخبار السيِّد المسيح وأعماله. لم يقف الأمر عند اضطرابه، وإنما أيضًا تغيَّرت أفكاره، فمع كونه صدُّوقيًا لا يعترف بالقيامة من الأموات إلا أنه أمام الأحداث قال: "يوحنا أنا قطعت رأسه، فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا؟" [9]. لقد تشكَّك في الأمر وبدأ يفكِّر فيما يقوله الناس ألعلَّه يوحنا أو إيليَّا أو واحدًا من الأنبياء القُدامى قد قام؟ وقد بدأ ضميره يثور في داخله، فلم ينسب قتل يوحنا لخداع هيروديَّا أو ابنتها، ولا للسياف بل لنفسه، قائلاً: "أنا قطعت رأسه"، وكان يطلب أن يرى يسوع. هذا كله قد تحقَّق خلال سماع هيرودس لأعمال السيِّد المسيح، دون أن يتحدَّث معه أحد بكلمة توبيخ أو يكرز له ببشارة مفرحة.

يمكننا أيضًا أن نقول إن كان صوت يوحنا المعمدان السابق للرب، الذي يهيئ الطريق قدَّامه لم يُخْمِد حتى بعد قتله، بل بقي عاملاً يُرعب قلب هيرودس، فكم بالأكثر كلمة المسيح نفسها والكرازة بها حين ينطق هو بها خلال تلاميذه؟ إنها كلمة - كما يقول الرسول بولس - لا تفيد!

3. التلاميذ وإشباع الجموع

نال التلاميذ الدعوة وتمتَّعوا بقوَّة وسلطان، ورأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم عن هيرودس الذي ينهار مضطربًا. والآن يُعلن لهم الرب أنه هو مُشبع الجموع الجائعة زمانًا طويلاً. وقد سبق لنا الحديث عن إشباع الجموع (مت 14: 14-21، مر 6: 35-44)، لذا نكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:

أولاً: أراد السيِّد أن يختلي بتلاميذه منفردًا في مدينة بيت صيْدا، لكن الجموع إذ علموا تبعوه، فقبِلهم، وفي الأصل تعني الكلمة "قبِلهم" رحَّب بهم واستقبلهم. كان التلاميذ في حاجة أن ينفرد بهم السيِّد، لكن حتى هذا اللقاء المنفرد هو من أجل الشعب، فإن جاء يقابلهم الرب ببشاشة وترحاب. راحته وراحة تلاميذه في إراحة المتعبين، وإشباع النفوس الجائعة.

ثانيًا: جاءت هذه المعجزة بعد اِختيار التلاميذ وإرساليَّتهم ليُعلن غاية الإرساليَّة هي "إشباع البشريَّة الجائعة".

يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على موقع هذه المعجزة بين الأحداث التي حولها، قائلاً:

[ما هو السبب الذي جعل البشير يذكر موت يوحنا المعمدان، إذ يشير هيرودس إلى موته [9]؟ ربَّما لأن الإنجيل الذي يُشبع الشعوب الجائعة بدأ بانتهاء الناموس.

لقد قدَّم الغذاء بعد شفاء نازفة الدم رمز الكنيسة، وبعد إرساليَّة الرسل المُرسلين للكرازة بملكوت الله.

تأمَّل من هم الذين تمتَّعوا بالوليمة؟ لم يتمتَّع بها الكسالى ولا الساكنون في المدينة كمن هم في المجمع ولا طالبو كرامات العالم، إنما يتمتَّع بها الباحثون عن المسيح في البرِّيَّة... هؤلاء يقبلهم المسيح، ويحدِّثهم لا عن العالم بل عن ملكوت السماوات. وإن كان من بينهم من غطَّت القروح جسده، يعطيهم الرب يسوع دواءه.

لقد دبَّر الله أن يُنقذ الذين شفاهم من جراحاتهم المؤلمة من الجوع، ويهبهم الغذاء الروحي، إذ لا يستطيع أحد أن يتمتَّع بالوليمة السماويَّة إن لم يُشفَ أولاً. المدعوُّون للوليمة تمتَّعوا بالشفاء أولاً. فمن كان أعرج نال القوَّة للمشي ليأتِ عند الرب، ومن كان قد حُرم من نور عينيه لم يدخل بيت الرب إلا بعد عودة البصر إليه. هكذا يسير الرب بتدبير حسن مقدَّس في كل حين، إذ يعطي أولاً غفران الخطايا ودواء للجراحات ثم يهيئ الوليمة السماويَّة...

القلوب الجائعة للإيمان الراسخ لا تُشبَع إلا بجسد المسيح ودمه.]

ثالثًا: يقول الإنجيلي "والمحتاجون إلى الشفاء شفاهم" [11]، إذ لم ينعم بالشفاء كل المرضى، إنما الذين يشعرون بالحاجة إلى الشفاء فيطلبون الطبيب. فطبيبنا سخي وقادر على الإبراء، لكنه لا يهب عطاياه إلا لسائليه، الذين يشعرون بالحاجة إليه، حتى لا يستخفُّوا بالعطيَّة ويحتقرونها.

ربَّما تتساءل: أنا لا أشعر بمرضي، فماذا أفعل؟ اِفعل ما صنعتهُ الجموع، إذ سارت وراءه تريد أن تسمعه، فتجوع إليه وتشعر بالحاجة إلى الشبع، عندئذ حتى إن لم تسأله شيئًا، التلاميذ يسألونه، والرب نفسه يتكفَّل بإشباع اِحتياجاتهم. نحن نحتاج أن نجلس معه، ونسمع صوته خلال إنجيله، فنشعر بالحاجة إلى الشفاء وإلى الشبع. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [عندما يبدأ الإنسان في الاستماع يشعر بالجوع، ويرى الرسل جوعَهُ، فإنهم وإن كانوا لا يُشبِعون اِحتياجه، لكن المسيح يشبعه.]

رابعًا: من باب العاطفة البشريَّة سأل التلاميذ السيِّد: "اِصرف الجمع ليذهبوا إلى القرى والضياع حوالينا، فيبيتوا ويجدوا طعامًا، لأننا ههنا في موضع خلاء" [12]. كانت عاطفة التلاميذ بشريَّة مجرَّدة وحساباتهم أيضًا بشريَّة، إذ ظنُّوا أن الأمر يحتاج إلى مالٍ كثيرٍ لشراء طعامٍ لهذا الشعب. وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لم يكونوا بعد قد فهموا أن غذاء المؤمنين لا يُباع، أما المسيح فيعرف أنه ينبغي أن يتمِّم لنا الفداء، وأن وليمته مجانيَّة.]

خامسًا: يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على الغذاء الذي يقدِّمه لنا السيِّد المسيح حتى لا نخور في الطريق فلا نبلغ إلى الآب، معلنًا أن طعام الرب قوي يسند في الطريق، فإن خُرْنا، فالسبب هو فينا، أننا بإهمالنا نبدِّد القوَّة التي يهبنا إيَّاها. لقد اِستطاع إيليَّا أن يسير أربعين يومًا تسنده وجبة غذاء قدَّمها له الملاك ولم يَخُر كما سبق فخار في الطريق، أما وجبة المسيح فتسندنا كل أيَّام حياتنا.

أخيرًا فقد سبق لنا دراسة المفاهيم الرمزيَّة لعدد الرجال الذين شبعوا (5000 رجل) وللخمس خبزات والسمكتين الخ. إنما ما نود توضيحه هنا أن التلاميذ إذ تقبَّلوا البركة من يديّ المخلِّص ليس فقط أشبعوا الجميع، إنما بقيَ إثنتا عشر قُفَّة مملوءة كِسَرًا، لكل منهم قُفَّة، شهادة عمليَّة لعمل الله معهم. حينما يقدِّم المؤمن للغير يشبع الآخرون، وتمتلئ يداه ببركات الرب، بمعنى أن العطاء يُزيد بركة الرب في حياتنا.
4. التلاميذ والتعرُّف على شخصه

"وفيما هو يصلِّي على اِنفراد كان التلاميذ معه،

فسألهم قائلاً: من تقول الجموع إنِّي أنا؟" [18]

إذ اِلتقَت به الجموع تحدَّث معها، وشفى جراحاتها، وقدَّم لها طعامًا يشبعها، أما تلاميذه فدخل بهم معه إلى خُلْوة اِنفراديَّة لعلَّهم إذ يروه يصلِّي يستطيعون إدراك علاقته الفريدة مع أبيه. لقد صلَّى وكانوا معه، ليعلِّمهم الصلاة كطريقٍ للتمتُّع بأسرار الآب والابن، لذا جاء السؤال: من تقول الجموع إني أنا؟ لكي يعود فيسألهم: وأنتم من تقولون إنِّي أنا؟

إن كنَّا مع الجموع ننعم بأعماله العجيبة ونشبع ونرتوي، فإنه يريدنا أن نلتقي معه على اِنفراد نتمتَّع بأسراره الإلهيَّة، إذ يريد أن يقدِّم لنا نفسه شخصيًا، لنقول له مع بطرس الرسول: "مسيح الله!" وكما يقول القدِّيس أمبروسيوس: [يشمل هذا الاسم كل شيء، ويعبِّر عن طبيعته، ويحوي كل الفضائل.]

وقد سبق لنا الحديث عن هذا الحديث في شيء من التفصيل (تفسير مت 16: 13-20؛ مر 8: 27-30)، مع عرض تعليقات الآباء عليه.

5. التلاميذ والصليب

إذ أعلن بطرس الرسول إيمانه بالسيِّد المسيح، اِنتهرهم وأوصاهم ألا يقولوا ذلك لأحد [21]، "قائلاً أنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألَّم كثيرًا، ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وفي اليوم الثالث يقوم" [22].

لقد وضَّح أن غاية وصيَّته هذه لتلاميذه تأجيل الإعلان عن شخصه حتى تتحقَّق أحداث الصلب والقيامة، لأنهم "لو عرِفوا لَمَا صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8)، فلا يريد إعاقة هذه الأحداث. ففي الوقت الذي فيه أراد أن يُعلن عن ذاته لتلاميذه حتى لا يتعثَّروا بصلبه، أرادهم أن يصمِتوا ولا يُعلنوا عن شخصِه حتى يتم الصليب.

الحقيقة أن الكشف عن ذاته قد اِلتحم بالصليب، فلا قيمة لذبيحة الصليب ما لم يُعلن شخص المصلوب كابن الله الوحيد ومسيحه القدُّوس، ولا يمكننا أن نتمتَّع بشخص المسيَّا كابن الله وننعم به خارج الصليب. إن كان السيِّد المسيح هو الصديق السماوي، فقد جاء ليحملنا بحبه إلى صليبه، هناك بالحري نتعرف عليه ونقبله ونثبت فيه كأعضاء جسده، وندخل به إلى حضن أبيه.

هذا ولا يمكننا أن نتعرَّف على صليبه إلا بِحِملنا إيّاه معه كاختبارٍ يوميٍ تقويٍ، لذا اِلتحم حديثه عن صلبه بحديثه عن صلْبنا نحن معه يوميًا، أو حملنا صليبه وتمتَّعنا بشركة آلامه، إذ يكمل الإنجيلي حديثه هكذا: "وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه، ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني" [23].

يكشف لنا عن ذاته كي لا نتعثَّر في صليبه، ويجتذبنا إلى صليبه لكي ننحني معه نشاركه آلامه كل يومٍ بفرحٍ، فنُحسب أهلاً لشركة أمجاده. هذه هي شهوة قلب كل رسول بل وكل مؤمن: "لأعرفه وقوَّة قيامته وشركة آلامه متشبِّهًا بموته" (في 3: 10).

يقول القدِّيس جيروم: [صليبه هو عمود البشريَّة. عندما أقول "الصليب" لا أفكِّر في الخشبة، بل في الآلام. هذا الصليب يوجد في بريطانيا والهند وكل المسكونة... وأنت إن لم تكن نفسك مستعدَّة لحمل الصليب، كما هو الأمر بالنسبة لي (للمسيح) لا يمكنك ان تكون لي تلميذًا. طوبى للإنسان الذي يحمل في قلبه الصليب والقيامة، فيكون موضع ميلاد المسيح وقيامته! طوبى لمن له بيت لحم في قلبه، فيولد المسيح فيه كل يوم!... يُصلب المسيح فينا كل يوم، ونحن نصلب عن العالم... طوبى لمن يقوم فيه المسيح كل يوم! فإنه يقوم إن كان الخاطئ يتوب عن خطاياه حتى الهفوات منها!]

الصليب لا يحطِّم حياتنا مادمنا نحمله مع السيد المسيح غالب الموت، أو بمعنى آخر مادام يحمله المسيح الساكن فينا. خارج المسيح الصليب محطِّم للنفس، أما في المسيح، فهو طريق الخلاص والقيامة. لهذا يقول السيِّد المسيح نفسه: "فإن من أراد أن يُخلِّص نفسه يُهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلي فهذا يُخلِّصها" [24]، بمعنى أن من أراد أن يُخلِّص نفسه أي يمجِّدها بقيامتها الأبديَّة يلزمه أن يُهلكها بحملها الصليب مع مخلِّصها. فإن الصليب وإن حمل صورة الهلاك من الخارج، لكنه واهب الخلاص.

سحبت هذه العبارة الإلهيَّة فكر كثير من رجال التربية الحديثة، في أبحاثهم عن تربية الأطفال، إذ كشفت لهم عن مفهوم الحب الوالدي الحق، فإنه لا يستطيع أحد أن يُخلِّص أولاده ما لم يُهلك ذاته أو "الأنا ego". فإن كثيرين يُحبُّون أنفسهم أو ذواتهم في أولادهم، يريدون أن يشكِّلوا أبناءهم حسب أهوائهم وميولهم واشتياقاتهم، لا حسب فكر الأبناء ومواهبهم وإمكانيَّاتهم. إنهم في الحقيقة يأسرون أولادهم في سجن "الذات" الذي يصعب على الوالدين أن يحرِّروا أبناءهم منه! ونحن نستطيع أن نقول بأننا إذ نُصلب مع المسيح ننكر ذواتنا ونكفر بها، لنعيش أعضاء أحياء في جسد المسيح، هنا لا نأسر أولادنا في "الأنا"، إنما نشعر بهم كأشخاصٍ وأعضاءٍ معنا في الجسد الواحد، لهم شخصيَّاتهم المستقلَّة ومواهبهم وطاقاتهم وإمكانيَّاتهم التي يضمرها روح الله القدُّوس نفسه، أما نحن فنخدمهم ونوجِّههم بالحب الحق بلا أنانيَّة.

إذن الصليب هو سرْ حياة كل عضو في حياته الخاصة، وفي علاقاته الأُسريَّة، وفي علاقاته الكنسيَّة والاجتماعيَّة... إذ يعيش باذلاً في الرب لا يطلب لنفسه شيئًا فينال كل شيء. بقدر ما يجحد ذاته تنمو نفسه بالحب ويتجلَّى الله فيه، ويكون موضع حب السماء والأرض أيضًا، لهذا يؤكِّد القدِّيس أغسطينوس إنه يلزمنا أن نُهلك ذواتنا لنربح أنفسنا.

مرَّة أخرى يحدِّثنا عن الصليب بأسلوب آخر، قائلاً: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها؟" [25]. هنا لا يقصد بالعالم سكَّانه، إنما أمور هذا العالم الماديَّة والمعنويَّة. كما يقول القدِّيس أغسطينوس إن الإنسان إذ يعيش بروح الأنانيَّة "يحب ذاته"، فيما هو يتقوقع حول ذاته ينطلق إلى أمور العالم ليقتنصها لحساب ذاته. يريد أن يكون العالم كله خاضعًا لملذَّاته، عاملاً لحساب غناه أو كرامته أو ملذَّات جسده، فيفقد حبُّه لنفسه، إذ يُهلكها. أما من يقبل الصلب مع المسيح فإنه إذ يجحد ذاته وينطلق خارج الأنا ليموت بالحب عن الآخرين، ويتَّسع قلبه لاحتمال وخدمة الجميع، فيربح الكل لنفسه! لنمُت، فنحيا! لنُدفن مع البذار، فنُثمر ثلاثين وستِّين ومائة! فالصليب ربح لا خسارة، مادام يمثِّل شركة مع المصلوب.

هكذا يحدِّثنا السيِّد المسيح عن صلبنا معه، الأمر الذي يصعب على الإنسان الطبيعي أن يقبله، لذا يقول: "لأن من اِستحى بي وبكلامي فبهذا يستحي ابن الإنسان متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القدِّيسين" [26]. وكما يقول العلامة ترتليان: [سأكون في أمان إن كنت لا اَستحي من ربِّي... لقد صُلب ابن الله، إني لا اَستحي وإن كان الناس يخجلون منه. لقد مات ابن الله، وأنا بكل طريقة أؤمن بهذا.] والخجل من السيِّد المسيح وصليبه قد يكون بالكلام كما بالعمل. فمن لا يحمل سمات السيِّد المسيح ويسلك بروحه ويقبل آلامه يكون قد اِستحى به وبصليبه.

هكذا يحثُّنا علي قبول السيِّد المسيح المصلوب في حياتنا اليوميَّة لكي نستطيع أن نختبر أمجاده، ونُحسب معه ورثة الله، نُكرم أمام السمائيِّين. هذه الخبرة، خبرة الأمجاد التي نبلغها خلال الصليب، ليست خبرة أُخرويَّة أو اِنقضائيَّة نتذوَّقها في العالم المقبل فحسب، وإنما هي خبرة حيَّة ننعم بعربونها الآن. لهذا يختم السيِّد حديثه عن الآلام واهبة الأمجاد بقوله: "حقًا أقول لكم أن من القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله" [27].

لعلَّه قصد بهؤلاء القوم الثلاثة تلاميذ الذين حملهم معه علي جبل تابور لمعاينة مجده في لحظات التجلِّي، إذ جاء الحديث عن التجلَّي بعد هذا القول مباشرة، ولعلَّه قصد بالقوم التلاميذ الذين رأوا ملكوت الله يُعلن بين شعوب الأمم. غير أن القدِّيس أمبروسيوس يرى أن هؤلاء القوم هم المؤمنون الذين منهم من عاينوا السماء كمعلِّمنا بولس الرسول. ويمكننا أيضًا القول بأن هذا الوعد الإلهي يمس حياة كل واحد منَّا حين يتجلَّى ملكوت الله داخل النفس ينزع عنها موتها وفسادها ويهبها بهاءً سماويًا في الرب.

ويرى بعض المسيحيِّين الذين من أصل يهودي أن هذا القول يُشير إلى اليهود الذين يبقون تائهين في هذا العالم حتى يُعلن ملكوت الله لهم في أواخر الدهور برجوعهم عن رفضهم للمسيح.

(راجع أيضًا تفسير مت 16: 28؛ مر 9: 1).

6. التلاميذ ومجد التجلِّي

يمكننا في غير مبالغة أن نقول بأن غاية الإنجيل هو تمتُّعنا بتجلِّي السيِّد المسيح في كنيسته، في كل عضو من أعضائها، أي في أعماق نفوسنا، حتى ننطلق إلي إعلان مجده الكامل في يوم الرب العظيم. فإن كان الصليب والقيامة والصعود يمثِّلون عملاً واحدًا متكاملاً يحتل مركز إيماننا، فإن السيِّد المسيح في صلبه وقيامته وصعوده إنما يود أن يهبنا البصيرة الروحيَّة لنعاينه متجلِّيًا فينا، فنختبره وسط آلامنا مصلوبًا عنَّا، يقدِّم لنا بهجة قيامته وأمجاد سماواته في أعماقنا الداخليَّة. بمعنى آخر إن كنا نجاهد إنما لكي بالإيمان يُعلن السيِّد المسيح متجلِّيًا فينا، حتى نراه وجهًا لوجه متجلِّيًا في كمال بهائه في يوم الرب العظيم.

وقد سبق لنا الحديث عن التجلَّي (تفسير مت 17، مر 9) في كثير من الإفاضة، مع تعليقات للآباء... لذا اَكتفي هنا بتعليق للقدِّيس أمبروسيوس، إذ يقول: [رأى بطرس واللذين معه هذه النعمة مع أنهم كانوا مثقَّلين بالنوم، لأن بهاء اللاهوت غير المُحوى يسحقنا. إن كان ضوء الشمس لا يمكن للعين البشريَّة أن تثبِّت نظرها فيه فكيف يحتمل الجسد البشري مجد الله؟ لهذا في القيامة يلبس الجسد شكلاً أكثر نقاوة ورقَّة، متحرِّرا من نقائصه! لهذا أراد (بطرس) أن يتمتَّع بصورة القيامة بعد تلك الراحة (النوم الثقيل)، لهذا عند اِستيقاظهم رأوا مجده؛ ونحن أيضًا يليق بنا أن نستيقظ، فنشاهد عظمة المسيح. لقد تهلَّل بطرس لأن جاذبيَّة هذا الدهر لم تستطع أن تسبيه عن سحر القيامة. لذا قال: "جيِّد يارب أن نكون ههنا" علي مثال الدهر الآتي، "لي اِشتهاء أن اَنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا" (فى 1: 23).]

ويلاحظ في التجلِّي الآتي:

أولاً: لأهميَّة التجلِّي أفاض الإنجيليُّون الثلاثة متَّى ومرقس ولوقا الحديث عنه، أما الإنجيلي يوحنا فتحدَّث عنه في اِختصار شديد ولكن بقوَّة ويقين، إذ يقول: "ورأينا مجده" (يو 1: 14). ولعلَّ التجلِّي لم يفارق قلب القدِّيس بطرس وفكره كل أيام كرازته، حاسبًا في التجلِّي علامة صدق الرسالة المسيحانيَّة، رابطًا بين التجلِّي وقوَّة بهاء المسيح ومجيئه، إذ يقول: "لأننا لم نتبع خرافات مُصنَّعة، إذ عرَّفْناكم بقوَّة ربَّنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنَّا مُعاينين عظمته، لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسْنَى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سُرِرت به، ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنَّا معه في الجبل المقدَّس" (2 بط 1: 16-18).

ثانيًا: إن كان التجلِّي قد تحقَّق في اليوم الثامن من حديث الرب مع تلاميذه عن الصليب، فإنه حتى في لحظات التجلِّي كان موسى وإيليَّا يتكلَّمان معه عن "خروجه الذي كان عتيدًا أن يكمِّله في أورشليم" [31]. وكأن تجلِّي الرب فينا، أو تمتُّعنا بشركة بهائه ومجده فينا، هو ثمرَّة قبولنا صليبه في حياتنا، ويبقى هذا الصليب موضوع شُغلنا حتى وسط أمجاد التجلِّي. بمعنى آخر لن ننعم بتجلِّي الرب فينا في هذا العالم، ولا بظهور مجده لنا في اليوم الأخير، ما لم نقبل وصيَّة الصلب معه، وعندما ننعم بتجلِّيه هنا وهناك يبقى الصليب موضوع فرحنا وتسبيحنا الأبدي. هكذا يلتحم الصليب بالمجد، ويُعلن المجد قوَّة الصليب وسِرِّه الإلهي.

ثالثًا: تهتم الكنيسة بالتجلِّي، فتحتفل به كعيدٍ سيِّديٍ، بكونه شهادة حق للاهوته المُختفي في حجاب الجسد، أعلنه السيِّد لبعض من تلاميذه قدر ما يحتملوا ليُدركوا ما تنعم به الكنيسة في الأبديَّة بطريقة فائقة لا يُنطق بها.

في هذا التجلِّي نرى ما يهبه لنا ربَّنا كعطيَّة حين يغير طبيعة جسدنا التُرابي إلى جسد روحاني، ويقيمنا من فسادنا إلي عدم الفساد، خلال اِتِّحادنا به وتمتُّعنا بشركة ميراثه الأبدي، وكما يقول الرسول: "الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجده..." لكن تجلِّي الرب هو إعلان حقيقته المحتَجَبة عنَّا بسبب ضعفنا، مقدِّما إيَّاها قدر ما نحتمل، أما مجدنا نحن فهو عطيَّة مجانيَّة يهبها لنا.

رابعًا: يقول الإنجيلي: "وفيما هو يصلِّي صارت هيئة وجهُه متغيِّرة" [29]. وكما قلنا إن إنجيل لوقا هو إنجيل "الصلاة"، لكن صلاة ربَّنا يسوع هي حديث الشركة مع الآب الواحد معه في اللاهوت، وليس حديث من تبنَّاه الله كعطيَّة. علي أي الأحوال حملنا ربَّنا يسوع معه علي الجبل، وكنائبٍ عنَّا أيضًا صلّى، حتى إن أردنا أن نتغيَّر عن شكلنا، وننعم بتجلِّي الرب في أعماقنا، يلزمنا أن نرتفع علي الجبل معه لنصلِّي، فلا طريق للتجليِّ بدون الصلاة!
7. التلاميذ وإخراج الأرواح الشرِّيرة

إن كان السيِّد المسيح قد اصطحب معه ثلاثة من تلاميذه إلى الجبل المقدَّس ليعلن لهم عن طبيعته كصديق سماوي، يشهد له الآب نفسه أنه الابن الوحيد موضع سروره، فيه تكمل النبوَّات ويتحقَّق الناموس، لذلك جاء موسى وإيليَّا متهلِّلان بمجيئه يتحدَّثان عن صلبه أو خروجه. به يفرح المجاهدون فيطلبون البقاء معه علي الجبل أبديًا ويُسر الراحلون (مثل موسى). أنه موضوع سلام السماء والأرض، ومصالحتهما معًا بدمه، فإنه نزل إلى السهل ليتجلَّى بطريقة أخرى، خلال عمله الإلهي بإخراج الأرواح الشرِّيرة التي حطَّمت حياة الإنسان. لقد جاء ليحمل البشريَّة إلى تجليِّه والتمتُّع بأمجاده، لكن هذا لن يتحقَّق إلا بتحريرها من عبوديَّة إبليس وجنوده. لهذا نزل السيِّد إلى السهل ليجد شخصًا قد اِستحوز عليه الشيطان فمزَّقه وصرعه [42]، وصار عِلَّة مرارة لأبيه وأقربائه وكل من هم حوله، فتقدَّم ليُنقذه هو وكل من هم حوله.

يمكننا القول بأن صديقنا السماوي الابن الوحيد بارتفاعه على الجبل وتجلِّيه يعلن بصورة أو أخرى البشريَّة وقد اِلتحمَت به لتنعم بشركة أمجاده، فتُفرِّح الآب وتُسِر السمائيِّين. وفيها تكمل كلمة الله وتتحقَّق النبوَّات، أما الابن الذي في السهل، وقد أسره الشيطان، فيمثِّل حال البشريَّة التي أحزنت قلب الآب وخَسرت شركتها مع السمائيِّين بسبب العصيان.

اشتكى الآب من المرارة التي يعيشها بسبب ابنه، قائلاً: "اُنظر إلى ابني، فإنه وحيد لي" [38]. جاءت هذه الكلمات قويَّة ومملوءة حكمة، فمن جهة لم يطلب من المخلِّص إلا أن "ينظر". هذه الطلبة تحمل إيمانًا بحب المخلِّص الذي لا يَحتمل أن ينظر إنسانًا متألِّمًا وأبًا يتعذَّب من أجل وحيده، ومن جانب آخر فإنه يعلن أبوَّتَه الحانية لكنها عاجزة: "فإنه وحيد لي". هذا وفي حديثه قدَّم عتابًا: "طلبت من تلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا" [40]. فمع الاسِترحام المملوء إيمانًا قدَّم شكوى عن عجز التلاميذ!

الآن ماذا فعل السيِّد المسيح؟

أولاً: عاتب الجماهير: "أيها الجيل غير المؤمن والمُلتوي، إلى متى أكون معكم واَحتملكم؟ [41]، فقد اِشتهى جيلاً مؤمنًا يحمل سلطانًا يُرعب الشيَّاطين!

ثانيًا: قدَّم للآب نداءً: "قدِم ابنك إلي هنا" [41]، فإنه يريد كل مؤمن أن يتطلع إلي النفوس المحطَّمة والأسيرة كأبناء له يقدِّمها للرب خلال الصلاة لتنعم بالخلاص.

ثالثًا: اِنتهَر الروح النجس، وشفَى الصبي، وسلَّمه إلى أبيه [42]، أيْ طرد العدو المغتصب من موقع اِحتلاله لكي يُرجع الصبي إلى والده. لا يكفي طرد العدو، إنما يلزم رد المُغتصب لصاحبه، بمعنى آخر غاية مسيحنا ليس تحريرنا من إبليس فحسب، وإنما ردِّنا إلى حضن أبينا لنوجد معه ننعم بأحضانه الإلهيَّة. هذه هي غاية صديقنا السماوي: ردَّنا إلى أبينا في كمال الحرِّيَّة الحقيقية!

8. التلاميذ وتسليم ابن الإنسان

للمرَّة الثانية يتحدَّث السيِّد المسيح مع تلاميذه عن صلبه، قائلاً: "إن ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس" [44]، بعد أن تحدَّث معه موسى وإيليَّا في ذات الموضوع. وبينما تعجَّبت الجموع من سلطان السيِّد وقوَّته، إذ خلَّص الصبي من الروح النجس، أراد ألاَّ ينسحب قلب التلاميذ إلي أمجاد زمنيَّة، بل إلى الصليب كإعلان لسلطانه في خلاص البشريَّة.

مع أن كلام السيِّد عن الصليب كان واضحًا لكنهم لم يفهموا القول، وبتدبيرٍ إلهيٍ أخفى عنهم سرْ الصليب حتى يتحقَّق.

9. التلاميذ والتواضع

لم يفهم التلاميذ حديث السيِّد الخاص بتسليمه للصلب كطريق لملكوته السماوي، إنما علي العكس بدأوا يفكِّرون من عسى أن يكون أعظم فيهم، فأخذ السيِّد المسيح ولدًا "وأقامه عنده، وقال لهم: من قَبِل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن قبِلني يقبَل الذي أرسلني، لأن الأصغر فيكم جميعًا هو يكون عظيمًا" [48].

كصديقٍ سماويٍ يملك لا خلال العظمة الزمنيَّة والاعتداد بالذات، إنما خلال الحب المملوء تواضعًا، لذلك أراد في تلاميذه أن يحملوا سِماته ليملُكوا معه بروح التواضع.

يحذِّرنا الأب أوغريس من الكبرياء، في حديثه عن "ضد أفكار الشهوات الثمانية"، قائلاً: [روح المجد الباطل أكثر الأفكار خبثًا، مستعد أن ينمو في نفوس الذين يمارسون الفضيلة. يقودهم إلى إظهار جهادهم علانيَّة ليجمع المديح من الناس، فيتخيَّلون في أنفسهم أنهم يُشفون الناس، ويُفزِعون الشيَّاطين، وأن جماهير الناس يزدحمون حولهم ليلمسوا ثيابهم... شيطان الكبرياء هو علَّة تحطيم النفس تمامًا.]

ويحثنا الأب دوروثيؤس على التواضع، قائلاً: [لنتَّضع نحن أيضًا إلى حين فنخلُص. فإن كنَّا لا نستطيع احتمال متاعب كثيرة لأننا ضعفاء، فلنتَّضع. فإنني بيقين أؤمن أن العمل القليل الذي يُمارس بتواضع يجعلنا برحمة الله نوجد في ذات الموضع الذي ناله القدِّيسون بتعبٍ عظيمٍ كخدامٍ حقيقيِّين لله. نعم! إننا ضعفاء وعاجزين عن ممارسة أعمال كثيرة، لكن ألا نستطيع أن نتَّضع ؟ حقًا يا اخوة طوبى للإنسان الذي له تواضع حق.] (راجع أقوال الآباء أيضًا في تفسير (مت 18: 1، مر 9: 35).

10. التلاميذ وخِدمة الآخرين

"فأجاب يوحنا وقال:

يا معلِّم رأينا واحدًا يُخرج الشيَّاطين باسمك،

فمنعناه لأنه ليس يتبع معنا.

فقال له يسوع: لا تمنعوه،

لأن من ليس علينا فهو معنا" [49-50].

كما قلنا في تفسير مر 9: 38، أن الإنجيلي يوحنا لم يمنعه عن غيرةٍ منه أو حسدٍ له لكنه ِاِشتاق أن يكون معهم في تبعيَّتهم للسيِّد المسيح. وواضح من إجابة السيِّد المسيح أن هذا الرجل لم يكن ضدًا للمسيح بفمه ولا بقلبه، ولا قام بالعمل بفكر فردي اِنعزالي، إنما ربَّما ظروفه لم تسمح له بالتبعيَّة مع التلاميذ بشكل منظور، إنما كان واحدًا معهم في الإيمان. علي أيْ الأحوال فإن صديقنا السماوي بكلماته هذه يقدِّم لنا مفهومًا جديدًا للجماعة المقدَّسة، إنها ليست لقاءً جسديًا مجرَّدًا، لكنها وِحدة حياة وإيمان. أراد السيِّد في تلاميذه أن يكونوا أصحاب قلب متَّسِع بالحب يشتاقون أن يمارس الكل موهبته ليعمل الجميع لحساب ملكوت الله دون تعصُّب، لكن في وحدة إيمان ووحدة فكر روحي مستقيم.

11. التلاميذ والنار من السماء

"وحين تمَّت الأيام لارتفاعه ثبَّت وجهُه لينطلق إلي أورشليم.

وأرسل أمام وجهُه رُسلاً،

فذهبوا ودخلوا قرية للسامريِّين حتى يعدُّوا له.

فلم يقبلوه لأن وجهُه كان متَّجهًا نحو أورشليم.

فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا:

يارب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليَّا أيضًا؟

فالتفت وانتهرهما، وقال: لستما تعلمان من أيِّ روح أنتما.

لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلك أنفس الناس بل ليُخلِّص،

فمضوا إلي قرية أخرى" [51-56].

أولاً: يقول الإنجيلي "حين تمَّت الأيَّام لارتفاعه" [51]، مستخدمًا ذات التعبير "ارتفاعه" الذي استخدم عند ارتفاع إيليََّا (2 مل 2: 9-11)، وفي تمجيد العبد المتألِّم (إش 42: 1) وعند صعود السيِّد المسيح (أع 11: 1-2)... وكأنه إذ قرُبت أيَّام السيِّد المسيح ليتمجَّد بدخوله إلي الآلام كعبدٍ ليعبُر إلي أمجاده صاعدًا إلي السماوات ثبَّت وجهُه منطلقًا نحو أورشليم، مركز المحاكمة وتدبير صلبه! فقد جاء لأجل هذه الساعة لكي يتألَّم عنَّا فيمجدنا معه وبه وفيه.

ذهب إلى أورشليم منطلقًا، كأنه يود أن يُسرع بالأحداث التي ترقَّبتْها كل الأجيال بكونها عمل الله الخلاصي، به يتمجَّد المؤمنون.

ثانيًا: رفضته قرية للسامريِّين، والسامريُّون كما نعلم هم غرباء نازحون من بابل ليقطُنوا عِوض المسبيِّين من إسرائيل سنة 721 ق.م، فجاءت عبادتهم خليطًا بين اليهوديَّة والوثنيَّة، لا يقبلون من العهد القديم سوى أسفار موسى؛ وكان اليهود لا يطيقون السامريِّين، وأيضًا السامريُّون لا يطيقون اليهود.

رفضت القرية أن تقبل المخلِّص، فاستأذن يعقوب ويوحنا السيِّد المسيح أن يطلبا كإيليَّا نارًا من السماء (2 مل 1: 10-11) فتفنيهم. ولعلَّه بسبب هذا الروح المتَّقد دعاهما السيِّد "بُوَانرْجس" أي اِبنيْ الرَعد

(مر 3: 17). لكن الرب رفض موبِّخًا إيَّاهما، فإنه ما جاء ليَدين بل ليُخلِّص. إنه طويل الأناة، ينتظر توبة الجميع، وبالفعل قَبلت السامرَّة الإيمان فيما بعد (أع 8: 5-25).

لم يأت السيِّد المسيح ليصطاد النفوس للإيمان قهرًا، إنما بالحب وطول الأناة، لأن من يقبل الإيمان عن خوف سرعان ما يتركه، أما من يقبله خلال الحب فيثبت فيه. يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [يليق بنا أن نستخدم اللطف في اِستئصال المرض، فإن من يُصلح حاله خلال الخوف من آخر، يعود بسرعة فيسقط في الشرّ.]

لقد طلب التلميذان أن تنزل نارًا من السماء للإفناء، لكن الرب يقدِّم نفسه صديقًا سماويًا كندى يطفئ لهيب الشهوات، وإن أرسل نارًا فهو يقدِّم روحه القدُّوس الناري يلهِب القلب حبًا لا اِنتقامًا!

12. شروط التلمذة للسيِّد

إن كان صديقنا السماوي يفتح ذراعيه بالحب مشتاقًا أن يضُم الكل إليه لينعموا بشركة أمجاده، فإنه لا يرسل نارًا تُفني رافضيه. وفي نفس الوقت لا يَصلح الكل للتلمذة له، بل من يتجاوب معه ليحمل فِكرِه وسِماته. وقد قدَّم لنا الإنجيلي لوقا ثلاثة أمثلة لأُناس اِلتقوا معه بقصد التلمذة له. في دراستنا لإنجيل متَّى (8: 19) أوردت تعليقات بعض الآباء في أمر الشخصين الأوَّلين: الكاتب الذي طلب أن يتبع المسيح لكن بنِيَّة غير صادقة، فأجابه السيد: "للثعالب أوجِرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه"، وكأن ابن الإنسان لم يجد له موضعًا فيه، أما الثاني فهو إنسان حسن النِيَّة مشتاق للتلمذة، لكن عاقه واجب عائلي ضرورى في نظر الناس، ألا وهو الاهتمام بوالده حتى يدفنه. على أي الأحوال أضاف الإنجيلي لوقا شخصًا ثالثًا اِشتاق أن يتتلمذ للرب ويتبعه، لكن ليس في جِدِّيَّة كاملة أو نضوج صادق، فأراد أولاً أن يودِّع الذين في بيته. فكانت إجابة السيِّد له: "ليس أحد يضع يدَه علي المِحراث وينظر إلي الوراء يصلح لملكوت الله" [62].

ويلاحظ في هذه الأمثلة الثلاثة الآتي:

أولاً: صديقنا السماوي يعرف القلب الداخلي، فالأول والثالث طلبا التلمذة، ففضح قلبيهما الأول غير نقي في أعماقه وأهدافه، والثالث متواكل غير جاد، أما الثاني فلم يطلب بشفتيْه لكن الرب سمع طلبه ودعاه للتلمذة وإذ حدَّثه في صراحة أنه يوَدْ أن يَدفن والده أولاً، رفعه فوق الواجبات الزمنيَّة من أجل العمل الكرازي الخالد. الأول والثالث حُسبا أنهما غيوران ويصلُحان للعمل، والثاني في تواضع لم يطلب لكن الرب دعاه. بمعنى آخر ليتنا نطلب التلمذة لله لا بشفاهنا بل بنقاوة قلبنا ولهيبِهِ الداخلي، فيدعونا الرب نفسه ويضمِّد جراحات ضعفنا مهيِّئًا حياتنا للشهادة له.

ثانيًا: يُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على الرجل الأول، قائلاً: [إذ أراد هذا الإنسان أن يتبع المسيح تأكَّد السيِّد أنه كان يطلب ما لنفسه لا ما هو ليسوع المسيح (في 2: 21)، إذ يقول: "ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات" (مت 7: 21). هكذا كان هذا الإنسان لا يعرف نفسه كما كان الطبيب يعرفه. فلو أنه رأى نفسه وأدرك أنه مملوء رياءً ومكرًا لعرف مع من كان يتكلَّم. لذلك قال له: "للثعالب أوْجِِرَة، ولطيور السماء أوْكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه" [58]، بمعنى أنه ليس له موضع في إيمانك. ففى قلبك تجد الثعالب لها أوْجِرة. إذ أنت مملوء مكرًا. وفي قلبك تجد طيور السماء أوكارًا لأنها مرتفعة ومتشامخة. أنت مملوء مكرًا وكبرياء فلا تتبعني، إذ كيف يمكن للماكر أن يتبع البساطة؟]

يمكننا أيضًا أن نقول بأن هذا الإنسان كان مرتبطًا بمحبَّة العالم، وقد طلب التلمذة للسيِّد، لا لأجل السيِّد نفسه، لكن بِغْية كرامة أرضيَّة أو نفع مؤقَّت، لهذا أعلن له السيِّد عن طبيعة المُعلِّم، فإن الثعالب التي تعيش في البرِّيَّة لها أوْجِرة ترتبط بها، وفيها تستريح، والطيور التي تهيم في الجو لها أوْكار تعود إليها من حين إلي آخر، أما ابن الإنسان فسماوي ليس له في الزمنيَّات راحة، ولا في الأرض موضع استقرار. لذلك فأنت لا تصلح بعد للتلمذة له إلا إن تحرَّر قلبك عن الأرض تمامًا، وانطلقت نفسك مرتفعة نحو السماويَّات. صديقنا سماوي يوََد في تلاميذه أن يحملوا سِِمة الفكر السماوي والحياة العُلويَّة الفائقة.

ثالثًا: يقدِّم لنا القدِّيس أمبروسيوس تفسيرًا مقاربًا لتفسير القدِّيس أغسطينوس بخصوص الإنسان الأول، إذ يقول:

[بالرغم من طاعته وخدمته المستمرَّة، لكنه لم ينل رِضى الرب، فإن الرب لا تهمُّه الخدمة الظاهرة بل نقاوة القلب، لذا سبق فقال: "من يقبل هذا الولد باِسمي"، معلِّمًا إيَّانا ألا تكون البساطة مغرضة، ولا المحبَّة حاسدة، وأن يكون البذل بلا غضبٍ، مشيرًا للبالغين أن يكون لهم قلب الأطفال... يليق بك أن تنعم بالبساطة الحقيقيَّة، أي تقتني هذه الطبيعة بالجهاد. لهذا قال الرب: "من قبِلَ هذا الولد باسمي فقد قبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني". حقًا إن من يقبل من يتمثِّل بالمسيح يقبل المسيح، ومن يقبل صورة الله يقبل الله، لكننا إذ لم نستطع أن نرى صورة الله حلّ الكلمة بيننا بالتجسُّد ليقرِّب اللاهوت إلينا مع أنه أعلى منَّا...

"للثعالب أوْجِرة"؛ فالشيطان كالثعلب مخادع، ينصب الفخاخ ويحيا بالمكر... يبحث عن فريسة داخل مسكن الإنسان نفسه.

ويقارن الرب الهراطقة أيضًا بالثعالب، لذا يعزلهم عن حصاده: "خذوا لنا الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم" (نش 2: 15)، الذين يستطيعون إفساد الكرم الصغير لا الكبير...

كثيرًا ما تشير طيور السماء للأرواح الشرِّيرة التي تبني أوْكارها في القلوب الشرِّيرة، فلا يجد ابن الله وسط هذه القلوب كلها أين يسند رأسه.

المكر لا يترك مكانًا للبساطة، ولا موضعًا للإلهيَّات في هذه القلوب... أما إذا رأى الرب طهارة قلب فيسند فيه عمل عظمته، أي الهبة العظيمة الفائقة التي تنسكب في قلوب الصالحين.]

رابعًا: يُعلِّق القدِّيس أغسطينوس عن الشخص الثاني الذي لم يطلب التلمذة بشفتيه كالأول، إنما تحدَّث بنقاوة قلبه، فكان مستعدًا للتلمذة، لكنه خلال اِلتزام عائلي تجاه والده طلب التأجيل، إذ يقول: [إيمان قلبه أعلن عن نفسه أمام الرب، لكن عاطفته واِلتزامه (الأُسَري) جعله يؤجِّل، غير أن المسيح الرب إذ كان يهيئ البشر للإنجيل لم يرد أن يُوجد عذر بسبب عاطفة جسديَّة مؤقَّتة. حقًا إن الشريعة الإلهيَّة قد قرَّرت هذه الالتزامات، والرب نفسه وبَّخ اليهود لأنهم حطَّموا هذه الوصيَّة الإلهيَّة (مت 15: 4-5). ويقول الرسول بولس في رسالته: "التي هي أول وصيَّة بوعد"... ما هي؟ "اِكرم أباك وأُمّك" (أف 6: 2). إذن هذا الشاب اِشتاق أن يطيع الله ويدفن أباه... حقًا يجب إكرام الأب، لكن يجب أن يطاع الله أولاً. يلزم محبَّة من ولدنا، لكنه لا يُفضل عمَّن خلقنا. كأنه يقول له: دعوتك لإنجيلي؛ أنا محتاج إليك للقيام بعملٍ آخر أعظم من العمل الذي توَد أنت أن تقوم به... دع الموتى يدفنون موتاهم.]

إن كان عيب الأول أنه في حماس بشري قال "اَتبعك أينما تمضي" بينما كان قلبه مرتبطًا بالعالم، فالثاني عيبه قوله "أمضي أولاً وأدفن أبي". فجعل دفن أبيه "أولاً"، بينما يلزم أن يكون الله أولاً. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [جاء في سفر نشيد الأناشيد درس لنا، إذ تقول الكنيسة: "دبَّر الحب لي" (الترجمة السبعينيَّة)، أي ليكن الحب في تدبيره المناسب، يُقدِّم للكل كما يليق به، فلا تضع الحب الذي يجب تقديمه أولاً في المؤخِّرة... حب والديك لكن لتُفضِّل الله عنهما. لاحظ والدة المكابيِّين، وهي تقول: "يا أولادي أنا لا أعرف كيف ظهرتم في رحمي" (2 مك 7: 22). هكذا أوصتهم، فتبعوا وصيَّتها.]

يقول القدِّيس أمبروسيوس: [لكن كيف يُمنع هذا الإنسان من دفن أبيه مع أن هذا العمل من أعمال التقوَى؟ يعلِّمنا الرب أن يكون هو في المقدِّمة ويأتي بعده الإنسان. هذا العمل حسن لكنه غير لائق، لئلاَّ إذ يقسِّم (التلميذ) اِهتمامه تفتر محبَّته (للكرازة) ويتأخَّر نُموُّه. يليق بنا أن نذهب أولاً لعمل الكرازة حتى لا تُعاق... لذلك عندما أرسل الرب التلاميذ أمَرَهم ألا يُسلِّموا على أحد في الطريق، ليس لأن المحبَّة تُضايقه، وإنما لأن الاهتمام بنُموُّ الخدمة يُرضيه بالأكثر.]

يكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه فيقول: [لكن كيف يمكن لأن يدفن الموتى موتاهم؟ هنا يشير إلى موت مزدوج موت الجسد وموت الخطيَّة، بل ويوجد موت ثالث به نموت عن الخطيَّة ونحيا لله، كما فعل المسيح الذي مات عن الخطيَّة: "لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطيَّة مرَّة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله" (رو 6: 10). يوجد موت يفصل الجسد عن الروح، هذا الموت يجب ألا نخشاه ولا نهابه، لأنه بداية الانطلاق وليس عقوبة، الأقوياء لا يرتعبون منه، والحكماء يشتهونه، والتعساء يتمنُّونه إذ قيل "يطلب الناس الموت ولا يجدونه" (رؤ 9: 6). ويوجد موت آخر يضع نهاية لملذَّات العالم حيث لا يموت الجسد بل تموت الخطيَّة، هذا الموت نمارسه عندما نُدفن مع المسيح ونموت معه في المعموديَّة (رو 6: 4؛ كو 2: 22)، نموت عن أمور هذا العالم، وننسَى حياتنا الأولى، هذا الموت أراده بلعام لكي يحيا لله، عندما تنبَّأ: "لتمُت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخِرتهم" (عد 23: 1). والموت الثالث يحمله المسيح (بالصليب) لحياتنا، فنحن نعرف أنه هو الحياة الأبديَّة (يو 17: 3)، يراه الأبرار الآن كما في لغز،ٍ لكنهم يرونه أخيرًا وجهًا لوجه لأن: "نفس أنوفنا مسيح الرب أُخذ في حفرهم الذي قلنا عنه في ظلِّه نعيش بين الأمم" (مر 4: 20)، وكان رجاء داود يكمن تحت ظل جناحيْه (مز 56: 2)، واِشتهت الكنيسة ظلُّه لتجلس تحته (نش 2: 3). إن كان ظلَّك يا ربِّي يسوع له نفع كهذا فكم تكون حقيقتك؟... "حياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا في المجد" (كو 3: 3-4). عجيبة هي هذه الحياة التي لا تعرف الموت!... لا يمنع الرب أن نبكي ونَدفن موتانا، لكنه يضع التقوَى الدينيَّة في المرتبة الأولى ثم تليها الرباطات العائليَّة. ليُترك ال

http://demiana2010.com

11تفسير انجيل لوقا‏ Empty رد: تفسير انجيل لوقا‏ السبت 2 يناير 2010 - 16:49

admin

admin
Admin
Admin

ليُترك الموتى (روحيًا) أن يدفنوا موتاهم أما المُختارون فليتبعوه.]

خامسًا: أما بالنسبة للشخص الثالث فكان إنسانًا غير جادٍ في التبعيَّة للسيِّد، ذا قلب منقسم، يريد أن يتبع المسيح وفي نفس الوقت يحِنّْ للعالم. مثل هذا يبدأ ولا يكمل، لهذا قيل له: "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" [62].

الله يريد القلب كله له، ويبقى له دون اِرتداد للوراء، حتى لا يصير عمود ملح كامرأة لوط التي خلصت بخروجها من سدوم مع لوط وبنتيها، لكنها لم تكمل الطريق بل اِرتدَّت بقلبها فهلكت. من أجل هذا جاءت الوصايا تشدِّد لا أن نبدأ فقط، وإنما أن نكمل صابرين حتى النهاية لكي نخلص، فمن كلمات ربَّنا يسوع: "الذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا، والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه" (مت 24: 17-18). هكذا من اِرتفع بالرب إلى السطح يعاين الأسرار السماويَّة، فلا ينزل إلى أسفل حيث الزمنيَّات، ومن انطلق إلى حقل الكرازة فلا يرجع عن الخدمة.

كتب القدِّيس جيروم إلى باولا Paula سائلاً إيَّاها ألا تُفرِط في الحزن بسبب وفاة بلاسيلا Blaesilla، يقول: [بالتأكيد، الآن إذ نؤمن بالمسيح ونحمله في داخلنا، فبسبب زيت مسحته التي قبلناها (1 يو 2: 27) يليق بنا ألا نفارق هيكله - أي عملنا المسيحي - ولا نرتبك كالأمم غير المؤمنين، بل نبقى على الدوام في الداخل كخدَّام مطيعين لإرادة الرب.] وكأنه يطالبها إذ كرَّست حياتها لخدمة الله والعمل الإنجيلي التعبُّدي لا تتراجع خلال الحزن فتترك عملها بسبب وفاة أحد، بل تكمِّل طريق جهادها حتى النهاية.

يقول القدِّيس يوحنا كاسيان: [إنه الأمر شرِّير للغاية أنه بينما يجب عليك أن تحمل المبادئ الأوليَّة والبدايات لكي تنطلق متقدِّما نحو الكمال تبدأ تسقط مرتدًا لأمور أردأ. فالعبرة لا لمن يبدأ بهذه الأمور بل لمن يصبر إلى المنتهى فيُخلُص (مت 24: 13).] كما يحثُّنا على الجهاد الروحي بلا توقُّف ولا تراجع، قائلاً: [إن ثِمة اِتِّهامًا موجَّها بطريقة خفيَّة في سفر التثنية إلى الذين يقولون بأنهم نبذوا هذا العالم غير أنهم ينهزمون في عدم إيمان خشية ضياع ممتلكاتهم الأرضيَّة، إذ قيل: "من هو الرجل الخائف والضعيف القلب، ليذهب ويرجع إلى بيته لئلاَّ تذوب قلوب اخوته مثل قلبه" (تث 20: 8) أيِّ شهادة أكثر وضوحًا من هذه؟... أليس من الواضح أن الكتاب المقدَّس يؤْثِر ألاَّ يقدِموا على هذا العهد في أوائل مراحله أو يحملوا اسمه، لئلا يصيروا قدوة سيِّئة تجتذب الآخرين للاِنحراف عن كمال الإنجيل المقدَّس.]

http://demiana2010.com

12تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 10 السبت 2 يناير 2010 - 16:50

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 10

الآيات (1-11): راجع تفسير إنجيل متى (مت37:9-16:10)

في إنجيل متى نجد تعليمات السيد للإثني عشر قبل إرساليتهم وفي إنجيل لوقا هنا في هذه الآيات نجد تعليماته للسبعين رسولاً وهي متشابهة. والسيد المسيح أرسل الإثني عشر ليكرزوا في الجليل ثم أرسل السبعين ليكرزوا في اليهودية، وكان إرسال السبعين قبل صلب السيد بستة أشهر ولاحظ قوله أرسلهم.. إلى كل مدينة= في هذا رمز لأنه سيرسلهم بعد ذلك للعالم أجمع أي للأمم. والسيد إختار الإثني عشر بحسب عدد أسباط إسرائيل وإختار السبعين بحسب عدد شعوب العالم والتي ورد ذكرها في (تك10). وبهذا تشير الإرساليتين للكرازة وسط اليهود ووسط الأمم. إرسالية الإثني عشر تشير للكرازة وسط اليهود وإرسالية السبعين تشير للكرازة وسط الأمم.

ولاحظ قول الكتاب أرسلهم إلى.. حيث هو كان مزمعاً أن يأتي= وذلك ليعدوا الناس لسماع السيد وقبوله. والسيد كان بعد أن ترك الجليل نهائياً متجهاً لأورشليم، كان سيمر في بيرية، وسكانها أمميون وهذا يؤكد أن إرسالية السبعين تشير للكرازة وسط الأمم. ولذلك قال لهم السيد أقيموا في ذلك البيت آكلين وشاربين مما عندهم= فاليهودي يشعر أنه يتنجس من طعام الأمم ولكن السيد هنا يفتح أذهانهم أنه جاء للكل.

ويقال أن لوقا كان أحد السبعين رسولاً.

ولاحظ أن متى إذ يكتب لليهود لم يشر لإرسالية السبعين. أما لوقا الذي يكتب للأمم فأشار لهم.



آية (1): "وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعاً أن يأتي."

وبعد ذلك= بعد تركه الجليل نهائياً وبعد الأحداث في إصحاح (9). سبعين رسولاً آخرين= غير الإثني عشر السابق إرسالهم (لو1:9) وهؤلاء كانوا كأساقفة. اثنين اثنين= ليشددا بعضهم البعض (جا9:4،10+ مر7:6) وهؤلاء أقيم منهم كهنة وشمامسة لكن لم يكن لهم درجة الأسقفية.



آية (2): "فقال لهم أن الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده."

فأطلبوا من رب الحصاد= فإختيار الخدام يأتي بالصلاة أولاً.



آية (3): "اذهبوا ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب."

حملان بين ذئاب= هي نبوة مسبقة بالإضطهادات التي ستواجههم ولكن قوله ها أنا أرسلكم يجعله هو المسئول عنهم وهو الذي سيحميهم، ويحول لهم الذئاب لحملان.



آية (4): "لا تحملوا كيساً ولا مزوداً ولا أحذية ولا تسلموا على أحد في الطريق."

ولا تسلموا على أحد في الطريق= حتى لا يرتبك الكارز بالمجاملات الكثيرة بلا هدف روحي، ويحفظ قلبه وفكره منحصرين في الله، كثير من أولاد الله يسيرون في الشارع مرددين مزاميرهم أو صلاة يسوع "يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ". وقطعاً لا يمكننا أن نفهم هذا حرفياً وإلاّ تخاصمنا مع الناس، وإنعدم الود بيننا وبين الناس. ولكن المقصود هو عدم تضييع الوقت في المجاملات والأحاديث التافهة غير البناءة. الكيس= لحمل النقود. المزود= لحمل الطعام. المقصود أن الله هو الذي سيدبر كل إحتياجاتهم، فيعتمدوا عليه وليس على الماديات.



آية (6): "فإن كان هناك ابن السلام يحل سلامكم عليه وإلا فيرجع إليكم."

فإن كان هناك ابن السلام= فالرسول حين يلقي السلام فهو يعطي من عند الله سلاماً يملأ القلب فعلاً، ولكن الإنسان الشرير والمقاوم لا يقبل هذا السلام. وإذا لم يكن هناك من يقبل يعود هذا السلام وهذه البركة للرسول الذي قالها، ويمتلئ هو سلاماً.



الآيات (7،8): "وأقيموا في ذلك البيت آكلين وشاربين مما عندهم لأن الفاعل مستحق أجرته لا تنتقلوا من بيت إلى بيت. وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم."

في المسيحية لن نعود لنقول هناك طعام نجس وطعام طاهر. هنا المسيح يوسع أذهانهم ويشفيها من اليهودية الضيقة= كلوا مما يقدم لكم. وإكتفوا بما يقدم لكم. لا تنتقلوا من بيت إلى بيت= سعياً وراء طعام أفضل. والتركيز في الخدمة.



آية (9): "واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت الله."

اشفوا المرضى= المسيح عضد تلاميذه بالمعجزات لتأكيد بشارتهم.



الآيات (10،11): "وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا. حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب منكم ملكوت الله."

اخرجوا إلى شوارعها= إعلنوا لكل الناس. الغبار= لم نأخذ منكم شيئاً حتى الغبار نتركه لكم. لكن إعلموا أن ملكوت السموات إقترب منكم ورفضتموه.



الآيات (12-16): في إنجيل متى (20:11-24)



الآيات (17-20): "فرجع السبعون بفرح قائلين يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك. فقال لهم رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطاناً لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات."

فرح الرسل إذ رأوا الشيطان ينهار أمام الإنسان خلال كرازتهم بالملكوت، والسيد هنا يؤكد أن إنهيار الشيطان بالصليب. لكن ما يفرحنا ليس إنهيار الشيطان أو صنع المعجزات بل في أن نتمتع بالملكوت السماوي خلال الحياة الفاضلة التي ننالها بنعمة الله. بهذا تكتب أسماؤنا في ملكوت السموات، أما إخراج الشياطين فهي موهبة قد يعطيها الله لشخص أو لا يعطيها. بل أن هناك أشرار حصلوا على هذه الموهبة، ألم يتمتع يهوذا الإسخريوطي بهذه المواهب ثم هلك. ونلاحظ هنا أن السيد المسيح أشفق على تلاميذه ورسله أن فرحة النجاح بالخدمة تنسيهم الإهتمام بخلاص نفوسهم. فالفرح بالنجاح فيه شئ من عبادة النفس، لكن الفرح بالخلاص فيه عبادة لله والشكر له.

الدرس المستفاد هنا أن لا نفرح بالمواهب، بل بأن نتمتع بثمار الروح القدس فالموهبة لا تبرر صاحبها إن لم يتب ويحيا مع الله. رأيت الشيطان ساقطاً= لقد نال الشيطان سلطاناً على الإنسان خلال الإرتداد، هذا السلطان قد فقدُه بالصليب، ولكن يكون للشيطان سلطان على كل من يترك المسيح ويرتد للخطية، ثم يعود الشيطان ويفقد سلطانه على هذا الشخص إن رجع هذا الشخص بالتوبة إلى الله. وقول السيد رأيت= جاءت بصيغة الماضي لأن هذا سيتم حتماً. فسقوط الشيطان يعني سقوطه من مركز السيادة والقوة على الإنسان وهي رؤية تشمل ما بعد الصليب. البرق= فإبليس كان مخلوقاً نورانياً، أضاء لحظة من الزمان، وبخطيته فقد نوره وإستحال ظلاماً، فهو كان نوراً لفترة وجيزة ثم صار ظلاماً. والبرق لا ثبات له فهو ينير للحظة ثم يأتي ظلام وهكذا إبليس. أما المسيح فيقال عنه أنه في نوره كالشمس (رؤ16:1) أي نور ثابت، وهكذا الملائكة وهكذا نحن حين نكون في السماء (1يو2:3 + في21:3).

والكنيسة المقدسة أخذت هذه الآية ووضعتها في صلاة الشكر التي نصليها دائماً، فنحن نشكر الله الذي أعطانا السلطان أن ندوس كل قوة العدو. ولكن للأسف فهناك بعض المؤمنين ذوي الإيمان المهتز والضعيف، مازالوا يصدقون أن هناك حسد وأعمال.. الخ كيف والمسيح أعطى المؤمنين سلطان أن ندوس كل هذا؟!

الحيات= مكر وخداع وإنقضاض وسم مميت والعقارب= شر مستتر مع سرعة إختفاء.

الآيات (21-24): في كتاب إنجيل متى (مت25:11-30)

الآيات (23،24) في كتاب إنجيل متى (مت29:11،30 وما بعده)

تهلل= سمعنا عدة مرات أن يسوع بكى. وهنا نسمع للمرة الوحيدة أنه تهلل. فهو لهذا أتى ليخضع الشيطان تحت أقدام عبيده وهذا قد حدث. وقال أحمدك أيها الآب= هذا حديث داخل الذات الإلهية مثلما يتحاور الإنسان مع نفسه داخل عقله. تهلل بالروح= فهو ليس تهليل جسدي كما نتهلل بالملذات العالمية. بل هو تهليل روحي لخلاص البشر.



الآيات (25-29) (سؤال الناموسي)

الآيات (25-29): "وإذا ناموسي قام يجربه قائلاً يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية. فقال له ما هو مكتوب في الناموس كيف تقرأ. فأجاب وقال تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك وقريبك مثل نفسك. فقال له بالصواب أجبت إفعل هذا فتحيا. وأما هو فإذ أراد أن يبرر نفسه قال ليسوع ومن هو قريبي؟"

الناموسيون يتخصصون في ناموس موسى أي كتب موسى الخمسة، أمّا الكتبة فيهتمون بالكتاب كله. وهذا الناموسي في أدب مصطنع= قام ليس إحتراماً إنما بخبث لكي يجربه= فهو تصوًّر أن المسيح سيهاجم الناموس وبهذا يوقعه. ولاحظ أن هذا عمل الشياطين، فهم يجربون الإنسان ليوقعوه في فخ.

كيف تقرأ= لو كان هذا الناموسي يقرأ بروح الصلاة لطلب فهم كلمات الله، لكان الروح القدس قد أرشده لإحتياجه للمسيح الذي تنبأت عنه النبوات. لكن هذا الناموسي كان يقرأ ليزداد معرفة فينتفخ على الناس. ونحن كيف نقرأ؟ هل للمعلومات فقط، أم لمعرفة المسيح الذي يشفي طبيعتنا. إفعل هذا فتحيا= في سؤال مماثل، حينما سألوا المسيح "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله.. أجاب يسوع.. أن تؤمنوا بالذي أرسله (يو28:6،29) وبهذا نفهم أن المسيح لن يعلن وصايا جديدة، هو لم يأتي ليعلن وصايا جديدة، بل إذ رأى الإنسان عاجزاً عن تنفيذ وصايا الناموس أتى المسيح ليعطينا طبيعة جديدة بها نحفظ الناموس، ولكن هذا لمن يؤمن أولاً. وبدونه لا نقدر أن نفعل شئ (يو5:15+ رو3:8،4). وكأن قول المسيح للناموسي يعني.. إن كنت تستطيع بدوني أن تنفذ الناموس فنفذه، ولكنك لن تقدر أن تنفذه وحدك، وها أنت تحيا كناموسي ولكنك بسؤالك تكشف فشلك في أن تعرف طريق الحياة الأبدية الذي هو أنا. ولقد عبر التلاميذ صراحة عن صعوبة حفظ وصايا الناموس (أع10:15). والناموسي سأل سؤال آخر ليبرر نفسه= إذ أن إجابة المسيح أحرجته أمام الناس، إذا أظهرته أمامهم غير عارف بالناموس، فكيف وهو ناموسي معلم للناموس يسأل سؤالاً بسيطاً واضحاً كهذا، وهل هو لا يحفظ الوصايا. ولاحظ رقة المسيح في إجابته إذ يعرف أن هذا الناموسي يجربه، لكنه يشجعه قائلاً بالصواب أجبت لعله يجذبه للإيمان. تحب الرب إلهك من قلبك= القلب هو مركز الشعور والقرار والعواطف والكيان. لذلك حينما يطلب الله "يا ابني إعطنى قلبك" المقصود أن تكون لله بالكلية، لا ينقسم قلبك بين الله والعالم. ومن كل نفسك= النفس هي مركز العواطف (كالحزن والقلق والفرح..) والغرائز كالشهوات. والإنسان الجسداني يشتهي الجسدانيات أمّا الروحاني فهو يشتهي الحياة مع الله "إلى إسمك وإلى ذكرك شهوة النفس. بنفسي إشتهيتك في الليل" (إش8:26،9). وبولس الرسول يقول "لي إشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح". فالقلب الذي إتخذ قراراً بإختيار الله يفرح بالله ويتذوق الله، وهنا تبدأ النفس تشتهي لذة العشرة مع الله.

ومن كل قدرتك= القدرة هي الإرادة للعمل، فنحن نجد شهوات في النفس لتتلذذ بالله، ولكن قد يكون الجسد بلا همة، ومتكاسلاً عن الصلاة وعن حياة التسبيح. هنا المطلوب التغصب أي الجهاد لنتلذذ بالله ومن كل فكرك= يا ترى ماذا يشغل الفكر؟ هل نهتم بالماديات والغنى أو بهموم هذا العالم، أم نلهج في كلمات الله ومن يفعل يفرح بالله (مز111:119،148،97،103). وكانت هذه وصية الله لشعبه (تث6:6-9).

والسؤال هل كان شعب العهد القديم قادراً على هذا؟ بلاشك كان هناك إستثناءات مثل داود المملوء من الروح القدس. ولكن الشعب العادي ما كان قادراً على هذا الحب لله. فالمحبة هي ثمرة من ثمار الروح القدس (غل22:5) وهذه هي عطية العهد الجديد لكل مُعَمَّدْ ممسوح بالميرون. والروح هو الذي يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5). من هو قريبي= هو السؤال الذي يبرر به هذا الناموسي جهله بالناموس ولكن السيد إستغل السؤال بمثل السامري الصالح.



الآيات (30-37) (مثل السامري الصالح)

الآيات (30-37): "فأجاب يسوع وقال إنسان كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوص فعروه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حي وميت. فعرض أن كاهناً نزل في تلك الطريق فرآه وجاز مقابله. وكذلك لاوي أيضاً إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله. ولكن سامرياً مسافراً جاء إليه ولما رآه تحنن. فتقدم وضمد جراحاته وصب عليها زيتاً وخمراً واركبه على دابته وآتى به إلى فندق واعتنى به. وفي الغد لما مضى اخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق وقال له اعتن به ومهما أنفقت اكثر فعند رجوعي أوفيك. فأي هؤلاء الثلاثة ترى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص. فقال الذي صنع معه الرحمة فقال له يسوع اذهب أنت أيضاً واصنع هكذا"

المعنى الأساسي للمثل هو أن قريبي هو كل إنسان يحتاج لمعونة، حتى لو كانت هناك عداوة بيني وبينه. ولاحظ أن كل خدمة نقدمها هي محسوبة لنا، فالله لا ينسى من يقدم كأس ماء. ولاحظ أن ليس هناك ما يسمى الصدفة في أن يجد الكاهن واللاوي والسامري هذا الإنسان الجريح. فالصدف في حياتنا الأرضية إنما هي توفيقات السماء. وقد خسر الكاهن واللاوي هذه الفرصة التي من السماء ليقوما بهذه الخدمة، وكسبها هذا السامري الصالح. ولكن القصة لها معنى رمزي:

إنسان= هو رمز لآدم وللبشرية كلها.

نازلاً من أورشليم= بسبب الخطية نزل آدم من أورشليم أي الجنة أو الفردوس الذي أعده له الله، وأورشليم تعني سلام الله ورؤيته. هي مكان السلام مع الله والحياة مع الله.

إلى أريحا= ترمز لأرض الشقاء الذي نزل إليها آدم. فأريحا مدينة اللعنة (يش26:6) وترمز للأرض الملعونة بسبب الخطية (تك17:3). هي مكان يمثل العالم وشهواته.

لصوص= هم القوى العدوانية ضد الإنسان أي إبليس وجنوده وإغراءاته. وإبليس دائماً يترقب أي نفس تخرج خارجاً عن أسوار أورشليم (أي الكنيسة فيهاجمها إذ هي بلا حماية، إبليس لص يريد أن يسرق أولاد الله.

فعروه= نزع الفضائل عن الإنسان وفضحه. وجعله بلا طهارة ولا كرامة ولا حكمة. أي فقد صورته الإلهية.

جرحوه= هي أثار الخطايا المدمرة للإنسان روحياً ونفسياً وجسدياً.

الطريق من أورشليم إلى أريحا هو طريق مملوء بالصخور ويختبئ اللصوص فيه (18ميلاً) ويمر بصحراء، حتى أنه لقب بالطريق الدموي. وأريحا تقع في وادٍ لذلك فهي منخفضة عن أورشليم (بحوالي 1000متر). وكان يقيم فيها 12.000كاهن ولاوي من خدام الهيكل.

بين حي وميت= هو حي جسدياً ولكن لفترة قصيرة سيموت بعدها حتماً. وحتى في خلال هذه الفترة فهو ميت روحياً بسبب الخطية لإنفصاله عن الله. فكل من ينفصل عن الله يموت.

الكاهن واللاوي= الكاهن رمز للناموس واللاوي رمز للنبوات وكلاهما عجزاً أن يعطيا شفاء وحياة للبشرية، هما شخَّصا الداء فقط، لكن لا يمكنهما أن يضمدا جراحات البشرية، ولا يمكنهما أن يعطونا طبيعة جديدة، أو يعيدوننا للطبيعة الأصلية التي على صورة الله.

جازا مقابله= هما وقفا أمام الإنسان الجريح ولكنهما كانا عاجزين عن شفائه، والمعنى أنهما كانا مرحلة من المراحل التي جاز فيها الإنسان في إنتظار أن يأتي المسيح.. السامري الصالح.

سامرياً مسافراً= المسيح كان في الأرض لمدة مؤقتة، ولكنه من السماء وسيعود للسماء، فكأنه كان مسافراً غريباً. والإنسان الذي سقط وجُرِحَ كان أيضاً مسافراً من أورشليم. فأولاد الله أيضاً هم غرباء عن هذا العالم، وسيعودون لأورشليم السماوية. وكلمة سامري تعني حارس فهي رمز للمسيح الذي أشفق على البشرية.

الخمر والزيت= الخمر بما فيها من كحول تستخدم لقتل الميكروبات والزيت يعزل الجرح عن الجو الملوث، يعمل كفاصل ويلين الجروح. والخمر رمز للدم والزيت رمز للروح القدس. وعمل المعمودية هو قتل الخطية كما يقتل الخمر الميكروبات. والروح القدس في سر الميرون يعطي نعمة وقوة لنا حتى ننعزل عن هذا العالم فلا نهلك، ويكون هذا بأن يعطينا طبيعة جديدة رافضة للخطية، وتمنعنا من أن نخطئ بعد ذلك. إذاً هناك قتل للخطية وهذا إشارة لغفرانها، وهناك قوة تحفظنا من السقوط (رو14:6). والخمر مؤلم للجرح والزيت ملطف له. وهكذا الروح القدس يعالجنا ببعض من إحسانات الله وأيضاً ببعض التجارب.

أركبه على دابته= الدابة هي جسدنا، فالدابة تشير للشهوة الجسدية وحقيقة فإن المسيح بدمه أو خمره وبروحه أو زيته شفى طبيعتنا ولكننا مازلنا في الجسد نعاني من شهواته (غل17:5). لكن لنا سلطان عليها بنعمة المسيح.

فندق= هو الكنيسة التي تستقبل الناس وتشفيهم بالمسيح الذي فيها لذلك قال= وإعتني به.

ترك دينارين= رقم 2 يشير للتجسد فهو الذي جعل الاثنين واحداًَ والمسيح أعطانا جسده نتحد به، وهذا سر حياة الكنيسة. وترك لنا المسيح الكتاب المقدس بعهديه (2) نتغذى بهما، وبهما نتعرف عليه.

صاحب الفندق= هو إشارة للكهنوت وللخدام في كل كنيسة ووظيفتهم إستقبال المؤمنين فيها وأن يعطمونهم بكلمة الله ليشفوا.

فعند رجوعي= فالمسيح سيأتي ثانية في مجيئه الثاني.

أوفيك= على الخادم أن يعمل في خدمة أولاد الله والمسيح سيجازيه.

إذهب أنت أيضاً وإفعل هكذا= أي تشبه أيها الناموسي بهذا السامري في العمل بمقتضى شريعة الحب. ولكن لاحظ إجابة الناموسي فهو تحاشى أن يقول السامري بل قال الذي صنع معه الرحمة. فاليهود لا يحتملون التعايش مع السامريين وهم لم يحتملوا المسيح ورفضوه وقالوا عنه أنه سامري وهذه عند اليهود هي نوع من السباب (يو48:8). ولكن مثل السامري الصالح يشير لمحبة الناس جميعاً بدون تمييز، لكن هذا الناموسي لم يفهمه.



الآيات (38-42) (مريم ومرثا)

الآيات (38-42): "وفيما هم سائرون دخل قرية فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها. وكانت لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه. وأما مرثا فكانت مرتبكة في خدمة كثيرة فوقفت وقالت يا رب أما تبالي بأن أختي قد تركتني اخدم وحدي فقل لها أن تعينني. فأجاب يسوع وقال لها مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحد فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها"

في الآيات السابقة شبَّه المسيح نفسه بالسامري المرفوض. وهنا صورة عكسية= فقبلته امرأة فمريم جلست عند قدميه، ومرثا خدمته. فهناك من يرفضونه. لكن هناك من يحبونه.

مثل السامري الصالح يشير للخدمة والعطاء في محبة، وقصة مريم التي جلست عند قدمي المسيح تكمل الصورة، فنحن لن نستطيع أن نخدم في محبة متشبهين بالسامري الصالح ما لم تكن لنا هذه الجلسة الهادئة والخلوة اليومية مع المسيح، نشبع به ونتشبه به فنستطيع أن نقوم بخدمتنا كسامريين صالحين نشبه مسيحنا السامري الصالح.

المسيح في إجابته على مرثا المرتبكة لم يقل لها "إمتنعي عن العمل" وإلاّ لما الناس جوعاً، وهلك المخدومين من عدم الخدمة، لكن المسيح يشرح لها أننا نحتاج بالدرجة الأولى إلى الجلوس عند قدميه نشبع به ونعرفه فنمتلئ سلامً ويزول إرتباكنا فالواحد الذي نحتاجه هو المسيح، أمّا باقي الأشياء فهي فانية وسوف تنتهي بإنتهاء الجسد (الأكل والشرب..) فعلينا أن لا نرتبك بسببها كما إرتبكت مرثا، ونسيت أن تجلس عند قدمي المسيح. للأسف هذا حال الكثيرين في هذه الأيام، فهم مرتبكين بأمور هذه الحياة، لا يذهبون لكنيسة إلاّ فيما ندر، لا وقت لديهم للصلاة ولا للكتاب المقدس. بل هذا حال كثير من الخدام، كل وقتهم في الخدمة، دون خلوة فردية يشبعون بها من المسيح، ولكن بهذا تتحول الخدمة إلى اجتماعيات.

والمسيح لم يَلُمْ مرثا على خدمتها بل لإرتباكها في أمور كثيرة تاركة كلمة الحياة الأبدية، إذاً هو ينبه على أهمية الشعور بالحاجة لكلمة الحياة الأبدية= الحاجة إلى واحد أي إلى شخص المسيح ومعرفته، وليس الاهتمام الزائد بالجسديات وفي نفس الوقت فعلي الخادم أن يعرف أنه لا يكفي أن يجلس يتأمل ويدرس ويصلي، ويهمل خدمته. ما يريده المسيح هو التعقل. لا نترك هذا ولا نهمل ذاك. المسيح يريدنا أن تكون لنا خلوتنا ولكن ليس على حساب الخدمة، ويكون لنا خدمتنا ولكن ليس على حساب خلوتنا. أي المطلوب التوازن.

في آية (38): سائرون= ذاهبون إلى أورشليم. قرية= هي بيت عنيا وهي بالقرب من أروشليم. في بيتها= هي بيت لعازر ومريم ومرثا.

وفي آية (42): لن ينزع منها= فمحبة المسيح تدوم وتثبت في قلب الإنسان، هنا على الأرض وهناك في السماء. أما الأطعمة أو الجسدانيات أو الماديات عموماً فهي إلى زوال، إما نتركها ونمضي بالموت أو تزول هي عنا.

http://demiana2010.com

13تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 11 السبت 2 يناير 2010 - 16:51

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 11

الآيات (1-4): في كتاب إنجيل متى (مت9:6-15)

في آية (1): إذ كان يصلي= المسيح كإنسان كامل كان يحتاج للصلاة. وكنائب عن البشرية يرفع صلاة عنا. وليقدم لنا نموذجاً. والتلاميذ حينما رأوه يصلي بحرارة إشتهوا أن يصلوا مثله، فسألوه أن يعلمهم الصلاة.



الآيات (5-8): "ثم قال لهم من منكم يكون له صديق ويمضي إليه نصف الليل ويقول له يا صديق أقرضني ثلاثة أرغفة. لأن صديقاً لي جاءني من سفر وليس لي ما اقدم له. فيجيب ذلك من داخل ويقول لا تزعجني الباب مغلق الآن وأولادي معي في الفراش لا اقدر أن أقوم وأعطيك. أقول لكم وأن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه فانه من اجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج."

في الآيات السابقة قدم السيد نفسه نموذجاً حياً للصلاة مما دفع تلاميذه أن يسألوه علمنا أن نصلي. فعلمهم الصلاة الربانية ثم ها هو هنا يعلمهم اللجاجة. ليس لأنه يستجيب لكثرة الكلام وإنما حين نطيل صلواتنا، فنحن نطيل فترة صلتنا بالله، وندخل معه في صلة حقيقية، ومع الوقت تتحول الصلاة إلى عبادة ملتهبة بالروح، فيها لا نكف عن الصلاة، بل نظل في صلة مع الله حتى ونحن في أعمالنا، وفي الشارع وفي كل مكان. صلوا بلا إنقطاع (1تس17:5). والصلاة بلجاجة تحمل معنى الإيمان والثقة في إستجابة الله، أمّا ترك الصلاة بيأس فيحمل معنى عدم الثقة في الله وهذا ممّا يحزن الله. ونلاحظ في مثل السيد المسيح أن هذا الإنسان حقق غرضه من إنسان مثله تتنازعه عوامل الأثرة والكسل، أفلا نستطيع أن نحقق أغراضنا من الله كلي المحبة والقدرة بلجاجتنا مثل هذا الإنسان، بصلاتنا نحن أيضاً بلجاجة. ولكننا يجب أن نعلم أن الله كثيراً ما يؤجل الإستجابة بسبب عدم إستعدادنا لقبول البركة. ولنعلم أن الصلاة بلجاجة وإيمان تعطينا هذا الإستعداد، بل تغير طبيعتنا تماماً.

مثال: رسام يقوم برسم صورة لأحد الأشخاص على لوحة. فإذا جلس الشخص أمام الرسام لحظات ثم قام، ليأتي بعد أيام ويجلس لحظات ويقوم، لن يستطيع هذا الرسام رسم اللوحة. ولكن على الشخص أن يطيل وقفته أمام الرسام حتى ترسم الصورة. والرسام هو الروح القدس، وهو يرسم فينا صورة المسيح، ولكنه يحتاج لوقت نقف فيه أمام الله، ليتمكن من رسم هذه الصورة فينا (غل19:4) إذاً لنقف أمام الله في مثابرة حتى تتغير طبيعتنا.

والمسيح هنا يقدم نفسه كصديق= من منكم يكون له صديق= وهذا يشرح لنا أن طلبتنا منه يجب أن تكون بدالة فهو صديق. بل الله هو أب نصرخ له قائلين يا أبانا.. فما مقدار الدالة والثقة التي يجب أن نصلي بها. وهناك شرك آخر هو الإحساس بالعوز، وهذا ما تعبر عنه اللجاجة. ونلاحظ في المثل أن الطالب يطلب لأجل آخر جاء ليزوره، وهذا يعلمنا أن نصلي لأجل الآخرين.. هذه هي المحبة في المسيحية.

ولاحظ أن المسيح يصعب الأمر (نصف الليل والصديق نائم/ لا تزعجني/ الباب مغلق الآن/ أولادي في الفراش/ لا أقدر) ليشرح أنه في بعض الأحيان تتأخر الإستجابة، وحتى نزيد من لجاجتنا في الصلاة، ويرتفع مستوى الصلاة وحرارة اللجاجة إلى المستوى الذي يساوي إستجابة الصلاة.

نصف الليل= نصف الليل إعلان عن وقت الضيقة، ولمن نذهب في ضيقتنا؟ لو ذهبنا لصديق بشري في منتصف الليل لكان هذا إزعاجاً ولكن أبونا السماوي لا ينعس ولا ينام، ويقول "إدعني وقت الضيق" وداود كان يسبحه في نصف الليل (مز62:119). ونصف الليل أيضاً تعبير عن حالة كسل وفتور أو خطية وإبتعاد، فالليل يشير لكل هذا. ولكن من يدرك وضعه هذا، عليه أن يلجأ لله صارخاً شاعراً بالعوز والإحتياج، ولكن مصلياً برجاء ودالة، بثقة وإصرار ومن المؤكد فالله سيستجيب. قد يتأخر الله، حتى نشعر بعظم العطية التي سنأخذها لكنه سيستجيب. ثلاث خبزات= [1] فالله يشبعنا نفساً وجسداً وروحاً. [2] رقم 3 إشارة للثالوث فنحن نشبع بمعرفتنا وعلاقتنا بالثالوث. فالروح يثبتنا في الابن، والإبن يحملنا لأحضان الآب. [3] الخبز يشير لجسد المسيح، ورقم 3 يشير للقيامة، فنحن نشبع بجسد المسيح القائم من الأموات.

يأتي بعد هذا المثل إسألوا تعطوا والمقصود إسألوا بلجاجة وثقة.

الآيات (9-13): في كتاب إنجيل متى (مت7:7-12)

الآيات (14-23): في كتاب إنجيل متى (مت22:12-37)

الآيات (24-26): في كتاب إنجيل متى (مت43:12-45)

الآيات (27،28): في كتاب إنجيل متى (مت43:12-45وما بعده)

الآيات (29-32): في كتاب إنجيل متى (مت38:12-42)

الآيات (33-36): راجع هذا الكتاب (مر21:4-25)

وراجع كتاب إنجيل متى (22:6،23)



الآيات (33-36): "ليس أحد يوقد سراجاً ويضعه في خفية ولا تحت المكيال بل على المنارة لكي ينظر الداخلون النور. سراج الجسد هو العين فمتى كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً ومتى كانت عينك شريرة فجسدك يكون مظلماً. انظر إذاً لئلا يكون النور الذي فيك ظلمة. فان كان جسدك كله نيراً ليس فيه جزء مظلم يكون نيراً كله كما حينما يضيء لك السراج بلمعانه."

مثل السراج جاء من قبل في (لو16:8) في حديث السيد المسيح عن أمثال ملكوت الله، فلماذا يكرر هنا ثانية؟ لاحظ أنه يأتي مباشرة بعد طلب اليهود (الجيل الشرير) آية. والسيد وصفهم بالجيل الشرير بسبب مقاومتهم. وما سر مقاومتهم والمسيح نوراً ظاهراً أمامهم؟ أن عينهم ليست بسيطة. فالعين البسيطة هي التي لها هدف واحد هو أن تعرف الرب وتعاين الرب، وتطلب مجد الرب. فملكة التيمن كان لها هدف واحد، هو أن ترى مجد سليمان وحكمته فرأت، وأهل نينوى كان هدفهم إرضاء الله فقبلت توبتهم. أمّا هؤلاء اليهود فلا يطلبون معرفة المسيح ولا يطلبون مجد الله، بل هم يطلبون مجد أنفسهم (يو44:5). فعيونهم ليست بسيطة ومن عينه بسيطة يستريح المسيح فيه ويظهر له ذاته فيكون جسده نيراً. من يفتح أعين قلبه للنور السماوي يخلص كما فعل أهل نينوى وملكة التيمن وعين القلب تظلم بعدم الإيمان والخطية. أي لو إمتلأ قلب الإنسان بالبغضة وحب الذات والكبرياء والحقد والحسد فإنه يُحرم من سكنى المسيح، النور الحقيقي في داخله، فيصير النور الذي فيه ظلاماً، ومع هذا يُمسى الإنسان حكيماً في عيني نفسه وهو لا يدري أنه في ظلمة. ليس أحد يوقد سراجاً ويضعه في خفية= هذا إشارة لأن تعاليم المسيح وأعماله وآياته كانت أمام الجميع، فماذا يطلبون آية؟ السبب أنهم صاروا ظلمة ولا يفهمون بينما هم يدَّعون الفهم والحكمة. يقصد المسيح أن الجهالة بالنور لا تكون بسبب المصباح بل بسبب العين العمياء. فملكة التيمن جاءت تتلمس حكمة سليمان وهؤلاء العميان لا يدركون أن أمامهم أقنوم الحكمة. من يريد بإخلاص أن يعرف سيعطيه المسيح أن يعرف. فالمجوس وجدوا المسيح، أما هيرودس والكهنة فلم يجدوه لسبب حسدهم له. وحسدهم أعمى عيونهم فلم يروا النور.

بل على المنارة= المنارة عالية وإذا وضع فوقها النور سيراه كل أحد والمسيح السماوي نوره يشع في كل مكان ولكل أحد لكنهم هم عميان. والمسيح سيعطي تلاميذه أيضاً أن يكونوا نوراً للعالم.

(آية36): فإن كان جسدك كله نيراً ليس فيه جزء مظلم= هذه تعني إن كان داخلك نيراً، مستنيراً بنور المسيح، وأنت لا تترك مجالاً لنفسك للسقوط في الخطية. يكون نيراً كله= حينئذ يشع نورك للخارج، سيكون نورك ظاهراً للجميع كما من مصباح= كما حينما يضئ لك السراج بلمعانه.

سراج الجسد هو العين= أي ما يجعل جسدك منيراً كسراج أو مظلماً هو عينك أي.. ماذا تريد، ما هو هدفك؟ هل هو المسيح أم العالم. أنظر لئلا يكون النور الذي فيك ظلمة= أي حاذر من أن تكون إرادتك التي جعلها الله في سلطانك، إذ خلقك حراً، مظلمة حين تختار العالم، أو كما حدث مع الكهنة وهيرودس.



الآيات (37-54) راجع تفسير (مت23) في كتاب الآلام والقيامة

الآيات (37-54): "وفيما هو يتكلم سأله فريسي أن يتغدى عنده فدخل وإتكأ. وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب انه لم يغتسل أولاً قبل الغداء. فقال له الرب انتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً. يا أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً. بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقياً لكم. ولكن ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تعشرون النعنع والسذاب وكل بقل وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تحبون المجلس الأول في المجامع والتحيات في الأسواق. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم مثل القبور المختفية والذين يمشون عليها لا يعلمون. فأجاب واحد من الناموسيين وقال له يا معلم حين تقول هذا تشتمنا نحن ايضا. فقال وويل لكم انتم ايها الناموسيون لانكم تحملون الناس أحمالاً عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم. ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم. إذا تشهدون وترضون بأعمال آبائكم لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم. لذلك أيضاً قالت حكمة الله أني أرسل إليهم أنبياء ورسلاً فيقتلون منهم ويطردون. لكي يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء المهرق منذ إنشاء العالم. من دم هابيل إلى دم زكريا الذي اهلك بين المذبح والبيت نعم أقول لكم أنه يطلب من هذا الجيل. ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة ما دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم. وفيما هو يكلمهم بهذا أبتدأ الكتبة والفريسيون يحنقون جداً ويصادرونه على أمور كثيرة. وهم يراقبونه طالبين أن يصطادوا شيئاً من فمه لكي يشتكوا عليه."

دعا هذا الفريسي السيد المسيح، غالباً ليس عن محبة، بل لأنه أراد أن يوقع به ويتصيد أي خطأ عليه. والسيد لم يغتسل عمداً لا لأن الإغتسال خطأ ولكنه أراد أن يعطي درساً لهذا الفريسي ومن معه بأن المهم هو الطهارة الباطنية وليس الخارجية، بينما أن تطهير الخارج دون الداخل لهو حماقة. لقد ظن هذا الفريسي أن عدم الإغتسال خطية كبرى ودليل على عدم الطهارة الباطنية، لكن في حقيقة الأمر كان داخله عداء وحقد ورياء وعدم محبة لهذا الضيف الذي أتى به إلى منزله،بل هو يريد أن يوقع به. ولاحظ أن ناموس موسى لا توجد به وصية واحدة عن الإغتسال قبل الأكل، فالمسيح لم يكسر الناموس. الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً= إن الله حقاً يهتم بنظافة الخارج لأنه خلقه، فهو قطعاً يهتم بطهارة القلب الذي خلقه أيضاً، ويهتم بأن يكون خالياً من الشر والرياء والحقد حتى تجاه الضيف الذي تستضيفه.

ولاحظ أن اليهود كانوا يغسلون الآنية من الخارج وليس الداخل، فالغسيل ليس للتنظيف بل للطهارة الطقسية (كانوا يخافون أن تكون قد تلامست مع نجس مثل شخص أممي مثلاً). وهذا فيه نوع من الغباء، فكيف يطهرون خارج الآنية ويتركون داخلها الذي سيأكلون فيه أو يشربون منه. المهم أنهم يمارسون نفس الشئ مع أنفسهم إذ هم يغتسلون من الخارج وقلوبهم مملوءة شراً. هم بهذا قد إهتموا برأي الناس فيهم (فالناس يرون الظاهر) ولم يهتموا برأي الله فيهم (فالله وحده يرى الداخل). وهذا هو الرياء. القصعة= الطبق. أعطوا صدقة= هم محبين للأموال، ولكن من يعطي يصبح قلبه نقياً من الطمع والجشع وحب الظهور (إن أعطى خفية). فمن يعمل خيراً ينقيه الله. وقول المسيح هذا كان حلاً لمشكلة الفريسيين الذين يهتمون بأنفسهم في كبرياء. والسيد يطلب منهم هنا الإهتمام بالآخرين فتمتلئ قلوبهم محبة. تعشرون النعنع والسذاب.. وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله= النباتات التي يشير إليها السيد هي التي تزرع في البيوت، وهم يعشرونها ليظهروا أمام الناس أنهم مدققين في الناموس، أمّا باطن القلب والذي من المفروض أن يمتلئ حقاً ومحبة لله فلا يهتمون به. ولاحظ أن إهتمامهم بالعشور كان ليشجعوا الشعب على دفع العشور وهم يستفيدون من ذلك.

(آية43): أما في المسيحية فمن أراد أن يكون عظيماً يكون هم الأصغر (لو48:9) وعبداً (مت27:20). المسيح أخلى ذاته فهل نقبل أن نتواضع، ولنلاحظ أن الكبرياء هو سقطة الشيطان (أش13:14،14). والفريسيون كانوا قد إفتتنوا بمحبة المجد من الناس وإحتقروا الفقراء والمساكين والضعفاء.

(آية44): القبور المختفية= كان من يلمس قبراً يتنجس سبعة أيام لذلك وضعوا علامات على القبور حتى لا يلمسها المارة. وهؤلاء الفريسيون المملوئين شراً ورياء هم مثل قبور بلا علامات، لأن داخلهم نجاسة ولكنهم يتظاهرون بالطهارة.

(آية45): في آية (44) قال ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون. والناموسيون هم كتبة مشتغلين بالناموس. فطبعاً الكلام كان موجه لهم أيضاً. وهذا الناموسي ثار لكرامته عوضاً عن أن يفكر فيما قيل ويفكر في كيف يتوب.

(آية46): كانوا يعطون أنفسهم حلاً من ممارسة ما يطلبونه من الناس. ولنفس السبب هاجمهم بولس الرسول (رو17:2-23).

الآيات (47-49): المسيح يوبخهم على أنهم يبنون ويزينون قبور الأنبياء الذين قتلهم أبائهم ورفضوا تعاليمهم. وهم بسيرتهم وأعمالهم وشرورهم يثبتون أنهم متفقون مع آبائهم قتلة الأنبياء أكثر من إتفاقهم مع الأنبياء في أعمالهم الصالحة. وهذا ظهر في إتفاقهم الآن ضد المسيح (آيات 53،54). ثم ظهر في مؤامرة الصليب، ثم رجم إسطفانوس، فهم مستمرين في نفس أعمال أبائهم. لذلك أيضاً قالت حكمة الله إنى أرسل= الله أرسل لهم الأنبياء والرسل لكي إذا سمعوهم يخلصوا لكنهم قاموا عليهم وقتلوهم، فدم هؤلاء الأنبياء سيشهد عليهم. لكن الله سيتبرر إذا حاكمه أحد هؤلاء، فالله سبق وأنذر، ولم يتركهم دون شاهد.

آية (50): يطلب من هذا الجيل دم جميع= ما كان يطلب منهم إن كانوا قد تابوا أو آمنوا بالمسيح، ولكن هذا الجيل أكمل خطية الآباء بصلبهم للمسيح.

(آية51): زكريا هو إبن برخيا (مت35:23+ 2أي20:24-22) حيث يذكر أنه زكريا إبن يهوياداع. وغالباً فزكريا كان أبوه هو برخيا الذي مات مبكراً فنسب إلى جده يهوياداع، وهذا منطقي فعمر يهوياداع كان 130سنة. راجع باقي التفسير في كتاب آلام وقيامة السيد المسيح. ويقال أن زكريا هو أبو يوحنا المعمدان، الذي قتله الجند بعدما وضع الطفل يوحنا على المذبح قائلاً، من حيث أخذته (المذبح) أعيده، فخطفه ملاك الرب وذهب به للبرية وكان ذلك إبان قتل أطفال بيت لحم.

(آية52): جرت العادة أن يعطي كل ناموسي مفتاحاً عند تعيينه وفرزه للخدمة وذلك عند الثلاثين من عمره دلالة أنه ملزم بفتح كنوز المعرفة والحكمة الإلهية للشعب. وكان هؤلاء الدارسين للناموس يعرفون النبوات التي تشهد للمسيح وأخفوها عن الشعب. وضللوا الشعب (بينما كان هناك من فهم موعد مجيء المسيح مثل حنة وإنتظرت المسيح في الهيكل) فهؤلاء الناموسيون لم يدخلوا إلى الإيمان ومنعوا الشعب بينما أن معهم مفتاح معرفة وفهم النبوات.

(آية53) يصادرونه= هي كلمة قضائية بمعنى أن السلطات تصادر الشخص معنوياً لاسيما عند إستخدام الأحكام العرفية. والمفهوم مقاطعته ومنعه من إبداء رأيه والإعتراض عليه.

(آية54): يشتكوا عليه= لرؤساء اليهود على أنه مجدف، أو مقاوم للرومان وهذا بدلاً من أن يتوبوا.

http://demiana2010.com

14تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 12 السبت 2 يناير 2010 - 16:52

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 12

الآيات (1-12): في كتاب إنجيل متى (مت16:10-42 وما بعده)

آية (10): في كتاب إنجيل متى (مت22:12-37 وما بعده)



الآيات (13-21):

الآيات (13-21): "وقال له واحد من الجمع يا معلم قل لأخي أن يقاسمني الميراث. فقال له يا إنسان من أقامني عليكما قاضياً أو مقسماً. وقال لهم انظروا وتحفظوا من الطمع فأنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله. وضرب لهم مثلا قائلاً إنسان غني أخصبت كورته. ففكر في نفسه قائلاً ماذا أعمل لأن ليس لي موضع اجمع فيه أثماري. وقال اعمل هذا اهدم مخازني وابني اعظم واجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي يا نفس لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة استريحي وكلي واشربي وافرحي. فقال له الله يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون. هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنياً لله."

في الآيات السابقة كان المسيح يكلمهم عن الكرازة بلا خوف والضيقات التي ستأتي. فإرتفع صوت شخص يشتكي أخيه الذي ظلمه في الميراث. ويظهر هنا التناقض، فلو فهم هذا الشخص كلام المسيح الذي يعني أنه في هذا العالم سيكون ضيق مستمر، ولكن الروح القدس يساندنا وفي النهاية من يثبت يعترف به المسيح، لإحتقر هذا الشخص الماديات كلها فماذا ستنفعه أمواله وقت الإضطهاد والاستشهاد، وماذا سيخسر هذا حينما يقف مُعْتَرَفَاً به أمام الله. المسيح واضح هنا أنه يريد رفع مستوى تفكيرنا إلى السماويات، وإيماننا بأننا غرباء في هذه الأرض. لذلك ينبه أن الطمع هو أخطر عدو يقابل المسيحي، لذلك أسماه بولس الرسول عبادة أوثان (كو5:3). لأن الطماع ينسى إنتمائه للسماء ويظن أنه سيعيش للأبد على الأرض (هذا هو معنى المثل الذي قاله هنا السيد المسيح). لنثق أن المال لا يعطي سلاماً، الله هو الذي يعطيه. والسيد المسيح رفض أن يأخذ دور السلطة الزمنية أي القضاة وصمم على أن يكون دوره روحياً. هو تحاشى أن يضع قوانين أرضية بل هو السماوي، أتى من السماء ليرفعنا للسماويات، هو يريد أن يحل المشاكل بإصلاح الداخل، ومنع الطمع المفسد للحياة السماوية. ولاحظ فإن المسيح لا يدين الغني بل الطمع. والطمع هو الشعور الدائم بعدم الإكتفاء والنهم للأرضيات والماديات، والإنشغال بالماديات عن الروحيات، وعدم الإهتمام بأن يكون للشخص كنز سماوي.

يا معلم قل لأخي= كان وظيفة معلمي اليهود أن يتدخلوا لحل هذه المشاكل.

مثل الغني الغبي: هل خطأ أن يفكر إنسان أن يقيم مخازن؟ قطعاً هذا ليس خطأ، فما هو إذاً خطأ هذا الغني الذي جعله غبياً؟

1) هو كان يفكر في الحاضر فقط والمستقبل على أنه سيعيش دائماً وربما للأبد. ولم يفكر أنه في هذه الليلة ستؤخذ نفسه. فعلينا أن نعمل بجد ولكن لا ننسى أننا هنا غرباء، قد نترك العالم في أي لحظة.

2) إذا فهمنا أنه يمكن لنا أن نترك العالم في أي لحظة، فما الذي أعددناه للسماء. هذا الغني كل ما فكر فيه كان يخص حياته على الأرض، فأين هي كنوزه التي في السماء (أي أين صلاته وأصوامه وصدقاته..).

3) عطايا الله له حسبها تخصه وحده= أثماري غلاتي خيراتي فهو نسب الخير لنفسه ولم يذكر أن الله أعطاه الكثير فيشكر الله وليعطي هو من ليس لهم، فنحن وكلاء على ما عندنا.

4) أنظر ما يفكر فيه يا نفسي كلي واشربي وإفرحي= فكل ما يفكر فيه هو ما يشبع الحيوانات أيضاً، ولكن أين نصيب الروح.

5) لكِ خيرات يا نفسي= هو إعتبر أن الخيرات هي الماديات فقط وتناسي أن الخيرات الحقيقية هي الفضائل فهذه توصلنا للسماء أما الأموال فهذه يمكن توجيهها لتكون خيراً ويمكن توجيهها لتكون شراً.

6) هو إفترض أن غناه سيكون سبباً في راحته، مع أنه أصبح هماً ثقيلاً عليه وشاغلاً يشغل باله ويملأه قلقاً. لقد ظن أنه يملك المال لكن المال هو الذي إمتلكه. أمّا الراحة الحقيقية هي في المسيح. غنياً لله= أي يكون غناه هذا لمجد الله وليس لراحته هو شخصياً.

7) يقول يا نفسي لكِ خيرات كثيرة، موضوعة لسنين كثيرة= ولم يخطر على باله أي اعتبار أن كل شئ هو ملك لله، وأننا وكلاء على ما بين أيدينا. وأن الله سيحاسب كلٌ منا حسب ما سوف يتصرف في أمواله. ولاحظ قوله سنين كثيرة، هو لا يفكر أنه يمكن أن ينتقل في أي لحظة. هذا الإنسان ربط نفسه بالأرضيات وبالتالي فهو لا يصلح للسماويات. فمن يصلح للسماويات هو من عاش في الأرض سماوياً غريباً عن الأرض.

8) حينما زادت خيراته فكر في زيادة مخازنه بدلاً من أن يفكر في إحتياج الفقراء لهذه الزيادات.



الآيات (22-31): في كتاب إنجيل متى (مت25:6-34) وما بعده)



الآيات (32-48):

الآيات (32-48): "لا تخف أيها القطيع الصغير لان أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت. بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة اعملوا لكم أكياساً لا تفنى وكنزاً لا ينفد في السماوات حيث لا يقرب سارق ولا يبلي سوس. لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضاً. لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة. وأنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت. طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين الحق أقول لكم انه يتمنطق ويتكئهم ويتقدم ويخدمهم. وأن أتي في الهزيع الثاني أو أتي في الهزيع الثالث ووجدهم هكذا فطوبى لأولئك العبيد. وإنما اعلموا هذا انه لو عرف رب البيت في أي ساعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب. فكونوا انتم إذا مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان. فقال له بطرس يا رب ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضاً. فقال الرب فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة في حينها. طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا. بالحق أقول لكم أنه يقيمه على جميع أمواله. ولكن إن قال ذلك العبد في قلبه سيدي يبطئ قدومه فيبتدئ يضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر. يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين. وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيراً. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلاً فكل من أعطى كثيراً يطلب منه كثير ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر."

في الآيات السابقة دعوة السيد لأولاده ألا يقلقوا فالله يعول أولاده ويهتم بهم.

لا تخف= من الغد أو من قلة الغذاء والكساء، فإن كان الله قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت فهل يبخل عليكم بالجسديات.

القطيع الصغير= فالمدعوون كثيرون والمنتخبون قليلون، الذين يخلصون هم قليلون. وفي أول لقاء مع تلاميذه أعطاهم الرب صيداً وفيراً بلا عدد (لو5) وفي آخر لقاء أعطاهم 153سمكة هم القطيع الصغير. وفي مثل عرس إبن الملك كان المدعوون كثيرين، ولكن عاد وأخرج من ليس عليهم ثياب العرس. وهم قطيع صغير لقلة عددهم وسط عالم كبير وأعداء كثيرين أشداء. وهم قطيع صغير لقلة إمكانياتهم البشرية.

لأن أباكم= ربما هم بلا حول ولا قوة في العالم، لكن أنظر لأبيهم الذي سر بهم، وماذا أعد لهم؟ الملكوت. ولاحظ أن عدد المؤمنين في القطيع الصغير معروف عدده لا يهلك منه أحد/ بل هو معدود واحداً فواحداً (رمزياً هم 153 وهم 100خروف لو ضل أحدهم يذهب الراعي ليفتش عليه حتى يجده). فهو راعي وهو أب. بيعوا ما لكم= من آمن وصدَّق أن الله أعد له الملكوت سيبيع بسهولة الأرضيات، ويعطي صدقة فيكنز له كنزاً سماوياً حيث يثق أنه ذاهب هو ينقل بهذا أمواله إلى بنك السماء حيث هو ذاهب. ومن هذه الآية نفهم إستحالة الجمع بين كنزين إذ لا يمكن أن يتوزع القلب بين إثنين الله والمال. بهذا يتوقف المسيح عن الكلام في الماديات وينتقل للروحيات. وقوله بيعوا لا تعني أن نبيع كل شئ ونفتقر بل أن نتوقف عن التعلق بها أو الإعتماد عليها. أن نفهم بقلوبنا تفاهتها، فلنا أب سماوي هو يعولنا. أكياساً لا تفني= الإتكال على الله هو كمن له كيس لا يفنى ما فيه من نقود. فالله مصدر لا نهائي لكل ما يحتاجه أولاده. ولكن هذا لمن إهتم أن يكون له كنز في السموات= أي تكون حياته سماوية وتكون أمواله لخدمة المحتاجين.

لتكن أحقاءكم ممنطقة= ثياب الشرقيين طويلة، وإذا لم يتمنطقوا تعوقهم ثيابهم عن العمل والرحيل لأنها تشتبك بأقدامهم. إذاً المعنى الروحي أن لا يرتبك المؤمن بالمعوقات العالمية التي تعوقه عن الخدمة وعن إنتظار الرب بفرح، ويكون هذا بضبط النفس عن الإسترسال في الشهوات والإنغماس في ملذات الدنيا، والإهتمام بحياة الفضيلة والأعمال الصالحة. إذاً هي إعتبار الجسد ميت عن ملذات العالم والخطية (كو5:3) (جهاد سلبي) وعمل أعمال بر وخدمة (جهاد إيجابي). فمن باع العالم أي لم يعد يهتم به يسهل عليه تركه.

قصة: حينما أتت ساعة الموت من شخص مريض طريح الفراش، كان ينام على وسادة، وجدوه يحتضن وسادته بعنف، وحاولوا أخذ الوسادة منه ليجعلوه ينام عليها ويستريح، فكان يرفض بشدة محتضناً وسادته حتى مات، ولما مات فتحوا الوسادة، فوجدوه قد أخفى ثروته فيها. هذا كان رافضاً للموت متعلقاً بثروته. فكل من تعلق بالعالم لا يريد أن يتركه.

أحقاؤكم= مفردها حُق وهو حُق الفخذ الذي يُرْبَطْ حزام الوسط فوقه فيشد قامة الإنسان ويرفع ملابسه فوق الأرض ويجعله بهذا مستعداً للمشئ والرحيل.

سرجكم موقدة= يحتاج الإنسان في الليل لسراج موقد يسير به في الظلام. لئلا يصيب الإنسان ما أصاب العذارى الجاهلات. وهذا إشارة لضرورة الإمتلاء من الروح القدس وسط ليل هذا العالم. وهذا يكون بطلب الروح القدس بلجاجة في الصلاة. فيمتلئ الإنسان ويحل المسيح (النور) في قلبه. فينير هو أيضاً.

ينتظرون سيدهم متى يرجع= إشارة للمجيء الثاني، أو ساعة الإنتقال. ساهرين= ساهر على أن يكون مصباحه مملوءاً بالزيت كالعذارى الحكيمات وساهر على أولاده وبيته، والخادم ساهر على كنيسته حتى لا يخطف عدو الخير أحد أولاده، ساهراً أن يؤدي خدمته بأمانة. وكل إنسان يكون ساهراً على أن تكون عبادته بأمانة، والساهر يأخذه رب المجد للمجد. وقد يكون العبيد إشارة لطاقات الإنسان (الجسدية والروحية) التي ينبغي أن تكون في خدمة السيد المسيح.

يتمنطق.. ويخدمهم= لا ولائم في السماء ولكن المعنى هو لا شئ من البركات والمجد في السماء لن ينعم به المسيح علينا. هو يتمنطق ليخدم الذين سبقوا وتمنطقوا في العالم. وهو يمنطق حقويه إستعداداً للدينونة وفيها يكرم الساهرين، ويحكم على الأشرار. وعربون هذا هو الفرح والسلام اللذان يحيا فيهما أولاد الله الآن على الأرض.

ولكن قوله يتمنطق ويخدمهم هو إعلان عن محبة المسيح وإشتياقه الشديد أن يرى أولاده معه في السماء وفي المجد، فمن أكرمه على الأرض سيكرمه المسيح في السماء "أنا أكرم الذين يكرمونني" (1صم30:2)

الهزيع الثاني أو..= اليهود يقسمون الليل إلى أربعة هُزع. ويقسمون عْمر الإنسان لأربعة أقسام (الطفولى/ الشباب/ الرجولة/ الشيخوخة) وأشار هنا إلى الليل الذي يشير لفترة وجودنا على الأرض. ولكنه أشار لثلاثة هُزُعْ فقط. وقد يكون الهزيع الرابع هو:

1. الطفولة= فالطفل غير مسئول عن تصرفاته ولا يعاقب على خطاياه فيها.

2. الشيخوخة= حتى لا نؤخر توبتنا لسن الشيخوخة "أذكر خالقك أيام شبابك" (جا1:12)

والمعنى هو الاهتمام بالسهر وسط ليل هذا العالم. وهو يشبه أن الموت يأتي كلص فجأة دون إنتظار. لذلك على الإنسان أن يسهر أي يكون مستعداً في كل وقت بتوبة مستمرة.

وكان رد السيد على سؤال بطرس ألنا تقول هذا.. أم للجميع. أن ما قيل كان يخص كل خادم وكل راعي يقيمه السيد ليخدم شعبه. بل أن هذا المثل يمتد لكل من أعطاه السيد وزنة يخدمه بها. فالغني الغبي أعطاه الله وزنة هي المال الوفير، وكان هناك حوله جوعي، فهو كوكيل على هذه الأموال لم يكن أميناً على هذه الوكالة وهكذا. والسيد يطوب كل من كان أميناً في وزنته (آية43).

العلوفة= هي كمية الأكل المخصصة لكل واحد والمعنى الغذاء الروحي اللازم والمناسب لكل واحد. وسؤال بطرس غالباً لأنه فهم من أقوال المسيح الكرامة التي ستنال الخادم الساهر، فسأل ليتأكد بالأكثر. وبمقارنة النص هنا بما ورد في نظيره في إنجيل (مت42:24-45) نجد فرقين:

متى (يكتب لليهود)


لوقا (يكتب للأمم)

1. أقامه

2. طعام


يقيمه

علوفة

فيقول لليهود أقامه فلطالما أرسل الله لليهود أنبياء، أما للأمم فهو مزمع أن يقيم لهم رعاة. ولليهود أرسل الله لهم طعاماً فهم أبناء وقد أرسل لهم ناموس ونبوات. أمّا للأمم فيشير لطعامهم بقوله علوفة، فهم كانوا بلا إله غارقين في شهواتهم كالبهائم.

يضرب الغلمان ويأكل ويشرب= هو إهتم بملذاته، وأعثر أولاد الله ومنعهم أو صدهم عن الشبع بكلمة الله، في قسوته عليهم لم يكن صورة للمسيح فصدهم عن معرفة المسيح والشبع به.

يقيمه على جميع أمواله= يوحده فيه كعروس مع عريسها ويعطيه مجداً، لا مجداً أرضياً بل سماوياً. أي يعطيه الملك الأبدي.

تطبيق عام على كلمات الرب= على كل واحد منّا أن يكون أميناً في وزناته أميناً على جسده وصحته وأعضائه وعواطفه وغرائزه وعمله وخدمته التي أستأمنه الله عليها، ليكن كل ما سلمنا الله إياه هو أمانة بين أيدينا، نشبع حياتنا بطعام الروح حتى لا تهلك.

ونرى في كلام السيد أن مسئولية كل إنسان ستكون بحسب معرفته، ولكن هذا ليس مبرراً أن نهمل المعرفة، فقلة المعرفة قد تسبب الهلاك بل هي من المؤكد ستسبب الهلاك "هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو6:4)

وهنا نرى أن من لا يعلم يعاقب أيضاً، فهو أهمل في أن يعرف. فمن يعرف ويهمل يضرب كثيراً، ومن لا يعرف لأنه لم يطلب المعرفة يضرب قليلاً. كلاهما يضرب أي يهلك.

سيدي يبطئ قدومه= من يتصور أن ساعة موته بعيدة فيجري وراء شهوات العالم. يقطعه= ينهي حياته.



الآيات (49-53): في كتاب إنجيل متى (مت37:10-39 وما بعده)

الآيات (54-59): راجع كتاب إنجيل متى (1:16-3)

راجع كتاب إنجيل متى (25:5،26)

الآيات (54-59): "ثم قال أيضاً للجموع إذا رأيتم السحاب تطلع من المغارب فللوقت تقولون انه يأتي مطر فيكون هكذا. وإذا رأيتم ريح الجنوب تهب تقولون أنه سيكون حر فيكون. يا مراؤون تعرفون أن تميزوا وجه الأرض والسماء وأما هذا الزمان فكيف لا تميزونه. ولماذا لا تحكمون بالحق من قبل نفوسكم. حينما تذهب مع خصمك إلى الحاكم ابذل الجهد وأنت في الطريق لتتخلص منه لئلا يجرك إلى القاضي ويسلمك القاضي إلى الحاكم فيلقيك الحاكم في السجن. أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير."

هنا يؤنب السيد من له حكمة زمنية بها يعرف علامات الجو، ومتى ستمطر السماء، ومتى يكون الجو صحواً. وفي نفس الوقت لا يميز الوقت المقبول للتوبة والإيمان والتصالح مع الله. وبنفس المفهوم يؤنب السيد الذين يسعون لمعرفة زمان مجيئه الثاني الذي سيكون للدينونة ويتركون معرفة قيمة الزمان الحاضر، وهو زمان المصالحة وإمكانية التوبة والخلاص. والرب واقف على الباب يقرع، هو زمان ترحيب الله بكل تائب. أما في مجيئه الثاني سيغلق باب التوبة والمراحم.

والأمطار= ترمز للنعم السمائية. وريح الجنوب حارة ترمز للحرارة الروحية التي يعطيها الروح القدس للتائب. وهذا ما تم بالمسيح وفدائه.

أما هذا الزمان فكيف لا تميزونه= هذا القول للفريسيين هو عتاب أنهم لم يميزوا أن الذي أمامهم هو المسيح بعد كل ما سمعوه من أقواله ورأوه من أعماله وهذا راجع لكبريائهم وريائهم. وهذا القول لنا لننتهز الفرصة، فرصة هذه الحياة للتوبة والتصالح مع الله، وخطورة إهمال ذلك.

ولاحظ أن هذا الكلام يأتي بعد نبوة المسيح عن الإضطهاد القادم حتماً فهو جاء ليلقي ناراً وإنقساماً (آيات49-53). وهذه الإضطهادات لن يحتملها سوى التائبين والمتصالحين مع الله، فهؤلاء سيتمتعون بالتعزية التي بها يحتملون الآلام. أمّا الفاترين، أو المنغمسين في الخطية ورافضي التوبة، حينما تأتي الآلام سيتركون المسيح لأنهم لم ولن يستطيعوا أن يميزوه= لماذا لا تحكمون بالحق من قبل نفوسكم= إمتداداً لعدم التمييز لا يُحاسب الإنسان نفسه فيقدم توبة، ويرفض الخضوع للحق الإلهي ويتمادى في الخطية مبرراً نفسه أما من يحيا حياة التوبة سيقتني المسيح داخله فيميز الحق، وهؤلاء الفريسيين مملوئين رياء وحسد لذلك لا يستطيعون أن يميزوا الحق، والمنغمسين في خطاياهم أيضاً لن يستطيعوا تمييز المسيح، لذلك سيتركونه إذا جاءت آلام وإضطهادات.

وبعد أن وبخ المخلص السامعين على عدم تمييزهم للأزمنة وعدم إنتهازهم فرصة عهد النعمة لإتمام التوبة، أخذ يبين لهم الخطر العظيم الذي ينجم عن ذلك، فشبه الخاطئ برجل أخذه خصمه للقاضي ليحاكمه. هذا الخصم هو ناموس الله ووصاياه العادلة وقد يكون الخصم هو صوت تبكيت الروح القدس، وهو يطلب إستيفاء حقوقه كاملة والقاضي هو الديان العادل الذي يجلس للقضاء يوم الدين، والطريق هو فرصة هذا العمر. والحاكم هو من يلقي في السجن أي الملائكة التي تضع النفس في مكان العذاب الأبدي. والتخلص من العمر. والحاكم هو من يلقي في السجن أي الملائكة التي تضع النفس في مكان العذاب الأبدي. والتخلص من الخصم هو التصالح معه قبل الوصول إلى كرسي القضاء. أي نطلب العفو والمغفرة ونقدم توبة لله قبل إنتقالنا للعالم الآخر. وإلا سنوضع في السجن حتى نوفي آخر فلس (أصغر عملة إشارة لأصغر خطية). وكيف نوفي ما علينا ونحن في العذاب الأبدي، فإن لم يبررنا دم المسيح فسنظل هناك للأبد، فلا شئ يفوق دم المسيح قادر أن يبرر.

http://demiana2010.com

15تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 13 السبت 2 يناير 2010 - 16:53

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 13

الآيات (1-5): "وكان حاضراً في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم. فأجاب يسوع وقال لهم أتظنون أن هؤلاء الجليليين كانوا خطاة اكثر من كل الجليليين لأنهم كابدوا مثل هذا. كلا أقول لكم بل أن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم أتظنون أن هؤلاء كانوا مذنبين اكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم. كلا أقول لكم بل أن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون."

سمع اليهود تأنيب السيد لهم في الآيات السابقة فبادروه بهذا السؤال. وربما يكون هدف السؤال:

1) ربما كانوا يصرفون نظره إلى مصيبة قتل الجليليين ليكف عن هجومه عليهم.

2) إذ أشار المسيح للحاكم والقاضي في مثله الأخير إشتكوا له من ظلم بيلاطس.

3) ربما أرادوا أن يوقعوا بالمسيح، فإن هو هاجم بيلاطس إشتكوه له وإن هو وافق بيلاطس لصار معادياً للشعب.

4) مشكلة الألم هي مشكلة واجهت البشر في كل مكان وزمان، والسؤال هنا، لماذا يتألم هؤلاء ويموتوا وهم يعملون خيراً أي يقدمون ذبائح.

5) ربما تصوروا أن المسيح هو الملك الآتي، فهم يشتكون له ظلم بيلاطس.

واليهود كان لهم رأي أن من يكابد ألماً فهو بالضرورة شرير، وهذا قد إتضح في حديث أيوب مع أصدقائه. والمسيح هنا ينكر هذا الفكر بل يزيد على الحادثة التي ذكروها أي قتل بيلاطس للجليليين، حادثة أخرى تمت بوقوع برج على 18شخصاً فقتلهم. فالحادثة التي أشاروا هم إليها تمت بيد بشرية هي يد بيلاطس، والحادثة الثانية تمت بيد إلهية مثل الكوارث الطبيعية كالزلازل. ورد السيد نلاحظ فيه:

1. أنه لم يقدم تفسير لهذه الحادثة أو تلك، فالله غير مطالب بأن يقدم لنا تفسير عن كل حادثة. فالطبيب الماهر لا يشرح لمريضه تفاصيل العملية الجراحية التي سيقوم بها، يكفي المريض ثقته في طبيبه، ويكفينا كأولاد الله أن نعلم أننا في يد الله، وإذا سمح بأي حدث سيكون للخير، فالله صانع خيرات، وليس هناك عند أولاد الله ما يسمونه كوارث، فما نسميه كوارث سيكون علة دخولنا للسماء، المهم أننا لا نطالب الله بتقديم تفسير عن كل ما يسمح به، ثقة منّا في أنه صانع خيرات.

2. أن النوازل والكوارث التي تصيب البشر سواء يهود أو جليليين أو أي من الشعوب في كل زمان ومكان على السواء، سواء هي بفعل إنسان أو كارثة طبيعية ليست بدليل على أن من نزلت بهم كانوا أشر من غيرهم، وأن الموت الزمني رمز للموت الروحي، وأن كل نازلة ما هي إلاّ إنذار بالهلاك المعد للباقين إن لم يتفادوه بالتوبة. إذاً هذه الحادثة يجب إعتبارها كإنذار، بل وكل حادثة مماثلة عوضاً عن أن نحكم على المصاب بأنه خاطئ.

3. علينا أن لا نحكم على أن الآخرين مخطئين بالضرورة إن وقعوا تحت الآلام، وأن نقول أن الأصحاء والأغنياء هم أبرار بالضرورة وإلاّ لما تألم المسيح نفسه وصُلِب وهو البار.. وإلاّ لما ذهب لعازر للسماء، والغني إلى الجحيم. ولكن الخطية هي علة الهلاك الأبدي وليس الزمني.

4. علينا أن لا نحكم على أحد، وعلينا أن لا نهتم بخطايا الآخرين، بل بخطايانا نحن، ونقدم عنها توبة ولذلك يكرر المسيح مرتين في هذه الآيات إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون.

5. المسيح إعتبر أن هذه الآلام هي مجرد إنذار، وإن لم يقدم السامعين توبة سيهلكون. وهذا ما حدث، ففي سنة 70م أهلك تيطس أورشليم.

· هؤلاء الجليليين كانوا ثواراً رافضين لملك قيصر، رافضين أن يقدموا ذبائح لسلامة قيصر وسلامة الدولة الرومانية، وكانوا أتباع ثائر إسمه يهوذا الجليلي، فقتلهم بيلاطس وهم يقدمون ذبائحهم في الهيكل (أع7:5) ويرى بعض الدارسين أن ما عمله بيلاطس هنا كان سبب العداء بينه وبين هيرودس، فهؤلاء الجليليين كانوا من رعاياه.

6. قد يسمح الله ببعض الضيقات ويكون ذلك ليدفعنا للتوبة، فإن لم نفهم ونتب، تكون هذه الضيقات رمزاً لضيقتنا وهلاكنا الأبدي.



الآيات (6-9): (التينة غير المثمرة)

الآيات (6-9): "وقال هذا المثل كانت لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام هوذا ثلاثة سنين آتي اطلب ثمراً في هذه التينة ولم أجد اقطعها لماذا تبطل الأرض أيضاً. فأجاب وقال له يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً حتى أنقب حولها واضع زبلاً. فإن صنعت ثمراً وإلا ففيما بعد تقطعها."

في الكلام السابق رأينا أهمية التوبة وإلاّ نهلك، وهنا السيد يشير لأن الله يبطئ في الدينونة على الخطاة ليعطيهم فرصة للتوبة. واحد= هو الله. ما هي هذه التينة وما هي الكرمة؟ وما هي الثلاث سنين؟

1- ترمز التينة لشعب اليهود. والثلاث سنين هي ثلاث حقب زمنية أ) من إبراهيم لداود ب) من داود إلى السبي ج) من السبي للمسيح. وهذا بحسب تقسيم (مت إصحاح 1). والله أعطى لليهود شريعته وأرسل لهم الأنبياء وأقام لهم كهنوتاً لعلهم يثمرون ولكن بلا جدوى. الثمر= أعمال الخير. والكرمة هي الكنيسة، وكان لابد من قطع التينة غير المثمرة فوجودها بطقوسها الناموسية سيعطل الكرمة (الإعتماد على الختان وطهارة الجسد يعطل عمل النعمة غل1:5-6). وقد رأينا في الأسبوع الأخير للمسيح في أورشليم أنه يلعن التينة غير المثمرة فتجف رمزاً لما سيحدث للأمة اليهودية. ولكن الله بمراحمه سيظل يتعهد هذه التينة ويضع زبلاً فهناك بقية ستؤمن، ومن يؤمن سيثمر، ومن لن يؤمن سيهلك.

2- ترمز التينة لكل كنيسة وسط الكرمة أي الكنيسة في كل العالم، والله يطلب الثمر من كل كنيسة، والكنيسة التي بلا ثمر سيقطعها الله (رؤ5:2)

3- ترمز التينة لكل نفس بشرية لمؤمن وسط الكرمة أي الكنيسة والله يتعهد كل نفس وكل كنيسة بمواهبه ونعمته وطول أناته ولكنه يطالب بالثمر. ولا ثمر بدون توبة.

4- لماذا سميت تينة؟ بينما الكنيسة تسمى كرمة. التينة تشير لما عمله آدم بأن ستر نفسه بأوراق تين (تك7:3)، وهذه محاولة خادعة. فالخطية في الداخل، بينما محاولة النفس هي محاولة خارجية محكوم عليها بالفشل، هذا ما نسميه الرياء، فالنفس تدَّعي الطهارة لكنها ليست ملتحفة ولابسة الرب يسوع برها وسترها، بل هي ترتدي أعمال بر مظهرية تدعى بها القداسة، أما كنيسة الله فهي الكرمة التي تلبس الرب يسوع برها، وهذا هو ما يفرحه، خمر كنيسته أي كرمته (نش1:5+ 2:8+ 2:1). فالخمر رمز للفرح. فالله يفرح بكنيسته التي بررها.

الكرام= هو المسيح الذي يشفع في كنيسته شفاعة كفارية أو هم رعاة الكنيسة الذين يشفعون بصلواتهم في الكنيسة وعن كل نفس.

الزبل= هو السماد المعطي للشجرة ويرمز للطعام الروحي الذي يعطيه الله لأولاده ليساعدهم على الإثمار.

أنقب حولها= ينقب تعني حفر الأرض لقلع الحشائش الضارة وهذه إشارة للتجارب التي يسمح بها الله لتنقية أولاده (مجاعة الإبن الضال). وبعد المسيح وبالذات بعد خراب أورشليم ترك الرب أمة اليهود في نجاسة وفي عار حتى الآن= والزبل يشير للحالة المتردية المزرية التي عاش فيها اليهود ألفي سنة ربما يتوبون. فالزبل هو روث الحيوانات ويؤخذ إشارة لنجاسة اليهود إذ صلبوا المسيح. وبالنسبة للنفس البشرية التي يعطيها الله فرصة ثانية للتوبة عليها أن تجلس على الرماد حاسبة كل الأشياء نفاية كما قال بولس الرسول (أي8:2 + في8:3) فكلمة أنقب حولها تشير لخراب أورشليم، وتشير للتجارب التي يسمح بها الله لتحيط بأولاده لعلهم يتوبون. إذاً الله حين يترك نفس ويعطيها فرصة أخرى يساعدها [1] بسماد أي يقويها بطعام روحي على أن تنسحق [2] بعض التجارب لتساعدها على الإنسحاق (انقب حولها). أتركها هذه السنة أيضاً= هي الفرصة التي يعطيها الله للخطاة ليتوبوا قبل أن ينفذ حكمه العادل فيهم "أعطيتها زماناً لكي تتوب" (رؤ21:2) والله ترك الأمة اليهودية 40سنة تقريباً بعد صلبه قبل أن يخربها ومازال يترك اليهود حتى يؤمن البقية.

لماذا تبطل الأرض أيضاً= هي بلا ثمر ولكنه تمتص فوائد الأرض فتعطلها، أو هي تأخذ مكاناً كان يمكن أن تزرع فيه شجرة مثمرة، لقد قطعت الأمة اليهودية لتخرج مكانها الكنيسة.



الآيات (10-17): (شفاء امرأة منحنية)

الآيات (10-17): "وكان يعلم في أحد المجامع في السبت وإذا امرأة كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة. فلما رآها يسوع دعاها وقال لها يا امرأة انك محلولة من ضعفك. ووضع عليها يديه ففي الحال استقامت ومجدت الله. فأجاب رئيس المجمع وهو مغتاظ لأن يسوع أبرأ في السبت وقال للجمع هي ستة أيام ينبغي فيها العمل ففي هذه ائتوا واستشفوا وليس في يوم السبت. فأجابه الرب وقال يا مرائي ألا يحل كل واحد في السبت ثوره أو حماره من المذود ويمضي به ويسقيه. وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت. وإذ قال هذا اخجل جميع الذين كانوا يعاندونه وفرح كل الجمع بجميع الأعمال المجيدة الكائنة منه."

في موضوع الشفاء في السبت راجع (مت1:12-13) كتاب متى (مت1:12-8) + (مت9:12-14)

لقد كان الرب يسوع يقصد أن يقوم بمعجزات الشفاء في السبت لأنه يريد أن يعطي راحة للمتألمين والمرضى في السبت، والسبت هو راحة، هو أراد أن يظهر معنى راحة السبت. فالسبت هو إشارة للراحة الأبدية حيث الشفاء النهائي لكل أمراض النفس والجسد والروح.

يا مرائي= الرب يسوع هنا يفضح رياء الرجل، فالحقيقة أنه حسد يسوع على محبة الناس له وشهرته، وأن الناس تلتف حوله، ويستتر وراء حفظ شريعة السبت. وأصدر رئيس المجمع هذا أمراً للشعب أن لا يأتوا للإستشفاء يوم السبت، وهو بهذا يوبخ يسوع بطريقة غير مباشرة. ولو أنصف هذا المسكين لفهم أنه لا يمكن لناقض الناموس أن يعمل هذه المعجزة. وكان التلمود اليهودي يسمح للرجل أن يستقي الماء من البئر للحيوان العطشان يوم السبت على أن لا يحمل الماء للحيوان بل يجر الحيوان للماء. فإن كانت الوصية أن يريحوا البهائم يوم السبت فالأولى أن يريح الرب يسوع المرضى يوم السبت.



الآيات (18-19): في كتاب إنجيل متى (مت31:13-32)



الآيات (20،21): في كتاب إنجيل متى (مت33:13)



الآيات (22-30): في كتاب إنجيل متى (مت13:7،14،22،23، مت30:19)

الآيات (22-30): "واجتاز في مدن وقرى يعلم ويسافر نحو أورشليم. فقال له واحد يا سيد أقليل هم الذين يخلصون فقال لهم. اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق فإني أقول لكم أن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون. من بعدما يكون رب البيت قد قام واغلق الباب وابتدأتم تقفون خارجاً وتقرعون الباب قائلين يا رب يا رب افتح لنا يجيب ويقول لكم لا أعرفكم من أين انتم. حينئذ تبتدئون تقولون أكلنا قدامك وشربنا وعلمت في شوارعنا. فيقول أقول لكم لا أعرفكم من أين انتم تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان متى رأيتم إبراهيم واسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وانتم مطروحون خارجاً. ويأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب ويتكئون في ملكوت الله. وهوذا آخرون يكونون أولين وأولون يكونون آخرين."

الباب الضيق= قول مستعار من العرف الذي كان متبعاً في الأعراس في ذلك الوقت، فقد كانت الأعراس تقام ليلاً، وكانت البيوت تزين بالمصابيح، ويدخلها المدعوون من باب صغير يغلق عقب دخولهم جميعاً. ثم يتمتعون بالأفراح والأنوار، أما الذين يُرفضون فكان لا يفتح لهم الباب مهما قرعوا ويستمروا في الظلمة الخارجية. والسيد هنا يعلن هلاك المتهاونين الذين لا يدخلون من الباب الضيق أي لا يحتملوا الضيقات المتعلقة بالحياة المقدسة ويبين خلاص المجاهدين الذي يحتملونها. والباب الضيق معناه أن نتخلى عن الشهوات الجسدية، ونقبل الإضطهاد لأجل إسم المسيح. والباب الضيق ضيق في بدايته على الأرض، ولكنه في الداخل مملوء تعزيات والنهاية مجد أبدي. وإجابة رب المجد لا تهتم بعدد الذين يخلصون بل بكيفية الخلاص. فهو لم يجيب على سؤال "أقليل هم الذين يخلصون". بل أجابه كيف يخلص الناس.. أي بالدخول من الباب الضيق وهذا يعني الجهاد والتخلي عن الملذات الزمنية. والباب الضيق هو حفظ أوامر الإنجيل والثبات على الإيمان مهما كانت الشدائد. الباب الضيق هو طريق الصليب. ولاحظ في آية (22) قوله وإجتاز.. ويسافر نحو أورشليم= وهذا هو السفر الأخير حيث سيصلب هناك وبهذا نفهم أنه إختار الطريق الضيق، طريق الصليب. وأغلق الباب= بعد أن أدخل القديسين بعد الدينونة، أو بنهاية الحياة الآن. تقفون خارجاً وتقرعون= بعد أن رأوا المجد المعد يشتاقون للدخول. لا أعرفكم= ليس بمعنى أنه يجهلهم بل هم غير مستحقين أن يكونوا في معرفته. أكلنا قدامك وشربنا= هناك من يظن أن مجرد التناول من الجسد والدم يخلصه. من أين أنتم= هؤلاء ليسوا من الله، وهم لم يحبوا الله، بل أحبوا العالم. علمت في شوارعنا= لكن تعاليمه ذهب صرخة في وادٍ فهم لم يقبلوا أن ينفذوها. ويأتون من المشارق ومن المغارب= إشارة لقبول الأمم في الكنيسة. آخِرون يكونون أولين= الأمم الوثنيين صاروا أولين في ملكوت الله. ,

أولون يكونون آخِرين= اليهود أبناء الله أولاً صاروا مرفوضين لرفضهم المسيح. وكم من أشخاص نظن نحن أننا أفضل منهم الآن وسنجدهم يسبقوننا في الملكوت.



الآيات (31-35): "في ذلك اليوم تقدم بعض الفريسيين قائلين له اخرج واذهب من ههنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا اخرج شياطين واشفي اليوم وغداً وفي اليوم الثالث اكمل. بل ينبغي أن أسير اليوم وغداً وما يليه لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم. يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن اجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خراباً والحق أقول لكم أنكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب."

إذ تحدث السيد عن الباب الضيق، يأتي لوقا بهذه القصة ليشير أن المسيح بإرادته يدخل من الباب الضيق ويذهب للصليب في أورشليم تقدم بعض الفريسيين= هؤلاء لم يأتوا ليحذروا الرب حباً فيه، بل هم خافوا على مكاسبهم المادية إذ رأوا الجموع قد إلتفت حوله، هم أرادوا أن يخيفوه ليترك المكان. ولقد صوروا له هيرودس كأسد سيفتك به= يريد أن يقتلك أمّا السيد فرآه لا يزيد عن كونه ثعلباً ماكراً لكنه غير قادر أن يؤذي، فلا سلطان لأحد أن يؤذي سوى بسماح من الله (يو10:19،11). وهيرودس هو أنتيباس (راجع المقدمات) الذي قتل يوحنا المعمدان وحاكم المسيح. ها أنا أخرج شياطين وأشفي.. اليوم وغداً= اليوم وغداً هو إصطلاح يهودي دارج بمعنى فترة قصيرة محدودة. والمعنى أن هناك يوم محدد للصلب، وأيامي صارت محدودة على الأرض ولن يستطيع هيرودس أن يزيدها أو ينقصها. ولكن أنا لي عمل جئت لأعمله أخرج شياطين وأشفي= فالسيد هنا يعلن إصراره على مواصلة خدمته وعمله غير عابئ بأي آلام تقع عليه من هيرودس أو غيره. هو ملك سماوي يعمل لبنيان النفوس فيطرد الشياطين ويشفي، مقدماً للموت نفسه برضاه، وهم عالمٌ بساعته وبمكان صلبه أنه في أورشليم. وقوله ينبغي= أنني سأتمم عملي بكامل حريتي، وسأذهب للصلب بكامل حريتي. في اليوم الثالث أُكَمَّلْ= المسيح سيكمل بالآلام (عب10:2) أي هو سيشابهنا، ويصير مشابهاً لنا في كل شئ بإحتماله الآلام. فالآلام قد صارت من نصيب البشر، والموت أيضاً بسبب الخطية، وحقاً فالمسيح بلا خطية، ولكنه صار حاملاً لخطايانا، وبالتالي معرضاً للآلام التي نتحملها، وبهذا شابهنا في كل شئ حتى تحمل الآلام والموت.

أمّا بالنسبة لنا فالله يسمح ببعض الآلام لنَكْمُل ونكف عن الخطية (1بط1:4) فإن كان المسيح قد تَكَمَّلَ بالآلام، أفلا نحتمل الآلام لكي نَكْمًلْ. وقوله في اليوم الثالث قد يكون تابعاً لقوله اليوم وغداً كتعبير دارج عن أن المدة التي يقضيها على الأرض محددة، وقد تكون نبوة بقيامته في اليوم الثالث حيث يكمل كل شئ، ونقوم معه.

لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم= هذه لا يمكن تفسيرها حرفياً فأرمياء قتلوه في مصر مثلاً ودانيال مات في بابل. ولكن بمقارنة هذه الآية بما بعدها نفهم:

1. أن المسيح يحدد مكان صلبه بأنه في أورشليم.

2. أورشليم وصلت لدرجة خطيرة من القسوة حتى أصبحت لا تطيق رجال الله. والمسيح أعلى من الأنبياء. ولكنه يقول نبي إشارة لكل رجال الله.

3. لقد قتلت أورشليم الكثير من الأنبياء، وإضطهدت الباقين.

4. مع كل قسوة أورشليم، فالمسيح في محبته أتى ليموت عن أورشليم.

إذاً المعنى أن أغلب الأنبياء قتلهم أهل أورشليم القساة القلوب وهذا ما سيعملونه بي.



(آيات34،35): هنا المسيح يصور نفسه في محبته التي ظهرت عبر العصور من نحو أورشليم، وإرساله الأنبياء والرسل ليجمع أولادها ويظللهم بمحبته الإلهية. ولكنهم رفضوا كل هذه المحاولات وقتلوا هؤلاء الأنبياء. كم مرة أردت.. ولم تريدوا= فعدم إرادتي يمكن أن يعطل إرادة الله من ناحية خلاص نفسي، فالله يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2) والعجيب أن بولس يقول الله هو العامل فيكم أن تريدوا (في13:2) أي يحفز وينشط إرادتنا. ولكنه لا يجبرنا على شئ رغماً عنا. لذلك قال القديس أغسطينوس (الله الذي خلقني بدوني لا يقدر أن يخلصني بدوني) يا أورشليم يا أورشليم= التكرار فيه رنة حزن فهي حين ترفضه ستهلك. هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً= البيت يشير للهيكل ويشير لأورشليم نفسها وكلاهما خَرِب تماماً سنة 70م على يد تيطس. إنكم لا ترونني= بعد أن أصلب لن ترونني إلاّ حينما آتي للدينونة. حتى تقولون مبارك الآتي باسم الرب= هذه نبوة برجوع إسرائيل في آخر الآيام، ويشير بولس الرسول لنفس المعنى (رو25:11،26،30،31) ويشير زكريا لنفس الشئ (زك10:12+ هو5:3).

http://demiana2010.com

16تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 14 السبت 2 يناير 2010 - 16:54

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 14

الآيات (1-6): (إبراء المستسق)

الآيات (1-6): "وإذ جاء إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين في السبت ليأكل خبزاً كانوا يراقبونه. وإذا إنسان مستسق كان قدامه. فأجاب يسوع وكلم الناموسيين والفريسيين قائلاً هل يحل الإبراء في السبت. فسكتوا فامسكه وأبرأه وأطلقه. ثم أجابهم وقال من منكم يسقط حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالاً في يوم السبت. فلم يقدروا أن يجيبوه عن ذلك."

دعا هذا الفريسي السيد المسيح لوليمة، وكانوا يعدون أطعمة فاخرة يوم الجمعة ليأكلوها يوم السبت. كانوا يراقبونه= إذاً الدعوة ليست عن محبة بل كانوا يتوقون أن يتصيدوا عليه أي خطأ، لأن السيد كثيراً ما وبخهم بالإضافة لحسدهم ضده. وغالباً فهم أتوا بهذا المريض يوم سبت وهم يعرفون شفقة المسيح وحنانه على المرضى وأنه سيشفيه يوم سبت. مرض الإستسقاء= هو تراكم الماء بين الأمعاء وغشاء البطن فتنتفخ البطن فالجسم لا يستفيد بالماء بل يختزنه بلا فائدة.

الشفاء في السبت= راجع (لو10:13-17) + كتاب متى (مت1:12-8+ مت9:12-14)

عدم إجابتهم على سؤال السيد المسيح= فسكتوا= يفضح خبث نيتهم، فهم ينتظرون أن يقوم المسيح بعمل الشفاء ليشتكوا عليه. فأمسكه= إشارة لعمل المسيح بتجسده ليمسك نسل إبراهيم الهاربين منه (عب16:2). وأبرأه= فدمه غفر خطايانا (1يو7:1). [1] هو يريد إبراء وشفاء البشر [2] ويريد تصحيح مفهوم هؤلاء عن السبت. فالسبت للعبادة وعمل الخير وليس كما يفهمونه أن يجلسوا بلا عمل. وأطلقه= المسيح حررنا من

سلطان إبليس (يو36:8).

هذا المريض يرمز للبشرية التي إنتفخت من شرب مياه العالم وإستعبدت للشياطين. فمريض الإستسقاء كلما شرب يشعر بالعطش (أر13:2+ يو13:4) وخطوات الشفاء التي إتبعها المسيح مع هذا المريض هي نفس الخطوات التي إتبعها مع البشر في شفائهم وتحريرهم= أمسكه/ أبرأه/ أطلقه.



الآيات (7-11): "وقال للمدعوين مثلاً وهو يلاحظ كيف اختاروا المتكأت الأولى قائلا لهم. متى دعيت من أحد إلى عرس فلا تتكئ في المتكأ الأول لعل اكرم منك يكون قد دعي منه. فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك أعطي مكاناً لهذا فحينئذ تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير. بل متى دعيت فاذهب واتكئ في الموضع الأخير حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك يا صديق ارتفع إلى فوق حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع."

ربما لاحظ السيد المسيح في هذه الوليمة تسابق الفريسيين على الجلوس بكبرياء في أماكن الصدارة فالروح اليهودية روح متعجرفة تجري وراء الكرامات بطريقة غير لائقة، ومن يفعل هذا يصير مكروهاً وموضع سخرية. والمسيح يعلمنا أن نصير مثله متضعين، نختار المكان الأخير، ألم يتضع هو ويصير عبداً فلنتشبه به لنوجد معه خلال روح الإتضاع. لا بشعور النقص ولا عن تغصب، بل لنلتقي بالمسيح ونشترك مه في المكان أو المتكأ الأخير. حين نأخذ المتكأ الأخير سنجد المسيح هناك، فتشعر بوجوده بجانبك ويفرحك.

ولكن إن تصارعنا للجلوس في مكان الكرامة، أي المتكأ الأول لن نجد المسيح في هذا المكان، أي لن نشعر بفرحة الشركة معه. (يع9:1،10+ مز17:51+ أش15:57+ مت29:11+ 1بط5:5+ أم19:17). وعموماً فالنفس التي تثبتت عينيها على الملكوت لا تعود تطيق كرامات الدنيا.

تطبيق روحي: الرب يسوع هو صاحب العرس، وهو يدعونا لكنيسته، فمن يختار أن يحيا في إتضاع سيرفعه في مجده، ويملأه هنا من روحه. المسيح يريدنا أن نعتبر أنفسنا غير كفؤ للمتكأ الأول بل للأخير، ويرفعنا هو. لأن كل من يرفع نفسه يتضع= أحسن مثال لذلك الشيطان نفسه (أش11:14-15) ومن يضع نفسه يرتفع= هذا ما حدث مع المسيح نفسه (في7:2-9).



الآيات (12-14): "وقال أيضاً للذي دعاه إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا اخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجدع العرج العمي. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافؤك لأنك تكافئ في قيامة الأبرار."

إكرام المساكين له مكافأته لأن المسيح يضع نفسه مكان المسكين والفقير والمريض والمحتاج (مت31:25-46). ويا ليتنا لا نضطرب حينما لا يُرد لنا اللطف باللطف، لأننا إن تقبلنا من الناس لا ننال ما هو أكثر، أما إذا لم يُرد لنا من البشر فالله يرده لنا.

الجُدْع= هم الذين بلا ذراع أو بلا ذراعين.

علينا أن نفكر أن لا نعطي لنأخذ (وليمة بوليمة)، بل مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ. ولكن ليس معنى كلام المسيح أنه يمنع ولائم المحبة بين الناس.



الآيات (15-24): "فلما سمع ذلك واحد من المتكئين قال له طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله. فقال له إنسان صنع عشاء عظيماً ودعا كثيرين. وأرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد اعد. فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون قال له الأول أني اشتريت حقلاً وأنا مضطر أن اخرج وأنظره أسألك أن تعفيني. وقال آخر أني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض لامتحنها أسألك أن تعفيني. وقال آخر أني تزوجت بامرأة فلذلك لا اقدر أن أجيء. فأتى ذلك العبد واخبر سيده بذلك حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده اخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها وادخل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي. فقال العبد يا سيد قد صار كما أمرت ويوجد أيضاً مكان. فقال السيد للعبد اخرج إلى الطرق والسياجات والزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي. لأني أقول لكم انه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي."

كانت آخر كلمات السيد لأنك تكافئ في قيامة الأبرار (آية14). ولاحظ هذا أحد المتكئين، أن السيد يتكلم عن ما بعد القيامة. وكان من الفريسيين بالتأكيد الذي يؤمنون بالقيامة وليس من الصدوقيين الذين ينكرونها. وكان فكر الفريسيين عن القيامة أن المسيح سيأتي ليملك على الأرض وسيقيم لهم وليمة عظيمة يقدم فيها لضيوفه خبزاً أسموه خبز الملكوت، وأنواعاً فاخرة من الأطعمة المصنوعة من لحوم البهائم والأسماك والطيور ولا سيما لحم الثور العظيم المسمى بهيموث المذكور في (أي15:40). ومن لحم طير عظيم يشبه الجمل في الجسم ويسقيهم خمراً معتقة منذ بدء الخليقة ويطعمهم فاكهة لذيذة من أثمار الفردوس. فقول الرجل خبزاً في ملكوت الله= هو إشارة لهذا المفهوم. وكان رد المسيح على هذا الشخص يعني أن حرمان بعض الناس من دخول الملكوت ليس ناتجاً عن عدم دعوة الله لهم، لكن هو ناتج عن عدم قبولهم دعوة الله. وأن الذين سيحظون بالدخول إلى ملكوت الله هم أبعد الناس عن فكر الناس، فالذين يدخلون هم المساكين والجدع والعرج والعمي. فإذا كان هؤلاء هم بنو الملكوت أفلا تدعونهم أنتم في ولائمكم. أصحاب العهود رفضوا الدخول مثل الفريسيين والكهنة، وسبقهم المساكين، شعب الله اليهودي أغلبه رفض وسبقهم الأمم للدخول.

إنسان صنع عشاء= الإنسان هو الله الآب. دعا= الله يريد أن الجميع يخلصون. عشاء عظيماً= هو وليمة سمائية، ليست طعاماً وشراباً، بل سعادة سماوية يذوق المدعوون بعض أطايبها الروحية كعربون هنا على الأرض من مائدة الإفخارستيا هو صنع هذا العشاء بموت إبنه على الصليب. ويسميها عشاء إذ تعطي في آخر العمر، فلا سعادة تفوقها. ودعا كثيرين= الدعوة وجهت أولاً لليهود ولما رفضوها وجهت للأمم. وأرسل عبده= هو المسيح الذي أخذ صورة عبد. لأن كل شئ قد أعد= لقد تم الفداء والتصالح، وإنفتحت أبواب السماء للإنسان بعد أن غفر المسيح خطايا البشر بدمه. وحصل البشر على التبني. إبتدأ الجميع= أغلب اليهود رفضوا المسيح، ولكن قلة آمنت به مثل نيقوديموس. يستعفون= يختلقون الأعذار، لإنغماسهم في الزمنيات والشهوات، وإنحدار الفكر نحو الأمور المادية. وكم مرة دعانا الله للتوبة وإعتذرنا. وكم مرة دعينا للكنيسة وإعتذرنا. ولاحظ أن الله أرسل أنبيائه للشعب اليهودي يدعوهم وأخيراً أرسل إبنه. ولاحظ الأعذار التي قيلت، فهي إنما تعبر عن أنهم منغمسين في الدنيا، لقد ألهتهم الدنيا عن خلاص أنفسهم، أموالهم ومقتنياتهم صارت شغلهم الشاغل وإبتعدوا عن الله، وإنشغلوا بالأسباب الدنيوية عن خلاص نفوسهم.

الأول: نجده يصطنع الضرورة= أنا مضطر= هذا لم يشتري الأرض بل باع نفسه للأرض، هو صار أرضي ونسى أنه غريب على الأرض، وإنهمك في الأرضيات.

الثاني: يقول أنا ماضٍ= هو تمسك بإرادته العنيدة ورأيه الخاص، ولاحظ أن عذره غير منطقي، فمن يشتري بقر يمتحنه قبل الشراء وليس بعده. وإمتحان البقر يتم صباحاً وليس وقت العشاء.

الثالث: المتزوج حديثاً يعفيه الناموس من الخروج للحرب وليس عن خلاص نفسه وهل هذا عذر، فلماذا لا يأتي هو وعروسه معه ليقدس الله هذه الرابطة الجديدة.

قد يشير هؤلاء الثلاثة لرفض اليهود للمسيح بسبب إهتمامهم بالأرضيات وجمع الأموال وحسدهم للمسيح لإلتفاف الناس حوله، وعنادهم. لكنهم مازالوا يشيروا لكل واحد منّا. من الذين يهملون دعوة المسيح لهم للخلاص. وأمام رفض اليهود أصحاب الملكوت دعوة المسيح، وجه المسيح دعوته للمساكين والجدع والعرج والعمي= وهؤلاء يشيرون للخطاة والمنبوذين من إسرائيل كالعشارين، ويشيرون للأمم الذين كانوا مرفوضين فقبلهم الله في ملكوته. الطرق والسياجات= إشارة أيضاً للأمم في كل مكان (أع6:18). حتى يمتلئ بيتي= إشارة لكثرة المؤمنين (رؤ9:7). المساكين= الأمم إذ ليس لهم كنوز الكتاب المقدس التي كانت لليهود. الجدع والعرج= الأمم إذ ليس لهم القدرة على الحركة أو العمل الروحي. العمي= الأمم إذ ليس لهم أي بصيرة روحية داخلية. الطرق والسياجات= الأمم إذ كانوا خارج بيت الله. خارج الحظيرة. الزمهم بالدخول= البعيدين عن الله كالأمم يحتاجون لقوة تدفعهم إذ هم غير فاهمين، وهي ليست قوة قهر بل قوة إقناع (أر7:20). يذوقون عشائي= عشاء عرس الخروف (رؤ7:19-9) ولاحظ قوله في (آية22) يوجد أيضاً مكان= فالخلاص مقدم للجميع، لكل من يقبل.



الآيات (25-27): في كتاب إنجيل متى (مت37:10-39)

الآيات (25-27): "وكان جموع كثيرة سائرين معه فالتفت وقال لهم. أن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً. ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً."

في الآيات السابقة كلمنا عن أن الله يدعو الجميع للملكوت وإبتداء من هنا نسمع شروط الدخول للملكوت. وفي هذه الآيات نسمع أول شرط وهو محبة الله أكثر من أي أحد والشرط الثاني هو حمل الصليب فلن يقدر على حمل الصليب إلا من أحب الله حتى أكثر من نفسه.



الآيات (28-35): "ومن منكم وهو يريد أن يبني برجاً لا يجلس أولاً ويحسب النفقة هل عنده ما يلزم لكماله. لئلا يضع الأساس ولا يقدر أن يكمل فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به. قائلين هذا الإنسان أبتدأ يبني ولم يقدر أن يكمل. وأي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حرب لا يجلس أولاً ويتشاور هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفاً. وإلا فما دام ذلك بعيداً يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح. فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذاً. الملح جيد ولكن إذا فسد الملح فبماذا يصلح. لا يصلح لأرض ولا لمزبلة فيطرحونه خارجاً من له أذنان للسمع فليسمع."

هنا نرى شرطاً ثالثاً لدخول الملكوت ألا وهو دفع النفقة. فمن أراد أن يتبع يسوع سيكون عليه نفقة وهي التضحية بكل ما في العالم حتى العلاقات الأسرية العادية، إن كانت ستعطلنا عن حب يسوع، وقبول حمل الصليب حباً في يسوع (وهذا موضوع الآيات السابقة 25-27). ومن يتبع يسوع سيبني برجاً من الفضائل، البرج يشير لحياته السمائية والإرتفاع يشير للنمو في الفضائل، والإبتعاد عن الملذات الدنيوية. فالبرج هو حياة في السمائيات (كو1:3). والإبتعاد عن ملذات العالم هو النفقة وهو صليب إختياري "أقمع جسدي وأستعبده" (1كو27:9). المسيح بمثل البرج لا يريد تثبيط الهمم من ناحية الخلاص، فهو يريد أن جميع الناس يخلصون، إنما يريد أن يشرح أن من يتبعه عليه أن لا ينشغل أو يرتبك بالأمور الدنيوية (فالحاجة إلى واحد لو42:10) لأن مثل هذا سريعاً ما يرتد "ديماس تركني إذ أحب العالم الحاضر" (2تي10:4) ويكون بهذا عثرة وسخرية. ولكن المسيح هنا يواجهنا بالحقائق التي ستواجهنا لنستطيع أن نكمل برج الفضائل. لا مانع أن نشعر بضعفنا فقوته في الضعف تكمل.. وإن لم يبني الرب البيت فباطلاً تعب البنائين، ولكن علينا أن نثابر ونجاهد إلى النهاية حتى تعمل معنا النعمة، أي نرضى بحمل صليبنا في تسليم. (الصليب الإختياري مثل قمع الجسد أو تجربة يسمح بها الله). والبرج في علوه يكون قادراً على إكتشاف الأعداء من بعيد. ومن لا يقبل حمل الصليب لا تعمل فيه قوته، بل وتهزأ به الشياطين. فلن يقدر أن يكمل سوى من يقبل حمل الصليب، ويرضى بحمل الأتعاب والآلام. نرى في البرج الحياة السمائية، فكلما إرتفعنا نرى السماويات وندرك لذة العشرة مع الله، ونتعرف على أسراره الفائقة، ويصير برجاً حصيناً ضد العدو. ولكن كلما إرتفع البرج، يهتاج الشياطن فيثير حرباً ضدنا. فكل ما يبني برجاً عليه أن يتوقع أن يأتي عليه الملك الآخر ويحاربه، والملك الآخر هو إبليس إله هذا الدهر ورئيس هذا العالم، وذلك لحسده فهو لا يتوقف عن محاربته لنا بكل طرق الخداع. وهو في حربه يريد أن يقتنص الكل لمملكته، مملكة الظلمة. ولاحظ أن المسيح في مثله يقول عني وعنك أي ملك= فإرتباطنا بملك الملوك يجعلنا ملوكاً (رؤ6:1) أي أصحاب سلطان روحي، نغلب بالمسيح (رؤ2:6). ويكون لنا إكليل وفي (أف12:6) نرى صورة هذا الصراع مع قوات الشر الروحية. وحربنا ستكون ضد شهواتنا التي سيثيرها عدو الخير، وستكون ضد محبة العالم، وستكون ضد إرتباطنا مع الأهل، إذا كان سيفسد محبتنا للمسيح (مثال: من يتخاصم مع الله بسبب مرض أو موت قريب له، هذا أحب قريبه أكثر من المسيح).

نخرج للحرب ولنا 10.000= 10 (حفظ الوصايا)، 1000 (الفكر السماوي) أي حربنا ستكون بإلتزامنا بالوصايا حباً في المسيح (يو21:14) وبأن نحيا نطلب ما هو فوق لأن مسيحنا هو فوق (كو1:3+ أف6:2) أما عدو الخير فيأتي بـ 20.000 فهو يحارب بضربات يمينية (بر ذاتي) وضربات يسارية (شهوات) وهذه وتلك= 20. وهو يحاربنا في السماويات (1000) التي نحيا فيها، أي حتى يخرجنا منها (أف12:6)

وقد يكون رقم 20= 2×10 ورقم 2 يشير للإنقسام والإختلاف. فالله خلق العالم في وحدة، وبعد الخطية حدث الإنقسام فالإختلاف مع الوصايا قد يشير له رقم 20. على أن المسيح بتجسده عاد ووحد الكنيسة فيه، وصار رقم 2 يشير للتجسد لأنه جعل الإثنين واحداً (أف14:2) ونلاحظ أن قوة العدو 20.000 أكبر من قوتنا 10.000 ولكن لا ننسى أن من إلتزم بالوصايا وعاش السماويات يحارب يسوع فيه فيغلب.

يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح= أي يعود لأهله ولشهواته. وفي آية (33) نرى شرطاً آخر للملكوت ألا وهو ترك الأموال، أي عدم الإتكال عليها وأن ننفق منها على المحتاج.

(أيات 34،35) راجع كتاب إنجيل متى (مت11:18-14 وما بعده). ومعنى كلام السيد، أنه على المؤمن أن يقبل بحمل صليبه ويبني برجاً، ولا يكتفي بالقشور بل يدخل للعمق، مثل هذا سيكون ملحاً يصلح الفساد الذي في العالم، أمّا الذي يرتد ويتصالح مع إبليس فهذا سيكون ملحاً فاسداً لا يصلح سوى لمزبلة. من له أذنان= أي أن كلامي موجه لمن كانت نفسه تواقة لسماع تعليمي وله إستعداد أن يعمل بها.

السيد المسيح بعد أن دعا الكل للملكوت، قال أن هناك شروط وهناك نفقة. فمن يقبل بهذه النفقة سيكون ملحاً في الأرض، وله مكانه في السماء. ومن لا يقبل بالنفقة سيصير ملحاً فاسداً في الأرض، يداس من الناس. ولا نصيب له في الملكوت السماوي.

http://demiana2010.com

17تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 15 السبت 2 يناير 2010 - 16:54

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 15

الآيات (1-7): (الخروف الضال)

الآيات (1-7): "وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين هذا يقبل خطاة ويأكل معهم. فكلمهم بهذا المثل قائلاً. أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحدا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده. وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً. ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال. أقول لكم أنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب اكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة."

راجع تفسير (مت12:18،13) في كتاب إنجيل متى

في هذا الإصحاح نرى ثلاثة أمثلة تشير لإلهنا العجيب في محبته وطلبه للخطاة، وبحثه عن المفقودين، وأحضانه المفتوحة لجميع التائبين الضالين والذين يعودون إليه، وشوقه نحو كل نفس والثلاثة أمثال يمثلون حال الخطاة المختلفين. ويعطيها لنا المسيح لنشفق على الخطاة والبعيدين. ونرى إهتمام المسيح بكل نفس.

الخروف الضال= يمثل الإنسان الخاطئ في غباوته. ونرى في المثل الراعي الصالح.

الدرهم المفقود= يمثل الإنسان الخاطئ في عدم شعوره بحالة الضياع التي وصل إليها.

وفي كلنا الحالتين نرى محبة الله التي تسعي في طلبنا.

الإين الضال= يمثل الإنسان الخاطئ في شروده عن خالقه بكامل إرادته ومعرفته.

في آية (1) نرى الخطاة شعروا بحاجتهم لهذا المخلص السماوي الذي يغفر الخطايا ويقبل الخطاة= يدنون منه ليسمعوه. وهنا نرى محبة الله التي تفتح صدرها للخاطئ مهما عمل وتقبله. فتذمر الفريسيين= نقد الفريسيين هنا يأتي عن جهالة (فكبريائهم جعلهم يحتقرون الخطاة) وليس عن قصد المقاومة. (المطلوب هو تجنب الخطاة حتى لا نصير مثلهم وليس إحتقارهم). لذلك يعلمهم المسيح بأمثلة ويشرح لهم بمحبة ودون تأنيب كيف أنه يهتم بالخطاة والعشارين، وأن النفس البشرية لها قيمة عظيمة عند الله والله يبتهج بهدايتها. هذا التذمر هو نفس تذمر الأخ الأكبر للإبن الضال. التسعة والتسعين باراً= هم:

1) الملائكة الذين لم يسقطوا وهم لا يخطئون.

2) القديسين في المجد وهؤلاء لا يعودوا يخطئوا.

3) القديسين على الأرض الذين لم يفقدوا نعمة المعمودية.

يضعه على منكبيه= تعني أن الخروف كان مجهداً من ضلاله ونال منه الإعياء لذلك يحمله الراعي الصالح (المسيح) وتعني أن المسيح حمل طبيعتنا البشرية وحمل خطايانا. هنا نرى المسيح يحمل هذا الخروف ولم يوبخه. بل يرفعه ليعينه على ترك طريقه الخاطئ القديم.

يدعو الأصدقاء والجيران= هذا فرح السمائيين بعودة الخروف الضال (آية10) أفرحوا معي= ولم يقل إفرحوا مع الخروف الضال، لأن خلاصنا هو فرحه.



الآيات (8-10): (الدرهم المفقود)

الآيات (8-10): "أو أية امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهماً واحداً ألا توقد سراجاً وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده. وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته. هكذا أقول لكم يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب."

مثل الراعي الصالح رأينا فيه المسيح الراعي الصالح يتجسد ليبحث عن كل ضال. لا ليعنف. بل بالحب يبحث عن كل نفس ليضمها إلى صدره ويحملها على كتفيه. وهنا فالمرأة تمثل الكنيسة عروس المسيح وواجبها أن تفتش عن كل مفقود. والدراهم هم الوديعة التي أودعها الله للكنيسة. وكل درهم يشير للطبيعة الإنسانية التي طبع عليه صورة الملك السمائي (كما يطبع على العملة صورة قيصر). وضياع الدرهم يشير لضياع صورة الملك السمائي من الإنسان. والسراج= الذي توقده المرأة هو إشارة لتجسد المسيح فهو نور اللاهوت في إناء الجسد، تجسد لأن الإنسان أخطأ فضاع. وهذا هو دور الكنيسة أن تظهر شخص المسيح ونوره لشعبها. وكنس البيت هو إشارة لحث الناس على التوبة. والتفتيش بإجتهاد= هو إفتقاد الناس. والصديقات والجارات= هم الملائكة الذين لا يخطئون. وعمل الكنيسة وخدمتها مع كل نفس هو لكي تستعيد النفس صورة المسيح الملك (غل19:4).



الآيات (11-32): (الدرهم المفقود)

الآيات (11-32): "وقال إنسان كان له ابنان. فقال أصغرهما لأبيه يا أبي اعطني القسم الذي يصيبني من المال فقسم لهما معيشته. وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف. فلما انفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج. فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملا بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يعطه أحد. فرجع إلى نفسه وقال كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا اهلك جوعاً. أقوم واذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك. ولست مستحقاً بعد أن ادعى لك ابنا اجعلني كأحد أجراك. فقام وجاء إلى أبيه وإذ كان لم يزل بعيدا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله. فقال له الابن يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقاً بعد أن ادعى لك ابناً. فقال الأب لعبيده اخرجوا الحلة الأولى والبسوه واجعلوا خاتماً في يده وحذاء في رجليه. وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح. لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد فابتدأوا يفرحون. وكان ابنه الأكبر في الحقل فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصاً. فدعا واحداً من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا. فقال له أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالما. فغضب ولم يرد أن يدخل فخرج أبوه يطلب إليه. فأجاب وقال لأبيه ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك وجدياً لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي. ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن. فقال له يا بني أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد."

هذا المثل من أروع الأمثلة التي تشير لقبول الله للخاطئ، وكم جذب هذا المثل الكثيرين من الخطاة لأحضان الله. نرى في هذا المثل تردي حال الخاطئ الذي ترك بيت أبيه (الكنيسة) وترك أبيه (الله) فإنحدر إلى حد الهوان والنجاسة وخراب كل شئ حوله. ثم نرى توبته وفرحة أبيه المشتاق لعودته. في هذا المثل نكتشف موقف الله من الخاطئ بإعتباره إبناً له ضل الطريق، أما موقف الفريسيين بقلوبهم الخالية من المحبة، والمتعجرفة فيعبر عنه موقف الإبن الأكبر. وكأن المثل يرد على الفريسيين بأنه ليس فقط يأكل مع العشارين والخطاة، بل هو يريد أن يقيم لهم وليمة لو رجعوا وتابوا. هنا نرى محبة الآب السماوي الشديدة للخاطئ التائب.

بين السامرية والإبن الضال:-

الله له طرقه المتعددة لجذب كل نفس. فالمسامرية لم تعرف الله ولا سمعت عنه هذه يذهب لها المسيح ويجلس معها ويتحاور حتى يجذبها للإيمان به فتخلص. أما الإبن الضال فهذا قد عاش في بيت أبيه مستمتعاً بمحبته وأبوته وأطايبه، والشبع في بيته، وبعد كل هذا إختار أن يترك حضن أبيه وبيت أبيه، هذا لا يذهب له المسيح ليحاوره (فما الجديد الذي سيقوله له فهو يعرف كل شئ عن بيت أبيه) بل يحاصره بالتجارب والضيقات (المجاعة والأكل مع الخنازير) حتى يقارن بين حاله بعيداً عن أبيه وبين حاله في بيت أبيه فيشتاق للرجوع. وإذا رجع نراه يستقبله بالأحضان والقبلات ولا يعاتب ولا يجرح مشاعره.

لا نحكم على إنسان في منتصف الطريق:-

فالإبن الضال لم تكن نهايته المعيشة مع الخنازير، لكنه عاد. بينما الإبن الأكبر تذمر بعد أن كان يظهر أنه في طاعة كاملة لأبيه. لذلك يقول بولس الرسول أنظروا إلى نهاية سيرتهم (عب7:13) فالعبرة بالنهاية. لذلك علينا أن لا ندين أحد، فالله وحده يعلم ما في القلوب، ومدى إستعداد كل واحد، ونهاية طريق كل واحد.

الإبنان يشيران للبشرية:-

الإبن الأصغر يشير للأمم تركوا الله في البداية وعاشوا في نجاسة بل بددوا عطايا الله (كرامتهم وصورتهم السمائية ومواهبهم) في عبادة الأوثان وفي شهواتهم. ولكنهم عادوا في نهاية الأيام. ويشير للعشارين والزناة وكل خاطئ. والإبن الأكبر يشير لليهود، فهم كانوا بكراً في معرفة الله، قبلوا المواعيد الإلهية وكان لهم الناموس والنبوات. لكنهم خلال حسدهم للمسيح ثم للكنيسة وقفوا خارج الإيمان (خارج البيت) جاحدين الله وناقدين محبته للأمم.

ويشير للفريسيين المتكبرين الرافضين لدخول المسيح بيوت الخطاة ولقبوله لهم. ويشير لكل من عاش مع الله في بيته طالما كانت مادياته جيدة لكنه يغضب على الله إذا تأثرت مادياته بل يترك الله وبيته. مثل هذا مرتبط بالله شكلاً دون حب.

الأب= يشير لله الآب. إعطني القسم الذي يصيبني من المال= هذا يشير لكل المواهب والوزنات التي أعطاها الله لنا. وسافر إلى كورة بعيدة= طلب الخطية هو بعد عن الله بالقلب والمشاعر. وإنغماسه في ملذات الخطية، يبحث عن كل ما يرضي شهواته، وكلما إنغمس في الخطية إبتعد عن الله. بذر كل شئ= كل نعمة وموهبة سبق وأخذها من الله تضيع منه، هذا أضاع كل طاقاته في أمور العالم وشهواته. حدث جوع شديد= هو جوع النفس التي إبتعدت عن الله، فملذات العالم غير قادرة أن تشبع، هي تشبع الجسد، ولكن الإنسان روح وجسد. والروح لا تشبع سوى بقربها من الله. والله له وسائله لجذب النفس للتوبة. فكما جذب يونان للرجوع إليه بواسطة هياج البحر، وحوت يبتلعه، جذب هذا الإبن الضال بهذه المجاعة. عموماً فأي نفس تبتعد عن الله لابد وستشعر بهذه المجاعة والفراغ الداخلي لأن الإنسان مخلوق على صورة الله، فلن تشبع النفس إلا بقربها منه. فمضى وإلتصق بواحد= هو الشيطان، فمن يهرب من الله ويبتعد عنه يتلقفه الشيطان مباشرة. فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير= الخنازير عند اليهود تعني النجاسة. والمعنى أن الشيطان إستعبد هذا الإنسان في خدمة شقاوة الخطية ومرارتها وإنحطاطها. هو ترك خدمة أبيه الخفيفة ونيره الهين ليبيع نفسه لإبليس، يشقى تحت نيره الثقيل والنجس، وتاه في العالم (حقول إبليس) بعيداً عن الله، وعن بيت الله. يملأ بطنه من الخرنوب= هو إشارة لملذات العالم وشهواته التي يملأ بها الخاطئ بطنه. فالخاطئ كل همه إشباع بطنه وشهواته "آلهتهم بطنهم" (في19:3). هذا الخرنوب يملأ البطن ولكنه بلا فائدة غذائية، أي هو لا يشبع= من يشرب من هذا الماء يعطش (يو13:4). والخرنوب هو طعام الخنازير. فلم يعطه أحد= لا يستطيع أحد أن يشبع النفس سوى الله. بل بعد أن يقع الخاطئ في براثن الشيطان يحرمه حتى من اللذات الجسدية التي كان يغريه بها سابقاً، فهو يتلذذ بعذاب الإنسان وآلامه. فرجع إلى نفسه= هذه هي نقطة التحول حين يهدأ الإنسان ويفكر في حاله أيام كان فيها مع الله، وحاله وهو بعيد عن الله. هنا نرى أن خطة الله في سماحه بالمجاعة قد أتت بالفائدة المرجوة منها. وكلمة رجع إلى نفسه هي نفسها التوبة أو أول خطوة في التوبة، فكلمة توبة تعني تغيير الفكر. هذه الخطوة هي الخطوة الأولى لرجوعه إلى أبيه، لقد أعمل عقله وضميره وليس شهواته، كان في نوم وإستيقظ. ولاحظ أن التائب يحتاج لظروف خارجية تجعله يسرع بتقديم التوبة مثل المجاعة وهذه يسمح بها الله، ويحتاج لإقناع وتبكيت الروح القدس الذي يبكت مع إعطاء رجاء بأن الله فاتح أحضانه مستعد لقبول التائب. وهذا العمل (الظروف الخارجية) أو إقناع الروح القدس داخلياً هو عمل الله لذلك يصرخ أرمياء توبني فأتوب (أر18:31 + يو8:16 + أر7:20). الأجير= إشارة لمن يحيا بروح العبودية، يعمل ليس عن حب بل طمعاً في أجر ولكن حتى من يحيا في بيت الله بروح العبودية ولا يفارقه، حتى هذا يشبعه الله. يفضل عنه الخبز= إشارة لوفرة الشبع (روحياً ونفسياً وجسدياً). أقوم وأذهب إلى أبي= هذه تُحسب للإبن الضال (الإبن الشاطر) إذ لم يؤجل توبته، ورجوعه، بل قام فوراً. وكم من أناس أجلوا توبتهم للغد ولم يأتي الغد وهلكوا (مثل فيلكس الوالي أع24:24،25). إجعلني كأحد أجراك= لاحظ أنه شاعر بعدم الإستحقاق إذ كان قد أخذ نصيبه من قبل وبدده، لكن الآب في محبته لم يسمح له بأن يقول هذه العبارة (آية21). فقام وجاء إلي أبيه= هو نفذ التوبة فوراً ولاحظ محبة الآب وقبوله. تحنن.. ركض.. وقع على عنقه وقبله بالرغم من قذارته. هذه القبلات الأبوية كعلامة للمغفرة إشتهتها عروس النشيد (2:1) وتشتهيها كل نفس. ولاحظ كلمات الإعتراف أخطأت، لقد إنتهت الكبرياء. أخطأت إلى السماء= هو تعبير عبري. والله يعرف كل شئ ولكنه ينتظر هذا الإعتراف. رجوع الأب لإبنه هو تطبيق لقول الكتاب "إرجعوا إلىّ أرجع إليكم" (زك3:1 + يع8:4). وإذا كان لم يزل بعيداً= مع أول خطوة للخاطئ التائب يقترب الله عدة خطوات. فهذا الضال كان مازال في عريه ونجاسته وخزيه، لكن إذا قرر العودة، أشعره الله بقبوله، وبقبلات الصفح والمحبة ليشجعه. الحلة الأولى= رداء البر الذي حصلنا عليه في المعمودية أولاً، لذلك تسمى التوبة= معمودية ثانية. خاتماً في يديه= علامة عودته للبنوة والسلطان على الحصول على المواهب الإلهية ثانية (فالخاتم يستخدم في ختم أوراق صرف النقود). حذاءً في رجليه= قارن مع حازين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام (أف15:6) فكلمة الإنجيل تنقي وتحفظ "سراج لرجلي كلامك" فعبيد الأب (كهنوت الكنيسة الذي قبل الإعتراف وأعلن الغفران الإلهي بفم الكنيسة، ويعطي التعليم لكل نفس بكلمات الله) عملهم هو التعليم، تعليم كلمة الله التي [1] ترشد في أثناء السير [2] تحفظ القدم من وعورة الطريق. قدموا العجل المسمن= إشارة لتقديم المسيح نفسه ذبيحة على الصليب وذبيحة يومية في سر الإفخارستيا. وهو مسمن فهو دسم الحياة الروحية. فنأكل= هذه علامة إتحادنا مع المسيح في سر الإفخارستيا. ونفرح= فرح المسيح هو في عودة الخاطئ وإتحاده به بعد إنفصال. وهنا الفرح سيكون في السماء كلها (لو10:15)= فإبتدأوا يفرحون. إبني هذا كان ميتاً فعاش= الخطية هي الموت (رؤ1:3+ يو25:5+ أف1:2+ أف14:5). وبهذا نفهم أن الموت الجسدي ما هو إلاّ إنتقال لحياة أفضل، طالما كان المنتقل يحيا حياة التوبة. الإبن الأكبر= هذا هو ما قيل عنه كم من أجير لأبي" (آية17) فهو إبن له كل الميراث، ولكنه يتخاصم مع أبيه بسبب جِدْيْ. ومازال هناك حتى الآن في الكنيسة من لهم روح العبيد هذه، ويتخاصمون مع الله بسبب أنهم يشعرون بأن الله حرمهم من (مال/ ترقية/ صحة/..الخ). ويقولون نفس الشئ لم أتجاوز وصيتك وهذا شعور كثيرين إذ تصيبهم تجربة فيقولون لماذا ونحن لا نخطئ (بر ذاتي) ويقولون أيضاً ها أنا أخدمك= ويقول هؤلاء نحن الذين صمنا وصلينا وكنا نذهب للكنيسة. قد حرمنا الله من كذا وكذا هؤلاء يظنون أنهم أصحاب فضل على الله، هم يصومون ويصلون لا عن حب بل طلباً لمكافأة. لا كبنين بل كعبيد، وهؤلاء يمتنعون عن الذهاب للكنيسة (مثل هذا الإبن الأكبر) في تجاربهم= فغضب ولم يُرِد أن يدخل والإبن الأكبر يرمز للكتبة والفريسيين الذين رفضوا قبول المسيح للعشارين والخطاة، واليهود عموماً الذين رفضوا قبول الأمم. ولاحظ قوله إبنك هذا= علامة على الإحتقار (إحتقار الفريسيين للعشارين والخطاة). خرج أبوه= محبة الله جعلته يطلب خلاص نفوس حتى هؤلاء المتكبرين. كل ما لي فهو لك= الله أعد نصيباً ومجداً لنا في السماء، فإن كنا نؤمن بهذا ونصدقه، هل نتخاصم مع الله، إذا حُرِمنا من أي نصيب أرضي، هذا يعادل غباوة الإبن الاكبر الذي يقارن بين جدي، وكل أملاك الأب ومجده! سمع صوت آلات طرب= هو صوت السمائيين بالخاطئ الذي تاب، وصوت فرحة الكنيسة الأرضية بالغفران والفداء الذي حصلت عليه.

نلاحظ أن الإبن الأصغر كان مرتداً وهو خارج البيت مستسلماً لشهواته ولكن الإبن الأكبر كان مرتداً وهو داخل البيت وظهر هذا في تركه البيت وغضبه وعدم إشتراكه في الوليمة ورفضه دخول البيت. وهو كان مرتداً مع أنه داخل البيت لأنه عاش بروح العبيد أخدمك. ينتظر الأجر، بل أنكر فضل أبيه= لم تعطني جدياً. وهو عاش بروح البر الذاتي (خطية الفريسيين)= قط لم أتجاوز وصيتك. ومع هذا لاحظ محبة أبيه له وكلماته الرقيقة له، فهو يريد أن الجميع يخلصون.



رؤية أخرى لمثل الإبن الضال

§ الله خلق الإنسان ليعمل [1] في الأرض (تك5:2 + تك15:2). وهذا يناظر عملنا اليوم في أعمالنا وأشغالنا [2] نعمل لمجد إسمه خصوصاً بعد أن صرنا في المسيح (أف10:2). والإنسان يُقَيَّم بقيمة عمله.

§ ما هو مقدار النجاح الذي ننجح به في أعمالنا؟ لكل واحد مواهبه (ذكاؤه/ قوته/ عمله/ خبراته..) ولكن كل هذا يقع في حيز المحدود. ولكن إتصالنا بالله، إذا كنا على إتصال بالله، فهذا ينقلنا إلى حيز اللا محدود. (مثل بطارية موصلة على مصدر شحن غير محدود، إن فصلتها ستعمل لمدة محددة ثم تنتهي شحنتها وتموت).

§ خلق الله آدم، وكان آدم على إتصال بالله فكان سيعيش للأبد ولكنه بسبب الخطية إنفصل عن الله، فوقع في حيز المحدود فمات.

§ الإنسان المتصل بالله، يكون له شركة مع الروح القدس، منها يستمد قدرات لا نهائية، (2كو14:13+ زك6:4) لذلك تصلي الكنيسة في أوشية المسافرين وتقول "إشترك يا رب مع عبيدك في كل عمل صالح"

§ إحساس الإنسان بذاته وقدراته يفصله عن المصدر اللانهائي لكل شئ، فمهما كانت قدرات إنسان فهو لا يستطيع أن يقول "أستطيع كل شئ.. مع بولس الرسول.. ولكن يكمل في المسيح الذي يقويني" (في13:4) لذلك فالطالب الذي يمتنع عن الكنيسة، هو معتمد على ذاته منفصل عن الله.

§ الإبن الضال أخذ مواهِبَهُ وسافر إلى كورة بعيدة فخسر المصدر اللانهائي بإتصاله بأبيه، ومن المؤكد أن أمواله ومواهبه ستنفذ ويدخل في مجاعة.

§ رجوعه إلى أبيه أعاده لحالة الإتصال مع الله (الحلة الأولى) الله برره حين رجع إليه.

§ الخاتم= عاد نتيجة إتصاله يستمد على شئ من المصدر اللانهائي، ليحصل على مواهب ثانية إذ قد تبرر.

§ حذاءً في رجليه= ليخرج للعمل المكلف به (أف10:2) (المواهب التي حصل عليها هي للخدمة).

§ العجل المسمن هو التناول والإتحاد مع الله ليكون نجاح العمل لا نهائي. نجاح غير محدود فالله يعمل معه.

http://demiana2010.com

18تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 16 السبت 2 يناير 2010 - 16:55

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 16

الآيات (1-13): (مثل وكيل الظلم)

الآيات (1-13): "وقال أيضاً لتلاميذه كان إنسان غني له وكيل فوشي به إليه بأنه يبذر أمواله. فدعاه وقال له ما هذا الذي اسمع عنك أعط حساب وكالتك لأنك لا تقدر أن تكون وكيلاً بعد. فقال الوكيل في نفسه ماذا افعل لأن سيدي يأخذ مني الوكالة لست أستطيع أن أنقب واستحي أن استعطي. قد علمت ماذا افعل حتى إذا عزلت عن الوكالة يقبلوني في بيوتهم. فدعا كل واحد من مديوني سيده وقال للأول كم عليك لسيدي. فقال مئة بث زيت فقال خذ صكك واجلس عاجلاً واكتب خمسين. ثم قال لآخر وأنت كم عليك فقال مئة كر قمح فقال له خذ صكك واكتب ثمانين. فمدح السيد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل لأن أبناء هذا الدهر احكم من أبناء النور في جيلهم. وأنا أقول لكم اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية. الأمين في القليل أمين أيضاً في الكثير والظالم في القليل ظالم أيضاً في الكثير. فان لم تكونوا أمناء في مال الظلم فمن يأتمنكم على الحق. وأن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير فمن يعطيكم ما هو لكم. لا يقدر خادم أن يخدم سيدين لأنه أما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر لا تقدرون أن تخدموا الله والمال."

رأينا في الإصحاح السابق إشتياق الله لرجوع كل خاطئ، هنا يشرح السيد أن كل خاطئ يلزمه أن يتصرف بحكمة ليغتصب الملكوت. وأن الحياة العتيدة هي ثمرة ونتيجة للحياة الحاضرة. والله أعطانا وزنات كالمال مثلاً يمكننا أن نستخدمه بأنانية، ويمكننا أن نستخدمه بحكمة فنغتصب الملكوت. ونفس المفهوم نجده في مثل لعازر والغني في نفس الإصحاح.

وكيل الظلم= سماه السيد هكذا فهو كان يبذر أموال سيده وثانياً فهو حينما عرف أن سيده سيطرده غير الصكوك وبهذا تسبب في خسارة ثانية لسَيِّده. والسيد قطعاً لا يمدحه على هذا، بل يمدحه لأنه فكر في مستقبله، فهو قد إشتري أصدقاء (هم المديونين لسيده)، وهؤلاء يمكن أن يستفيد منهم بعد طرده من وكالة سيده. وهو إشتراهم بالمال الذي كان بين يديه، الذي إستأمنه سيده عليه. هذا الوكيل يشير لمن بدد المواهب والوزنات التي أعطاها الله له على شهواته.

مال الظلم= هو المال الذي بين أيدينا، لكن لماذا أسماه السيد هكذا؟

1) هو مال من هذا العالم الظالم الشرير، مهما حصلنا عليه بالحلال.

2) توزيع الأموال ظالم في هذا العالم، فكم من إنسان لا يعمل ويملك الكثير، وهناك من يكد ويجتهد ولا يملك شيئاً.

3) هو مال ظلم لأنه يجعل الناس تعبده تاركة الله، وهو إذا إبتغاه أحد ضل عن الإيمان، وهو سيد قاسٍ يستعبد الناس.

4) هو خادع يوهم الناس بالسعادة ولكنه لا يعطيها.

5) الأصل أن كل الأموال هي لله وأنا وكيل عليها، فإذا أعتبرتها ملكاً لي، أصرف منها على ملذاتي فقط، فأنا بهذا أصبح مبذراً في أموال الله، وأصير بهذا وكيل ظلم، ولكن إن تصرفت فيها بطريقة ترضى الله فتتحول إلى أموال مقدسة. فهو مال ظلم لأننا ننسب ما لله لنا، أي نغتصب حق الله.



كيف نرضي الله بأموالنا؟

هناك فقراء ومحتاجين، هؤلاء هم مديوني السيد. وكل هؤلاء ليس لديهم ما يأكلونه وما يلبسونه، فلنصرف على هؤلاء فيشهدون لنا في السماء، أليس هؤلاء هم إخوة الرب. وبهذا صاروا أصدقاء لنا. وبهذا صارت أموالنا سماوية، وصار لنا كنزاً في السماويات ينفعنا حين نغادر هذا العالم. هذه هي الحكمة المطلوبة منّا أن يكون لنا أصدقاء سماويين نشتريهم بالأموال التي بين أيدينا عوضاً عن أن نبددها على ملذاتنا وشهواتنا في عالم سنتركه إن آجلاً أو عاجلاً. إنسان غني= هو الله صاحب كل المواهب، يعطي لكل منا موهبة (1بط10:4). وكيل= الله يعطي كل منا مواهب وأموال وسيطلب حساباً عن كل ما أعطانا. يبذر أمواله= نفس ما قيل عن الإبن الضال (13:15). إعط حساب وكالتك= هذا ما سنسمعه يوم الدينونة. لا تقدر أن تكون وكيلاً بعد= أي ستترك هذه الحياة. قال الوكيل في نفسه= هذه مثل ما قيل عن الإبن الضال "فرجع إلى نفسه". ماذا أفعل= لقد صحا الوكيل من غفلته، وبدأ يفكر في إصلاح حاله. أنقب= أسرق وقد تعني حفر الأرض للزراعة. أستعطي= أتسول. وهذا الوكيل لن يستطيع أن يعمل كعامل زراعة أو يتسول أو يسرق. ولنلاحظ أنه في يوم الدينونة لن يصلح أن نسرق أو نجاهد ونعمل فلا عمل يصلح هناك أو نستعطي من القديسين، فالعذارى الحكيمات لم يعطين للجاهلات شيئاً من زيتهن. بث= 40لتر. كر= 350كجم تقريباً. كم عليك= هو يعلم ولكنه يسأل المديون حتى يشعره بأنه يسدي له معروف. أبناء هذا الدهر= هم المتعلقون بأمور الدنيا ولا نصيب لهم في الأبدية (أولاد العالم). أبناء النور= هم أبناء الإيمان الذين يسيرون في نور الكتاب ولهم الأبدية (أولاد الله). المظال الأبدية= عبارة مستعارة من الأعياد اليهودية مقصود بها دار الخلود. إذاً المسيح في هذا المثل لا يقصد تطبيقه من كل الجوانب، فقطعاً هو لا يريدنا أن نسرق، ولكن هو يريد أن نحول أموالنا لتصير لنا رصيد سماوي. أن تكون لنا النظرة المستقبلية وليس النظرة المحدودة بهذا العالم.

أبناء هذا الدهر أحكم= هم دائماً يفكرون في الغد، ويستثمرون أموالهم لتكون ضماناً لمستقبلهم، فهل نفكر في مستقبلنا الأبدي كأبناء نور وبهذا نصير حكماء، ولا تضيع فرصتنا في السماء. ونستطيع تطبيق المثل ليس فقط على الأموال بل على الوقت والصحة والتعليم والذكاء.. وكل ما أعطاه الله لنا، فهناك من لديه وقت فراغ.. فماذا يعمل به، هي يتسكع في الطرقات والنوادي، أم هو يضيع وقته في خدمة الكنيسة فيصير له شفيع الكنيسة صديقاً سماوي. وهناك من أعطاه الله صحة، ففي ماذا يصرف صحته؟ هناك من يستغل صحته في إفتقاد المرضى والمساكين والبعيدين عن الله.. وهكذا.



(آية10): القليل هو مال الظلم هو الثروة الزمنية. والأمين في القليل= هو من لا يبدد ماله على ملذات الدنيا وشهواته، بل يعطيه للمحتاج. أمين أيضاً في الكثير= أي العطايا الروحية. فالأمين مع الناس سيكون أميناً مع الله. لذلك يعطيه الله بغنى من هباته الإلهية ما يزين نفسه وتعطيه جمالاً ربانياً، نكون متشبهين بالله، ومن كان أميناً مع الله على الأرض في مال الظلم يستأمنه الله على الكثير الذي هو المجد الأبدي.



(آية11): هنا يتضح أن مال الظلم هو القليل في الآية السابقة. ولاحظ أن السيد الرب يضع في مقابله كلمة الحق، وذلك لأن المال باطل، فهو غير حقيقي، هو موجود اليوم، وغير موجود غداً، ولا تستطيع أن تأخذه معك إلى العالم الآخر، بينما العطايا السماوية والفضائل، هذه تستمر معنا في السماء.



(آية12): ما هو للغير= الغير هم الفقراء، فإن لم نكن أمناء معهم فيما بين أيدينا من مال الظلم، فالله لن يعطينا ما هو لنا من البركة والسلام والفرح والرجاء.. أما لو أعطيت ما عندك للفقراء سكب الله عليك من غني مجده.



(آية13): هنا يضع السيد حداً فاصلاً بين قبول تبعيته والإرتباط بمحبة المال. الله ليس ضد الغنى، فإبراهيم وإسحق ويعقوب كانوا أغنياء، والله لم يكن ضدهم، بل الله ضد عبادة المال، أي يصير المال هدفاً وإلهاً يُعبَدْ، أو أداة للملذات والترف الزائد بينما الفقراء في جوع وحرمان. وعبادة المال تعني أن يظن الإنسان أن المال فيه ضماناً للمستقبل. فالله وحده القادر على ذلك.



الآيات (14،15): "و كان الفريسيون أيضاً يسمعون هذا كله وهم محبون للمال فاستهزأوا به. فقال لهم انتم الذين تبررون أنفسكم قدام الناس ولكن الله يعرف قلوبكم أن المستعلي عند الناس هو رجس قدام الله."

طبعاً من يحب المال لن يعجبه كلام السيد المسيح الذي قاله. الله يعرف قلوبكم= لن تستطيعوا أن تخدعوا الله كما تخدعون الناس إذ هم يتظاهرون بالبر والقداسة وهم عبيد المال.

المستعلى عند الناس هو رجس عند الله= ما ترونه أنتم أنه حسنٌ كالمال هو رجس عند الله. والتقوى الظاهرية التي هي صالحة في نظركم هي رجس عند الله (فهم يصومون ويصلون ليراهم الناس وهذا في نظر الله رياء ورجس) ومحبتهم للمال بالطبيعة ساقتهم للكبرياء فكلما إزدادت أموالهم تكبروا بزيادة، فإذا أضيف إلى محبة المال برهم الذاتي، يزداد كبريائهم وكل مستعلى متكبر هو رجس عند الله.



آية16: راجع كتاب إنجيل متى (مت12:11،13)

آية17: راجع كتاب إنجيل متى (مت18:5)

آية18: راجع كتاب إنجيل متى (مت1:19-12)

هذه الآيات سبق شرحها ولكن ما مناسبة ذكرها هنا الآن؟

كان الفريسيون يعظمون ناموس العهد القديم، والمسيح هنا يشرح أن هذا الناموس كان لتهيئة الناس لنظام أكمل، والمعمدان أيضاً جاء ليعد الطريق لهذا النظام الجديد. الناموس والأنبياء إلى يوحنا= تعاليم العهد القديم كانت حتى يوحنا. من ذلك الوقت= أي بعد يوحنا المعمدان ويعني بشارة المسيح= يبشر بملكوت الله. إذا الناموس كان وقتياً، ولكن الناموس لا يمكن أن يبطل فهو رمز للخيرات العتيدة وظلها، وهو شاهد بنبواته ورموزه للمسيح، وهدف الناموس والنبوات هو المسيح، وهو يعلن إحتياجنا المستمر للمسيح. وكان ظهور المعمدان إيذاناً بظهور المسيح، وها قد أتى المسيح وها ملكوت الله أمامكم، الذي شهد عنه ناموسكم وشهد عنه المعمدان لكنكم عميان، لقد أدرك العشارون والخطاة هذا الملكوت وها هم يتزاحمون للدخول لهذا الملكوت، كل منهم يبذل جهده ويحتمل الصعاب ويغصب نفسه في سبيل هذا الملكوت الذي صار واضحاً لهم، والذي بدأ المسيح يبشر به، وكل ما يبذل جهداً ويغصب نفسه (بالإمتناع عن خطاياه القديمة وتركها) يفعل هذا عن طيب خاطر عالماً أنه سيفوز بأمجاد لا تقاس بجانب تلك المصاعب والمشقات.

زوال السماء.. أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس= أصغر تعليم في الناموس لن يتغير. فيلزم الخضوع للناموس وليس كما فعل أبائهم. ففي كلام السيد عن الطلاق كان يشرح لهم أنهم بحسب تعاليم شيوخهم أباحوا الطلاق لأتفه الأسباب فبعض أبائهم سمحوا بالطلاق لو الزوجة كان طعامها سيئاً، وهم يدعون أنهم يكرمون الناموس ولكنهم بإباحتهم الطلاق فهم قد حرضوا الناس على الزنا، وخالفوا الناموس (راجع ملا10:2-16) فقوله هنا أن الله يكره الطلاق فكيف سمحوا لأنفسهم بإباحته. خصوصاً أن ما جمعه هو الله. فالله هو الذي شرع الزواج "يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته" (تك24:2)

معنى كلام السيد هنا أنه، أنتم أيها الفريسيون تتهمونني بأنني ضد الناموس. والعكس هو الصحيح. فأنتم الذين كسرتم الناموس. أما أنا فكصاحب وواضع الناموس لا أكسره.



الآيات (19-31): (مثل لعازر والغني)

الآيات (19-31): "كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبز وهو يتنعم كل يوم مترفها. وكان مسكين اسمه لعازر الذي طرح عند بابه مضروباً بالقروح. ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني بل كانت الكلاب تأتى وتلحس قروحه. فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم ومات الغني أيضاً ودفن. فرفع عينيه في الجحيم وهو في العذاب ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه. فنادى وقال يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم يا ابني اذكر انك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا والآن هو يتعزى وأنت تتعذب. وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا. فقال أسألك إذاً يا آبت أن ترسله إلى بيت أبي. لأن لي خمسة اخوة حتى يشهد لهم لكي لا يأتوا هم أيضاً إلى موضع العذاب هذا. قال له إبراهيم عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم. فقال لا يا أبي إبراهيم بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون. فقال له إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون."

هنا صورة أخرى لنهاية إنسان أساء إستخدام أمواله. فهو أنفق أمواله فيما لا يفيد (الأرجوان والبز والتنعم مترفهاً) كل يوم= استمراره في شهواته. ولعازر (الله يعين= هذا معنى إسمه، فالله يعين من ليس له أحد يعينه) المسكين لا يجد سوى الفتات الذي يُلقي عند الباب، ولا أحد يعتني بقروحه بل تلحسها الكلاب. ولاحظ النهاية فيقال عن الغني أنه مات ودُفِن، أي نهايته التراب، أمّا لعازر فقد حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. في لحظة لم يَعُدْ الغني يرى كل مشتهياته. وفي لحظة ترك لعازر المسكين كل آلامه وتمتع بحمل الملائكة له، وتمتع بحضن إبراهيم في السماء وللأبد. أمّا إسم الغني فلم يُذكر لعدم أهميته.

وحملته الملائكة= فالملائكة الذين يفرحون بتوبتنا (لو10:15) يأتون لإستقبالنا ولكي يحملونا إلى السماء. وبنفس المفهوم تصلي الكنيسة في صلاة الغروب قائلة للعذراء "وعند مفارقة نفسي من جسدي إحضري عندي" فالقديسين يأتون ليستقبلوا نفوس الأبرار ويصعدوا معهم إلى السماء. رفع عينيه= فهو في مكان سفلي أما لعازر ففي مكان مرتفع سامٍ (معنوياً). كان إنسان غني.. وكان مسكين إسمه لعازر= في الحياة يذكر إسم الغني أولاً. لكن السيد لا يذكر إسمه فهو كان وكيل ظلم غير حكيم فمات المسكين.. ومات الغني= في الموت ذُكِرَ إسم لعازر أولاً فهو ذهب للسماء. لقد تغيرت أماكن الكرامة والإحتقار في السماء.

هناك رأيين في مثل الغني ولعازر:-

1- أنها قصة حقيقية بدليل ذكر السيد لإسم الفقير.

2- أنها قصة رمزية، وإسم لعازر هو رمزي بمعنى أن الله يعين المساكين، ويعني أن المسيح يعرف الفقراء بالإسم فهم إخوته.

ونلاحظ أن السيد المسيح لم يذكر أي خطايا للغني سوى أنه عاش لنفسه وأهمل الفقير الذي على بابه. فالغني ليست خطيته ولكنه قسوته.

ونلاحظ أن الفقر ليس سبباً كافياً لدخول السماء، فالفقير الذي يجدف على الله، أو الذي يتذمر لاعناً فقره والزمن الذي جعله فقيراً، أو الفقير الذي يشتهي الغني ويحسد الأغنياء.. هؤلاء لن يدخلوا السماء. لكن لعازر يرمز لمن يحتمل آلامه بشكر والله يعينه عليها.

آلام لعازر

1- فقيراً جداً 2- ضعيف جسدياً ومن ضعفه هو غير قادر على طرد الكلاب (يقال أن ما عملته الكلاب كان يخفف آلامه) 3- لا أحد يعوله 4- عدم إكتراث الغني به بالرغم من ترفه الشديد.

5- مقارنة حاله بحال الغني 6- أكله من الفتات الملقي.

لكنه بالرغم من هذا لم يشتكي ولم يتذمر ولم يجدف على الله لذلك أستحق أن تحمله الملائكة للسماء.

حضن إبراهيم= كناية عن راحة المطوبين، في نفس مكان إبراهيم، مكان الشرف والبنوة.

· كان ملاكاً واحداً قادراً على حمله، ولكن جاءت ملائكة تعبيراً عن فرحتها به.

· بعد خروج النفس مباشرة تدخل إمّا للفردوس أو للجحيم ونلاحظ:

1- ذلك يحدث بعد الخروج مباشرة (وليس بعد صلاة يوم الثالث).

2- هناك مكانين فقط (الفردوس والجحيم) وليس هناك ما يسمى المطهر.

3- تعرف النفس مصيرها بعد الخروج. ولكن المجد والعقاب في اليوم الأخير.

· ليبل طرف إصبعه= هذا دليل على العذاب، ولكن لا يمكننا فهم طبيعة العذاب تماماً، فنحن لا ندرى ما هو الحال الذي ستكون أجسادنا عليه حينئذ ولاحظ أن من كان يأكل الفتات، هو الآن في نعيم، ومن كان في نعيم لا يجد قطرة ماء. وأخيراً صار الغني شحاذاً.

· هوة عظيمة= هذه تعني أن أحكام الله عادلة ونهائية لن تتغير وللأبد.

· إستوفيت خيراتك في حياتك= إن كنت قد فعلت أي عمل صالح فلقد أخذت أجرك أثناء حياتك على الأرض.

· أسألك يا أبتِ أن ترسله= هذه موجهة لمن ينكرون الشفاعة، فإن كان الغني الشرير في الجحيم يتشفع في أهله في الأرض، وهو الذي كان بلا محبة في حياته. فهل ينكرون هذا على الملائكة والقديسون المملوئين حباً والذين يفرحون بتوبتنا.

· نستنتج من المثل أن النفوس تعرف بعضها فالغني عرف لعازر، بل عرف إبراهيم الذي لم يراه على الأرض. والنفس تتذكر ما كان على الأرض.

· إقامة ميت لن تكون سبباً في توبة أحد، فالمسيح أقام لعازر واليهود فكروا في قتله. لكن الكتاب المقدس له قوة تأثير على النفوس أكثر من إقامة ميت= موسى والأنبياء. وفي الكتاب المقدس ما يكفي ليقودنا للخلاص دون معجزات.

http://demiana2010.com

19تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 17 السبت 2 يناير 2010 - 16:56

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 17

الآيات (1-6): راجع كتاب إنجيل متى (مت6:18،7)

راجع كتاب إنجيل متى (مت15:18،21،22)



آيات (1،2): "وقال لتلاميذه لا يمكن إلا أن تأتي العثرات ولكن ويل للذي تأتي بواسطته. خير له لو طوق عنقه بحجر رحى وطرح في البحر من أن يعثر أحد هؤلاء الصغار."

العالم الذي نحيا فيه هو عالم شرير، وقد وضع في الشرير. ولابد سيأتي ضيق على المؤمنين وهرطقات، وكتب وأفلام وصور خليعة معثرة وأصدقاء أردياء ومسكرات ومخدرات، وخصومات ومنازعات (2تي1:3-5). بل هناك عثرات من الخدام والكهنة، فأخطاء هؤلاء معثرة جداً. والله ليس هو سبب هذه الضيقات والعثرات، ولكنه هو يعلم أنه لابد وستأتي. وللناس الحرية أن يقبلوها أو يرفضوها. وقول السيد هنا ويلٌ= هو إنذار لكل من تسول له نفسه أن يفعل هذا. هؤلاء الصغار= يقصد الرسل والتلاميذ، والمؤمنين البسطاء المتضعين، أو قليلي المعرفة. يطوق عنقه بحجر رحي= هي عقوبة يونانية رومانية. والمسيح لا يدعو للإنتحار قطعاً، بل يدعو للتوبة، ولكن معنى الآية، أن عذاب الغرق لثواني أما عذاب الجحيم فأبدي.



آية (3): "احترزوا لأنفسكم وأن أخطأ إليك أخوك فوبخه وأن تاب فأغفر له."

إحترزوا لأنفسكم= من أن [1] تتعثروا [2] من أن تعثروا أحداً. وأشهر عثرة هي عدم الغفران لذلك يقول= إن أخطأ إليك أخوك فوبخه= وفي (مت23:5،24) يقول للمخطئ لا تقدم قربانك على المذبح قبل أن تذهب وتصطلح مع أخيك، وبجمع الآيتين نجد السيد يوجه الخصمين للصلح.



آية (4): "وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلاً أنا تائب فأغفر له."

التلمود كان يعلم بالغفران 3 مرات، وهنا يطلب السيد 7مرات، وفي (مت21:18-22) يطلب الغفران 70×7 ورقم 7 هو رقم كامل وبذلك يكون المعنى الغفران الكامل الدائم.

وإن كان السيد يطالبنا بأن نفعل هذا فهو بالتأكيد سيغفر لنا بنفس الشروط. هذا يفتح باب الرجاء للتائبين.



آيات (5،6): "فقال الرسل للرب زد إيماننا. فقال الرب لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي وإنغرسي في البحر فتطيعكم."

أدرك الرسل أن ما يطلبه السيد هو فوق حدود الطبيعة الإنسانية فقالوا= زد إيماننا= أي طلبوا معونة إلهية للتنفيذ، أو طلبوا قلباً جديداً وطبيعة جديدة قادرة على الغفران، والطبيعة الجديدة تأتي أولاً بالإيمان ثم بعمل النعمة. والله هو الذي يزيد الإيمان. وبولس الرسول يمدح أهل تسالونيكي إذ أن إيمانهم ينمو (2تس3:1). والله له وسائله الخاصة ليزيد إيماننا، فتارة يعطينا من نعمه وبركاته الكثير، وتارة يسمح ببعض التجارب والتأديبات، وعلينا أن نشكر الله على عطاياه فلا ننشغل بالعطية عن العاطي، وعلينا أن نشكر في الضيقات ولا نتذمر. (كو7:2) فنحن نتفاضل في الإيمان بالشكر وكلما شكرنا ولم نتذمر تنفتح عيوننا الداخلية ونرى يد الله فيزداد إيماننا فالله يعطي أولاً الإيمان، فهو عطية من الله، ويكون أولاً صغيراً مثل حبة خردل، ومع الشكر وعدم التذمر تنقلع شجرة الجميز= أي الشك الجاثم على قلوبنا أو الخطية المتعمقة في القلب. فالإيمان هو خبرة معاشة مع الله فيها نتلامس معه يومياً فينمو إيماننا. وقيل أن شجرة الجميز ترمز للشيطان الذي يلقي بذار الشك في قلوبنا، فكلما يزداد إيماننا نأمره بأن يبتعد ويُرمي في البحر، كما حدث مع قطيع الخنازير. حبة الخردل= بذرة صغيرة تستخدم كتوابل، وحينما تنمو تكون شجرة بطول 3.5متر. وجذورها ثابتة وقوية. واليهود يقولون حبة خردل للإشارة للأشياء الصغيرة جداً.



الآيات (7-10): "ومن منكم له عبد يحرث أو يرعى يقول له إذا دخل من الحقل تقدم سريعاً واتكئ. بل ألا يقول له اعدد ما أتعشى به وتمنطق واخدمني حتى أكل واشرب وبعد ذلك تأكل وتشرب أنت. فهل لذلك العبد فضل لأنه فعل ما أمر به لا أظن. كذلك انتم أيضاً متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا أننا عبيد بطالون لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا."

السيد المسيح علمنا أن نصلي لله قائلين يا أبانا الذي.. وهو يكلم التلاميذ قائلاً لهم يا أولادي (يو33:13). ويقول لا أعود أسميكم عبيداً.. لكني قد سميتكم أحباء (يو15:15). ويقول الكتاب "أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله (يو12:1). فلماذا يعود السيد المسيح هنا ويطالبنا أن نكون عبيداً؟ أولاً: نحن عبيد فهو قد إشترانا بدمه لكن طبيعة الإنسان تشتهي المجد الباطل وتميل إليه، ألم يسقط آدم وحواء إذ أرادا أن يصيروا مثل الله. والتلاميذ بعد هذه الفترة الطويلة مع المسيح إشتهوا أن يكون أحدهما عن يمينه وعن يساره (مت21:20). وتشاجر التلاميذ من منهم أعظم (مت1:18 + مر34:9) بل حتى الليلة التي أسْلِمَ السيد فيها تشاجروا على من هو أعظم (لو24:22). ولو تصرف كل إنسان على أنه إبن الله وبهذا ينتفخ سنسقط في الكبرياء ونضيع ونبحث عن الكرامات التي نستحقها كأبناء لله..!! ولكن السيد في هذا الدرس كان يريد منّا أن لا نبحث عن أي أمجاد أو كرامات في هذا الزمان الذي نتعرض فيه لخطورة السقوط في الكبرياء، فليسمينا الله أحباء وبنين، ولكن علينا أن نصنع كل واجباتنا، ونقوم بخدمتنا بأمانة، ونعبد الله بأمانة، ولكن نقول، نحن عبيد قمنا بواجبنا، ولا نطلب أمجاد في المقابل ولا كرامات ولا عطايا في مقابل خدمتنا، ولا مكافآت زمنية سواء ماديات أو مواهب روحية، علينا أن نعيش بهذه الروح، روح الإتضاع والإنسحاق والشعور بأننا لا نستحق شئ، لنردد مع بطرس "أخرج يا رب من سفينتي فأنا رجل خاطئ" (لو8:5) (ليس المقصود أن يخرج الرب فعلاً، لكن هي عبارة تشير لعدم إستحقاق بطرس لوجود الرب في سفينته، وذلك لأنه أدرك أنه خاطئ) فهل نحن بلا خطية؟ حاشا.. إذاً فنحن خطاة لا نستحق شئ. وربما أتت هذه الآيات بعد حديث الرب عن المغفرة والإيمان. فهل لو رأينا إيماننا قد إزداد، أو أصبحنا بنعمته قادرين على الغفران فهل تأخذنا نشوة التفاخر والتعظم؟! هنا نفهم نصيحة المسيح، أنه "يجب علينا أن نكون كعبد رجع من عمله، فعليه ألاّ ينتظر الراحة بل يكمل خدمة سيده" ونحن علينا ألاّ نكف عن الخدمة، وألاّ نطلب الراحة واللذة في هذا الزمان الحاضر. بل لا نطلب شكراً من أحد بل لا ننسب لأنفسنا فعل الخير، فكل خير فعلناه، الله هو الذي أعطانا أن نفعله، فلماذا ننسب لأنفسنا ما صنعته نعمة الله (يع16:1،17+ 1كو7:4+ 1كو10:15) بل كوننا أبناء فهذا أصلاً من نعمته وليس فضلاً منا. ونحن خارج نعمته ما نحن سوى عبيد بطالون= أي لم نوفه حقه، ولن نوفه مهما عملنا. فنحن مدينون له بحياتنا أولاً ثم بكل ما بين أيدينا، ثم بفدائه، وبحصولنا على البنوة.

· وإن كان من يفعل كل ما أُمِرَ به هو عبد بطال فماذا نكون نحن المقصرين فيما طُلِبَ منّا؟!

· هذا هو السبب الذي جعل بولس الرسول يعتبر نفسه مديون للكل (رو14:1)

تمنطق وإخدمني= إشارة للجهاد طوال العمر. بعد ذلك تأكل وتشرب= إشارة للحياة الأبدية والشبع في الملكوت. دخل من الحقل= العمل في العالم. أعدد ما أتعشى به= بعد العودة للمنزل علينا أن نفرح الله بعبادتنا.



الآيات (11-19): (شفاء العشرة برص)

الآيات (11-19): "وفي ذهابه إلى أورشليم اجتاز في وسط السامرة والجليل. وفيما هو داخل إلى قرية استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد. ورفعوا صوتاً قائلين يا يسوع يا معلم ارحمنا. فنظر وقال لهم اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة ففيما هم منطلقون طهروا. فواحد منهم لما رأى انه شفي رجع يمجد الله بصوت عظيم. وخر على وجهه عند رجليه شاكراً له وكان سامرياً. فأجاب يسوع وقال أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة. ألم يوجد من يرجع ليعطي مجداً لله غير هذا الغريب الجنس. ثم قال له قم وامض إيمانك خلصك."

نرى هنا الرب يسوع هو الذي يطهر نفوسنا من برص الخطية، وأنه بينما هو يشفي ويخلص يفرح بمن يعود له شاكراً. ولكن هل يحتاج المسيح لأن نشكره؟! المسيح لا يحتاج منى أي شئ. العطاء والمحبة من طبعه. ولكن أن أشكر الله فهذا يعطي لي فرصة أن أستمتع بمحبة الله، القلب الشاكر يُمَكِّنْ الله من أن يتعامل معه ويعزيه ويفرحه، وهذا عكس القلب المتذمر الذي يغلق الباب أمام الله، فلا يستطيع الله أن يتعامل معه. لذلك تعلمنا الكنيسة المقدسة أن نبدأ كل صلواتنا بالشكر، حتى في الأحزان، فالله صانع خيرات، وحتى ما نعتبره ضيقة أو تجربة أو شدة فهو للخير (رو28:8 + 1كو22:3) لذلك علينا أن نشكر دائماً وفي كل حال. فمن يشكر في الضيقة، كما قلنا ثقة منه في الله، وإيمان بأن الله لا يستطيع أن يصنع سوى الخير حتى لو لم نفهم الآن ما يصنعه ولكننا سنفهم فيما بعد (يو7:13)، مثل هذا القلب يستطيع أن يتعامل الله معه ويملأه تعزية وسط الضيقة. لذلك يطلب المسيح أن نتعلم الشكر في العطايا الحلوة والصحة، وإذا تعلمنا هذا سنستطيع أن نشكره في الضيقات وبهذا تكون صلتنا مستمرة معه. الجحود تجاه الله، وتجاه الناس ناشئ عن خطايانا التي تسببت في قسوة قلوبنا. فهناك من يشتكي حاله بمرارة إستدراراً لعطف الناس ولكنه لا يشكر أبداً. وهناك من هو غير راضٍ عن نصيبه في الحياة، ويقارن بين حاله وحال غيره ويتذمر إذ يرى نفسه أقل من ناحية الخيرات المادية فيتذمر ولا يشكر أبداً.

لذلك علمتنا الكنيسة أن نبدأ كل صلواتنا بالشكر وهذا يجعل القلب أداة طيعة في يد الله يسهل على الله التعامل معها.

تشبيه= يشبه القلب بقطعة من الشمع، إذا تعرضت للحرارة تسيل وتلين ويسهل تشكيلها، ولو بردت تتكسر لو حاولت أن تعيد تشكيلها. وهكذا قلب الإنسان. فالقلب الشاكر الذي تعود على الشكر يلين في يد الله، ويستطيع الله أن يعطيه الكثير من نعمته، مثل هذا الأبرص الذي عاد شاكراً، فهو قد حصل بالإضافة إلى شفائه الجسدي، على الخلاص= إيمانك خلصك أما الجاحد والمتذمر فهذا يحزن الله، لا لأن الله كان يحتاج لشكره بل لأنه كان يود لو أعطاه المزيد من نعمته. فالعبادة الحقة هي أن نشكر الله دائماً. وسؤال السيد فأين التسعة= هو إبداء الأسف والحزن على الجحود، وكما قلنا فالسيد كان يود أن يعطيهم كلهم المزيد، وهم قد حرموا أنفسهم (كل عطية بلا شكر هي بلا زيادة) (مارإسحق).

نقطة أخرى خطيرة: فالله يعطينا كثيراً من الخيرات الزمنية (أموال/ صحة..) وكثيراً ما ننشغل بالعطية ونترك العاطي، وهذا يحرمنا من الحصول على البركات الروحية. ولكن من ينشغل قلبه بشكر وتسبيح الله على الخيرات الزمنية التي يعطيها له، يحصل على المزيد من الخيرات الروحية، والخلاص والحياة الأبدية. فوقفوا من بعيد= حسب الشريعة فهم لا يخالطوا الناس، فالبرص نجاسة ومن يتلامس معهم يتنجس. فكانوا يعزلونهم، إشارة لضرورة عزل الخطية، فمن يتلامس معها يتنجس (البرص رمز للخطية).

يا معلم إرحمنا= صراخهم يدل على إيمانهم بالمسيح. بل أن إيمانهم إتضح أيضاً في أن المعلم أمرهم بالذهاب للكهنة وهم مازالوا بُرصاً ولقد طهروا في الطريق. فهم آمنوا بقوته ولم يعترضوا على الذهاب للكهنة قبل أن يشفوا. هذا دليل ثقتهم في كلمة السيد. ولكن عاب التسعة عدم الشكر فحرموا من المزيد.

ولقد طلب منهم السيد الذهاب للكهنة: [1] فالسيد ما جاء لينقض الناموس بل ليكمله [2] هو يعطي للكهنة دليلاً مادياً على قدرته على الإبراء والتطهير، الأمر الذي يعجز عنه الناموس لعلهم يؤمنون به [3] في هذا التصرف يعطي للسيد الدرس للأجيال أن تخضع للكنيسة [4] كانوا يعلمون أن البرص شفاءه من عند الله فقط، فكون أن المسيح قد شفاهم فهذا إعلان عن لاهوته.

· الذي عاد للمسيح هو [1] أبرص + [2] سامري (محتقر). وهذا تطبيق للمثل الذي قاله السيد "من يسامحه بالأكثر يحبه أكثر"



الآيات (20-37): (متى يأتي ملكوت الله)

الآيات (20،21): "ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله أجابهم وقال لا يأتي ملكوت الله بمراقبة. ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك لأن ها ملكوت الله داخلكم."

علامات المجيء الثاني راجع كتاب الآلام والقيامة (مت17:24،18،23،27،28،37-41)

ولما سأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله= الفريسيون ظنوا أن الملكوت هو ملكوت أرضي وليس سماوي. وربما كان سؤالهم بسخرية بمعنى "أين هذا الملكوت الذي تحدثنا عنه، فهم كانوا ينتظرون حكم العالم بفارغ الصبر ولكنهم ها هم يراقبون الموقف ولم يجدوا المسيح يعبئ جيوشاً ولا توجد مظاهر أبهة ومواكب ملوكية، هم لا يرون أي علامات خارجية لعيونهم. لا يأتي ملكوت الله بمراقبة= هو لا يأتي مقترناً بعلامات خارجية، بل في هدوء وبغير جلبة، ولا يُرى سوى نتائجه، ولا يراه سوى من كان مستعداً لمجيئه كسمعان الشيخ. علامته غير ظاهرة للعيان فلا يستطيع أحد أن يقول هوذا هنا أو هوذا هناك= أي هنا في السامرة أو هناك في أورشليم فهو ملكوت روحي يقوم في قلوب الناس= ها ملكوت الله داخلكم= يملك فيه الله على القلب، ويسيطر على الفكر والميول والمقاصد والعواطف. وهذا الملكوت لا يأتي بمراقبة بل يكون ظهوره فجأة. ومن علامته داخل القلب الفرح وحب الله بشدة ونسيان الدنيا وما فيها. إذاً هو يظهر في الداخل وليس في الخارج. ولكن قول السيد للفريسيين في داخلكم لا يعني أنهم وصلوا لهذه الدرجات ولكنه يعني لا تفتشوا عن الملكوت في الخارج، ولكن إبحثوا عن هذه العلامات في الداخل، وهذا لا يأتي إلاّ لو قبلتم هذا الملكوت. ولكنه لا يأتي إلاّ [1] بالإيمان بي أولاً [2] التوبة عن أعمالكم الشريرة [3] المعمودية حتى تولدوا من فوق. إذاً معنى كلام السيد لهم "إن ملكوت الله في متناول أيديكم لكنكم لغباوتكم وعنادكم لا ترونه" وسؤال الفريسيين هنا للأسف، مازال هو السؤال الذي يشغل بال كثير من الطوائف والكثير من الناس وهو.. متى يأتي المسيح.. والمسيح يقول لا تنشغلوا بهذا بل إنشغلوا بأن تبحثوا هل ملكوت الله بدأ في داخلكم.



آية (22): "وقال لتلاميذه ستأتي أيام فيها تشتهون أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان ولا ترون."

هذه نبوة عن الضيقات التي ستواجه التلاميذ، والتي ستكون الضيقات التي يرونها الآن من الفريسيين بجانبها هي كلا شئ. السيد هنا لا يريد أن يرعبهم بل يهيئهم لإحتمال نفقات الإيمان، ويظهر لهم أنه عالم بكل شئ فيزداد إيمانهم به إذا حدثت هذه الآلام فعلاً (يو29:14). وهذا موجه لنا ولكل جيل ألاّ نضطرب إذ نعلم أن هناك ضيقات ستسبق مجيئه. تشتهون أن تروا يوماً= تشتهون وجودي معكم لأعزيكم وأشددكم.



آيات (23،24): "ويقولون لكم هوذا ههنا أو هوذا هناك لا تذهبوا ولا تتبعوا. لأنه كما أن البرق الذي يبرق من ناحية تحت السماء يضيء إلى ناحية تحت السماء كذلك يكون أيضاً ابن الإنسان في يومه."

علامة أخرى ظهور مضلين وخداعات كثيرة، والتضليل أكثر خطورة من الإضطهادات، ولكن السيد يحذر من أن نستجيب لأي بدعة يصاحبها معجزات شفاء أو غيره، فضد المسيح سيصنع آيات عجيبة (رؤ14:13،15). ولكن مجيء المسيح سيكون بغتة وكالبرق، وليس عن إنتظار ويراه كل العالم، وليس كمجيئه الأول لا يُرى سوى في مكان واحد، وسيكون في عظمة ونور كنور البرق، وليس في مظهر متواضع وسيعرفه الجميع، ولن يكون هناك حاجة لمن يبشر به. ولكن لاحظ أنه يقول كبرق بينما أن يوحنا الرائي شاهده مثل الشمس التي تضئ في قوتها، وسيكون هو نور وشمس أورشليم السمائية (رؤ16:1+ رؤ5:22). فلماذا يقول هنا برق؟ لأن مجده سيظهر للقديسين بصورة دائمة، ولكنه يظهر فجأة وبطريقة مرعبة للأشرار، لا يرون بعدها مجده بل ظلمة (مت30:25).



آية (25): "ولكن ينبغي أولاً أن يتألم كثيراً ويرفض من هذا الجيل."

قبل أن نتكلم عن المجد وهذا لن يكون في أيامكم دعنا نتكلم عما سوف ترونه بعد أيام قليلة أي آلام وصلب إبن الإنسان، فصليب إبن الإنسان هو الطريق لمجده. وهكذا عليكم أنتم أن تقبلوا الصليب حتى يكون لكم مجداً معي.



الآيات (26-30): "وكما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء الطوفان واهلك الجميع. كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان."

هذه تشير لأن يوم الدينونة يأتي فجأة، فلا ينبغي أن نهمل العلامات كما أهمل قوم نوح علامة بناء الفلك، الذي كان نوح يبنيه. ولا نتعلق بشرور وملذات العالم، كما تعلقت امرأة لوط فهلكت. ولنلاحظ أن الأكل والشرب والزواج ليس خطية، لكن الإنغماس في ملذات العالم هو الذي يؤدي للهلاك. إنشغال الشخص حتى بعمله عن خلاصه هو الذي يؤدي للهلاك.



آيات (31،32): "في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع إلى الوراء. اذكروا امرأة لوط."

المعنى:

1. من إرتفع وسما روحياً= السطح لا ينزل باحثاً عن ملذات الدنيا، بل يبقى مرتفعاً منتظراً العريس في مجيئه الثاني.

2. من إنطلق إلى حقل الخدمة ليعمل لحساب مملكة الله لا يرتد تاركاً خدمته باحثاً عن الزمنيات.

3. من يخرج من سدوم لا ينظر إلى الوراء كامرأة لوط، التي رجع قلبها للوراء فصارت عمود ملح. أي لا تستخفوا بإنذاراتي هذه. أي في أيام النهاية علينا أن لا ننشغل بمقتنيات هذا العالم فالكل مصيره الفناء، بل نوجه أنظارنا للسماء من حيث يأتي المسيح.



آية (33): "من طلب أن يخلص نفسه يهلكها ومن أهلكها يحييها."

من طلب أن يخلص نفسه= سيزداد الضيق في الأيام الأخيرة وستأتي عصور إستشهاد، فمن ينكر المسيح ليخلص نفسه فهو سيهلكها ومن أهلكها= قبل الموت رافضاً أن يترك إيمانه يحييها وهذه الآية تفهم أيضاً بأن من يحيا منغمساً في ملذات العالم ورفاهيته ويظن بذلك أنه يخلص نفسه فهو يهلكها. ومن أهلكها= بأن يقدم جسده ذبيحة حية (رو1:12) وصلب أهواءه مع شهواته (غل20:2 + غل24:5) فمثل هذا يحييها+ (كو5:3).



الآيات (34-36): "أقول لكم أنه في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد فيؤخذ الواحد ويترك الآخر. تكون اثنتان تطحنان معا فتؤخذ الواحدة وتترك الأخرى. يكون اثنان في الحقل فيؤخذ الواحد ويترك الآخر."

يؤخذ.. في تلك الليلة

يسمى السيد يوم مجيئه أنه ليلة، فهي مظلمة علامة إنتشار الخطية والفساد، وإنتشار مملكة ضد المسيح وإنجذاب كثيرين وراءه في ضلال وتسمى ليلة لكثرة الضيق الذي سيعاني منه أولاد الله (مت21:24،29،12). وفي الآية الأخيرة نسمع عن كثرة الإثم. ويأتي هذا اليوم فجأة ويؤخذ البعض للمجد ويُترك الآخرين في الليل والظلام الذي إختاروه لأنفسهم.

هو يوم ينفصل الزوج عن زوجته= على فراش واحد= يؤخذ أحدهما للمجد ويترك الآخر في الظلمة الخارجية= الليل. ألم يظهر المسيح مثل البرق. فهناك يختطف البعض ليتمتعوا بنوره للأبد ولا يكون لهم ليل ثانية (رؤ5:22) وهناك من يبقي في الظلمة للأبد.

وهو يوم يتصل فيه القديس المختطف مع القديسين السماويين، حيث يفرحون ويسبحون للأبد. فهو يوم إنفصال= يؤخذ الواحد ويترك الآخر. وهو يوم إتصال، كما حملت الملائكة نفس لعازر إلى حضن إبراهيم.



فعشرة القديسين في زواج أو عمل أو خدمة ليست كافية لكي نختطف معهم إلى المجد. إن لم يبدأ الملكوت في داخلنا الآن. فالدينونة شخصية، كلٌ على حدة. والإختطاف للمجد (1تس17:4) يعتمد على علاقة كل مؤمن بالله على حدة. فهي علاقة سرية لا علاقة لها بحياتنا اليومية. والذين يذهبون للمجد أو الدينونة، لا علاقة لدينونتهم وأين يذهبون بحياتهم على الأرض. فالفراش يشير للذين في رفاهية (فبعضهم يذهب للمجد وبعضهم يهلك) والذين على حجر رحى يشيرون لمن هم في عبودية أو فقر أو يعملون أعمال شاقة، فبعضهم يذهب للمجد وبعضهم يهلك. والذين في الحقل أي يخدمون الله، فخدمتهم لله ليست شرطاً ليذهبوا للمجد فالله وحده هو الذي يعلم حقيقة القلب.



آية (37): "فأجابوا وقالوا له أين يا رب فقال لهم حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور."

إجتماع النسور حول الجثة= حين يصبح اليهود بسبب خطاياهم أمواتاً (فالخطية= موت).. "إبني هذا كان ميتاً فعاش" ويكونون بلا أمل في توبة أو إصلاح= يكونون كجثة. حينئذ يهجم عليهم الرومان (ورمز الرومان النسر على أعلامهم)، فالرومان هنا هم منفذو الدينونة، وهذا حدث سنة 70م بيد تيطس وجنوده.

وهو سيتكرر ثانية في النهاية حين يأتي ضد المسيح ويجتمع حوله الأشرار، ويكونون كجثة بسبب خطاياهم سيأتي عليهم منفذو الدينونة وقتها ويهجمون عليهم كالنسور.

الخلاصة: الله لا يسمح بهذا الخراب وهذه الضربات الرهيبة إلاّ إذا وصلت الحالة لموت كامل بلا أمل في توبة= جثة.

ومعنى هذه الآية أن السيد المسيح يعطي علامة النهاية بأنه تجتمع جيوش حول أورشليم الخاطئة. وهذه الآية تنطبق مرتين.

1) سنة 70م حين إجتمعت الجيوش الرومانية حول أورشليم ودمرتها.

2) في نهاية الأزمة حين تجتمع جيوش حول أورشليم الموجود بها ضد المسيح.

http://demiana2010.com

20تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 18 السبت 2 يناير 2010 - 16:56

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 18

الآيات (1-8): (مثل الأرملة وقاضي الظلم)

الآيات (1-8): "وقال لهم أيضاً مثلاً في أنه ينبغي أن يصلى كل حين ولا يمل. قائلاً كان في مدينة قاض لا يخاف الله ولا يهاب إنساناً. وكان في تلك المدينة أرملة وكانت تأتى إليه قائلة انصفني من خصمي. وكان لا يشاء إلى زمان ولكن بعد ذلك قال في نفسه وإن كنت لا أخاف الله ولا أهاب إنساناً. فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني انصفها لئلا تأتى دائما فتقمعني. وقال الرب اسمعوا ما يقول قاضي الظلم. أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارا وليلا وهو متمهل عليهم. أقول لكم انه ينصفهم سريعاً ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض."

بعد أن أعطى السيد علامات مجيئه الثاني، وأن هناك ضيق شديد سيصاحب هذه الأيام. نجده هنا يشرح الطريق الذي ينبغي أن نسلكه، وهذا الطريق هو الصلاة بلا ملل= ينبغي أن يُصلَّى في كل حين ولا يُمَلَّ= هذا هو السهر المطلوب. ما معنى الصلاة كل حين؟ وما معنى صلوا بلا إنقطاع (1تس17:5)؟ لاحظ فهناك 7صلوات أجبية، وعند الشروع في عمل يجب أن نصلي، في أوقات الفرح أو في أوقات الحزن يجب أن نصلي، في الضيق أو التجارب، في الشكوك أو الإضطهادات يجب أن نلجأ لله. هناك من يردد صلاة يسوع بقلبه بعد أن بدأ بلسانه، وهناك من يردد مزاميره متأملاً فيها. هذه الصلة وهذا الإتصال بالله يحمينا من كل محاولات إبليس ضدنا. إبليس إن وَجَدَ إنساناً في حالة صلاة لا يستطيع معه شئ. والصلاة هي التي تعطينا تعزية وقت الضيق، وتعطينا ثباتاً وقت الفرح، حتى لا ننجرف وراء أهوائنا وننسى الله.

أرملة= أي في حالة ضعف فقد فقدت سندها وأضحت عرضة للجور والمعنى أن نصلي ونحن شاعرين بضعف حالنا وأنه لا قوة لنا ولا سند سوى الله. وإن كان القاضي الظالم قد إستجاب لها فكم بالأولى الله القاضي العادل أبي الأنوار، ولكن لنتعلم من هذه الأرملة إصرارها في الطلب ولجاجتها.

إنصفني من خصمي= خصمها هو إبليس وشهوات جسدنا والعالم (رو23:7). والله سينصفنا ويجعلنا ندوسه لو كنا في حالة صلة مع الله مستمرة بالصلاة. فتقمعني= هي نفس كلمة أقمع جسدي وأستعبده (1كو27:9). والقمع هو الضرب بقبضة اليد تحت العين. والصورة إستعارية تشبيهية بطبيعة الحال، وكأنما القاضي يقول لئلاَّ تأتي علىًّ بتوسلاتها مرة بعد مرة، وهذا بالنسبة له كأنه قمع.

وهو متمهل عليهم.. ينصفهم سريعاً= متمهل عكس سريعاً. ولكن هذا بالمفهوم البشري الزمني. فالإنسان إذ يريد حل مشكلته الآن، يريد حلها الآن وليس بعد ساعة. والله يستجيب في الوقت المناسب. لذلك يتصور الإنسان أن الله متمهل إذ يطيل أناته، ولكن الله إستجاب الصلاة منذ بدايتها. الله لا زمني، وهو أصدر أحكامه أزلياً وحكمه ثابت. فلنصلي والإستجابة ستأتي ولكنها ستأتي في الوقت المناسب، وحتى تأتي الإستجابة يملأنا الله عزاء وسلاماً وراحة حتى وإن لم تحل المشكلة زمنياً. الله يستجيب في الوقت الذي يراه مناسباً (2بط9:3+ 2بط15:3). وقد يتركنا فترة نتنقى فيها كالذهب في البوتقة وحوله النيران، وهو يستجيب حين نتنقي وليس قبل ذلك. والمسيح هنا يكشف عن أهمية الإلحاح في الصلاة، ليس لأن الله قاضي ظالم لا يسمع من أول مرة، ولكن [1] حتى نتعزى فنصبر [2] لكي نتنقى [3] الله يستجيب في الوقت المناسب، ونحن محتاجين للصلاة لنشعر بوجود الله جانبنا [4] مسرة الله أن يسمع إلحاح شعبه وهذا يعلن عن إيمانهم. فهم يصلون بثقة ودليل ذلك إلحاحهم وهذا دليل على إيمانهم. ولكن الإيمان معرض لأن ينطفئ. وكثرة الصلاة تقوي الإيمان. فلكي لا يضعف الإيمان وقت التجربة علينا أن نصلي بلا ملل "إسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (لو46:22) والتجربة هنا هي ترك الإيمان + (لو31:22،32) [5] في الوقت المناسب يعطينا الله أكثر مما طلبنا وأكثر ممّا نظن أو نفتكر أو نطلب (أف20:3). ولكن ضعف المحبة لله تجعلنا نتشكك في إستجابة الله لنا.

· لاحظ أن السيد قال هذا بعد أن أعلن عن علامات مجيئه، وأن الخطايا ستزداد على الأرض "لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين" (مت12:24)

وهنا يقول متى جاء إبن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض لذلك يوصي السيد بأن نصلي دائماً بلا ملل فالأعداء كثيرين فهناك أعداء خارجين وشياطين، وأضداد للمسيح كثيرين، وهناك في داخلنا شهواتنا وخطايانا. والسيد يعلن أن من يسقط كثيرين وتبرد محبتهم، حتى يكاد الإيمان أن يختفي.. إذاً فلنصلي ولنذكر أن الله يستجيب دائماً لصلوات أولاده ولكن هناك ثلاث طرق للإستجابة: [1] يستجيب فوراً [2] يستجيب بعد وقت وفي الوقت المناسب [3] لا يستجيب لطلبتنا فهي ليست في صالحنا (كما رفض طلبة بولس حينما طلب الشفاء).



الآيات (9-14): (الفريسي والعشار

الآيات (9-14): "وقال لقوم واثقين بأنفسهم انهم أبرار ويحتقرون الآخرين هذا المثل. إنسانان صعدا إلى الهيكل ليصليا واحد فريسي والآخر عشار. أما الفريسي فوقف يصلي في نفسه هكذا اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع واعشر كل ما اقتنيه. وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع على صدره قائلاً اللهم ارحمني أنا الخاطئ. أقول لكم أن هذا نزل إلى بيته مبرراً دون ذاك لأن كل من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع."

في الآيات السابقة رأينا أهمية الصلاة بلا ملل وبلجاجة، وهنا نرى شرطاً آخر لتكون صلواتنا مقبولة، وهو أن نصلي ونحن شاعرين أننا لا نستحق شيئاً، نشغر بخطايانا أنها السبب في أننا لا نستحق شيئاً. الشعور بأننا خطاة لا نستحق شيئاً، ونقف لا نطلب شئ سوى مراحم الله "اللهم إرحمني أنا الخاطئ" هو الطريق المقبول للحصول على مراحم الله. وهذا هو نفس الدرس الذي أخذناه من قصة المرأة الخاطئة التي بللت قدمي السيد بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها فهي قد حصلت على الخلاص وعلى غفران خطاياها بينما لم يحصل الفريسي الذي إستضاف الرب في بيته عليهما، فمن يقترب من المسيح شاعراً بإحتياجه للمسيح ليغفر ويرحم، شاعراً بخطاياه التي تجعله غير مستحق لشئ، صارخاً طالباً الرحمة، فهذا يخلص (لو36:7-50) ومن صلاة هذا العشار تعلمت الكنيسة صلاة يسوع التي نرددها "يا ربي يسوع المسيح إرحمني أنا الخاطئ" وأيضاً في كل صلوات الكنيسة نردد صلاة "يا رب إرحم". نرى في هذا المثل أن كل من يتكل على بره يسقط ومن يتكل على بر المسيح شاعراً بخطاياه يتبرر. من يتكل على بره يرى في نفسه كل الحسنات ولا يرى في غيره سوى السيئات (رؤ17:3-19).

علينا أن نحمل روح الإتضاع فينا، أي [1] نشعر بأننا لا شئ بسبب خطايانا [2] نشعر بأننا بالمسيح فقط تغفر خطايانا فنشكره ونسبحه العمر كله. ولاحظ قبول العشار مع أنه خاطئ ولكنه متضع شاعر بخطيته، وعدم قبول الفريسي مع أنه يدفع عشوره ويصوم مرتين، فقد كان الفريسيون يصومون يومي الإثنين والخميس. لقد إنتزعت من العشار شروره، إذ إنتزعت عنه أم كل الشرور، أي المجد الباطل والكبرياء. فالمتكبر يسهل وقوعه في إدانة الآخرين بل في أي خطية. ونلاحظ أن صلاة الفريسي كانت تدور حول محور واحد وهو الذات. فكانت صلاته عن نفسه وعنها وإليها فكلمة أنا هي محور صلاته، حتى شكره لله كانت تهنئة لنفسه على بره وأنه أفضل من الآخرين. فلننظر لأنفسنا أننا آخر الكل ولو كنا قد بلغنا قمة الفضيلة. فالكبرياء قادر أن يسقط حتى السمائيين، بينما أن الإتضاع يرفع من هاوية الخطايا. ولاحظ أنه ربما كان الفريسي حين صلَّى كان محقاً فيما قاله وأنه لم يكذب، ولكن الله لا يريد أن نذكره بفضائلنا فهو يعرفها بل لنذكر له خطايانا لكي يرحمنا. لاحظ قول الرب لملاك كنيسة أفسس "أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك.." (رؤ2:2،3) أي لا داعي أن تذكرني بأعمالك فأنا أعرفها. لا داعي أن نقف أمام الله ونضع الأكاليل على رؤوسنا، بل ننتظر الحكم من الله، بل نردد مع داود "خطيتي أمامي في كل حين" ومن يذكر خطاياه ويتضع ينساها له الله.



الآيات (15:18-17): في كتاب إنجيل متى (مت13:19-15)

الآيات (18:18-27): في كتاب إنجيل متى (مت16:19-26)

الآيات (28:18-30): في كتاب إنجيل متى (مت27:19-30)

الآيات (31:18-34): في كتاب إنجيل متى (مت17:20-19)

الآيات (35:18-43): في كتاب إنجيل متى (مت29:20-34)

http://demiana2010.com

21تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 19 السبت 2 يناير 2010 - 16:57

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 19

الآيات (1-10): (زكا رئيس العشارين)

الآيات (1-10): "ثم دخل واجتاز في أريحا. وإذا رجل اسمه زكا وهو رئيس للعشارين وكان غنيا. وطلب أن يرى يسوع من هو ولم يقدر من الجمع لأنه كان قصير القامة. فركض متقدماً وصعد إلى جميزة لكي يراه لأنه كان مزمعاً أن يمر من هناك. فلما جاء يسوع إلى المكان نظر إلى فوق فرآه وقال له يا زكا أسرع وانزل لأنه ينبغي أن امكث اليوم في بيتك. فأسرع ونزل وقبله فرحاً. فلما رأى الجميع ذلك تذمروا قائلين انه دخل ليبيت عند رجل خاطئ. فوقف زكا وقال للرب ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين وان كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف. فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضاً ابن إبراهيم. لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك."

العشارون هم طائفة الجباة وكانوا يستوفون أكثر من الجزية المقررة ويأخذونها لأنفسهم (لو13:3). ولذلك كرههم اليهود وأسموهم لصوصاً. ولذلك تبرم اليهود إذ قبل السيد دخول بيت زكا. والرب دخل بيت زكا دون أن يسأله فهو عارف بما في القلوب.

في الآيات السابقة ترك الرب الأعمى يصرخ فترة، بعدها إستجاب وشفاه، وهنا نجده يطلب هو بنفسه أن يدخل بيت زكا. فالرب يدخل بيتي، أو يدخل قلبي ويتمم الشفاء حين يرى القلب مستعداً. فهذا الأعمى لم يكن مستعداً بعد للشفاء، والصراخ جعله مستعداً، ولما رآه السيد مستعد تدخل وشفاه. أمّا زكا ففي إنسحاقه وفي إشتياقه لرؤية السيد كان مستعداً. فدخل يسوع بيته. هنا نرى جزاء قبول يسوع في حياتنا، وجزاء إشتياقنا له، بينما نحن شاعرين بعدم الإستحقاق، هنا يدخل يسوع قلوبنا فتصير سماء، ويغفر لنا خطايانا ونفوز بالخلاص، فهل نشتاق لخلاص يسوع مثل زكا. يقول الرب "إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب.. وتجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو37:7-39).

ربما قصر قامة زكا تشير لأن إيمانه كان ضعيفاً، ولكنه بإشتياقه صار مضيفاً للرب، وبتوبته صار مسكنه قصراً سمائياً يدخله الرب، لقد مُنِحَ زكا مجداً عظيماً.

تأمل: كثيرون وُلِدوا بعاهات خَلْقية، مثل زكا الذي كان قصير القامة، وهم يشتكون بسببها، ولكن ألا ترى أن عاهة زكا كانت سبباً في خلاصه. إذاً علينا أن نفهم أن الله لا يخطئ وإذا كان شيئاً ينقصنا، كان هذا سبباً لخلاصنا، وهذا ما حدث للأعمى.

قصة زكا العشار فتحت باب الرجاء والأمل لكل خاطئ، حين يعود بالتوبة مشتاقاً للمسيح، يدخل المسيح إلى قلبه، ويقبله ويغفر خطاياه.

· ولاحظ أن زكا تكلف الكثير، فهو في مركزه كرئيس للعشارين كان من غير اللائق أن يتسلق جميزة كما يفعل الأطفال (هذا ما نسميه الجهاد، وفي المقابل فلنرى النعمة التي حصل عليها).

· دخول الرب بيت زكا الخاطئ يمثل دخول المسيح إلى جسد بشريتنا وحمله لطبيعتنا نحن الخطاة ليقدس طبيعتنا أبدياً.

· كانت هناك معوقات كثيرة تحول بين زكا والمسيح:

1) خطيته: إذ يُحسب العشارين في نفس صفوف الزواني (مت31:21)

2) كراهية المجتمع له.

3) مركزه كرئيس قد يتأثر بما فعله، من تسلقه لجميزة.

4) قصر قامته، ومثل هذه العاهة تجعل الإنسان يتقوقع حول نفسه، مفضلاً الإبتعاد عن المجتمع.

ولكن إيمان زكا إنتصر على كل ذلك، وإشتياقه، وقلبه التائب أعطوه الخلاص. فبالإيمان الحي العملي نغلب كل ضعف فينا ونرتفع فوق الظروف لنلتقي بربنا يسوع فنخلص.

يا زكا أسرع= زكا تعني النقي المتبرر فالمسيح سامحه عن خطاياه. عبارة يا زكا أسرع هذه مثل "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة". فالمسيح في كليهما إستخدم الأسماء ليشير لمعاني خاصة.

· شجرة الجميز ثمارها رخيصة وتشير للأمور الزمنية التافهة، ولا يمكن أن نعاين المسيح ما لم نسمو فوق الأمور الزمنية.

أسرع وإنزل= كم مرة صعد في غناه وكبريائه، والآن عليه أن يتعلم أن ينزل ويتضع ويتخلى عن أمواله. ولاحظ تجاوب زكا فهو أسرع ونزل، فالتأجيل قد يضيع فرصة الخلاص، فالمسيح لم يذهب لأريحا ثانية التي يعيش فيها زكا (1:19).

· أعطي نصف أموالي= [أمّا دفع أربعة أضعاف فكان هذا إجراء من أقصى العقوبات التي كان يفرضها القانون على لص (خر1:22+ 2صم6:12)، وزكا فرض على نفسه هذه العقوبة (راجع أيضاً عد7:5+ لا1:6-5)] صار له القلب الرحيم غير المستعبد للمادة بمجرد أن دخل يسوع بيته. ولاحظ أنه مستعد لدفع نصف أمواله، مع أن الشريعة الموسوية لا تطلب من المختلس سوى الخمس زيادة على ما إختلسه. اليوم حصل خلاص لهذا البيت= حينما يتقدس أحد أفراد الأسرة يصير سبب بركة لكل البيت. وهذا لا يمنع أنه في حالة إيمان شخص قد يقف في وجهه كل بيته "أعداء الإنسان أهل بيته" لكن المؤمن يكون بركة لأهل بيته إن كان عندهم إستعداد (1كو14:7). هو أيضاً إبن لإبراهيم= السيد الرب بهذا يعزو خلاص زكا لتشبهه بإبراهيم في إيمانه وقداسته وبره. وكما ترك إبراهيم كل ممتلكاته في أور ترك زكا هنا نصف ممتلكاته. وفيها تذكير للفريسيين الرافضين أنه أخ لهم.

· نور المسيح وبره أضاءا بيت زكا وقلبه ولم يحتاج المسيح أن يوجه له كلمة عتاب أو توبيخ.

· المسيح لم يمر من هذا الطريق صدفة، ولم ينظر للشجرة صدفة، إنما هو كان يعرف أن في هذا المكان خروف ضال يريد أن يرده فذهب إليه. فزكا بحث عن المسيح والمسيح بحث عن زكا.

· ما فعله زكا هنا هو نفس ما قاله بولس الرسول (في8:3). فما إستمر يجمعه العمر كله من أموال صار كنفاية يريد الإستغناء عنها إذ تمتع بمعرفة الرب يسوع. فحينما وجد زكا اللؤلؤة كثيرة الثمن (المسيح) باع بقية اللآلئ (أمواله) التي ظل عمره يجمعها (مت46:13).



الآيات (11-27): (مثل الأمناء)

الآيات (11-27): "وإذ كانوا يسمعون هذا عاد فقال مثلاً لأنه كان قريباً من أورشليم وكانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال. فقال إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه ملكاً ويرجع. فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمناء وقال لهم تاجروا حتى آتى. وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه فأرسلوا وراءه سفارة قائلين لا نريد أن هذا يملك علينا. ولما رجع بعدما اخذ الملك أمر أن يدعى إليه أولئك العبيد الذين أعطاهم الفضة ليعرف بما تاجر كل واحد. فجاء الأول قائلاً يا سيد مناك ربح عشرة أمناء. فقال له نعما أيها العبد الصالح لأنك كنت أميناً في القليل فليكن لك سلطان على عشر مدن. ثم جاء الثاني قائلاً يا سيد مناك عمل خمسة أمناء. فقال لهذا أيضاً وكن أنت على خمس مدن. ثم جاء آخر قائلاً يا سيد هوذا مناك الذي كان عندي موضوعاً في منديل. لأني كنت أخاف منك إذ أنت إنسان صارم تأخذ ما لم تضع وتحصد ما لم تزرع. فقال له من فمك أدينك أيها العبد الشرير عرفت أني إنسان صارم اخذ ما لم أضع واحصد ما لم ازرع. فلماذا لم تضع فضتي على مائدة الصيارفة فكنت متى جئت استوفيها مع ربا. ثم قال للحاضرين خذوا منه المنا وأعطوه للذي عنده العشرة الأمناء. فقالوا له يا سيد عنده عشرة أمناء. لأني أقول لكم أن كل من له يعطى ومن ليس له فالذي عنده يؤخذ منه. أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن املك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي."

هنا السيد المسيح قد إقترب من أورشليم وبالتالي بقيت بضعة أيام قبل الصليب وبالتالي قبل أن يغادر الأرض بالجسد ويذهب ليجلس عن يمين الآب. والآيات الآتية مباشرة هي عن دخوله أورشليم يوم أحد الشعانين. وكأن هذه الأقوال هي نبواته الأخيرة وتعاليمه الأخيرة فما معنى المثل:

1- هم ظنوا أنه متوجه لأورشليم ليبدأ الملكوت حالاً، ولكنه يشير إلى أنه ذاهب إلى كورة بعيدة (السماء). وبعد مدة سيأتي ليحكم ويدين. وبالتالي فالملكوت ليس وشيكاً.

2- المسيح سيذهب ويترك تلاميذه والمؤمنين به، وهو يترك لكل واحد منّا وزنات ومواهب يتاجر بها، لحساب مجد إسمه. وكل منّا حصل على نصيبه من المواهب (1بط10:4). وعلينا أن نستمر في الخدمة حتى يأتي.

3- اليهود سيرفضونه= لا نريد أن هذا يملك علينا. وبالتالي فلا يجب أن يتصوروا أن هناك ملكوت أرضي "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله"

4- بعد مدة لم يحددها السيد (فلا داعي أن نحاول تحديدها نحن) سيأتي في مجده ليدين [1] الذين رفضوه= إذبحوهم قدامي. [2] ليحاسب كل منّا عما فعله بوزناته (أمنائه).

5- هذه التجارة التي نقوم بها الآن في الأمناء (المواهب هي بعينها تأسيس الملكوت على الأرض. وفي هذا تأنيب لتلاميذه إذ هم إنشغلوا بالملك الأرضي والأمجاد، والمسيح ينبههم أنه لا أمجاد هنا بل خدمة.



مثل الأمناء (لو11:19-27) ومثل الوزنات (مت14:25-29)

هناك خلافات بين المثلين فهي ليسا مثلٌ واحد، ولو أنهما متشابهان.

1. في مثل الوزنات نرى كل واحد قد أخذ نصيباً غير الآخر، أمّا هنا فكل العبيد قد أخذوا مَناً واحداً.

2. مثل الأَمْناء قاله السيد وهو متجه لأورشليم، ومثل الوزنات قاله السيد وهو في أورشليم. والتكرار للأهمية.

ولكن الإختلاف له معنى: ففي مثل الوزنات يشير لأن كل واحد يأخذ مواهب غير الآخر، والله لن يطالبك بأكثر مما أعطاه لك، المهم أن تكون أميناً، فمن أخذ الخمسة ربح خمسة وزنات وهكذا من أخذ الوزنتين حينما أتي بوزنتين سمع نفس المديح عينه. لأن كلاهما كان أميناً. والله لن يطالب أحد بما هو فوق طاقته. أمّا في مثل الأمناء فيقول أن الكل أخذ مقداراً متساوياً (مناً)، ولكن هناك من ربح أكثر فإستحق أكثر، وهذا لأنه جاهد أكثر، فمن يتعب أكثر يأخذ أكثر. وما يجب أن نفهمه أنه علينا بألا نحزن لأن مواهبنا أقل، المهم أن نكون أمناء ونجاهد بقدر طاقتنا، ومن يستخدم مواهبه لمجد الله سيجازيه الله. كانوا يظنون أن ملكوت الله سيظهر في الحال= كانوا يظنون أن السيد سيملك ويؤسس ملكوته بعد أن يدخل أورشليم مباشرة.

إنسان شريف الجنس= هو المسيح نفسه فهو من السماء وذاهب للسماء وهو ليس فقط شريف الجنس، بل هو الوحيد الجنس (الإله المتجسد) إبن الله بالطبيعة.

ذهب إلى كورة بعيدة= سيصعد للسماء ولن يؤسس ملكاً أرضياً.

دعا عشرة عبيد= هم كل المؤمنين، فكل له موهبته (1بط10:4+ 1كو8:12-11) (مثلما كان هناك عشر عذارى)

· هذا المثل مستوحى مما كان يحدث أيام المسيح، فكان الأمراء الوطنيون ملزمون بأن يذهبوا إلى روما ليحصلوا على رتب الترقي من قيصر. وحدث هذا مع هيرودس وأرخيلاوس. وفي حالة أرخيلاوس أرسل شعبه سفارة (أي مندوبين وسفراء عن الشعب) إلى قيصر شاكين لقيصر أعماله الوحشية ورافضين ملكه. وحينما رجع أرخيلاوس من روما إنتقم منهم بالذبح (وهذا كان حكم المسيح على صالبيه ورافضي ملكه بخراب أورشليم، هذا هو الحكم المؤقت قبل الدينونة)

ليأخذ لنفسه مُلكاً= هذا إعلان نبوي عن جلوس الرب في السماء إستعداداً لتأسيس ملكوته ولتجثوا له كل ركبة (في6:2-11)

المنا= عملة يونانية تساوي أجر ثلاثة شهور.

وأما أهل مدينته= هنا يتكلم عن اليهود خاصته الذين أتي منهم بالجسد وهم الذين كان لهم الوعد. إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله (يو11:1)

لا نريد أن هذا يملك علينا= كلمة هذا كلمة تحقير، وللآن فاليهود يشتمون المسيح، وكأن هذه العبارة هي إحتجاج ورفض لشخص المسيح المتواضع.

أرسلوا وراءه سفارة= تحمل معنى رفضهم المستمر للمسيح حتى بعد ما صعد، ورفضهم وإضطهادهم لتلاميذه ورسله. سفارة= سفراء أي اليهود الذين إضطهدوا المسيحيين.

ولما رجع= حين يأتي في مجده، في مجيئه الثاني. وفيما يلي يظهر محاسبة 3عبيد فقط كعينات فقط.

مناك ربح= هذا يشير لتواضع هذا الإنسان فلم يقل أنا ربحت، إذ هو يعلم أن النجاح والبركة كانت من عند الله وليست من عنده هو. والمنا هو إشارة للمواهب والوزنات التي أعطاها لنا الله.

ربح عشرة أمناء= هي النفوس التي ربحها لحساب الملكوت، والفضائل التي ظهرت في حياته.

أميناً في القليل= لأ

المتاجرة بالموهبة.

ربح خمسة أمناء= هي نفوس أيضاً.

وهذا إشارة لأنه كلما زاد الجهاد زادت الثمار، وزادت المكافأة ونقول الجهاد هو الذي زاد، فنحن نلاحظ أن النعمة التي حصل عليها كليهما، أي عطية الله كانت متساوية= المنا.

سلطان على عشر مدن.. على خمس مدن= هذا تعبير عن المجد، فهو يتفاوت من شخص لآخر بحسب جهاده. ومن المستحيل فهم ما هو السلطان على مدن، فنحن لا يمكننا أن نتصور ما سنأخذه، ونحصل عليه من مجد في السماء "فهو ما لم تره عين ولم تسمع به أذن وما لم يخطر على بال إنسان" (1كو9:2). وفي مثل الوزنات سمعنا القول "أدخل إلى فرح سيدك" (مت21:25،23). وفي هذا الكفاية فهو سلطان على فرح ومجد أبدي وكلٌ سيتمجد ويفرح بحسب جهاده على الأرض، فنجم يمتاز عن نجم في المجدد (1كو41:15). مناك موضوع في منديل= إشارة لمن عطل موهبته وأخفاها، هو كمن خاف على صحته فإمتنع عن الخدمة وعن الصوم. أو خاف على أمواله فلم يعطها إلى محتاج يربحه للمسيح. وواضح أن هذا العبد الكسلان عديم الإكتراث بشأن مجد الملك وأرباحه وذلك لعدم أمانته، أو عدم محبته، أو عدم تصديقه أن السيد راجع. حقاً هو لم يضيع المنا على نفسه ولكنه ظن أن في حبسه فيه الكفاية إذ لم يضيعه.

وهناك من هو أسوأ من هذا العبد مثل من يضيع مواهبه في الشر. فمثلاً من يضيع صحته في المخدرات أو المسكرات أو الخطايا المتعددة هو أسوأ من هذا العبد، أو من أعطاه الله أموالاً فضيعها على شهواته وملذاته فهذا أسوأ من هذا العبد.

أخاف منك لأنك إنسان صارم= الإنسان عندما تميل إرادته الشريرة لشئ شرير سيجد الأفكار التي تبرر له هذا الشئ، فهو فكر أن ما أعطاه له سيده هو فخ لا نعمة، وخاف (أو هو يبرر موقفه بهذا) من قسوة سيده، أو لماذا يتعب هو ويستفيد سيده. هو هنا إتهم سيده بالظلم ستراً لذنبه، بل إتهم سيده بأنه يطمع في أكثر ممّا له= تحصد ما لم تزرع أي تأمرني بالعمل وتأخذ الربح.

مثال: خادم يشعر أنه مقصر في خدمته، فبدلاً من أن يهتم بأن يكون أميناً في خدمته نجده يترك الخدمة، هذا يقول مع هذا العبد "خفت منك لأنك صارم" وذلك بأن يترك المسئولية، ولكن ليذكر هذا الخادم أن الله أعطاه موهبة وطالبه بأن يربح بها، فهروبه يدينه ولن يعفيه من المسئولية. فالرد على مثل هذا الإدعاء.. طالما عرف أن سيده إنسان صارم، فلماذا لم تضع فضتي على مائدة الصيارفة. والمعنى لو كان سيدك ظالماً فعلاً لكنت تخاف منه وتتاجر وتربح له. ومائدة الصيارفة هي أقل الأعمال مجهوداً، ولكنها تربح. والمقصود لماذا لم تقم بأي عمل لأجل مجد إسمي، فمثلاً لماذا لم تصلي من أجل الناس ومن أجل المحتاجين، لماذا لم تضع عشورك في الكنيسة وهذا أقل شئ. والحقيقة أن الله لا يطلب سوى ما زرعه، فإتهام هذا العبد ظالم (أش2:5). ونجد أن الله يعطي ما لهذا العبد الشرير للأكثر أمانة فكل من له يُعطى= الذي عنده القدرة على المتاجرة والربح يُعطى المزيد، من كان أميناً وله الرغبة أن يخدم ويعمل يأخذ أكثر. وفي السماء له مجد أعظم. ومن ليس لهُ= الذي كان غير أميناً فتؤخذ منه مواهبه وتضاف للأمين وأمّا أعدائي.. وإذبحوهم= المسيح هنا يصدر الحكم على أورشليم قبل أن يدخلها. ولقد ذبحهم تيطس فعلاً سنة 70م. إن الذين يساقون إلى الذبح هو الذين كتبوا بأيديهم مصيرهم. ولنرى كم الوزنات والأمناء التي أعطاها الله لليهود (أنبياء/ كهنوت/ هيكل/ معجزات/ إنتصارات إعجازية على أعدائهم/ ناموس/ شريعة/ أرض مقدسة/ وصايا لو نفذوها لعاشوا في سعادة/ مملكة آمنة/ خيرات مادية أرض تفيض لبناً وعسلاً..) فماذا فعلوا؟ هؤلاء لم يضعوا مناهم في منديل، بل ضيعوا كل ما أخذوه وأخيراً صلبوا المسيح. لقد صاروا في وحشية، وكما ذبحوا المسيح في وحشية صارت في طبعهم، قاموا في حماقتهم، إذ قد فقدوا كل حكمة، بقتل الضباط الرومان إنتظاراً لأن الله يرسل لهم المسيا ينقذهم، إذاً فحماقتهم ووحشيتهم التي تعاملوا بها مع المسيح، تعاملوا بها مع ضباط روما، لكن المسيح غفر لهم على الصليب، أما روما فذبحتهم بحسب ما يستحقوا.

بهذا المثل ينهي السيد المسيح تعاليمه بخصوص الملكوت الذي أتى ليؤسسه:

1. هناك أجر ومكافأة لكل من يجتهد في هذا الملكوت الأرضي ويربح نفوساً للمسيح.

2. الأجر والمكافأة بحسب الجهاد.

3. من يهمل في تجارته يرفض.

من يعادي المسيح ولا يقبله يهلك (يذبح).

http://demiana2010.com

22تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 20 السبت 2 يناير 2010 - 16:58

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 20

في الأصحاح السابق تقدم رب المجد يسوع إلى أورشليم ليقدم حياته المبذولة ثمنًا لصداقتنا معه، هذه الصداقة التي كلفته كل هذا الثمن قبلها البسطاء وتجاوبوا معها، أما القادة مدَّعو الحكمة فقاوموا السيد بكل وسيلة. تارة قاوموه في تعليمه مشككين في سلطانه، وأخرى باتهامه كمثيرٍ للشعب ضد السلطات ومحرض علي عدم دفع الجزية الخ. هذه المقاومة في حقيقتها إخفاء لرعايتهم لأنفسهم عوض رعاية الشعب، واهتمامهم بمصالحهم الخاصة عوض المصلحة العامة. وكما سبق فأعلن حزقيال النبي على لسان الرب: "ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم، ألا يرعى الرعاة الغنم؟ تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم، المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وعنف تسلطتم عليهم... هاأنذا أسأل عن غنمي وافتقدها... أنا أرعى غنمي واربضها يقول السيد الرب، وأطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين القوي وأرعاها بعدل" (حز 34: 2-16).

هكذا يكشف الرب للرعاة عن فشلهم التام في رعايتهم لغنمه العاقل ليتسلم بنفسه رعاية شعبه، معلنًا محبته العملية الباذلة على الصليب. هذا الخط يظهر واضحًا في الأناجيل الأربعة في الفترة ما بين دخول السيد المسيح أورشليم حتى صلبه، وفي قراءات أسبوع الآلام، حيث يكشف روح الله عن فشل الرعاية اليهودية الجاحدة وعجزها، ليتسلم الرب بنفسه رعاية شعبه خلال الصليب.

1. مقاومة تعليمه بإنكار سلطانه 1-8.

2. مقاومة الكرّام (مثل الكرامين) 9-19.

3. سؤال بخصوص الجزية 20-26.

4. سؤال بخصوص القيامة 27-40.

5. ابن داود وربه 41-44.

6. تحذير من الكتبة المرائين 45-47.

1. مقاومة تعليمه بإنكار سلطانه

قلنا أن السيد المسيح جاء يقدم صداقته للبشرية لا خلال المشاعر المجردة، إنما خلال رفع الإنسان إلي شبهه وتمتعه بحياته فيه، لذا قام بطرد الباعة وتطهير الهيكل ثم وقف يعلم. فصار يجتذب النفوس إليه بالحب الحقّ في حياة مقدسة.

أمام هذا المنظر وقف المقاومون من رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ مبهورين، فقد جذب الشعب بسلطان مع أنه ليس من سبط هرون وليس له دور رسمي في الهيكل، فصاروا يسألونه عن سرّ سلطانه، لا كاستفسار، وإنما بدافع الحسد والتخوف على مراكزهم. هذا ما قاله الإنجيلي هكذا:

"وفي أحد تلك الأيام إذ كان يعلم الشعب في الهيكل ويبشر،

وقف رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ.

وكلموه، قائلين: قل لنا بأي سلطان تفعل هذا؟

أو من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟

فأجاب وقال لهم: وأنا أيضًا أسألكم كلمة واحدة، فقولوا لي:

معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟

فتآمروا فيما بينهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول فلماذا لم تؤمنوا به؟

وإن قلنا من الناس فجميع الشعب يرجمونا، لأنهم واثقون بأن يوحنا نبي.

فأجابوا إنهم لا يعلمون من أين.

فقال لهم يسوع: ولا أنا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا" [1-8].

لقد سبق لنا الحديث عن هذا الحوار بين قادة اليهود والسيد المسيح في تفسيريّ إنجيل متى 21: 23-27 وإنجيل مرقس 11: 27-33.

وإنني أكتفي هنا بعرض النقاط التالية:

أولاً: يقول القديس أغسطينوس إن الإنجيلي لوقا لم يذكر ذهاب السيد المسيح إلى بيت عنيا بعد تطهيره للهيكل وعودته منها، وتصرفه بالنسبة لشجرة التين العقيمة وحديثه مع تلاميذه الذين دهشوا إذ رأوا التينة قد يبست، إنما يتحدث عن هذا الحوار بين السيد المسيح وهؤلاء القادة.

ثانيًا :قدم رؤساء الكهنة والكتبة مع الشيوخ سؤالين لا للاستفسار رغبة في المعرفة وإنما للإثارة رغبة في التحطيم، إذ قالوا: "قل لنا بأي سلطان تفعل هذا؟" وكانوا يقصدون بهذا أنه ليس من سبط لاوي، ولا ينتمي إلى أية جماعة قيادية لها حق التعليم، فكيف يتجاسر ويعلم هكذا في الهيكل؟ وكان يمكن للسيد أن يجيبهم من كتب الشريعة عينها التي يحسبونه كاسرًا لها بتعليمه وهو من سبط يهوذا لا سبط لاوي، وأيضًا من كتب الأنبياء. ففي كتب الشريعة (الأسفار الخمسة)، يوضح أن لاوي وهو في صلب أبيه إبراهيم انحنى لملكي صادق - الذي هو مجرد رمز للسيد المسيح - يقدم له العشور، أفلا يليق بالمرموز إليه أن يعلم أولاد إبراهيم؟ وكان يمكن أن يستعرض نبوات بلا حصر عن صدق رسالته وتأكيد أنه المسيا.

لو أن هؤلاء القادة جاءوا يستفسرون طالبين الحق لما بخل عليهم السيد بالكشف عن نفسه من كتبهم، لكنه يعلم أنهم جاءوا للمناقشات الغبية غير المجدية بقصد الانشغال بعيدًا عن الخدمة الجوهرية، لذا لم يجبهم عن أسئلتهم إلا بسؤال يفحمهم. الخادم الذي يحمل روح سيده لا يدخل في مناقشات غبية تفسد ذهنه وتسحب وقته عن العمل الرئيسي الجاد لخلاص إخوته، إنما يفعل كما صنع نحميا حينما جاءه الأعداء يطلبون معه الحوار، فأجابهم بأن اليوم هو يوم عمل (نح 6: 3 ،9).

أما السؤال الثاني فهو: "من هو الذي أعطاك هذا السلطان؟" فقد سبقوا فاتهموه أنه ببعلزبول يخرج الشياطين، لذا أرادوا تشكيك الشعب فيه أنه في تعليمه لا يستمد السلطان من الله بل من الشيطان. وهنا أيضًا أفحمهم بسؤالهم عن معمودية يوحنا. فقد أعلن يوحنا بعماده عن سرّ سلطان السيد المسيح حين شهد الآب علانية عن المسيا لحظات عماده في الأردن.

2. مقاومة الكرام (مثل الكرامين الأشرار)

في حوارهم أرادوا اتهام السيد المسيح أن تعليمه لا يقوم على أساس ناموس شرعي إذ هو ليس بكاهنٍ أو معلمٍ رسميٍ، وأن مصدر سلطانه مشكوك فيه، فسألهم السيد عن معمودية يوحنا ليفحمهم. الآن إذ يقدم مثل الكرامين الأشرار الذين أرادوا اغتصاب الكرم من صاحبه، فضح هؤلاء المعلمين بطريقة رمزية أدركوها حتى أرادوا قتله لولا خوفهم من الشعب. لقد أظهر لهم أنه ليس هو المتعدي على السلطان الإلهي بل هو الابن الوارث الذي يقاومه الكرامون الذين أقامهم الله في كرمه للعمل، فأرادوا اغتصاب الكرم لحسابهم الذاتي.

لقد سبق لنا دراسة هذا المثل في دراستنا لإنجيل متى 21: 33 الخ. ولإنجيل مرقس 12: 1-12، لذا أكتفي هنا بإبراز النقاط التالية:

أولاً: "أبرز السيد المسيح تكريمه للإنسان من جانبين رئيسيين، الجانب الأول أنه شبّه الله - صاحب الكرم- بإنسان، مكرمًا إيانا بهذا التشبيه، أما من الجانب الآخر فهو حديثه عن تسليم الكرم لكرامين وسفره إلى بلد بعيد. الله لم يترك كرمه وينطلق إلى بلد بعيد مكانيًا لأنه حاّل في كل موضع فكم بالأكثر في كرمه، ولا رعويًا فإن عنايته قائمة بلا انقطاع، إنما قوله إنه مسافر إلى بلد بعيد إنما تعبير عن تقديسه للحرية الإنسانية، فقد سلم الكرم للكرامين، واهبًا إياهم كمال الحرية للتصرف كمن قد تركهم وانطلق بعيدًا لا لكي لا يسندهم،وإنما لا يلزمهم بسلوك معين في الرعاية. إنه لا يضغط على الرعاة ليسلكوا في رعايتهم لاإراديًا.

ثانيًا: ما هو الثمر الذي يطلبه صاحب الكرم من كراميه؟ يجيب الأب ثيؤفلاكتيوس: ]ماذا يربح الله منا إلا معرفته التي هي لنفعنا نحن.]

ثالثًا: من هم هؤلاء العبيد الثلاثة الذين سبقوا الوارث، الذين اضطهدوا الكرامين عوض تقديم الثمار لحساب صاحب الكرم؟

v العبد الأول الذي أرسله الرب ليجمع لحسابه هو الناموس الطبيعي الذي وهبه الله للبشرية حتى قبل الناموس الموسوي، وقد كسر الإنسان هذا الناموس الطبيعي، الأمر الذي وضح بقوة في قتل هابيل، فقدم قايين رائحة الحسد الملطخة بدم برئ عوض الحب الأخوي، وقد عاش رجال الإِيمان قبل الناموس تحت ضيقات كثيرة من قِبل الأشرار.

v العبد الثاني الذي بعث به الرب هو الناموس الموسوي على يدي موسى، ومع هذا فقد عانى موسى الأمرين من قبل اليهود بتذمرهم غير المنقطع. كما عاش الناموس الموسوي مُضطهدًا من كل القيادات اليهودية بتحويله من الروح إلى الحرف القاتل. فإن كان قادة اليهود قد ظهروا كغيورين على الشريعة ومحافظين عليها، إنما في المظهر الخارجي البرّاق، أما بحياتهم وسلوكهم فقد قتلوها وأفسدوا غايتها ورسالتها بتعليمهم الحرفي.

v العبد الثالث الذي قدمه صاحب الكرم هو النبوة، فقد بُعث مجموعة من الأنبياء يحثوا الشعب على التوبة ويعلنوا عن مجيء المسيا المخلص، وكان نصيب الأنبياء الضيق والاضطهاد والقتل.

يمكننا أن نقول بأن السيد المسيح وهو يحدث اليهود خاصة قادتهم، فإن هؤلاء الحاضرين أنفسهم مسئولون عن قتل هؤلاء العبيد الثلاثة. فالقادة الحاضرون في عصر السيد المسيح كانوا يعملون ضد الناموس الطبيعي، كما ضد الناموس الموسوي، وأيضًا ضد النبوة. فمن جهة حياتهم وسلوكهم لم يراعوا حتى الناموس الطبيعي نفسه، ومن جهة تعليمهم قتلوا الناموس الموسوي بتطبيقه بطريقة حرفية جامدة فتمسكوا بالظل والرمز دون الاهتمام بالحق والمرموز إليه، ومن جهة النبوات رفضوها لأنهم رفضوا المخلص غاية الناموس وموضوع النبوات.

رابعًا: ربما يستصعب البعض دعوة السيد المسيح نفسه بالوارث، فهل مات الآب ليرثه الابن؟ حاشا، إنما تقدم الوارث لا ليسحب من الأب ماله، إذ ما هو للآب فهو للابن، لكنه دعي نفسه وارثًا بكونه قد ترك مجده بإرادته مخليًا ذاته ليكون ممثلاً لنا ونائبًا عنا، حتى متى مات السيد المسيح بالجسد وقام نال باسمنا ماله كميراثٍ لنا بشركتنا معه في المجد. لقد حمل هذا اللقب "وارثًا" كرأس للكنيسة لكي ترث باسم رأسها ومعه وفيه ما هو له. لذلك يقول القديس أمبروسيوس :[المسيح هو وارث وفي نفس الوقت وصي.]

خامسًا :يمكننا أن نفهم من العبارة التالية: "فلما رآه الكرامون، تآمروا فيما بينهم قائلين: هذا هو الوارث، هلموا نقتله لكي يصير لنا الميراث" [14]. أراد السيد المسيح أن يوضح لهم أن ما يرتكبوه ضده لا يتم عن عدم معرفةٍ، وإنما عن حسدٍ. إنهم خلال الناموس والأنبياء يدركون أنه المسيا، لكنه ليس حسب أهوائهم، لذا قتلوه عمدًا على الصليب.

سادسًا: يُفهم من العبارة: "فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه" [15]، من الجانب الحرفي أنه صُلب على جبل الجلجثة خارج أورشليم، كما يمكن أيضًا أن يُفهم بأن اليهود - وهو كرم الرب - سلموا الوارث لبيلاطس والجند الرومان ليقتلوه، سلموه خارج الكرم! ويمكننا أيضًا أن نفهم أن إخراجه خارج الكرم لقتله يعني رفضه. أخرجه الجاحدون الأشرار خارج قلوبهم، كرم الرب الداخلي، فقدموا له الآلام عوض الحب! بهذا يمكننا أن نفهم عبارة الرسول بولس: "فلنخرج إذًا إليه خارج المحلة حاملين عاره" (عب 13: 13) بمعنى أننا إذ صرنا أتباع المصلوب، نُرفض نحن أيضًا من العالم، فلا يكون لنا موضع في القلوب. فنُطرد خارج قلوبهم ونُسلم لبغضتهم حاملين كل تعييراتهم ومتاعبهم من نحونا. بمعنى آخر لا ينتظر المؤمن وهو يقدم كل الحب للعالم أن يرد له العالم الحب بالحب، وإنما يرد له محبته بالطرد خارجًا ليحمل مع فاديه صليبه ويقبل عاره!

سابعًا: جاء سؤال السيد المسيح لهم: "فماذا يفعل بهم صاحب الكرم؟!" [15]، لا لينتظر الإجابة فيبرر ما سيحل بها من هلاك وانتزاعهم من العمل الرعوي، فقد كانت الإجابة واضحة تمامًا ولا تحتاج إلى نقاش: "يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين ويعطي الكرم لآخرين" [16]، إنما قال القديس باسيليوس الكبير أنه أراد لهم مراجعتهم لأنفسهم وتوبتهم. كأن السيد المسيح حتى اللحظات الأخيرة قبل صلبه أراد من القيادات اليهودية مراجعتها لحساباتها الروحية، مشتاقًا إلى توبة الكل ورجوعهم إلى الحق.

أما قوله "يأتي"، هنا فيشير بالأكثر إلى حلول الروح القدس علي الكنيسة، إذ حّل عليها ليشكلها من جديد تحت قيادة تلاميذ الرب ورسله عوض الكرامين القدامى.

وكأن هذا المثل يقدم ملخصًا رمزيًا لعمل الله الخلاصي وتدبيره ورعايته للإنسان غير المنقطعة، فتحدث عن عطية الناموس الطبيعي، والناموس الموسوي، والأنبياء (الثلاثة عبيد الذين أرسلهم صاحب الكرم) ثم تحدث عن التجسد الإلهي (مجيء الوارث) وصلبه خارج المحلة، وطرده للكرامين القدامى، وإقامة كرامين جدد يعمل الروح القدس فيهم.

ثامنًا: إذ تحدث عن رفض الوارث وقتله خارج المحلة عاد ليعلن أنه الحجر المرفوض هو حجر الزاوية، إذ يقول: "الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، كل من يسقط على ذلك الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" [17-18]. ويلاحظ في هذا التشبيه الآتي:

أ. أنه مقتبس من العهد القديم (مز 118: 22) وقد تحقق الآن. فما يرتكبه هؤلاء القادة الأشرار الذين كان يلزمهم إقامة البناء الروحي على شخص المسيا - حجر الزاوية - إنما سبق فرآه المرتل وأعلنه. وكأن السيد المسيح يقول لهم ما تفعلونه الآن إنما سبق فأعلنه أنبياؤكم بحزن ومرارة.

ب. لُقب السيد المسيح "حجرًا" علامة التجسد الإلهي، والإخلاء، فقد قبل طبيعتنا الترابية، لم يأتِ كملك عظيم مجيد وإنما كإنسان أخلى ذاته فصار حجرًا مرذولاً من البنائين. هذا الحجر سبق فأعلن عنه دانيال النبي (2: 34) أنه ليس مقطوع بالأيدي، حجر صغير يصير جبلاً يملأ كل المسكونة.

ج. هذا الحجر المرذول الذي يُطرح خارج المحلة، يصير حجر الزاوية الذي تقوم عليه الكنيسة التي تضم أعضاء من اليهود وأعضاء من الأمم، يجتمعون معًا ويتحدون كما على حجر الزاوية.

تاسعًا: يرى القديس أغسطينوس أن الذين يسقطون عليه فيترضضون هم الذين رفضوه حين جاء مخليًا ذاته كمن هو آخر الكل، فيسقط هؤلاء الجاحدون على ذاك الحجر المتواضع كمن هو على الأرض. أما الذين يسقط عليهم فيسحقهم فيشيرون إلى الذين ماتوا في شرهم بلا توبة فيأتي رب المجد كما على السحاب من فوق يسقط عليهم، إذ يقول: [يسقطون هم عليه بكونه نزل متواضعًا، أما لكونه هو العالي فسيسقط عليهم ويسحقهم عند مجيئه في مجده، هؤلاء الذين سبق فرضضهم في إتضاعه.[

3. سؤاله بخصوص الجزية

حاول القادة تشكيك الجمع من جهة سلطان السيد المسيح، فسألهم السيد عن معمودية يوحنا المعمدان إن كانت من السماء أم من الأرض، فارتبكوا وتحيروا ليظهروا أمام الشعب غير مدركين الحق. جاء مثل الكرامين يحثهم علي التوبة حتى ولا ينزع الكرم منهم لكنهم عوض التوبة أرادوا أن يلقوا الأيادي عليه في تلك الساعة ولكنهم خافوا الشعب [19]. الآن صاروا يراقبونه ليصطادوه بكلمة، وبخداع سألوه بخصوص دفع الجزية، لا ليعرفوا رأيه، وإنما لكي إذا ما نادى بدفع الجزية حُسب في أعين الشعب مجاملاً للسلطات الرومانية المستعمرة، فيفقدوا ثقتهم فيه كمخلص من الحكم الروماني، وإن نادى بعدم دفعها اشتكوا عليه لدى السلطات كمثير فتنة بين الجماهير.

يقول الإنجيلي: "فشعر بمكرهم،

وقال لهم: لماذا تجربونني؟

أروني دينارًا! لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا: لقيصر.

فقال لهم أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب،

وتعجبوا من جوابه وسكتوا" [23-26].

في تقديم فكر الآباء لمثل هذا النص في إنجيليّ متى ومرقس قلنا أن السيد المسيح هنا يقدم للإنسان مبدأ وطنيًا هامًا. فلكي يتمجد الله فيه يلزمه أن يقدم ما لقيصر لقيصر، يعطي للدولة حقها عليه، بل ويلتزم بإعطاء كل من يتعامل معهم حقوقهم المادية والمعنوية والاجتماعية. عبادتنا لله لا تكون علي حساب الآخرين، بل حبنا وخضوعنا وعطاؤنا للغير هو جزء لا يتجزأ من حياتنا الروحية، يتكامل مع عبادتنا لله. نعطي الآخرين، ليس خوفًا منهم، ولا مداهنة لهم، ولكن شهادة حق داخلي لأمانتنا وحبنا للرب نفسه.

لنعطِ أيضًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، بمعنى أننا نقدم للجسد ما له من التزام نحونا وما للروح للروح. فحياتنا الروحية ليست تحطيمًا لجسدنا (قيصر) وإنما هي تقديس له.

أيضًا يرى بعض الآباء مثل العلامة أوريجينوس أن قيصر هنا يشير إلى العالم أو عدو الخير، فإن تركنا في القلب محبة العالم يجد العالم فينا حقًا له فيغتصبنا، وهكذا إن كان لإبليس موضع فينا يقتحمنا. لذا يليق بنا ألا يجد قيصر العالم له شيء في قلبنا فلا يسحبنا إليه، بهذا نتمثل بربنا يسوع المسيح القائل إن رئيس هذا العالم آت وليس له فيه شيء! ليأتِ رئيس هذا العالم وليعمل العدو الشرير بكل طاقاته ضدنا، فإنه لا يجد في داخلنا شيئًا لحسابه فيهرب مغلوبًا منا!

سيأتي يوم الرب العظيم فيتقدم الله يأخذ من هم له، ويأخذ عدو الخير أيضًا من هم له. لنكن لله لا لإبليس، فيقتنينا الله أبناءً لملكوته. على حدّ تعبير كثير من الآباء نحن "عملة الله" أو "ديناره" قد نقُشت صورته علينا، فإن كانت صورته قد فُقدت فينا يلزمنا أن نغتسل بمياه المعمودية لتظهر صورته على عملته من جديد، ونبقى محتفظين بهذه الصورة الإلهية فينا خلال التوبة المستمرة حتى متى جاء الرب وجدنا ديناره الحامل صورته.

v في كل موضع نحن أكثر استعدادًا من الناس في دفع الضريبة المفروضة علينا، سواء العادية (السنوية) أو الطارئة... نحن نرد العبادة لله، أما الأمور الأخرى فنقدمها بسرور، نخدمكم ونتعرف عليكم كملوك وولاة على الناس، ونصلي لأجل سلطانكم الملوكي لكي يكون حكمكم عادلاً.

القديس يوستين الشهيد

v لترجع صورة قيصر التي على العملة لقيصر، وصورة الله التي على الإنسان (تك 1: 26، 27؛ 9: 6؛ 1كو 11: 7) ترجع لله. هكذا بالحق يُرد المال لقيصر وأما نفوسكم فلله.

العلامة ترتليان

v لنتبع كلام المخلص لا كمعنى أدبي صرف وبسيط "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، أي ادفعوا الضريبة التي عليكم، لكن من منا يعترض على دفع الضريبة الخاصة بقيصر؟! إذن هذه العبارة تحوي أسرارًا ومعنى خفيًا.

للإنسان صورتان، صورة قبلها من الله وقت الخليقة كما جاء في التكوين: "على صورة الله خلقه" (تك 1: 27)، والثانية أي صورة الإنسان الترابي (الأرضي) (1 كو 15: 49)، أخذها خلال عصيانه وخطيته عندما طرد من الفردوس إذ أغواه رئيس هذا العالم (يو 12: 31).

كما أن العملة تحمل صورة سلطان هذا العالم، هكذا الذي يكمل أعمال ملك الظلمة (أف 6: 12) يحمل صورته عليها.

يأمرنا يسوع أن نرد هذه الصورة وننتزعها لكي نحمل الأصل الذي خُلقنا عليه، فنكون مشابهين لله. بهذا نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله...

بنفس المعنى يقول بولس: "كما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضا صورة السماوي" (1 كو 15: 49). فالقول: "أعطوا ما لقيصر لقيصر" إنما يعني: "اتركوا صورة الإِنسان الأرضي". القوا الصورة الأرضية لتنالوا صورة السماوي وبهذا تعطوا ما لله لله.

العلامة أوريجينوس

هذا وقد قدم لنا القديس ساويرس الأنطاكي مقالاً مطولاً ورائعًا تحت عنوان "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، قام الشماس يوسف حبيب بترجمته ونشره ونرجو الرجوع إليه. وقد أبرز القديس أن الفريق الذي جاء للسيد المسيح يحمل اتجاهين متناقضين. الأول يمثله تلاميذ الفريسيين والثاني يمثله الهيرودسيون (مت 22: 16)، يسألونه إن كانوا يدفعون الجزية للحاكم الروماني أم يمتنعون.

يقول القديس ساويرس الأنطاكي أن الفريسيين كانوا يحرضون الشعب علي عدم دفع الجزية، حاسبين أنه ليس لهم ملك إلا الله وحده، وأن من يدفع الجزية يكون مقاومًا للناموس ومستبدلاً الله بقيصر غريب الجنس، معتمدين على التفسير الحرفي لبعض العبارات الكتابية مثل:

"إن قسم الرب هو شعبه، يعقوب حبل نصيبه" (تث 32: 9)

"فإنك تجعل عليك ملكًا الذي يختاره الرب إلهك؛ من وسط إخوتك تجعل عليك ملكًا، لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًا ليس هو أخاك" (تث 17: 15).

"فإن الرب قاضينا، الرب شارعنا، الرب ملكنا هو يخلصنا" (إش 32: 22). وكما يذكر سفر الأعمال أن "يهوذا الجليلي" (أع 5: 37) جمع شعبًا غفيرًا ورائه يقودهم للثورة علي قيصر ورفض دفع الجزية له... وكان يهوذا هذا فريسيًا.

وعلى العكس كان الهيرودسيون ينصحون إخوتهم اليهود أن يبقوا في خضوع للرومان وأن يدفعوا الجزية المفروضة عليهم من أجل تمتعهم بالهدوء والسلام.
4. سؤاله بخصوص القيامة

في مثل الكرامين قال السيد المسيح عن الكرامين "تآمروا فيما بينهم" [14]. فإن كان الكرامون الأشرار منشقين علي أنفسهم، لكنهم يجتمعون معًا بروح المقاومة للسيد المسيح والتآمر ضده. الآن إذ فشل رؤساء الكهنة والكتبة في مؤامراتهم ضد السيد حين حاولوا تشويه سلطانه في التعليم [1-8]، وقام بعض الفريسيين وغالبًا معهم بعضًا من الهيرودسيين (مت 22: 15-16). يسألونه عن الجزية وقد فشلوا، قام قوم من الصدوقيين يجربونه في أمر القيامة من الأموات. وكان هؤلاء لا يؤمنون بقيامة الجسد بل ويظنون أن النفس تموت مع الجسد فلا تقوم.

قدموا له مثل امرأة تزوجت ولم تنجب وبعد موت رجلها أخذت الثاني فالثالث حتى السابع ومات الكل ولم تنجب، "ففي القيامة لمن منهم تكون زوجة؟ لأنها كانت زوجة للسبعة" [33].

جاءت إجابة السيد المسيح "أبناء هذا الدهر يُزوجون ويُزوجُّون. ولكن الذين حُسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجَّون. إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة. وأما أن الموتى يقومون فقد دّل عليه موسى أيضًا في أمر العليقة كما يقول: الرب إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب. وليس هو إله أموات بل إله أحياء، لأن الجميع عنده أحياء" [34-38].

سبق لنا تقديم تفسير آبائي لهذه العبارات في تفسير مت 22: 23-33، مر 12: 18-27، لذا أكتفي بالملاحظات التالية:

أولاً: أخطأ الصدوقيون الفهم فقد ظنوا الحياة الأبدية بفكر مادي، كل له زوجته وأولاده وحياته الجسدية المادية. لذا صحح الرب مفاهيمهم معلنًا أننا في الأبدية نعيش علي مستوى ملائكي، لا تحتاج أجسادنا إلي شبع مادي بصورة أو بأخرى، إذ تحمل طبيعة جديدة تليق بالسماء، فلا تأكل ولا تشرب ولا تمارس علاقات زوجية! كشف أيضا رب المجد أحد جوانب غاية الزواج ألا وهو الإنجاب، ففي هذا العالم توجد حاجة للزواج من أجل بقاء الجنس البشري، لكن في السماء إذ لا يوجد موت، فلا حاجة للإنجاب!

ثانيًا: يرى القديس أمبروسيوس أن المرأة التي تزوجت سبعة رجال ولم تنجب حتى ماتت هي المجمع اليهودي الذي التحم بالشريعة والنبوات وقُدمت له كل الإمكانيات للإِثمار ولم ينجب بسبب فهمه الحرفي لكلمة الله، لذا نال العطايا الإلهية دون أن ينتفع بها بل سقط تحت الموت.

يمكننا أيضًا أن نفهم المرأة التي تزوجت بالرجال السبعة ولم تنجب حتى ماتت أنها تشير إلى الإنسان الذي ارتبط بالزمن والزمنيات أو بمحبة العالم الذي يُرمز له برقم 7 إشارة إلى أيام الأسبوع السبعة. فإنه لا يستطيع أن ينجب ثمر الروح ويحيا ما لم يتخطى الرجال السبعة ويقبل الثامن الذي يشير إلى "الأبدية"، أو ما فوق الزمن بالمعمودية نقبل الختان الروحي الذي كان يُمارس جسديًا في اليوم الثامن. فنُدفن مع المسيح ونقوم معه في جدة الحياة (رو 6: 4). هذا هو الرجل الثامن: الارتباط بالمسيّا القائم من الأموات في أول الأسبوع أو اليوم الثامن من الأسبوع السابق، بحياته ننعم بالحياة المقامة ونحمل ثمار روحه القدوس فينا فلا يحطمنا الموت ولا يمسك بنا القبر، بل بقوة ننشد مع الرسول بولس: "ابتُلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا هاوية؟! أما شوكة الموت فهي الخطية" (1 كو 15: 54-56).

ثالثًا: يقارن رب المجد بين أبناء هذا الدهر وبين الحياة في الدهر الآتي، معلنًا أنه في هذا الدهر نرتبط بأعمال جسدية مؤقتة مثل الزواج، أما في الدهر الآتي فتبطل هذه الأعمال الجسدية لتمارس حياة علي مستوى ملائكي. هذه المقارنة ألهبت قلوب الكثيرين للتدريب علي عربون الحياة الأبدية بالروح القدس وهم بعد في الجسد مثل العفة والنسك بفكرٍ روحيٍ سليمٍ؛ ففي رفضهم للزواج مثلاً أو نسكهم في الطعام لا ينظرون إلى هذه الأمور كأشياء دنسة أو محرمة، وإنما كأمورٍ زمنية تنتهي يليق بنا ضبطها ما استطعنا.

v ليته لا يعجب غير المؤمنين من أن الله سينزع أعمال أعضائنا الجسدية في الدهر الآتي، فإنها تبطل حتى في هذا الدهر.

الشهيد يوستين

v (في حديثه للعذارى المتبتلات)

لقد بدأتن فعلاً فيما ستكونون عليه!

لقد ملكتن فعلاً في هذا العالم مجد القيامة!

لقد عبرتن هذا العالم... إذ استمررتن طاهرات وعذارى، وصرتن علي قدم المساواة مع ملائكة الله.

الشهيد كبريانوس

v آمن أنك وإن مت فستحيا، فإن لم تؤمن بذلك فإنك وإن عشت تموت.

القديس أغسطينوس

رابعًا: إننا إذ نفكر في القيامة يلزمنا أن نترجى حياة سماوية فائقة، خلالها ننعم بصحبة السمائيين وننعم برؤية الله وجها لوجه مثلهم.

v عندما نصير مساويين لملائكة الله سنراه وجهًا لوجه كما يرون هم، ويكون لنا سلام عظيم نحوهم كما هم نحونا، فسنحبهم كما هم يحبوننا.

v إننا نتطلع إلي ما وعد به برجاء، أننا نصير مساوين لملائكة الله، ونجتمع معهم، وننعم برؤية الثالوث القدوس أما الآن فنحن نسير بالإيمان.

القديس أغسطينوس

v ]في تعزيته لأوستخيوم لنياحة والدتها باولا Paula يقول:[

لا نحزن لأننا خسرناها، بل بالحري نشكر الله أنها كانت لنا ولا تزال لنا، لأن الكل أحياء لله، والذين يرجعون إلى الرب لا يزالوا يُحسبون أعضاء عائلته.

لقد خسرناهم، هذا حق، لكن المساكن السماوية قد ربحتها. فإنها إذ كانت في الجسد كانت متغربة عن الرب (2 كو 5: 6)، كانت تشكو بدموع: "ويل لغربتي في ماشك، لسكني في خيام قيدار، طال على نفسي رحلتها" (راجع مز 120: 5-6).

القديس جيروم

يرى العلامة ترتليان في حديث الرب هنا عن عدم الزواج في الدهر الآتي لا يعني أن الإنسان يفقد كيانه كإنسان أو يخسر جسده، فكما يُسمح للملائكة أن تظهر على شكل بشر دون أن يفقدوا طبيعتهم الملائكية هكذا نصير نحن كملائكة الله دون فقدان لجسدنا البشري، وإنما لا تكون له متطلبات زمنية، بل يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية.

هذا أيضًا ما أكده القديس أغسطينوس بقوله: [كل المؤمنين الذين تعينوا أن يملكوا مع المسيح سيقومون بنفس الجسد بطريقة بها يُحسبون أهلاً أن يتغيروا إلي عدم الفساد الملائكي. إذ يصيرون مساوين لملائكة الله كما وعد الرب نفسه، ولكي يسبحونه بلا أي تراخٍ أو قلق. إنهم يعيشون في الرب ومعه أبديًا، ويتمتعون بفرح وطوباوية لا يمكن لإِنسان أن يعبر عنها أو يدركها.[

5. ابن داود وربه

إذ وقفت كل فئات اليهود القيادية تقاوم صداقة رب المجد يسوع بطريق أو آخر، وكان السيد يرد عليهم، لا رغبة في المجادلة، ولا دفاعًا عن نفسه، وإنما شوقًا في تصحيح مفاهيمهم لعله يوجد من بينهم من يقبل صداقته ويتجاوب مع محبته. الآن وقد دخل أورشليم واقترب وقت الآلام والصلب لذا صار إمكانية ارتباكهم في فهم المسيا المخلص أكبر. لأنهم إن كانوا قد تعثروا فيه وهو يصنع أعمالاً فائقة وبلا عدد فماذا يكون حالهم حينما يرونه تحت الآلام أو معلقًا علي الصليب؟! هذا كله دفعه لإعلان لاهوته من خلال كلمات المرتل، لعلهم يتداركون الأمر ويتفهمون سره.

"وقال لهم: كيف يقولون أن المسيح ابن داود،

وداود نفسه يقول في كتاب المزامير،

قال الرب لربي اجلس عن يميني

حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟!

فإذًا داود يدعوه ربًا، فكيف يكون ابنه" [41-44].

v لقد أعلن عن لاهوته في تواضع وليس في افتخار أو مباهاة، فقد قدم لهم السؤال وإذ صاروا في حيرة تركهم يبلغون النتيجة... لقد أبرز أنه ليس معارضًا للآب بل هو متفق معه، إذ يقاوم أعداء الابن الآب.

الأب ثيؤفلاكتيوس

v بالحق داود كان الأب والعبد بالنسبة للمسيح، فهو أبوه حسب الجسد، وعبده في الروح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لا يُفهم الجلوس هنا بوضع معين لأعضاء جسدية كما لو كان الآب جالسًا عن اليسار والابن عن اليمين، إنما يُفسر "اليمين" بمعنى السلطان الذي يناله بالآب فيأتي ليدين بعد أن جاء ليُدان.

القديس أغسطينوس

v يوصي الرب بالإيمان به بكونه المسيح الرب إلهنا الذي يجلس عن يمين الله، فلا يُفهم الجلوس جسديًا، إذ هو حال في كل مكان، وهو في الآب... واحد معه في القوة والقدرة.

v الجلوس عن يمينه لا يجعله أعلى منه، كما أن إرساله من الآب لا يحط من شأنه لأنه حيث ملء اللاهوت لا يوجد مجال للبحث عن درجات في الكرامة.

القديس أمبروسيوس

(راجع أيضًا أقوال الآباء في تفسير الإنجيل بحسب متى ص 473، وبحسب مرقس ص 220-222).

6. تحذير من الكتبة المرائين

صديقنا السماوي في محبته الصادقة قدم للقادة تساؤلاً أربكهم لكي يردهم إلى النبوات التي بين أيديهم ويدركوا شخصه كرب داود الذي جاء ابنًا له حسب الجسد من أجلهم. الآن بذات الحب ولنفس الغاية يتكلم مع تلاميذه في حضرة الشعب البسيط بلغة البساطة العملية، محذرًا إياهم من رياء الكتبة، لا ليدينوا الكتبة، وإنما ليعيشوا في بساطة الإيمان.

"وفيما كان جميع الشعب يسمعون قال لتلاميذه:

احذروا من الكتبة الذين يرغبون المشي بالطيالسة،

ويحبون التحيات في الأسواق والمجالس الأولى في المجامع

والمتكآت الأولى في الولائم.

الذين يأكلون بيوت الأرامل ولعلة يطيلون الصلوات،

هؤلاء يأخذون دينونة أعظم" [45-47].

v إذ هو يرسلهم ليعلموا العالم بحق حذرهم من الإقتداء بكبرياء الفريسيين.

v هذا (المشي بالطيالسة وحب التحيات...) هو طريق الذين يقتنصون الشهرة من أجل جمع المال.

v إنهم ليس فقط يمارسون الشر وإنما يتظاهرون بالصلوات والفضيلة ليُبرروا خطيتهم.

الأب ثيوفلاكتيوس

(راجع أقوال الآباء في تفسير مت 23، مر 12: 38).

http://demiana2010.com

23تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 21 السبت 2 يناير 2010 - 16:59

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 21

إذ دخل السيد المسيح أورشليم ليقدم حياته ثمنًا لصداقته معنا، لاحظ التلاميذ هياج كل القيادات اليهودية ضده، وكأن الجو قد صار ملبدًا بالغيوم. لهذا رفع السيد المسيح أنظار تلاميذه إلى مجيئه الأخير، مقدمًا لهم علامات مجيئه بما تحمله من مرارةٍ وضيقٍ شديدٍ ليوضح لهم أن كل طاقات الظلمة ومقاومة عدو الخير لن تبطل هذه الصداقة الإلهية مع بني البشر. وكأن رب المجد بحديثه في هذا الأصحاح يطمئن كل نفس تُصاب بصغر نفس بسبب ما يحل بالعالم من أتعاب خاصة بالنسبة للمؤمنين، فالرب عالم بأحداث التاريخ كله التي يسخرها كعلامات لمجيئه.

إذن نسمع من فم ربنا يسوع عن مصارعة الظلمة ضد النور، والأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة ضد ملكوته. هذا كله يعطينا رجاءً، بأن الله سبق فأعلمنا به وهو محقق بخطته الإلهية حتمًا، حتى يضم أصدقاؤه إلى ملكوته يشاركونه أمجاده الأبدية. هذا وقد سبق لنا الحديث عن هذه العلامات بتوسع في تفسيرنا مت 24 ومر 13، لذا ألتزم بالاختصار الشديد ما استطعت حرصًا على عدم التكرار.

1. فِلسا الأرملة 1-4.

2. سؤال حول أبنية الهيكل 5-7.

3. المسحاء المضللون 8.

4. أخبار الحروب 9-10.

5. الزلازل والمجاعات والأوبئة 11.

6. اضطهاد المؤمنين 12-19.

7. حصار أورشليم 20-24.

8. علامات في الشمس... 25-26.

9. مجيء ابن الإنسان 27-28.

10. مثل التينة والصيف 29-33.

11. دعوة للسهر 34-36.

12. بياته في جبل الزيتون 37-38.

1. فلسا الأرملة

ربما يدهش البعض أن الإنجيلي يقدم لنا قصة قبول رب المجد يسوع لفلسي الأرملة أكثر من كل ما قدمه الأغنياء من قرابين قبل عرضه لموضوع غاية في الخطورة والأهمية ألا وهو حديث رب المجد يسوع عن علامات مجيئه. بمعنى آخر كيف يمكن أن تكون قصة هذه الأرملة أشبه بمقدمة لهذا الحديث الرباني الخطير عن علامات المنتهى؟ وأي ارتباط بين الموضوعين؟ قبل أن نجيب على ذلك نعرض ما قاله الإنجيلي لوقا:

"وتطلع فرأى الأغنياء يلقون قرابينهم في الخزانة.

ورأى أيضًا أرملة مسكينة ألقت هناك فلسين.

فقال: بالحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع.

لأن هؤلاء من فضلتهم ألقوا في قرابين الله،

وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل المعيشة التي لها" [1-4].

يبدو لي أن هذه القصة تعتبر أنسب مقدمة يمكن أن تناسب حديث رب المجد عن علامات مجيئه. فقد قدم لنا العلامات لا لنعرف الأزمنة ونتنبأ عنها ونهتم بحساباتها، وإنما لكي يُلهب قلبنا وسط قسوة الحياة التي نعيشها نحو مجيئه، فتكون أغنيتنا المستمرة في كل عبادتنا وسلوكنا وأحاسيسنا وأحلام يقظتنا الخ. هي "تعال أيها الرب يسوع". نترقب مجيئه فينا قبل مجيئه على السحاب في يومه الأخير. أما قصة الأرملة فنجد فيها السيد يترقب أيضًا قبولنا له، إذ يقول: "تطلع فرأى الأغنياء... ورأى أيضًا أرملة". إنه دائم التطلع إلينا، سواء كنا أغنياء أو فقراء، رجالاً أم نساءٍ، رعاة أم رعية، ينظر إلينا لا ليديننا أو ينتقدنا، إنما ليرى هل من مسكنٍ فينا يمكن أن يستريح فيه؟! هل من قلب فد تجاوب مع محبته؟ يمكننا أن نقول إنه مبادر بالحب والشوق إلينا، قبل أن يطالبنا بترقب مجيئه، ينظر هو مترقبًا قلبًا واحدًا بسيطًا يقبله ليبيت فيه.

لم يكن ينظر إلى العطايا أيُا كانت قيمتها، لكنه كان ينظر الأغنياء وأيضًا الأرملة، مهتمًا بالقلب لا العطية، طالبًا الثمر الروحي الداخلي لا العطاء المادي المنظور! وقد سبق لنا عرض أقوال كثير من الآباء في أمر هذه الأرملة أثناء تفسير مر 12: 41-44، لذا أكتفي هنا بالتعليقات التالية:

أولاً: بينما يحذر السيد المسيح تلاميذه من الإقتداء بالكتبة لأنهم "يأكلون بيوت الأرامل" (20: 47)، إذا به يمتدح أرملة على سخاء قلبها. هكذا قد يُحرم بعض قادة الفكر الديني من ملكوت السماوات بسبب طمعهم، بينما يتلألأ نجم فقراء وأرامل في الملكوت من أجل انفتاح قلبهم بالحب، وسخائهم في العطاء، لا من جهة كمية ما قدموه، وإنما من جهة ثمرهم الروحي الداخلي. لهذا يكتب القديس بولس إلى أهل فيلبي: "ليس إني أطلب العطية، بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم" (في 4: 17).

v إنها النية هي التي تجعل العطية قيّمة أو زهيدة.

القديس أمبروسيوس

v ليس الاعتبار في الكمية التي قدمتها وإنما في الكمية التي تركتها لنفسها، فإنه لم يعطِ أحد أكثر منها إذ لم تترك لنفسها شيئًا.

القديس أمبروسيوس

v كانت هذه الأرملة غنية، لأنها ألقت فلسين في الخزانة، وقد قال عنها المسيح: هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع ؛ لأن الله يطلب الإيمان لا المال.

القديس أمبروسيوس

v وُجدت أرملة في عوز من جهة الوسيلة لكنها كانت غنية في العمل. مع أن ما يُقدم يُوزع على الأرامل والأيتام لكن التي كان يليق بها أن تأخذ أعطت.

الشهيد كبريانوس

ثانيًا: من هم هؤلاء الأغنياء الذين ألقوا قرابينهم في الخزانة إلا اليهود الذين انتفخوا ببرهم الذاتي كحافظي الناموس. أما الأرملة الفقيرة، فهي كنيسة العهد الجديد التي جاء أعضاؤها في أغلبيتهم من الأمم الذين عاشوا كمن هم في ترمل ليس لهم معرفة بالله كعريسٍ لهم، فقراء لم يستلموا الناموس، ولا عرفوا العهود والوعود ولا قام بينهم أنبياء قديسون. لقد قدموا فلسين هما الإيمان العامل بالمحبة، جاء إيمانهم بربنا يسوع ملتحمًا بالحب العملي، وكأنهما فلسان يتقبلهما الرب رائحة سرور.

سبق أن كررنا بأن رقم 2 يشير إلى الحب فالفلسان ليسا إلا عطية الحب التي يتقبلها ربنا يسوع بفرح... حب لله وللقريب!

2. سؤال حول أبنية الهيكل

كان رب المجد منطلقًا نحو صليب يقدم لنا مفهومًا أعمق للصداقة الإلهية، ألا وهو تلاقي الإنسان الداخلي مع الله فيه، لذا سأل تلاميذه الهروب من رياء الفريسيين وطلب المتكآت الأولى والتستر وراء الصلوات بقلب يأكل بيوت الأرامل (20: 45-47). إنه يطلب القلب مسكنًا له، فيجد في أرملة تقدم فلسين أفضل من أغنياء كثيرين يلقون قرابينهم في الخزانة. لكن التلاميذ لم يفهموا حتى تلك اللحظات ما قصده رب المجد فتحدث قوم منهم معه عن عظمة أبنية الهيكل (مت 24: 1؛ مر 13: 1).

في دراستنا لإنجيل مرقس (13: 1)، قلنا أن الهيكل كان في دور التجديد، وقد بدأوا هذا العمل منذ حوالي 20 عامًا قبل مجيء السيد. فكان هذا التجديد الضخم في نظر كثير من اليهود علامة رئيسية في أعينهم على رضا الله عنهم، حتى بعض التلاميذ كانوا مبهورين بهذه الأبنية، ولعلهم ظنوا أن السيد المسيح إذ يملك إنما يقيم مركز سلطانه في هذا الهيكل.

"وإذ كان قوم يقولون عن الهيكل أنه مزين بحجارة حسنة وتحف، قال:

هذه التي ترونها ستأتي أيام لا يُترك فيها حجر على حجر لا يُنقض.

فسألوه قائلين: يا معلم متى يكون هذا؟

وما هي العلامة عندما يصير هذا؟" [5-7].

ويلاحظ هنا الآتي:

أولاً: كانت الأنظار تتجه إلى المباني الضخمة والتحف، أما رب المجد فكان يطلب العابدين بالروح والحق. يطلب بالحري الساكنين في الهيكل، هؤلاء الذين - في عيني الله- يمثلون عظمة الهيكل وجماله إن صاروا مسكنًا له بقلوبهم، وتحولت حياتهم إلى عرشٍ ناريٍ ملتهبٍ بالحب.

ثانيًا: إذ كان المخلص قادمًا نحو الصليب، كان لابد أن يعلن عن خراب الهيكل حتى تتوقف الذبائح الدموية، إذ تحققت وكمل عملها خلال ذبيحة المسيح الفريدة.

ثالثًا: يرى القديس كيرلس الكبير أن التلاميذ لم يفهموا كلماته، فقد حسبوه يتحدث عن نهاية العالم، لذلك جاء تساؤلهم: "قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئه؟ وانقضاء الدهر؟" (مت 24: 3). كأنهم ربطوا هدم الهيكل بمجيء السيد الأخير ونهاية الأزمنة، ربما لأنه لم يكن ممكنًا في تصور يهودي أن هيكل أورشليم يخرب بعد، إنما يزداد قوة وزينة خاصة بمجيء المسيّا المنتظر ليملك خلاله، ويبقى الهيكل حتى نهاية الدهر.

3. المسحاء المضللون

إذ أراد السيد المسيح أن يعلن عن خراب الهيكل وبالأكثر عن مجيئه الأخير قدم أولاً تحذيرًا من المسحاء الكذبة، قائلاً: "انظروا لا تضلوا، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو. والزمان قد قرب، فلا تذهبوا وراءهم" [8]. كأن السيد المسيح يقدم تحذيرًا لمؤمنيه عبر كل الأجيال ألا ينشغلوا بالأزمنة بل بالحري بالفكر الروحي المتيقظ لأن العدو يقف بالمرصاد للتضليل. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي أن إبليس مخادع ينتحل لنفسه اسمًا محبوبًا للكل، يشبه رجلاً يريد أن يسرق أولادًا ليسوا له، فينتهز فرصة غياب والديهم ليجتذب نظراتهم ويسحبهم إليه بتقديم أمور يتوقون إليها. هكذا في كل هرطقة ينطق العدو مخادعًا: "أنا هو المسيح ومعي الحق".

لقد ظهر مسحاء كذبة حتى في أيام الرسل وما قبلها منهم سيمون الساحر الذي كان "يدهش شعب السامرة، قائلاً إنه شيء عظيم، وكان الجميع يتبعونه من الصغير إلى الكبير، قائلين: هذا هو قوة الله العظيمة" (أع 8: 9-10) وأيضًا ثوراس الذي قال عن نفسه إنه شيء والتصق به عدد من الرجال نحو أربعمائة (أع 5: 36)، ويهوذا الجليلي في أيام الاكتتاب، حيث أزاغ وراءه شعبًا غفيرًا (أع 5: 37).
4. أخبار الحروب

"فإذا سمعتم بحروب وقلاقل فلا تجزعوا،

لأنه لابد أن يكون هذا أولاً،

ولكن لا يكون المنتهى سريعًا.

ثم قال لهم: تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة" [9-10].

يسبق نهاية العالم سلسلة من الحروب، حتى تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة ويتحول العالم إلى كتلة من الحروب لا تنقطع، وقد سمح الله بذلك لكي يدرك الإنسان أن العالم المادي غير خالد، إنما يسير في طريق الدمار يومًا بعد يوم... "ولكن لا يكون المنتهى سريعًا"، إذ توجد أحداث وعلامات لابد أن تتحقق قبل مجيئه.

لقد سبق فأخبرنا السيد عن هذه الأمور حتى يكون أثرها أخف، ولكي لا يفقد المؤمنون سلامهم الداخلي، إذ هم متوقعون حدوثها. ولعل إعلان السيد عن هذه الحروب كان من أجل المؤمنين لئلا يتشككوا. فقد أعلنت الملائكة يوم مجيء الرب "على الأرض السلام"، بينما الحروب تتزايد يومًا بعد يوم. لقد جاء لسلام أرضنا الداخلية، يحل فينا فيجعل من قلبنا (أرضنا) مملكة سماوية تمتلئ سلامًا فائقًا وسط اضطرابات العالم الخارجية.

5. الزلازل والمجاعات والأوبئة

"وتكون زلازل عظيمة في أماكن ومجاعات وأوبئة،

وتكون مخاوف عظيمة من السماء" [11].

إذ تنقسم البشرية على ذاتها، فتقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، تعلن الأرض والسماء غضبهما عليها؛ فتصرخ الأرض ضد البشرية خلال الزلازل العظيمة، كما حدث يوم صلبوا رب المجد (مت 27: 51)، وتمتنع عن إعطاء غلتها، فتحدث مجاعات، وتثور الطبيعة فتكثر الأوبئة القاتلة، وتعلن السماء أيضًا غضبها خلال المخاوف العظيمة.

إن كان الله قد خلق العالم من أجل الإنسان لينعم بسلامٍ وفرحٍ في الرب، فحين يهيج الإنسان على بنى جنسه، ويفقد غايته يثور العالم المنظور أيضًا ضده، لا ليعلن غضبه عليه فحسب، وإنما ليلجمه ما استطاع. بمعنى آخر أن الزلازل والمجاعات والأوبئة والمخاوف العظيمة التي تحل من السماء، وإن كانت أمورًا مرعبة لكنها هي اللغة التي تحذر البشرية من تهورها ضد نفسها.

هذا الإعلان الإلهي أو قل التحذير الرباني ينطبق على ثلاثة مستويات. ففي المستوى الأول على نهاية العالم كله إذ يتم ذلك حرفيًا، والثاني على مستوى دمار الهيكل اليهودي وخراب أورشليم. وقد وصف يوسيفوس المؤرخ اليهودي ما حلّ بأورشليم قبيل دمارها خاصة المجاعة التي أصابت السكان حتى كانوا يأكلون البذار التي في بواقي الحيوانات. وأيضًا على المستوى الشخصي، فإنه إذ يقوم في الإنسان أمة على أمة، ومملكة على مملكة. أي حين يفقد الإنسان سلامه الداخلي ووحدته بالروح القدس يضطرب فكره وقلبه حتى جسده، وكأن زلازل قد حلت به لتهدم كل كيانه، وتصير فيه مجاعات، إذ لا يجد شبعًا من العالم بكل كراماته وملذاته، فيبقى محرومًا من كلمة الله الخبز النازل من السماء كسّر شبع للمؤمنين، وتحل به أوبئة متنوعة تصيب نفسه الأمراض الروحية القاتلة، وتكون مخاوف عظيمة من السماء، أي تتحول نفسه التي كان يليق بها أن تكون سماءً إلى علة مخاوف، بمعنى سرّ قلقه واضطرابه لا يكون من الخارج بل من داخل نفسه. هكذا إذ يفقد الإنسان شركته مع الآب في ابنه بالروح القدس، يفقد كل سلام للجسد والنفس والروح، ويصير هو نفسه علة تحطيمه لنفسه!

6. اضطهاد المؤمنين

"وقبل هذا كله يلقون أيديهم عليكم ويطردونكم،

ويسلمونكم إلى مجامع وسجون،

وتُساقون أمام ملوك وولاة لأجل اسمي،

فيؤول ذلك لكم شهادة،

فضعوا في قلوبكم أن لا تهتموا من قبل لكي تحتجوا.

لأني أنا أعطيكم فمًا وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها.

وسوف تُسلمون من الوالدين والإخوة والأقرباء والأصدقاء ويقتلون منكم.

وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي.

ولكن شعرة واحدة من رؤوسكم لا تهلك.

بصبركم اقتنوا أنفسكم" [12-19].

لعل السيد المسيح أراد أن يميز بين ما يحل بالبشرية من متاعب وضيقات لأسباب طبيعية أو بسبب انحرافها وبين الضيق الذي يحل بالمؤمنين لا لسبب سوى إيمانهم بالسيد المسيح، فإن العدو لا يكف عن المقاومة بكل طريقة مستخدمًا من لهم السمة الدينية (المجامع اليهودية) وأيضًا السلطات الزمنية، بل ومن الأقرباء حسب الجسد مثل الوالدين والأخوة والأقرباء. وفي هذا كله يرى الله أن هذه المقاومة هي ضده شخصيًا، فهو الذي يعطي الكلمة والحكمة لمؤمنيه، ومسئول حتى عن كل شعرة من رؤوسهم. لكن ليس بسلبية من جهة المؤمنين، إذ يقول: "بصبركم اقتنوا أنفسكم" [19].

في اختصار نلاحظ في النص السابق الآتي:

أولا: الخط الواضح في هذا الوعد الإلهي، إن الله نفسه هو موضوع مقاومة عدو الخير، لذا فهو الذي يقوم بالمقاومة وبطرقه الإلهية اللائقة به. يقول البابا غريغوريوس (الكبير): [كما لو أن الرب يقول لتلاميذه: لا تخافوا، أدخلوا المعركة، فإني أنا الذي أحارب، أنتم تنطقون وأنا الذي أتكلم.] ويقول القديس كبريانوس: [عمله أن نغلب... هنا نرى الثقة العظيمة التي للمؤمنين، والخطأ الشنيع الذي يرتكبه غير المؤمنين حين لا يثقون في ذاك الذي وعد بغلبة من يعترفون به ولا يخافون من تهديداته بالعقوبة الأبدية لمن ينكره.]

ثانيًا: إن كان عدو الخير يستخدم كل الوسائل خاصة العنف الجسدي على المؤمنين، فالمؤمنون يتقبلون من مسيحهم فمًا وحكمة حتى يشعر المقاومون بالضعف أمام المُضطهدين.

ثالثًا: يسمح الله للمؤمنين بالضيق، لكنه كأب يعلن اهتمامه بهم فلا تهلك شعرة واحدة منهم، وكما يقول القديس أغسطينوس: [تأكدوا يا إخوة أنه ليس للأعداء سلطان على المؤمنين إلا بالقدر الذي يفيدهم بتجربتهم وامتحانهم.] كما يقول: [عندما حث الرب يسوع شهداءه على الصبر وعدهم أن ينال الجسد نفسه كمالاً تامًا في المستقبل بلا فقدان، لا أقول فقدان عضو منه، وإنما دون فقدان شعرة واحدة.]

رابعًا: يعلق البابا غريغوريوس (الكبير) على قول السيد: "بصبركم اقتنوا أنفسكم" [19]، هكذا: [وضع اقتناء النفس في فضيلة الصبر، لأن الصبر هو أصل كل الفضائل والحامي لها. الصبر هو احتمال الشرور التي تسقط علينا من الآخرين بهدوء، دون أن نحمل مشاعر سخط ضد من يسقطها علينا.]

7. حصار أورشليم

"ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش،

فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها.

حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال،

والذين في وسطها فليفروا خارجًا،

والذين في الكُورِ فلا يدخلوها.

لأن هذه أيام انتقام ليتم كل ما هو مكتوب.

وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام،

لأنه يكون ضيق عظيم على الأرض، وسخط على هذا الشعب.

ويقعون بفم السيف، ويسبون إلى جميع الأمم،

وتكون أورشليم مدوسة من الأمم، حتى تكمل أزمنة الأمم" [20-24].

يتحدث السيد المسيح بكل وضوح عما كان سيحل بأورشليم بعد ذلك بحوالي 40 عامًا على يديّ تيطس الروماني، وكان حديث السيد المسيح أشبه بتحذير للمؤمنين الذين كانوا في أورشليم ليتذكروا قول السيد، فيهربوا من أورشليم ولا يسقطوا تحت الحصار. وكما قلت أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي قدم وصفًا تفصيلاً عما حدث في هذا الحصار.

ويلاحظ في هذا النص الآتي:

أولاً: يقول القديس أغسطينوس بأن كلمات ربنا هذه كما رواها لوقا الإنجيلي تُظهر أن رجسة الخراب التي تنبأ عنها دانيال قد تحققت بحصار أورشليم.

ثانيًا: "لأن هذه أيام انتقام" [22]، فإن كان الرب قد سمح لهم أن يصلبوه دون مقاومة من جانبه، لكن دمه الذي قُدم كفارة للعالم وخلاصًا للمؤمنين يصير علة دينونتهم. ما حدث في حصار أورشليم كان إنذارًا لليهود ليدركوا ما ارتكبته أيديهم الأثيمة لعلهم يرجعون إلى الله بالتوبة، ويقبلون المسيّا المخلص.

ثالثًا: "ويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام" [23]. يرى البعض في هذا القول نبوة عما رواه يوسيفوس المؤرخ أن النساء الشريفات طبخن أطفالهن بسبب شدة الجوع.

رابعًا: ماذا يعني بقوله: "وتكون أورشليم مدوسة من الأمم، حتى تكمل الأزمنة" [24]؟ إن كانت أورشليم هي مركز اليهود، فستبقى إسرائيل مدوسة بالجحود وعدم الإيمان حتى تكمل كنيسة الأمم، وفي أواخر الدهور يتخلى إسرائيل عن تعصبه الصهيوني، ويقبل الإيمان بالسيد المسيح الذي صلبه، كقول الرسول بولس: "إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26).

خامسًا: ماذا يعني حصار أورشليم روحيًا؟ بلا شك أن أورشليم إنما هي مركز العبادة اليهودية، تحوي الهيكل وملحقاته بما يضمه من طقوس غير منقطعة، خاصة الذبائح الدموية. فكانت المدينة تمثل الكيان اليهودي بكل قوميته وعبادته وثقافته الخ. لذا يمكننا أن نقول بأننا لا نستطيع أن ننعم بأورشليم العليًا معلنة في قلوبنا ما لم تحاصر أورشليمنا القديمة فينا. لا مجال للتمتع بنعمة الروح البنَّاءة مع التقوقع حول الحرف اليهودي القاتل، ولا لقاء بين الكيان الكنسي السماوي مع إقامة فكر ضيق يهودي! إذن لنهرب من اليهودية إلى الجبال، أي من الحرف اليهودي إلى جبال الإنجيل العالية والراسخة بالروح.

"الذين في وسطها فليفروا خارجًا"... إن أمسك بنا الحرف واقتنصنا في سجنه، نطلب الهروب منه، لنحيا بحرية الروح منطلقين خارجًا!

"الذين في الكُورِ فلا يدخلوها"... بمعنى إن كان الروح قد أعتقنا منها وأطلقنا إلى كُورِ (مدن) الإنجيل لنحيا بروحه، فلا نشتهي العودة إلى الحرف.

"ويل للحبالى والمرضعات"... إذ لا يستطيعون من هم بلا ثمر روحي ناضج كأولاد لهم أن ينطلقوا من ضيق الحرف. ويل للنفوس الضعيفة التي لم تثمر بعد بل هي أشبه بالحبالى، أو ثمرها ضعيف أشبه بالمرضعات، فإنه يصعب عليها التمتع بالحرية الحقيقية في الرب.

8. علامات في الشمس...

"وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم،

وعلى الأرض كربُ أمم بحيرةٍ، البحر والأمواج تضج،

والناس يُغشى عليهم من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة،

لأن قوات السماوات تتزعزع" [25-26].

بلا شك سيتم ذلك حرفيًا قبل مجيء السيد المسيح الأخير، إذ تحدث علامات في الشمس والقمر والنجوم، الأمور التي يتوقعها علماء الفضاء أنفسهم.

ماذا يعني بالشمس والقمر والنجوم والأرض والبحر؟

أولاً: ربما قصد بالعلامات التي تظهر قبل مجيء المسيح ظهور ضد المسيح، هذا الذي يقوم بدور خطير في حياة العالم في أواخر الدهور، فإن كانت الشمس ترمز للسيد المسيح، فستظهر علامة ألا وهو اختناق الإيمان به. وكأن الشمس تصير مختفية في حياة البشر. وقد أعلن السيد ذلك بمرارة إنه إن أمكن أن يضل حتى المختارين، كما تساءل: ألعل ابن الإنسان يجد الإيمان عند مجيئه؟!

أما القمر فيشير إلى الكنيسة التي تستمد نورها من السيد المسيح شمس البرّ، فستحمل أيضًا علامة خاصة بها، إذ تدخل في ضيق شديد، وتصير هاربة في البرية، يتعقبها ضد المسيح برجاله أينما وجدت.

تشير النجوم إلى مؤمنين بما لهم من مواهب ومراكز روحية. فللأسف سيسقط كثيرون حتى من أصحاب المواهب والمراكز في جحد مسيحهم وتكون حركة ارتداد مُرة.

تشير الأرض التي تمتلئ بالكوارث إلى فساد الجسد (الأرض)، إذ ينتشر الفساد، وتعم الرجاسات، ويتحول البشر إلى أفكار جسدانية حيوانية محطمة للعمل الروحي.

يشير البحر وأمواجه إلى الشعوب والأمم، فسيكون الضيق لا على مستوى الأفراد فحسب، وإنما على مستوى الأمم أيضًا.

ثانيًا: نستطيع أيضًا القول بأنه إذ يرفض الإنسان عمل السيد المسيح فيه تظهر هذه العلامات فيه، فيفقد استنارته بشمس البرّ، أي بالإيمان بالسيد المسيح. ويظلم قمره أي لا يمارس عضويته الحقيقية في الكنيسة كجسد المسيح المستنير به. وتتساقط نجومه حيث تنهار مواهبه وتنحل طاقاته وتتحول إمكانياته لتحطيمه عوض بنيانه ومجده. وتصير أرضه بكل أممها في كربٍ وحيرةٍ، أي يفسد جسده عوض تقديسه، وترتبك حواسه لتكون سرّ اضطراب له، ويضج بحره بأمواجه، أي يفقد سلامه ليعيش في قلقٍ غير منقطعٍ كأمواج البحر التي لا تهدأ.

ثالثًا: مجيء ابن الإنسان الأخير يدخل بنا إلى حياة سماوية جديدة، وصفها القديس يوحنا اللاهوتي، قائلاً: "ثم رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد" (رؤ 21: 1). نقول لتتحطم السماء المادية الحالية والأرض أيضًا، ولتنتهِ البحار، ولتتساقط كل الكواكب بلا رجعة. فإننا ننتظر السماء الجديدة، شمسها رب المجد يسوع، وقمرها الكنيسة أورشليم العليا أمنا، وكواكبها القديسون. لننعم بأرض ليست مادية تنبت شوكًا وحسكًا، بل حياة جديدة حيث "لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت" (رؤ 21: 4). ليُمح البحر، فلا يوجد اضطراب بعد!

رابعًا: تفرح السماء بخاطىءٍ واحدٍ يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة (لو 15: 7)، فمن يستطيع أن يعبر عن ألمها حين تجد النفوس تنهار بسبب ضد المسيح؟! لذا يقول رب المجد: "قوات السماوات تتزعزع" [26].

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [قوات السماوات تتزعزع... عندما ترى جماهير بلا عدد تسقط تحت الدينونة!]

خامسًا: يقول القديس أغسطينوس: [قوات السماء تتزعزع، لأنه عندما يثير الأشرار الاضطهاد يرتعب بعض المؤمنين الأقوياء.]

9. مجيء ابن الإنسان

"وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيًا في سحابة بقوةٍ ومجدٍ كثيرٍٍ.

ومتى ابتدأت هذه تكون، فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم، لأن نجاتكم تقترب" [27-28].

v سيبصره المؤمنون، وغير المؤمنين، فسيكون هو وصليبه أكثر بهاءً من الشمس ويلاحظه الكل.

الأب ثيؤفلاكتيوس

v الكلمات "أتيًا في سحابة" تفهم بطريقتين؛ يأتي في كنيسته كما في سحابة (عب 12: 1)، إذ هو لا يكف عن أن يأتي الآن فيها، أما فيما بعد فيتحقق مجيئه بسلطان أعظم وجلال إذ يظهر لقديسيه بقوة ليهبهم فضيلة عظيمة حتى يغلبوا ذاك الاضطهاد المريع. كما سيأتي بجسده... الذي صعد به.

القديس أغسطينوس

إن كانت الأحداث كلها مؤلمة للغاية، لكن ظهور ابن الإنسان يرد للكنيسة فرحها وبهجتها ومجدها على مستوى الشركة مع عريسها في فرحه ومجده. ملاقاتنا مع ابن الإنسان تنسينا كل الأحداث السابقة المرة، بل تصير علة مكافأتنا ومجدنا بالرب. لهذا يقول: "انتصبوا" بمعنى اثبتوا، قفوا كرجال روحيين بلا تراخ ولا كسل. "ارفعوا رؤوسكم" أي ارفعوا عقولكم نحو السماويات، وانتظروا مجيئه، لأن نجاتكم على مستوى أبدي يقترب.

يأتي رب المجد لنجاتنا، ليس فقط على مستوى خلاص النفس، وإنما قيامة الجسد أيضًا، فيتمجد الإنسان بكليته!

10. مثل التينة والصيف

"وقال لهم مثلاً: انظروا إلى شجرة التين وكل الأشجار.

متى أفرخت تنظرون وتعلمون من أنفسكم أن الصيف قد قرب.

هكذا أنتم أيضًا متى رأيتم هذه الأشياء صائرة،

فاعلموا أن ملكوت الله قريب.

الحق أقول لكم أنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل.

السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول" [29-33].

v أكد بمقارنة حكيمة الالتزام بأن نطأ بأقدامنا (محبة) العالم ونحتقرها، قائلاً: "انظروا إلى شجرة التين وكل الأشجار، متى أفرخت (قدَّمت ثمرًا) تنظرون وتعلمون من أنفسكم أن الصيف قد قرب". كأنه يقول: كما أنه بثمر الشجرة يُدرك اقتراب الصيف، هكذا بسقوط العالم يُعرف أن ملكوت الله قد اقترب. هنا واضح أن ثمرتنا هي سقوط العالم (من قلوبنا)...

حسنًا يُقارن ملكوت الله بالصيف حيث يزول سحاب حزننا، وتشرق أيام الحياة بنور الشمس الأبدي الساطع.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لقد أكد رب المجد "اعلموا أن ملكوت الله قريب" [31]. فالضيق يحل لكن إلى حين، أما الملكوت فأبدي.

v ملكوت السماوات أيها الإخوة بدأ يقترب، حيث مكافأة الحياة والفرح بالخلاص الأبدي والطوباوية الدائمة واقتناء الفردوس المفقود. هذه الأمور قادمة مع عبور العالم. ها السماوات تحل عوض الأرض، والأمور العظيمة عوض الدنيا، والأبديات عوض الزمنيات.

الشهيد كبريانوس

ماذا يقصد بقوله: "الحق أقول لكم أنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل"؟ ما قاله الرب تحقق في جيل التلاميذ بالنسبة لخراب أورشليم ودمار الهيكل، الأمر الذي كان مستبعدًا جدًا، لذا أكده السيد بقوله: "الحق أقول لكم". وأيضًا يتحقق كل ما قاله السيد في جيل كنيسته، إذ نعلم أن التاريخ من جهة الخلاص ينقسم إلى عدة أجيال:

أ. الجيل الأول من آدم إلى نوح حيث التجديد بالطوفان.

ب. الجيل الثاني من نوح إلى موسى حيث استلم الناموس المكتوب.

ج. الجيل الثالث من موسى إلى داود حيث بدأ عهد الملوك والأنبياء.

د. الجيل الرابع من موسى إلى سبي بابل.

خ. الجيل الخامس من سبي بابل إلى مجيء السيد المسيح.

و. الجيل السادس والأخير من مجيء المسيح متجسدًا حتى مجيئه الثاني أو الأخير. هذا هو جيل كنيسة العهد الجديد التي تعاصر كل ما نطق به السيد المسيح في هذا الأصحاح.

11. دعوة للسهر

"فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة،

فيصادفكم ذلك اليوم بغتة،

لأنه كالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه كل الأرض.

اسهروا إذًا وتضرعوا في كل حين،

لكي تُحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون،

وتقفوا قدام ابن الإنسان" [34-36].

بهذا الحديث الختامي يكشف لنا السيد المسيح عن غاية عرضه لعلامات مجيئه. إنه لا يريدنا أن نعرف الأزمنة وننشغل بحساباتها، بل بالحري أن نسهر بقلوبنا، مترقبين بالحياة الجادة مجيئه ليملك أبديًا.

v يحمل كل حيوان دوافع قُدمت له من الله لحفظ جنسه، لذلك قدم لنا المسيح هذا التحذير حتى ما يمارسه الحيوان بالطبيعة نمارسه نحن بالعقل والحكمة، فنهرب من الخطية كما تهرب الحيوانات من الطعام القاتل، ونطلب البر كأعشاب مفيدة.

يقول: "احذروا لأنفسكم"، أي ميزوا ما هو مميت مما هو صحّي.

لما كان هناك طريقان للحذر لأنفسنا، واحد خلال الأعين الجسدية والآخر خلال وظائف النفس، وإذ لا تستطيع العين الجسدية أن تبلغ الهدف لذا فإنه يتحدث هنا عن عمل النفس.

"احذروا"، بمعنى انظروا حولكم من كل جانب، بعين دائمة السهر لحراسة أنفسكم...

يوجد حولكم غنى وفنون وكل مباهج الحياة، يلزمكم ألا تهتموا إلا بنفوسكم اهتمامًا خاصًا.

القديس باسيليوس الكبير

v إذ تترك النفس الأمور السفلية المادية تنطلق نحو الأمور السماوية غير المنظورة.

الأب إسحق

ما هو غاية هذا السهر الروحي واليقظة في ملاقاة الرب القادم؟ يحول هذا السهر "يوم الرب" من فخ يسقط فيه جميع الجالسين على وجه كل الأرض إلى يوم نجاة ووقوف قدام ابن الإنسان. بمعنى آخر يوم الرب بالنسبة لغير الساهرين هؤلاء الذين يحسبون كجالسين على وجه كل الأرض أي كجسدانيين وترابيين يكون لهم فخًا، أما بالنسبة للساهرين الذين لا يرتبطون بمحبة الأرض بل ينطلقون كما بأجنحة الروح في السماويات لا يقتنصهم يوم الرب كفخ لهلاكهم وإنما يتمتعون بالنجاة على مستوى النفس والجسد معًا، وينعمون بالوقوف قدام ابن الإنسان كملائكة الله. يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [هذا هو مجد الملائكة أن يقفوا قدام ابن الإنسان، إلهنا، ويعاينون وجهه على الدوام.]

12. بياته في جبل الزيتون

"وكان في النهار يعلم في الهيكل،

وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدُعى جبل الزيتون.

وكان كل الشعب يبكرون إليه في الهيكل ليسمعوه" [37-38].

ختم الرب حديثه السابق بالسهر، وهو كممثلٍ للبشرية، ونائبٍ عنها قام بالسهر عمليًا، لا ليكون قدوة لنا فحسب، وإنما ليقدس سهرنا بسهره، كما قدس أعمالنا بعمله! في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل ينطلق للسهر على جبل الزيتون، مقدسًا الحياة العاملة المتألمة!

http://demiana2010.com

24تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 22 السبت 2 يناير 2010 - 17:00

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 22

في الأصحاحات السابقة نرى كلمة الله المتجسد قد جاء إلينا يقدم لنا صداقته الإلهية، كاشفًا لنا عن ملامح طريق صداقته، ومحذرًا إيانا من معوقات الطريق، والآن يقدم بنفسه ثمن هذه الصداقة، فنراه الكاهن الأعظم الذي يقدم حياته المبذولة فصحًا، ليعبر بنا من حالة العداوة إلى الشركة مع الآب؛ إنه الكاهن والذبيحة في نفس الوقت، يقدم دم نفسه كفارة عن خطايانا.

يمكننا أن نقول بكل ثقة ويقين أن معلمنا لوقا الإنجيلي إذ يصور لنا أحداث آلام الرب وصلبه إنما يقدم لنا صديقنا الذي يحملنا إلى قدس أقداسه، ليسير بنا في مقدساته السماوية بلا حجاب أو عائق.

من أجلنا افتقر فلم يكن يملك "علية" يأكل فيها الفصح مع تلاميذه، مع أنه يقدم حياته فصحًا فريدًا قادرًا على خلاص البشرية. ومن أجلنا اجتاز وادي الدموع والألم وحيدًا مع أنه والآب واحد، يضمنا بالحب إليه؛ لقد قبل أن يكون موضع خيانة أحد تلاميذه، وموضع محاكمة أمام خليقته، يُحاكم دينيًا ومدنيًا!

1. اقتراب عيد الفصح 1-2.

2. خيانة يهوذا 3-6.

3. الإعداد للفصح 7-13.

4. الفصح الجديد 14-23.

5. مناقشة حول الأعظم 24-30.

6. تحذيره لبطرس 31-34.

7. تحذير عام 35-38.

8. صلاته على جبل الزيتون 39-46.

9. تسليمه 47-53.

10. محاكمته دينيًا في بيت رئيس الكهنة 54.

11. إنكار بطرس له 55-62.

12. جلده والاستهزاء به 63-65.

13. محاكمته في المجمع 66-71.

1. اقتراب عيد الفصح

"وقرب عيد الفطير الذي يُقال له الفصح.

وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه،

لأنهم خافوا الشعب" [1-2].

كان اليهود يحتفلون بعيد الفصح في الرابع عشر من الشهر الأول "نيسان" حيث يذكرون عبور الملاك المهلك على بيوت آبائهم في مصر دون أن يمس أبكارهم، إذ يرى علامة الدم على القائمة والعارضتين. هذا وكلمة "فصح" أو "بصخة" معناها "عبور". أمّا عيد الفطير فكان يبدأ في اليوم التالي (الخامس عشر من نيسان) ولمدة 7 أيام فيه لا يأكل اليهود خبزًا مختمرًا بل فطيرًا. وقد امتزج العيدان معًا، حتى أصبحا في عصر السيد المسيح عيدًا واحدًا يُدعى "عيد الفطير" أو "عيد الفصح".

لا أريد الدخول في تفاصيل عيدي الفصح والفطير إذ سبق لنا الحديث عنهما في أكثر من موضع خاصة في تفسير سفر الخروج (ص 12) وتفسير سفر اللاويين (لا 23). إنما ما نقوله هنا أنه قد جاء صديقنا ليقدم نفسه فصحًا عنّا، حتى بدمه يعبر عنّا الملاك المهلك، فلا يقتل أبكار حياتنا، أو بمعنى آخر به نعبر إلى الحياة السماوية، وننتقل من الفكر الترابي إلى الملائكي.

v كانت أعمال اليهود ظلاً لأعمالنا. لذلك أن سألت يهوديًا عن الفصح أو عيد الفطير، فلا يقدم لك أمرًا ذا قيمة إنما يشير إلى الخلاص من مصر، بينما إذ يطلب أحد منّي ذلك لا يسمع عن مصر وفرعون، بل يسمع عن التحرر من الخطية وظلمة الشيطان، لا بواسطة موسى بل بابن الله.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ كانت جماهير اليهود في العالم كله تتجه نحو أورشليم لتقدم ذبيحة الفصح بطقسها الرائع الذي يصور عمل المسيح الخلاصي، إذا برؤساء الكهنة والكتبة [2]، وهما حزبان متزاحمان في مجمع السنهدرين، يجتمعون معًا غالبًا في دار رئيس الكهنة قيافا "دار المؤامرة"، ليبحثوا كيف يتخلصون من يسوع سرًا، خشية هياج الشعب عليهم.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه بحسب الشريعة الموسوية لا يوجد إلا رئيس كهنة واحد، لا يُقام آخر إلا بموته، لكنه إذ انحدر اليهود روحيًا، صار لهم أكثر من رئيس كهنة. في الواقع كان اليهود يقيمون في كل عام رئيس كهنة يمارس وظيفته لمدة عام، يلزم أن تكون السلطات الرومانية راضية عنه، بل وغالبًا ما تقوم باختياره مع قادة اليهود. على أي الأحوال كان يليق بهم أن يكون لهم رئيس كهنة واحد يرمز لأسقف نفوسنا ربنا يسوع، يقبل المشورة من الله وحسب وصيته، يخاف الله لا الناس، أمّا هؤلاء فكانوا رؤساء كهنة كثيرين يسلكون بمشورة إنسانية، يخافون الشعب لا الله.

يقول القديس كيرلس الكبير: [لننظر الدور الذي مارسه إبليس بحسده، وما هي نتائج خطته الماكرة ضد السيد. لقد غرس في رؤساء مجمع اليهود حسدًا ضد المسيح أنتج قتلاً. فإن هذا المرض (الحسد) غالبًا ما يدفع إلى جريمة القتل. هذا هو الطريق الطبيعي لهذه الرذيلة، كما حدث مع قايين وهابيل، وأيضًا ظهر بوضوح في حالة يوسف وإخوته. لهذا السبب يجعل بولس الرسول هاتين الرذيلتين متجاورتين بوضوح، كأنهما يمتان بصلة قرابة لبعضهما البعض، إذ يتحدث عن أناس مملوءين "حسدًا وقتلاً" (رو 1: 29). هكذا طلب هؤلاء قتل يسوع بإيحاء من الشيطان الذي غرس الشر فيهم، وكان قائدهم في تدابيرهم الشريرة.]

2. خيانة يهوذا

اجتاز السيد المسيح آلامًا من كل نوع، اشترك فيها اليهود بكل فئاتهم وأيضا اشترك واحد من تلاميذه معهم، كما اشترك الأمم. يحدثنا الإنجيلي لوقا عن خيانة يهوذا، قائلاً: "فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي وهو من جملة الإثني عشر. فمضى وتكلم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوًا من جمع" [3-6].

دخل الشيطان في يهوذا ليس إكراهًا، إنما وجد الباب مفتوحًا لديه، وجد فيه الطمع بابًا للخيانة، بالرغم من كونه أحد الإثني عشر تلميذًا. نسمع في إنجيل يوحنا: "فبعد اللقمة دخله الشيطان" (يو 13: 27)، فهل دخله الشيطان قبل الفصح أم أثناءه؟! بلا شك كان يهوذا قد سلم نفسه كإناء للشيطان مع كل فرصة ينفتح الباب بالأكثر للتجاوب مع إبليس كسيد له يملك قلبه ويوجه فكره ويدير كل تصرفاته. بمعنى آخر يمكن القول بأن يهوذا في خضوعه للعدو الشرير كان ينمو كل يوم في تجاوبه معه وممارسته أعماله الشيطانية. بمعنى آخر كما يشتاق الله أن يحل في قلوب أولاده بلا توقف ليملأهم من عمله الإلهي، هكذا يشتاق عدو الخير أن يدخل قلوب المستجيبين له بلا توقف، لينطلق بهم إلى نهاية شره، بكونهم أداته الخاصة ورعيته ومملكته.

v أنتم ترون أن الشيطان قد دخل بالفعل في يهوذا؛ دخل أولاً عندما زرع في قلبه فكر خيانة المسيح، ثم جاء إلى العشاء يحمل هذا الروح فيه. وإذ أخذ الجسد دخله أيضًا الشيطان، لا ليجرب شخصًا (غريبًا عنه) مرتبطًا بآخر، وإنما ليملك على من هو له.

القديس أغسطينوس

v بالطمع صار يهوذا ما هو عليه... الطمع يولِّد أهواء شريرة، يجعل البشر مجدّفين، ويدفعهم إلى فقدان معرفة الله مع أنهم ينالون منه آلاف العطايا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كان العدو قد اصطاد يهوذا الذي تجاوب معه في حب المال، فبث فيه السرقة (يو 12: 6)، ثم دفعه للخيانة، فصار أداته التي يستخدمها كيفما شاء، إذ سلّم يهوذا نفسه بنفسه له، لهذا يحذّرنا الرسول بولس قائلاً: "لئلا يطمع فينا الشيطان" (2 كو 2: 11). بنفس الروح يقدم لنا القديس مرقس الناسك نصيحته ألا نفتح الباب ولو قليلاً للعدو، فإنه إذ يدخل يملك ويصعب التحرر منه. لنحاربه بالرب وهو خارج عنّا يحاول خداعنا، ولا نتركه يدخل ويملك!

يقول القديس كيرلس الكبير إن الشيطان دخل في قلب يهوذا دون بطرس أو يعقوب أو يوحنا. لأن قلوبهم كانت راسخة ومحبتهم للمسيح ثابتة، لكن الشيطان وجد له موضعًا في الخائن من أجل مرض الطمع المرّ، الذي يقول عنه الطوباوي بولس: "أصل كل الشرور" (1 تي 6: 10). هذا وقد أكّد الإنجيلي أن يهوذا "واحد من الإثنى عشر" ليوضح خطية الخيانة بكل جلاء. فإن الذي كرَّمه مساويًا إيّاه بالبقية، وزيَّنه بالكرامات الرسولية، وجعله المحبوب، وضمه للمائدة المقدسة صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح.
بماذا باع يهوذا سيده؟

باعه بالفضة، وكما يقول القديس ديديموس السكندري أنه يوجد نوعان من الفضة: الفضة الأصيلة المصفاة سبع مرات، وهي كلمة الله؛ والفضة الغاشة التي هي كلمة إبليس. إن كان السيد المسيح هو كلمة الله المتجسد، الفضة الحقيقية، فقد باعه يهوذا بالغاشة. هذه الخيانة يمارسها الهراطقة عبر العصور، حين يُسيئون شرح كلمة الله، مستخدمين الكتاب المقدس للتدليل على تعاليمهم الفاسدة، وكأنهم يستبدلون الفضة الإلهية الخالصة والأصيلة بفضتهم الغاشة. هذا وقول الإنجيلي "عاهدوه أن يعطوه فضة" [5]، يعني أن يعطوه مالاً بوجه عام، وقد حُدد الثمن بثلاثين من الفضة كما سبق فأنبأ عاموس النبي (2: 6) كثمنٍ لبيع البار، وهو ثمن بخس يُدفع كدية عبدٍ إذا نطحه ثور وقتله (خر 21: 32). ويقال أن هذه القطعة الفضية كانت تحمل على أحد وجهيها صورة غصن زيتون، رمز السلام، وعلى الوجه الآخر صورة مبخرة علامة العبادة، وفي أسفلها نُقش "أورشليم المقدسة".

3. الإعداد للفصح

حان وقت الفصح فكان يليق بذاك الذي جاء "فصحًا عن العالم" أن يقدم جسده ودمه المبذولين ذبيحة شكر لله الآب، وسرّ حياة لتلاميذه، ذبيحة حقيقية قادرة على المصالحة بين الآب والبشرية عبر كل العصور.

اختلف الدارسون في تحديد موعد الفصح اليهودي، هل كان يوم الخميس حيث قدم السيد المسيح، نفسه فصحًا بعد الرمز اليهودي مباشرة ليعلن تحقيقه في كمال غايته، أما أراد السيد أن يقدم فصحه مسبقًا بيوم واحد ليصلب يوم الجمعة في لحظات الفصح اليهودي. ولكل فريق جهوده لتأكيد وجهة نظره. إنما ما يشغلنا أن الفصح اليهودي قد كمل وانتهى بتحقيق فصح المسيح، سواء مارس اليهود طقس فصحهم في خميس العهد أو أثناء لحظات الصلب!

"وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح.

فأرسل بطرس ويوحنا، قائلاً:

اِذهبا وأعدّا لنا الفصح لنأكل.

فقالا له: أين تريد أن نُعد؟

فقال لهما: إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء،

اِتبعاه إلى البيت حيث يدخل.

وقولا لرب البيت يقول لك المعلم:

أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي؟

فذاك يريكما عُليّة كبيرة مفروشة، هناك أعدّا.

فانطلقا، ووجدا كما قال لهما، فأعدّا الفصح" [7-13].

يلاحظ في هذا النص:

أولاً: يرى البعض في القول: "جاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح" تأكيدًا أن العشاء الأخير قد تم في يوم الفصح، وأن السيد المسيح قدم جسده ودمه بعد ذبح الخروف الرمزي. غير أن الفريق الآخر يرى أنه بحسب الطقس اليهودي كانوا يستعدون للعيد في اليوم السابق، حيث يقوم اليهود بتنظيف البيت والبحث أكثر من مرة في جوانب الحجرات لئلا يوجد خمير، فيحسبون كاسرين للناموس، ولا يُقبل الفصح عنهم. وكأن السيد قد اجتمع مع تلاميذه في اليوم السابق لذبح الخروف كما للتهيئة للفصح، لكنه عوض التفتيش في أركان العُليّة قدم الفصح الروحي غير المادي. ويُضاف إلى ذلك أنه لو كان السيد قد اجتمع بتلاميذه لممارسة طقس الفصح اليهودي فأين أصحاب البيت أنفسهم؟!

في تفسيرنا للإنجيل حسب متى تحدث عن تأسيس السيد للعشاء الأخير بعد ممارسة السيد المسيح وتلاميذه لطقس الفصح الناموسي، لكنني أكرر أن ما يشغلنا هو الفكر اللاهوتي ذاته لا تفاصيل الأزمنة.

ثانيًا: لم يحدد السيد المسيح اسم صاحب العُليّة، وكما جاء في التقليد الكنسي أنه مرقس الرسول؛ وأنه هو الشاب الذي كان يحمل الجرة. وكان يعرف السيد تمام المعرفة، لكن الرب لم يذكر اسمه ربما كما يقول القديس أمبروسيوس ليُظهر أنه يقيم فصحه في عُليّة لإنسان غير مشهور، فهو لا يطلب أصحاب المراكز والشهرة، أو كما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس لكي لا يعرف يهوذا الموضع، فيخبر رؤساء الكهنة والكتبة، ويُلقوا القبض عليه قبل تقديم فصحه الإلهي.

ثالثًا: في تفسيرنا لإنجيل مرقس (14: 12-16)، رأينا القديسين كيرلس الكبير وأمبروسيوس يتطلعان إلى جرة الماء كعلامة لسرّ العماد، فإنه لا يسمح لنا بالتمتع بسرّ الإفخارستيا ما لم نكن قد التقينا أولا بسرّ المعمودية وتمتعنا بالتجديد الكامل الداخلي.

إن كانت الجرة من التراب والخزف، لكنها تحمل في داخلها ماءً، هكذا وإن كنا ترابيين لكننا نتقبل مياه النعمة الإلهية وعمل الروح القدس في داخلنا، حتى نستطيع أن نرتفع بالروح مع مخلصنا، ونقبل من يديه سرّ خلاصنا، أي جسده ودمه المبذولين عنّا.

رابعًا: ارتفع السيد بتلاميذه إلى العُليّة المفروشة، التي لا يوجد فيها خمير، والمتسعة لتحوي السيد وتلاميذه. هكذا يود الرب أن يحملنا كما إلى الأعالي "في عُليّة مفروشة، حيث نسكن في الأمجاد الإلهية الخفية، مرتفعين فوق دنس هذا العالم ورجاسات شهوات الجسد. هناك نلتقي به، حيث لا يوجد فينا خمير الخُبث والشر، بل زينة الروح الفاضلة، والمتِّسعة بالحب الإلهي لنحمل في داخلنا السيد وتلاميذه.

v لنصعد مع الرب، متحدين معه، إلى العُليّة...

لتكن عُليّة بيوتنا متّسعة لتستقبل في داخلها يسوع كلمة الله، الذي لا يُدرَك إلا بواسطة من لهم الفهم العظيم...

لتُعد هذه العُليّة بواسطة صاحب البيت الصالح ليأتي فيها ابن الله فيجدها مغسولة ونقية من كل خبث.

v يلزمنا أن ندرك أنه لا يرتفع أحد إلى العُليّة ممن يهتم بالولائم والاهتمامات الزمنية، ولا يكون له مع يسوع نصيب في حفظ الفصح.

العلامة أوريجينوس

4. الفصح الجديد

أولاً: يقول الإنجيلي لوقا: "ولما كانت الساعة اتكأ والإثنا عشر رسولاً معه" [14]. لقد حانت الساعة التي حددها رب المجد ليؤسس سرّ الإفخارستيا، مقدمًا للعالم سرّ الخلاص والحياة والشبع الداخلي.

اعتاد اليهود بحسب الطقس الموسوي أن يأكلوا الفصح وهم واقفون (خر 12: 11)، إذ يذكرهم بالانطلاق من العبودية التي عاشها آباؤهم في مصر، لأنه لم يكن للعبد حق الجلوس في حضرة سادته بل يقف ليخدم، أمّا السيد إذ قدّم لنا فصحه الجديد اتكأ ومعه الرسل ليُعلن انتقالنا إلى حالة "المجد". فصحه عبور إلى الحياة السماوية، لكي نتكئ معه في حضن أبيه، وننعم بشركة أمجاده.

ثانيًا: إذ حانت الساعة ليحقق خلاصنا ببذل حياته عنا يعلن أنه مقدم على هذا العمل بكامل إرادته، في شوقٍ حقيقيٍ وشهوةٍ، إذ يطلب ما قد هلك، لذا "قال لهم: اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم" [15].

v لماذا؟ لأنه كان يرحب بصليبه، إذ يتحقق خلاص العالم، وتُسلَّم الأسرار، وتزول الأمور المحزنة.

v هذا يعني: "إني أسلمكم الطقوس الجديدة، وأهبكم الفصح الذي أقدمه لكم روحيًا.

القديس يوحنا ذهبي الفم

v قال هذا لأن الصليب يقترب بعد هذا الفصح مباشرة؛ فإننا نجده دائمًا يتنبأ عن آلامه مشتهيًا تحقيقها.

القديس يوحنا ذهبي الفم

v كأنه يقول: إنه عشائي الأخير، أنه ثمين للغاية أرحب به، ذلك كما أن الذين يرحلون إلى مكان بعيد يقدمون لأصدقائهم كلماتهم الوداعية في غاية المحبة.

الأب ثيؤفلاكتيوس

أما قوله: "لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد حتى يُكمل في ملكوت الله... إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله" [16-18]، فقد سبق لنا تفسيره في دراستنا لسفر اللاويين (10: 9) حيث رأينا السيد يشرب نتاج الكرمة الروحي، أي يفرح حينما يكمل المختارون في ملكوت الله.

ثالثًا: يلاحظ هنا وجود كأسين، الأولى تناولها السيد وشكر وقال: "خذوا هذه واقتسموها بينكم" [17]، والثانية بعد العشاء قال عنها: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم" [20]. كانت عادة اليهود في طقس الفصح أن تُستخدم ثلاث كؤوس، لذا يرى البعض أن الكأس الأولى هنا إنما هي أحد كؤوس الطقس اليهودي، أمّا الثانية فهي كأس العهد الجديد، التي جاءت لا ككأس بركة عامة، وإنما تقدست لتصير دم السيد المسيح المبذول. الأولى تشير للعهد القديم، والثانية تقدم لنا سرّ العهد الجديد.

رابعًا: قدّم السيد المسيح ذبيحته الحقيقية، قائلاً: "هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم"، "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم" [19-20]، أمّا قوله: "اصنعوا هذا لذكري" فكما رأينا في كتاب "المسيح سرّ الإفخارستيا" أن "الذكرى" هنا في اليونانية "أنامنسيس" لا تعني مجرد التذكر لأمر نتطلع إليه غائبًا عنّا، بل تحمل إعادة دعوته أو تمثيله في معنى فعّال. الأنامنسيس هنا يعني تذكر المسيح المصلوب القائم من الأموات، أو تذكر ذبيحته لا كحدثٍ ماضٍ، بل تقديم ذبيحة حقيقية حاضرة وعاملة، أي ذكرى فعّالة.

v الإفخارستيا هو جسد ربنا يسوع المسيح الذي تألم عن خطايانا، الذي أقامه الله الآب.

القديس أغناطيوس النوراني

v الكأس الممزوج والخبز المصنوع يتقبلان كلمة الله، ويصيران إفخارستيا جسد المسيح ودمه.

القديس إيريناؤس

v الخبز قبل التقديس هو خبز عام، لكن إذ يقدسه السرً يُدعى جسد المسيح.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v عندما نتناول جسد المسيح المقدس، مخلص جميعنا، ونشرب دمه الثمين يكون لنا الحياة فينا، إذ نصير كما لو كنا واحدًا معه، نسكن فيه ونمتلكه فينا.

v لا تشك في أن هذا حق، إذ قال بوضوح: "هذا هو جسدي"، إنما اقبل كلمات مخلصك بإيمان، إذ هو الحق الذي لا يكذب.

القديس كيرلس الكبير

v فعل المسيح ذلك ليحضرنا إلى رباط صداقة حميمة، وليعلن حبه لنا، مقدمًا نفسه لمحبيه، لا ليروه ويمسكوه فحسب، وإنما لكي يتناولوه أيضًا، ويحتضنوه في كمال قلوبهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v تعلم إذن كيف يليق بك أن تتناول جسد المسيح، أي في ذكرى طاعته حتى الموت، حتى أن الذين يعيشون لا يعيشون بعد لأنفسهم، وإنما لذاك الذي مات لأجلهم وقام.

القديس باسيليوس الكبير

خامسًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح أعلن عن خائنه بعد تقديم الكأس واشتراك الخائن فيه، مظهرًا بأنه قد قدم له كل إمكانية للتوبة لكنه لم يرد أن يتوب. الله يفتح أبواب الرجاء للجميع، لكنه لا يُلزم أحدًا على التوبة بغير إرادته.

إذ أعلن السيد المسيح أن واحدًا منهم سيسلمه بدأ الكل يتساءل، فمع معرفتهم بحبهم الشديد له، لكنهم كانوا يثقون في كلماته أكثر من ثقتهم في أنفسهم، لذا خشي كل واحد منهم لئلا يكون هو المقصود، إذ يعرف الكل أنهم ضعفاء ومعرضون للسقوط. ليتنا نتشبه بالإحدى عشر رسولاً، فنعرف ضعفنا، ولا نتكل على ذواتنا، بل على نعمة الله التي تحفظنا من السقوط.

5. مناقشة حول من هو الأعظم

بينما كان السيد المسيح بكونه كلمة الله المتجسد يعلن عن اشتياق قلبه وشهوة نفسه أن يقدم حياته فصحًا عن البشرية، طالبًا صداقتهم على مستوى أبدي، كان قادة اليهود يتآمرون لقتل المسيّا والخلاص منه، أما التلاميذ ففي ضعف بشري كانوا يتشاحنون فكريًا على المراكز الأولى في الملكوت الجديد، حاسبين إياه ملكوتًا زمنيًا ماديًا.

"وكانت بينهم أيضًا مشاجرة، من منهم يُظن أن يكون أكبر.

فقال لهم: ملوك الأمم يسودونهم، والمتسلطون عليهم يدعون محسنين.

وأما أنتم فليس هكذا، بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر، والمتقدم كالخادم.

لأن من هو أكبر، الذي يتكئ أم الذي يخدم؟!

أليس الذي يتكئ؟! ولكني أنا بينكم كالذي يخدم.

أنتم الذين ثبتّوا معي في تجاربي.

وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا.

لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي،

وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" [24-30].

أولاً: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح ينسب طلب المراكز الأولى للأمم. وكأن العلامة الأولى للانتساب للأمم هو "التشامخ" وطلب المجد الزمني، وعلى العكس علامة الانتساب لجسد المسيح هو "التواضع" والاشتياق لاحتلال المركز الأخير في وسط الكل، لكي بالتواضع المملوء حبًا يمكننا أن نحتضن الجميع. بمعنى آخر، إن كلمة الله في محبته للبشرية أخلى ذاته، محتلاً مركز العبد لكي يحمل في جسده العبيد ويرتفع بهم إلى البنوة للآب. بذات الروح اشتاق الرسول بولس أن يستعبد نفسه ليربح الكثيرين (1 كو 9: 19)، بمعنى أنه اشتهى أن يتمثل بسيده، فيكون له هذا الشرف أن يحسب نفسه عبدًا للجميع، لا عن يأسٍ أو تحطيمٍ نفسيٍ، إنما عن حب حقيقي لربح الكثيرين.

v ليت ذلك الذي هو رئيس لا ينتفخ بسبب عمله، لئلا يهوي من طوباوية التواضع، وإنما يليق به أن يعرف التواضع الحقيقي كخدمة للكثيرين... ليت الأعظم يكون كالأصغر.

v يليق بالذين يحتلون المراكز الرئيسية أن يكونوا مستعدين أن يقدموا حتى الخدمة الجسدية على مثال الرب الذي غسل أقدام تلاميذه. لذا قيل "(ليكن) المتقدم كالخادم".

القديس باسيليوس الكبير

v احفظ الإيمان والتواضع داخل نفسك، لأنك بهما تجد الرحمة والمعونة، وتسمع أقوالاً إلهية في قلبك، ويرافقك ملاكك الحارس في الظاهر وفي الخفاء.

v التواضع وِشاح الألوهية ، لأن الكلمة المتجسد تسربله، وكلّمنا عنه من خلال أجسادنا، فكل من يلبسه يتشبه حقًا بذاك الذي انحدر من علوه، وغطى فضيلة عظمته بالتواضع، وستر مجده به كي لا تلتهب الخليقة بمنظره.

v المتواضع لا يبغضه أحد ولا يوبخه ولا يحتقره، لأن سيده يحبه. يحب الجميع والجميع يحبونه ويشتهونه في كل مكان، وحيثما وُجد ينظرون إليه كملاكٍ نوراني، ويقدمون له الإكرام.

v التواضع قوة خفية يحصل عليها القديسون الكاملون بعد تمام سيرتهم، ولا تعطي النعمة هذه القوة إلا للكاملين في الفضيلة.

مار إسحق السرياني

v لقد فتح التلاميذ طريقًا للضعف البشري، فكانوا يتنازعون فيما بينهم عمن يكون الأعظم والأكبر من الباقين... هذا الضعف أُثير فيهم وسُجل لأجل نفعنا، حتى أن ما حدث بين الرسل يكون علة لكي ننعم بالتواضع. إذ انتهر المسيح المرض، وكطبيبٍ ناجح ٍنزعه بوصية عميقة مملوءة غيرة...

v لنوقف هذا التعالي الفاقد للشعور والباطل، هذا الذي ينبع عن حب المجد الباطل أصل الكبرياء. فإن رغبة السيطرة على الآخرين، والنزاع لبلوغ هذا الأمر، يجعل الإنسان بالحق ملومًا، مع أنه لا يخلو تمامًا مما يستحق المديح. فإن السمو في الفضيلة يستحق التقدير (التكريم)، لكن الذين يريدون بلوغ هذا يلزمهم أن يكونوا متواضعي الفكر، لهم مشاعر متواضعة، لا يطلبون أن يكونوا الأولين وذلك خلال حبهم للإخوة. هذا ما يريده فينا الطوباوي بولس، إذ كتب: "مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة" (رو 12: 10). هذه المشاعر يتأهل لها القديسون وبها يتمجدون، إذ تجعل تقوانا نحو الله مكرمًا، وتمزق شبكة خبث إبليس وتحطم فخاخه المتعددة، وتخلصنا من حفرة الفساد، وتجعلنا كاملين في التشبه بالمسيح مخلص جميعنا. أنصت، كيف يضع نفسه أمامنا مثالاً للفكر المتواضع وللإرادة التي لا تطلب المجد الباطل، إذ يقول: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29).

v في العبارة التي قُرأت حالا يقول: "لأنه من هو أكبر، الذي يتكئ أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ؟ "ولكني أنا بينكم كالذي يخدم". حينما ينطق المسيح بذلك من لا ينزع عنه حب المجد الباطل، ويطرد عن ذهنه محبة الكرامة الفارغة، ويبقى في عناده وتصلفه؟! لأن الذي تخدمه كل الخليقة العاقلة المقدسة، الذي يسبحه السيرافيم... المساوي مع الله الآب في عرشه وملكوته احتل مركز العبد وغسل أقدام الرسل. بمعنى آخر أخذ مركز العبودية خلال تدبير الجسد... الذي يُخدم صار خادمًا، رب المجد أصبح فقيرًا، تاركًا لنا مثلاً كما هو مكتوب (1 بط 2: 21).

ليتنا إذن نتجنب حب المجد الباطل، ونخلص من عار الرغبة في الرئاسة. بهذا نصير مثله، ذاك الذي أخلى ذاته لأجلنا.

القديس كيرلس الكبير

ثانيًا: طلب العظمة الزمنية يسبب انشقاقًا بين الإخوة، أيا كان مركزهم، حتى وإن كانوا تلاميذ المسيح، وكأن هذا الاتجاه هو المحطم للجماعة المقدسة.

v إن كان التلاميذ قد تنازعوا، فهذا ليس عذرًا لك، وإنما هو تحذير. لنحذر لئلا يكون نزاعنا على المراكز الأولى هو هلاكنا.
القديس أمبروسيوس

ثالثًا: دعوة السيد المسيح لتلاميذه بعدم طلب المجد الباطل وحب الرئاسات ليس حرمانًا، وإنما هو توجيه نحو المجد الأبدي الذي نبلغه خلال الصليب. لهذا يؤكد لهم المراكز الكبرى التي ينالها الرسل بثبوتهم معه في تجاربه، أي حملهم صليبه كل يوم من أجل إيمانهم به وكرازتهم بإنجيله. يقول: "أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا..." بمعنى آخر ليس فقط يدعوهم لترك المجد الباطل وإنما لحمل الصليب ومشاركة الرب آلامه ليشتركوا معه في أمجاده. وكما يقول الرسول بولس: "لأنه إن كنّا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته" (رو 6: 5).

رابعًا: إذ يتحدث هنا عن التمتع بالملكوت الأبدي، فلا يعني بالأكل والشرب والجلوس على الكراسي المعنى الحرفي، لأن ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا (رو 14: 17)، إنما يعني حالة الشبع الأبدي والسلطان في الرب. وكما يقول القديس كيرلس الكبير أنه يصف الأمور الروحية خلال تشبيهات من الحياة الحاضرة، إذ يُحسب ذلك امتيازًا كبيرًا أن يجلس الناس مع الملوك على مائدتهم، ويشتركون معهم في طعامهم!

يقول القديس أمبروسيوس أن الرسل يدينون أسباط إسرائيل لا بجلوسهم على كراسي للقضاء بصورة مادية، وإنما يكونون علة تبكيت لهم خلال إيمانهم وفضائلهم، فينفضح جحود إسرائيل وإثمه.

6. تحذيره لبطرس

أعلن صديقنا قبوله الآلام واحتماله الصلب لتقديم حياته الفصحية لأجل خلاصنا، فقد قابل قادة اليهود الحب بالبغضة ومحاولة الخلاص منه، كما قابل تلميذه يهوذا هذه الصداقة بالخيانة في أبشع صورها، الآن إذ يعلن لتلاميذه: "أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي" [28]، يؤكد أن هذا الثبوت في حقيقته هو عطية إلهية أو نعمة مجانية بدونها كان يمكن أن يفنى إيمانهم. بمعنى آخر أن كان سقوط يهوذا إلى الحضيض هو ثمرة شره الشخصي بالرغم من تقديم كل فرصة له للتوبة، فإن ثبات الإحدى عشر رسولاً هو هبة من الله، لكنهم يقبلون هذه الهبة في كمال حريتهم. هذا ما أعلنه السيد في تحذيره لبطرس الرسول.

"وقال الرب: سمعان سمعان،

هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة.

ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك،

وأنت متى رجعت ثبت إخوتك.

فقال له: يا رب إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت.

فقال: أقول لك يا بطرس لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني" [31-35].

ويلاحظ في هذا الحوار الآتي:

أولاً: لعله اختار سمعان بطرس على وجه الخصوص، لأنه اتسم بالطموح والاندفاع، فربما كان أحد المنهمكين في الحديث عن "من هو الأكبر؟"، أو لأنه إذ سمع كلمات السيد: "أنتم الذين ثبتم في تجاربي" حسبَ نفسه أول الثابتين، فأراد الرب أن يكشف فيه ضعف الطبيعة البشرية بوجه عام، فيرى كل منا فيه ضعفه الشخصي. إن كان يهوذا يمثل "الخيانة" فإن بطرس يمثل "الضعف" الذي يحتاج إلى عونٍ إلهيٍ، فيقوم ليثبت ويثبت الآخرين معه خلال النعمة الفياضة التي ينالها.

v قيل هذا لبطرس لأنه كان أكثر جسارة من البقية، وربما يشعر بالكبرياء من أجل الوعود التي قدمها المسيح (أن يملكوا ويدينوا أسباط إسرائيل الإثني عشر).
الأب ثيؤفلاكتيوس

ثانيًا: في هذا الحديث أبرز السيد المسيح حقيقة المعركة الروحية من أجل ملكوت الله، فإن كان قلب الإنسان هو ميدانها، لكن المعركة في حقيقتها بين الله والشيطان. هنا نرى الشيطان وقد استولى على قلب يهوذا وملك فيه بالكامل، طمع أن يملك في قلوب الآخرين، وهو لا يقدر أن يقتحم حياتنا ويجربنا دون استئذان، إذ يقول السيد المسيح: "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة" [31]. فإن كانت تجاربه أشبه بالغربلة التي تفرز الزوان لحسابه ولا تقدر أن تمس الحنطة، لكن حتى هذه الغربلة لا تتم بدون استئذان من الرب.

هنا تبرز حقائق روحية هامة، أن عدو الخير يبذل كل الجهد ليغربل ما استطاع كل البشر بتجاربه، لكنه وإن نال سماحًا من الله أن يغربل تبقى عناية الله على حنطته فلا تُمس بالتجارب بل تُفرز عن الحنطة وتتزكّى لكي تكلل؟ أقول إننا حنطة الله، موضع عنايته، لن يمسنا العدو الشرير مهما غربلنا. إلا إذا سمحنا لأنفسنا أن نتحول من حنطة الله إلى زوان إبليس.

أيها الحبيب حتى وإن كنت زوانًا، فأعلم أن الرب قد جاء ليحوّل زواننا إلى حنطة، فينتزعنا من مملكة إبليس لنكون مملكته.

حرب العدو متنوعة وبلا هوادة، وكما يقول القديس أوغريس للرهبان: أن العدو يحاربهم في النهار خلال من هم حولهم من البشر، أمّا في الليل فيقوم بمحاربتهم بنفسه مباشرة، إذ يقول: [في الليل تطلب الشياطين أن تغربل المعلم الروحي بأنفسهم، أما في النهار فتستخدم البشر ليحيطوه بأصناف المعاكسات والافتراءات والمخاطر.]

ثالثًا: استخدم القديس أغسطينوس كلمات السيد المسيح لبطرس الرسول: "ولكني طلبت لأجلك لكي لا يفنى إيمانك" للرد على أتباع بيلاجيوس الذين في دفاعهم الشديد عن الحرية الإنسانية كادوا أن ينكروا عمل النعمة الإلهية، حاسبين أن الإنسان قادر على الخلاص بإرادته وبجهاده الشخصي. هنا يؤكد القديس أغسطينوس أنه حتى الإيمان هو عطية الله، إذ يطلب الابن الوحيد الجنس من أجل رسوله كي لا يفنى إيمانه.

كان الرسول بطرس يظن في نفسه أنه قادر على مشاركة السيد المسيح كل آلامه حتى الموت، ففي غيرة بشرية لكن بقلب صادق قال: "يا رب إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت" [33]، ولم يدرك أنه كان في حقيقته عاجزًا حتى عن الصلاة والسهر معه في البستان، ولا أن يقف أمام جارية في بيت رئيس الكهنة. لقد اعتمد بطرس على ذاته، ولم يدرك ضعفه الحقيقي... الأمر الذي يعرفه عنه سيده أكثر من معرفته هو لنفسه.

v ماذا طلب السيد من أجله إلا أن يبقى مثابرًا حتى النهاية؟! بالتأكيد لو كان الإنسان قادرًا على ذلك من نفسه لما طُلب ذلك من الله لأجله. لذلك عندما يقول الرسول: "أصلي إلى الله أنكم لا تعملون شيئًا رديًا" (2 كو 13: 7)، بلا شك يصلّي إلى الله لأجلهم من أجل المثابرة.

v بهذا لا نظن قط أن إيماننا يتوقف على حرية إرادتنا دون حاجة إلى عون إلهي.

v لقد عرف (السيد المسيح) بطرس على الدوام؛ عرفه حين كان بطرس لا يعرف نفسه. وذلك كما يحدث دومًا مع المرضى، فإن المريض لا يعرف ما يجري في داخله بينما يعرف الطبيب ذلك، حتى وإن كان الأول يتألم من المرض بينما الطبيب لا يتألم. يقدر الطبيب أن يخبرنا بما يدور في حياة الآخرين حسنًا، بينما لا يقدر المريض نفسه أن يخبر بما يدور في داخله.

v لا يعرف الإنسان ما في داخله، لكن خالق الإنسان يعرف ما بداخل الإنسان.

القديس أغسطينوس

v كان يعلمنا التواضع بكل وسيلة مؤكدًا أن الطبيعة البشرية بذاتها كلا شيء.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يعلمنا أنه يلزمنا أن نفكر بتواضع من جهة أنفسنا، إننا كلا شيء، وبحسب طبيعتنا البشرية واستعدادنا الفكري نسقط في الخطية، ولكن به وفيه فقط نتقوى، ونصير على ما نحن عليه. إن كنا نستعير منه خلاصنا، فنُحسب به فضلاء وأتقياء فأي مجال إذن لأفكار الكبرياء؟ كل ما لدينا هو من عنده، وليس شيء من عندنا. "أي شيء لك لم تأخذه؟! وإن كنت قد أخذت فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!" (1 كو 4: 7)، هذا ما نطق به الحكيم بولس، كما يقول الطوباوي داود: "الله قوّتنا"؛ مرة أخرى يقول: "الله ملجأ لنا وقوتنا" (مز 46: 1). كما يقول النبي إرميا: "يا رب عِزّي وحِصني وملجأي في يوم الضيق" (إر 16: 19). وأيضًا الطوباوي بولس إذ يتقدم يقول: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (فى 4: 13). نعم والمسيح نفسه يقول لنا: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).

v يظهر المسيح أنه حتى ذاك الذي يبدو عظيمًا فهو كلا شيء وضعيف... إن كان الشيطان قد اعتاد أن يهاجم أناسًا ذوي سمو ممتاز غير عادي، فإنه يقيم معركة فريدة شرسة وبربرية ضد من لهم سمعة طيبة في الحياة التقوية.

القديس كيرلس الكبير

رابعًا: لقد طلب السيد المسيح من الآب لأجل بطرس، وكما يقول القديس كيرلس الكبير، أنه يتواضع لأجلنا، فيتحدث السيد هنا كما في حدود الإنسان، فإن كان هو الله بطبيعته، حتى وإن كان قد صار جسدًا، وهو قوة الآب الذي به يُحفظ كل شيء، ومنه ننال قدرة العمل الصالح، لكنه إذ صار إنسانًا يطلب من الآب. [كان ضروريًا، نعم كان لائقًا بذاك الذي لأجل التدبير أن يصير إنسانًا مثلنا أن يمارس أيضًا أعمالنا عندما يستلزم الأمر ذلك.]

خامسًا: يرى القديس أغسطينوس إن طلبة السيد المسيح من أجل بطرس لم تقيد حرية إرادة بطرس، فإنه لا يلزمه بعدم السقوط. إنه يقدم العون الإلهي، ومن حق بطرس أن يقبل هذا العون أو يرفضه. في موضع آخر يؤكد ذات القديس أن الله يهتم بحرية الإنسان، وإلا كانت وصاياه بلا نفع، لكنه يحتاج إلى النعمة الإلهية لتسنده على تنفيذ الوصية.

سادسًا: يميز القديس باسيليوس الكبير بين سقوط المندفعين مثل القديس بطرس وسقوط الآخرين، قائلاً بأن الله يسمح للمندفعين (في الغيرة) بالسقوط أحيانًا كعلاج لهم من الاتكال على الذات، وغالبًا ما يتم ذلك خفية وعن ضعف الإنسان وليس عن جحود وإصرار، أما الآخرون، فيسقطون عن جحود وإصرار. لهذا فالأولون يحتاجون إلى عون إلهي مع رقة لإِقامتهم، أما الآخرون فغالبًا ما يحتاجون إلى توبيخ شديد وتأديب حتى يدركوا أن الله ديان، ويرتعبوا فيتوبوا.

سابعًا: يربط السيد المسيح التوبة أو الرجوع إليه بالعمل الإيجابي في خدمة النفوس، إذ يطالب السيد المسيح سمعان بطرس: "وأنت متى رجعت ثبت إخوتك". هذه التوصية الإلهية عاشها داود النبي في لحظات توبته، إذ كان يصرخ في مزمور التوبة، قائلاً: "فأُعلم الآثمة طرقك" (مز 50: 13).

يقول القديس كيرلس الكبير أن السيد المسيح وإن كان قد حذر من التجارب الشيطانية، لكنه قدم كلمة تعزية. بمعنى آخر، مسيحنا كصديقٍ حقيقيٍ وهو يحذرنا من الضعف، لكنه لا يقف عند الجانب السلبي بل يسندنا ويشجعنا لممارسة العمل الإيجابي بقوة، فلا نخف الحرب الشيطانية أو سلطان الخطية، إنما نؤمن بذاك الذي يسكن فينا ويعمل في داخلنا بسلطان للبناء الروحي.

أسلوب السيد المسيح في معاملاته معنا يدفعنا إلى "الرجاء الحيّ"، فمع التحذير يعطي قوة، ويدفعنا للعمل بلا تخوف أو تخاذل.

ثامنًا: إذ كان القديس بطرس بعد هذا الحديث لا يزال يظن أنه قادر على التبعية مع المسيح خلال غيرته البشرية، أكدّ له السيد أنه سينكره ثلاث مرات، وقد سبق لنا الحديث في هذا الأمر في تفسير مت 26: 34؛ مر 14: 30.

7. تحذير عام

إذ قدم السيد المسيح تحذيره للقديس بطرس الرسول مؤكدًا له أنه سينكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك، معلنًا له أنه سيرجع عن هذا الضعف خلال عمل الله ونعمته، الآن يطلب من تلاميذه ككل أن يتسلحوا بسيفي الإيمان والجهاد الروحي، أي بالإيمان العامل بالمحبة.

"ثم قال لهم: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية

هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا.

فقال لهم: لكن الآن من له كيس فليأخذه، ومزود كذلك،

ومن ليس له فليبع ثوبه ويشترِ سيفًا.

لأني أقول لكم أنه ينبغي أن يتم فيّ أيضًا هذا المكتوب:

وأُحصيَ مع آثمة،

لأن ما هو من جهتي له انقضاء.

فقالوا: يا رب هوذا هنا سيفان.

فقال لهم: يكفي" [35-38].

أولاً: في إرساله لهم لم يسألهم شيئًا سوى التخلي عن كل شيء حتى الضروريات ليكون هو سرّ شبعهم والمدبّر لحياتهم الخاصة وعملهم الكرازي، أما الآن وقد حان وقت الصليب وجّه أنظارهم للجهاد، لا ليحملوا سيفًا ويحاربوا به كما ظن التلاميذ، وإنما ليحملوا سيف الإيمان الحيّ العامل بالمحبة. لهذا عندما قالوا له أنه يوجد سيفان، قال لهم: يكفي. وقد حسبوه أنه يقصد السيفين الماديين.

يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم تصرفِ المسيح هذا أشبه بمدرب السباحة الذي يضع يديه تحت جسم من يدربهم وهم في المياه فيشعروا براحة وثقة، ثم يسحب يديه قليلاً قليلاً فيجاهدوا ويتعلموا. هكذا في البداية لم يحثهم السيد عن الجهاد الروحي، إنما أرسلهم للكرازة محمولين على يديه لا يحتاجون إلى شيء، والآن يسألهم الجهاد الروحي بسيف الروح الحق، ليواجهوا الضيقات ويحتملوا الصلب معه بفرح ولا يتعثروا.

لم يتركهم السيد المسيح في عوزٍ إلى شيء، بل بفيض أشبع كل احتياجاتهم حين كان معهم بالجسد، والآن لمحبته أراد لهم أن يتركهم ليحمل هو الصليب، ويصيرون كما في عوز، لكي ينعموا بخبراتٍ جديدةٍ وسط العوز والألم. المحبة التي من خلالها عاشوا فترة من الزمن في راحة بلا عوز هي بعينها التي سمحت لهم أن يمارسوا الشركة معه في آلامه. لهذا السبب كما يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير في رسائله أن الله غالبًا ما يعطي للتائبين في بداية توبتهم تعزيات كثيرة ليرفعهم ويسندهم، لكنه يسمح فينزع هذه التعزيات إلى حين، لكي يجاهدوا وسط الآلام فيتزكون، وينالون تعزيات أعظم من الأولى.

ثانيًا: يرى القديس أمبروسيوس أن السيف الذي طلب السيد من تلاميذه أن يقتنوه هو "كلمة الله" التي تُحسب كسيفٍ ذي حدين.

v "ومن ليس له، فليبع ثوبه ويشترِ سيفًا" [36].

لماذا تأمرني يا رب بهذا الشراء، بينما تمنعني من الضرب (مت 26: 52)؟

لماذا تأمرني باقتناء ما تمنعني عن إخراجه من غمده، حتى ولو للدفاع عن النفس؟!

كان الرب قادرًا على الانتقام، لكنه فضل أن يُذبح! يوجد أيضًا السيف الروحي الذي يجعلك تبيع ميراثك لتشتري الكلمة التي تكتسي بها أعماق الروح.

يوجد أيضًا سيف الألم الذي به تخلع الجسد لتشتري بنفايات جسدك المذبوح إكليل الاستشهاد المقدس...

ربما يقصد بالسيفين العهد القديم والعهد الجديد، اللذين بهما نتسلح ضد مكائد إبليس (أف 6: 11)، لذا قال الرب "يكفي" حتى نفهم أن التعلم الوارد في العهدين ليس فيهما نقص.

القديس أمبروسيوس

هذا ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن هذين السيفين لم يكونا سوى سكينين كبيرين كانا مع بطرس ويوحنا، اُستخدمتا في إعداد الفصح (إن كان قد قُدم يوم خميس العهد).

ثالثًا: يلاحظ أن السيد المسيح يحدث التلاميذ عن الجهاد الروحي حالاً بعد مناقشتهم بخصوص أحاديثهم عمن يحتل المركز الأول، وكأنه يريد أن يوجههم إلى الجهاد عوض الانشغال بالكرامات الزمنية. كأنه يقول لهم أنه ليس وقت لطلب المجد، وإنما للصراع ضد عدو الخير، والجهاد لحساب الملكوت، وكما يقول القديس يوحنا كاسيان إننا الآن في وادي الدموع الذي يعبر بنا إلى الأمجاد الأبدية.

v بينما كانوا يتشاحنون فيما بينهم من يكون الأكبر، قال لهم: أنه ليس وقت الكرامات إنما هو وقت الخطر والذبح. انظروا، أنا سيدكم أُقاد للموت البشع، مُحتقرًا من العصاة!
الأب ثيؤفلاكتيوس

رابعًا: إذ حلّ وقت آلامه وصلبه، تحدث عن السيف لكي يهيئ أذهانهم لما سيحل به من أتعاب، فلا تكون مفاجئة لهم.

خامسًا: بلا شك وجود سيفين في أيدي أثنى عشر صيادًا لا يساويان شيئًا أمام جماهير اليهود وجنود الرومان القادمين للقبض عليه، خاصة إن كان السيفان مجرد سكينتين، حتى إن كانا سيفين حقيقيين فإن هؤلاء الصيادين بلا خبرة في استخدام السيوف، لهذا يرى البعض أن كلمة السيد المسيح "يكفي" إنما ترجمة للكلمة العبرية "دَييّر" التي كان معلمو اليهود يستخدمونها ليسكتوا بها جهالة بعض تلاميذهم. وكأن السيد المسيح أراد أن يسكت تلاميذه الذين انصرفت أفكارهم إلى السيف المادي لا سيف الروح.

8. صلاته على جبل الزيتون

إذ أسس السيد المسيح سرّ الإفخارستيا، مقدمًا جسده ودمه المبذولين سرّ حياة لمؤمنيه قدم لتلاميذه حديثًا وداعيًا جاء في شيء من التفصيل في الإِنجيل بحسب معلمنا يوحنا (ص 14-16) وأيضًا صلاته الوداعية مع الآب (ص 18)، ثم انطلق مع تلاميذه إلى بستان جثسيماني بوادي قدرون، يبعد حوالي نصف ميل عن أورشليم.

في هذا البستان، الذي على ما يُظن أنه ملك القديس مرقس الرسول، كثيرًا ما اجتمع السيد المسيح مع تلاميذه (يو 18: 2)، لكن أحدًا من الإنجيليين لم يخبرنا عن تفاصيل هذه اللقاءات ولا ذكرياتها أو المواضيع التي دار الحديث عنها، إنما ركز الكل على الاجتماع الأخير الفريد قبيل القبض على السيد المسيح.

لقد سحب هذا البستان بأحداثه الأخيرة في ليلة الجمعة الكبيرة قلوب الكثير من آباء الكنيسة ليروا فيه مقدسًا إلهيًا، يتحقق فيه، لا عمل تاريخي فريد، وإنما عمل إلهي فائق للفكر البشري، إذ فيه التقى الابن بأبيه الذي لا ينفصل عنه، ليحمل كأس الألم، ويعلن قبوله الصليب ويمارسه بالحق، حانيًا رأسه وكتفيه ليرفع عنا ثقل خطايانا، فيردنا لا إلى جنة عدن بل إلى الفردوس السماوي.

دخل السيد المسيح البستان في هذه المرة الأخيرة كما إلى هيكله المقدس ليترك ثمانية من تلاميذه كما في الدار الخارجية، ويدخل بثلاثة إلى القدس، وأخيرًا ينطلق بمفرده ليجثو في قدس الأقداس كرئيس كهنة أعظم يقدم ذبيحة فريدة عن العالم، يقدم حياته مبذولة طاعة للآب وحبًا للبشرية.

وإنني أرجو في الرب أن أترك الحديث عن هذا البستان في هذه اللحظات العجيبة إلى دراستنا في إنجيل يوحنا إن أذن الرب وعشنا، مكتفيًا هنا بما ورد في إنجيل معلمنا لوقا البشير مع تقديم بعض التعليقات البسيطة:

أولاً: يقول الإنجيلي: "وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضًا تلاميذه، ولما صار إلى المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة" [39-40].

كلمة "جثسيماني" آرامية تعني "معصرة زيت". وكأن السيد قد دخل المعصرة بإرادته ليجتازها من أجلنا. حقًا لقد تبعه تلاميذه، لكن بقي ثمانية في موضع بعيد وثلاثة يقتربون إليه، إنما لا يجسر أحد، ولا يقدر أحد أن يحتمل لحظات قبول السيد الكأس من يدي الآب، وحمله صليبه كفارة عنا، إذ يقول: "قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3).

نستطيع بنعمته أن ندخل معه وبه إلى جثسيماني، وندخل المعصرة، كل قدر قامته الروحية أما مع الثمانية تلاميذ أو الثلاثة، أما العمل الكفاري فمن اختصاص السيد وحده. نحن بالحب نصلب معه ونشاركه آلامه ونقبل الدفن معه لنقوم معه، لكن يبقى الصليب في جوهره كعمل مصالحة بين الآب والبشرية من اختصاص المسيّا وحده.

هذا والعجيب أن السيد المسيح إذ قدم سرّ الفصح الجديد أخذ تلاميذه إلى البستان، وهناك حذرهم: "صلّوا لكي لا تدخلوا في تجربة" فإن كان الفصح الجديد يعطي سلامًا داخليًا وبهجة قلب، لكنه يجعلنا بالأكثر في موضع عداوة بالنسبة لعدو الخير، فيبذل الشيطان كل طاقاته ليدخل بنا في تجربة ويحطم شركتنا مع الله وثبوتنا في المسيح يسوع ربنا. بمعنى آخر بعد التناول يريدنا السيد ألا ننام ونستكين، بل ننطلق معه إلى المعصرة لنسهر ونصلي، لكي ننال الغلبة والنصرة على هجمات العدو التي تتزايد ضدنا بتمتعنا بهذا السرّ.

ثانيًا: "وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلّى" [41]. وكأنه قد ترك الثمانية عند مدخل البستان والثلاثة في داخله، لكنه انطلق بعيدًا عنهم نحو رمية حجر كمن يدخل قدس الأقداس، لكي بصليبه يمزق الحجاب الحاجز، ويفتح الأبواب الدهرية لمؤمنيه.

لماذا جثا على ركبتيه وصلّى؟ أولا، ليؤكد لنا ناسوتيته، فقد صار إنسانًا بحقٍ، وليس كما ادعى بعض الغنوسيين أنه حمل جسدًا خياليًا غير مادي. لقد شاركنا ناسوتيتنا، ودخل معنا في بوتقة الألم ليس مثلنا بسبب خطية ارتكبها، وإنما من أجل حبه لنا. كان متألما، لكنه في آلامه كان فريدًا، لأنه بلا خطية وحده. من هذا الجانب ومن جانب آخر أراد أن يعلمنا عمليًا ألا نكف عن الصلاة، خاصة وقت الضيق.

أما انفصاله "نحو رمية حجر" فكما يقول القديس أغسطينوس أن "الحجر" هنا يذكرنا بالشريعة الموسوية التي نُقشت على حجر، فقد انفصل بهذا المقدار ليعلن أن غاية الشريعة هي السير نحو المسيح الذي ليس ببعيدٍ عنهم، لكن كان يمكنهم خلال ما ورد في الناموس أن يتعرفوا عليه ويقبلوه في حياتهم.

هذا ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن السيد جثا على ركبتيه وصلى بمفرده دون التلاميذ، لأنه لم يكن ممكنًا لهم أن يشاركوه هذه اللحظات التي حمل فيها ضعفنا، وشفع عنّا بدمه لدي الآب. وكأن عمله هذا كان فريدًا في نوعه.

ثالثًا: "وصلى قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك" [42]. سبق لنا ترجمة مقال للقديس يوحنا الذهبي الفم ونشره في كتاب "الحب الإلهي" يفسر هذه الصلاة، لذا أكتفي هنا بتعليقات خفيفة لبعض الآباء في هذا الأمر:

أ. يرى بعض الآباء أن تعبير "تجيز" أو "تعبر عني"، لا تعني امتناع السيد عن قبول الكأس، إنما يعلن أن كأس الألم تجتاز به أو تعبر دون أن يكون لها سلطان عليه. هكذا يليق بنا أن نطلب من الله أنه وإن سمح لنا بكأس الآلام، لكننا نطلب ألا يحطمنا الألم، ولا يحني نفوسنا بالضيق والتبرم، إنما يجتاز الألم كأمرٍ عابرٍ مؤقت يزكينا ويكلننا!

v العبارة "لتعبر هذه الكأس" لا تعني أنها لا تقترب منه، فإنه ما كان يمكن للكأس أن تعبر به أو تجتازه ما لم تقترب منه أولاً... فإنها إن لم تصل إليه لا تعبر عنه.

القديس ديونسيوس السكندري

ب. يرى القديس أمبروسيوس أن ما حدث يؤكد أن السيد المسيح حمل جسدًا حقيقيًا، وأنه جاء نيابة عن البشرية يحقق إرادة الآب.

جوهر هذه الصلاة هو تصحيح السيد المسيح لوضعنا، فعوض العصيان الذي

http://demiana2010.com

25تفسير انجيل لوقا‏ Empty رد: تفسير انجيل لوقا‏ السبت 2 يناير 2010 - 17:01

admin

admin
Admin
Admin

جوهر هذه الصلاة هو تصحيح السيد المسيح لوضعنا، فعوض العصيان الذي مارسه آدم الأول ويعيشه البشر، جاء آدم الثاني، نائبنا ليصحح موقفنا بتسليم الإرادة للآب، مع أن إرادته واحدة مع أبيه. وكما يقول القديس ديونسيوس السكندري: [إذ صار إنسانًا حمل ما هو للإنسان... وها هو يسأل الأمور الخاصة بالآب (إرادة الآب) مع أنه من جهة لاهوته إرادته واحدة مع الآب... بالتأكيد لم يطلب المخلص ما هو مستحيل ولا ما هو ليس بعملي، ولا ما هو مخالف لإرادة الآب.] ويقول القديس أمبروسيوس: [لا توجد إرادة للآب تختلف عن إرادة الابن، بل لهما مشيئة واحدة، لاهوت واحد، ومع ذلك تعلم الخضوع لله.] ويقول القديس أغسطينوس: [أنه قادر أن يحضر جيوش من الملائكة ليهلك أعداءه، لكنه كان يجب أن يشرب الكأس التي يريد الآب أن يقدمها له. بهذا يقدم نفسه مثالاً لشرب هذه الكأس، مسلمًا إياها لتابعيه معلنًا نعمة الصبر بالكلمات كما بالعمل.]

يشجعنا القديس يوحنا الذهبي الفم على الإقتداء بالسيد المسيح، قائلاً: [إن سقطت في خوفٍ، فانطق بما قاله هو.]

رابعًا: "وظهر له ملاك من السماء يقويه" [43]. لم يكن السيد المسيح محتاجًا إلى ملاك يقويه، لكنه كممثل للبشرية حمل صورة ضعفنا، فقبل حضرة ملاك من السماء يخدمه. ما حدث للسيد كان لحسابنا نحن الذين نحتاج إلى الملائكة الذين يخدمون "العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14).

v لكي يظهر لنا قوة الصلاة فنمارسها أثناء صراعنا، ظهر ملاك لربنا ليقويه.
الأب ثيؤفلاكتيوس

يرى البعض أن ملاكًا ظهر ليمجده، قائلاً له: "لك القوة يا رب، فإنك قادر أن تغلب الموت وتخلص البشرية الضعيفة. هذا ما قاله الأب ثيؤفلاكتيوس، ولعله لهذا السبب جعلت الكنيسة تسبحتها طوال أسبوع الآلام تحمل ذات الروح، إذ تردد: "لك القوة والمجد والبركة والعز إلى الأبد، آمين..."

خامسًا: "وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة، وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نيامًا من الحزن فقال لهم: لماذا أنتم نيام؟ قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" [44-46]. هذا وصف يسجله لوقا البشير بلغة الطب: "كان في جهاد"، فقد دخل السيد المسيح في صراع حقيقي حتى صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض. لقد صار هابيل الجديد الذي تتقبل الأرض دمه، لكن الأول تقبلته كثمرة حسد وحقد في قلب قايين أخيه، أما الثاني فتتقبله ثمرة حب حقيقي نحو البشرية كلها. دم هابيل يطلب النقمة من قاتله، أما دم السيد المسيح فيطلب النعمة لكل مؤمن به.

كان المعلم يصارع بحق، وكان التلاميذ في عجز غير قادرين حتى على مقاومة النوم، لذا جاء السيد يعاتبهم ويوصيهم بالسهر مع الصلاة حتى لا يدخلوا في تجربة.

v لقد حمل في نفسه آلامي، لكي يمنحني فرحه!

بثقة اذكر حزنه، إذ أكرز بصليبه،

كان يلزم أن يحمل الأحزان لكي يغلب...

لقد أراد لنا أن نتعلم كيف نغلب الموت، بالأكثر نحطم الموت القادم (الأبدي).

لقد تألمت أيها الرب لا بآلامك، وإنما بآلامي، إذ جُرح لأجل معاصينا...

ليس بعيدًا عن الحق أنه قد تألم من أجل مضطهديه، إذ يعرف أنهم يعانون العقوبة من أجل تدنيسهم للمقدسات.
القديس أمبروسيوس

v كان العرق يتصبب كالدم وربنا يصلي، ممثلاً الاستشهاد الذي يحل بكل جسده، أي الكنيسة.
القديس أغسطينوس

v فاضت قطرات العرق منه بطريقة عجيبة كقطرات دم، كما لو أنه استنزف دمه، مفرغًا ينبوع الخوف اللائق بطبيعتنا.

v (لئلا تدخلوا في تجربة)

من يثبت في التجربة ويحتملها، فمثل هذا وإن كان بالحقيقة يُجرب لكنه لا يدخل في تجربة، ولا يسقط تحتها. هكذا اقتاد الروح يسوع لا ليدخل في تجربةk وإنما لكي يجربه الشيطان (مت 4: 1). وإبراهيم أيضًا لم يدخل في تجربة، ولا قادة الله في تجربة إنما جربه (امتحنه) دون أن يسحبه في التجربة (أي تحتها)...

الشيطان يسحبنا بالقوة لكي يهلكنا، لكن الله يقودنا بيده ليدربنا على خلاصنا.
القديس ديونيسيوس السكندري

9. تسليمه

"وبينما هو يتكلم إذا جمع

والذي يُدعى يهوذا واحد من الإثنى عشر يتقدمهم،

فدنا من يسوع ليقبله.

فقال له يسوع: يا يهوذا، أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟

فلما رأى الذين حوله ما يكون، قالوا يا رب، أنضرب بالسيف؟

وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى.

فأجاب يسوع وقال: دعوا إلىّ هذا، ولمس أذنه وأبرأها" [47-51].

أولاً: جاء الجمع يضم رؤساء الكهنة وقواد جنود الهيكل ومعهم بعض جند الرومان والشيوخ (يو 18: 12) تحت قيادة يهوذا. حمل قادة اليهود سلاح الكراهية والبغضة في قلوبهم، وأمسك الجند بالسيوف والعصي، أما يهوذا فتقدم بقبلة من شفتيه كانت أكثر مرارة من كل الأسلحة، قبلة غاشة من تلميذ نحو معلمه! كان يهوذا بشعًا في خطئه، فمن جانب قدم القبلة علامة الحب والولاء علامة للتسليم، قدمها في عيد الفصح حيث كان يليق به أن يكون ورعًا وتقيًا يخشى حرمة أعظم عيد يهودي، قدمها في البستان وهو يعلم أنه موضع الصلاة بالنسبة لمعلمه. انتهك التلميذ كل المقدسات، انتهك حرمة التلمذة، وحرمة العيد، وحرمة الصلاة، وبلا ثمن، إذ طلب منهم ثمن عبد!

يقول داود النبي على لسان السيد المسيح الذي خانه تلميذه: "لأنه ليس عدو يعيرني فأحتمل، ليس مبغضي تعظّم علىّ فأختبئ منه، بل أنت إنسان عديلي، ألفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة" (مز 55: 12-14).

v لم يكف يهوذا عن خيانته مع أن المسيح حذره بكل وسيلة (إذ قال له في اللحظات الأخيرة: يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟)

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لم يقل له: "أيها الفظ"، مع أنه هو خائن فظ حقًا، هل هذا هو ما تقدمه مقابل اللطف العظيم؟ إنما في بساطة قال: "يا يهوذا"، مستخدمًا الاسم اللائق واللقب اللطيف، إذ لا ينطق بغضب، إنما يريده أن يراجع نفسه.

لم يقل له: "تسلم سيدك أو ربك أو من له الفضل عليك"، إنما في بساطة قال "تسلم ابن الإنسان"، أي تسلم ذاك اللطيف الوديع. كأنه يقول له: افترض إنني لست سيدك ولا ربك ولا من له الفضل عليك، أتسلم شخصًا بريئًا ولطيفا معك، فتقبله في ساعة خيانتك له، وتجعل من القبلة علامة الخيانة؟

مبارك أنت يا رب! يا لك من مثال عظيم في احتمال الشر، أظهرته لنا في شخصك! يا لعظم مثال تواضعك! لقد أعطانا الرب هذا المثال مظهرًا لنا أنه يجب ألا نكف عن تقديم المشورة الصالحة لإخوتنا، حتى وإن بدت كلماتنا بلا نفع نهائيًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم

v يليق بنا ألا نكف عن نصح إخوتنا حتى وإن بدت نصائحنا بلا ثمر، فإن مجاري المياه تفيض حتى وإن لم يشرب منها أحد؛ ومن لا يسمع اليوم ربما يتعظ غدًا. الصياد قد تبقى شباكه فارغة طول اليوم، وفي اللحظات الأخيرة يصطاد سمكة. هكذا ربنا مع معرفته أن يهوذا لا يرجع لكنه لم يكف عن تقديم نصائح له.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ثانيًا: "القبلة" علامة الحب والصداقة والشوق، استخدمها يهوذا لتسليم سيده، فصارت بالنسبة له علامة الخيانة والجحود. لهذا يوصينا الآباء ألا نحمل في سلوكنا علامات لطيفة ورقيقة تخفي قلبًا قاسيًا وعنيفًا، إنما ليحمل الخارج انعكاسًا حقيقيًا للأعماق الداخلية... من أمثلة ذلك الصمت الظاهري كعلامة للصفح أو الاحتمال بينما الأعماق تغلي كراهية، أو الصمت الخارجي لا رغبة في اللطف وإنما كنوع من الإِغاظة...

v باطلاً نلجم ألسنتنا، إن كان صمتنا يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الصراخ.

الأب يوسف

ثالثًا: إذ رأى التلاميذ هذا الهياج العام ضد سيدهم البريء، قالوا في غيرة بشرية خاطئة: "يا رب أنضرب بالسيف؟" [48]. كان ذلك على لسان بطرس، فجاءت الإِجابة واضحة وصريحة: "ردّ سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون، أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من أثنى عشر جيشًا، فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون؟!" (مت 26: 53-54)، "الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟!" (يو 18: 11).

رابعًا: لم ينتظر بطرس إجابة السيد حين سأله: "يا رب أنضرب بالسيف؟" وربما لم يسمع الإِجابة إذ كان قد أُمتص كل فكره بالمنظر المثير، أو لعله كان لم يستيقظ تمامًا. فضرب "ملخس" عبد رئيس الكهنة وقطع أذنه اليمنى.

خامسًا: السيد المسيح بطبيعته صالح ولطيف، لا يكف عن عمل الخير حتى في لحظات الضيق. بينما كان المضطهدون يظهرون كل كراهية وبغضة اهتم السيد المسيح أن يشفي جراحات هذا العبد القادم بثورة ليقتله. يعلق القديس أغسطينوس على شفاء أذن هذا العبد "ملخس"، قائلاً: ["ملخس" تعني "الذي يعين ليملك". إذن، ماذا تعني الأذن التي قُطعت من أجل الرب وقام الرب بإبرائها، إلا تجديد السمع الذي يُقطع عنه، قدمه لكي يصير في جدة الرب لا في قدم الحرف؟ من يستطيع أن يشك في أن هذا الذي يتمتع بهذا الأمر بالمسيح يُعاق لكي يملك معه؟!]

لماذا قطعت الأذن اليمنى للعبد، وقام الرب بشفائها؟ يشير العبد للأمة اليهودية التي كانت في مركز العبودية، لم تنعم بعد بالبنوة لله. هذه الأمة أُعطيت لها الأذن اليمنى لكي تسمع الصوت الإلهي الروحي خلال الناموس، لأنه إن كانت الأذن اليسرى تعني السماع المادي، فاليمنى تعني الروحي. كان يلزمهم أن ينصتوا للناموس روحيًا بختان القلب والأذن، لكن بقسوة قلوبهم فسدت آذانهم إذ كانت غرلة غير مختونة روحيًا. لقد سمح السيد بقطع الغرلة لكي يموت السمع الحرفي، وتختن الأذن الداخلية فتسمع صوت الرب.

سادسًا: كما اهتم السيد المسيح بمحبته أن يعاتب يهوذا في اللحظات الأخيرة قبيل تسليمه لعله يرجع ويتوب، دون أن يجرح مشاعره بكلمة قاسية أو عنيفة، اهتم أيضًا بتلميذه بطرس فسأله ألا يضرب بسيفٍ ماديٍ، كما اهتم أيضًا بملخس عبد رئيس الكهنة فشفى أذنه اليمنى كي يسمع الصوت الإلهي. الآن يعلن أيضًا اهتمامه بالثائرين ضده، معاتبًا إيّاهم لأجل خلاصهم، إذ يقول الإنجيلي: "ثم قال يسوع لرؤساء الكهنة وقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصى. إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا عليّ الأيادي، ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" [52-53].

إنه يعاتبهم لأنهم جاءوا إليه ليلاً... ليمارسوا أعمال الظلمة والشر، منقادين بإبليس "سلطان الظلمة"، مع أنه كان يليق بهم أن يكونوا أبناء النور وأبناء النهار يلتقون به في الهيكل ليتمتعوا بأشعة برِّه واشراقات محبته. لقد دعي هذا العمل "ساعة"، لأن أعمال الظلمة مهما امتدت فهي إلى حين وتنتهي. سُمح لهم أن يمارسوا أعمال الظلمة لكن إلى حين!

[راجع أقوال الآباء خاصة القديسين كيرلس الكبير وأمبروسيوس في تفسيرنا مت 26: 47 الخ؛ مر 14: 43 الخ.

10. محاكمته دينيًا في بيت رئيس الكهنة

سبق لنا عرض أقوال الآباء في محاكمة السيد المسيح الدينية أثناء تفسير مت 26: 57 الخ؛ مر 14: 66) الخ.

لقد أُقتيد أولاً إلى حنان حما قيافا رئيس الكهنة، ومن هناك اُقتيد إلى قيافا، ليمزق رئيس الكهنة ثيابه فيتنبأ وهو لا يدري تمزيق الكهنوت اللاوي وإبطاله (مت 26: 63). هناك وُجه إليه اتهامان أنه قال بأنه ينقض الهيكل وفي ثلاثة أيام يبني آخر غير مصنوع بأيدٍ، والثاني إنه مجدف. كان لابد أن يحاكم أمام خاصته ليرفضوه، فيُفتح باب الخلاص للأمم.

11. إنكار بطرس له

سبق لنا الحديث عن إنكار بطرس (مت 26: 57 الخ؛ مر 14: 48 الخ)، حيث رأينا أن بطرس "تبعه من بعيد" [54]، بهذا أنكر، ولما اقترب منه لم ينكر. إذ جلس بطرس يستدفئ بالنار بين العبيد والجواري فقد حرارة الروح الداخلي. وأخيرًا تاب وندم إذ "التفت الرب ونظر إلى بطرس" [68]. بمعنى آخر يليق بنا لكي لا ننكر الرب أن نقترب منه ولا نتبعه من بعيد. وأن نطلب حرارة الروح الداخلي لا دفئ العالم الكاذب. وأن نطلب من الرب أن يلتفت إلينا بعين رحمته وينظر، فيلهب قلبنا بالتوبة ويهب عيوننا دموعًا صادقة مقبولة لدى الله.

v كانت هذه التجربة بحق درسًا لخلاصنا، فنتعلم أننا إذا استهنا بضعف جسدنا نُجرب. إن كان بطرس قد جُرب فمن منا يمكنه أن ينتفخ؟... لقد أخبرنا عن بطرس الذي جُرب لكي نتعلم منه كيف نقاوم التجارب، وإننا وإن كنا نجرب لكن يمكننا أن نغلب شوكة التجارب بدموع الصبر.

القديس أمبروسيوس

ماذا يعني "فالتفت الرب ونظر إلى بطرس" [61]، سوى أنه قد أعاد إليه الوجه الذي حوله عنه منذ قليل؟! لقد صار مضطربًا لكنه تعلم ألا يثق في ذاته فكان هذا نافعًا له.

v لا يمكن أن يقال أنه التفت إليه (تحوّل إليه) ونظره بعينيه الجسديتين... بل تحقق هذا داخليًا؛ تمّ في الذهن، في عمل الإرادة. اقتربت إليه مراحم المسيح بصمت وسريةَ، ولمست قلبه، وذكرّته بالماضي. افتقد الرب بطرس بنعمته الداخلية، وأثار فيه دموع مشاعر الإنسان الداخلي عاملاً فيه.

أنظر بأية وسيلة الله حاضر بمعونته ليعمل في إرادتنا وأعمالنا، انظر كيف يعمل فينا أن نريد وأن نعمل!

القديس أغسطينوس

v كان في عوز إلى أن يذّكره سيده، فكانت نظرته إليه عوض الصوت، فامتلأ خوفًا متزايدًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v مراحم الله ضرورية ليس فقط عندما يتوب الإنسان وإنما لكي تقتاده للتوبة... قبل أن يبكي بطرس بمرارة يخبرنا الإنجيلي أن الرب التفت ونظر إليه.

القديس أغسطينوس

يمكننا أيضًا أن نقول بأن بطرس الرسول إذ حدد نظرته إلى ما هو حوله، ومن هم حوله ارتجف أمام كلمات جارية وانهار، لكنه إذ نظر إلى الرب رآه يتحول إلية ليضمه بالحب فندم وتاب!

v بكى بطرس، بكى لأنه أخطأ، بكى لأنه ضلّ كإنسان، بكى دون أن يعتذر، لأن الدموع تغسل ما تخجل أن ننطق به بأفواهنا...

الدموع تعترف بالجرم دون أن تؤذي الحياء.

الدموع لا تسأل الغفران لكنها تناله.

القديس أمبروسيوس

12. جلده والاستهزاء به

"والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه.

وغطّوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه، قائلين:

تنبأ، من هو الذي ضربك؟

وأشياء أخر كثيرة كانوا يقولون عليه مجدّفين" [63-65].

v احتمل يسوع، رب السماء والأرض سخرية الأشرار مقدمًا لنا نفسه مثالاً للصبر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

13. محاكمته في المجمع

"ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة،

وأصعدوه إلى مجمعهم.

قائلين: إن كنت أنت المسيح فقل لنا.

فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون.

وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني.

منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله.

فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟

فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو.

فقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهادة؟!

لأننا نحن سمعنا من فمه" [66-71].

يقول الأب ثيؤفلاكتيوس أن السيد المسيح كان يعلم أن الذين لم يصدقوا أعماله لن يصدقوا كلماته.

لقد سبق فأعلن عن نفسه أن المسيح، "واحد مع الآب" (يو 10: 30)، وأوضح أنه ابن داود وربه. لكنهم كانوا يريدون فرصة للحكم عليه لا لإدراك الحق، ومع هذا أعطاهم السيد المسيح فرصة للتوبة، معلنًا لهم الحق، حتى لا يكون لهم عذر فيما يرتكبوه ضده.

http://demiana2010.com

26تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 23 السبت 2 يناير 2010 - 17:02

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 23

من أجل الصداقة التي يطلبها السيد المسيح احتمل الآلام، وقبل المحاكمة، وحمل الصليب، واجتاز الموت، ودفن في القبر حتى يحملنا إليه أصدقاء إلى الأبد.

1. محاكمته أمام بيلاطس 1-7.

2. محاكمته أمام هيرودس 8-12.

3. إصرار اليهود على صلبه 13-25.

4. الصليب وسمعان القيرواني 26.

5. الصليب والنائحات 27-31.

6. صلبه بين لصين 32-43.

7. تسليم الروح 44-49.

8. دفنه 50-56.

1. محاكمته أمام بيلاطس

جاء السيد المسيح ليصالح الإنسان مع الآب، يستر خطاياه بدمه، أما الإنسان فاتهمه أنه مثير للشغب، وصاحب فتنة، إذ يقول الإنجيلي: "قام كل جمهورهم، وجاءوا به إلى بيلاطس. وابتدأوا يشتكون عليه، قائلين إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً: إنه هو مسيح ملك" [1-2].

يذكر الإنجيلي لوقا الاتهام المدني بكل وضوح، ففي المجمع الديني أُتهم بالتجديف، وهنا أمام بيلاطس كان الاتهام أنه محرض الشعب على عدم دفع الجزية لقيصر وإقامة نفسه ملكًا، مع أنه إذ سُئل قبلاً، أجاب: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، وحينما أرادوا أن يخطفوه ليقيموه ملكًا، اختفى من بينهم!

يقول القديس كيرلس الكبير: [قادوا يسوع إلى بيلاطس، وهم أيضًا أنفسهم سُلموا للجند الرومان الذين احتلوا أرضهم واقتحموا مدينتهم حيث الموضع المقدس المكرم، وسلم سكانها للسيف والنار. لقد تحقق فيهم نبوات الأنبياء القديسين، إذ يقول أحدهم: "ويل للشرير شر، لأن مجازاة يديه تُعمل به" (إش 3: 11)، ويقول آخر: "كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك" (عو 15).]

بلا شك سمع بيلاطس عن السيد أنه نادى بتقديم "ما لقيصر لقيصر"، وإذ رأى السيد المسيح إنسانًا معدمًا لا يمكن أن يقيم نفسه ملكًا سأله ربما في استخفافٍ أو كعملٍ شكليٍ:

"فسأله بيلاطس قائلاً: أنت ملك اليهود.

فأجابه وقال: أنت تقول.

فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع:

"إني لا أجد علّة في هذا الإنسان" [3-4].

يقول القديس كيرلس الكبير: [اخترعوا عدة اتهامات، وأثاروها ضد المسيح، اتهامات كاذبة لا يمكن التدليل عليها. لكنهم بهذا أكدوا إنهم أشر من الوثني، فإن بيلاطس برّأه من كل عيب، قائلاً: "إني لا أجد علّة في هذا الإنسان"، هذا ما نطق به ليس مرة واحدة بل ثلاث مرات.]

إذ لم يستطع القادة أن يثيروا الوالي ضده بالمنطق، "كانوا يشدّدون قائلين: إنه يهيج الشعب، وهو يعلِّم في كل اليهودية، مبتدئًا من الجليل إلى هنا" [5].

لعلهم بهذا أرادوا أن يهددوا الوالي بأن الموقف لا يُحد خلال منطقة نفوذه، وإنما أيضًا يمتد إلى مناطق أخرى، فإن لم يحكم هو عليه سيحكم آخر غيره، فيصير الوالي في عيني قيصر متهاونًا في حق قيصر، يترك صانعي الفتنة والشغب بلا محاكمة. ولعله لهذا السبب أيضًا أرسله بيلاطس إلى هيرودس والي الجليل حتى متى برأّه أو حكم عليه يكون معه شهادة والٍ آخر تسنده أمام قيصر. هذا وبحسب القانون الروماني يقف كل إنسان ليحاكم أمام والي منطقته، فلم يرد بيلاطس أن يتعدى اختصاصات هيرودس بالرغم من وجود عداوة قائمة بينهما. وكأن بيلاطس احترم القانون الأرضي برضا وسلمه لوالٍ آخر، بينما لم يحترم قادة اليهود الشريعة الإلهية مسلّمين السيد المسيح للصلب وحكم الموت ظلمًا.

هذا ونلاحظ أن السيد المسيح لم يدافع عن نفسه بكلمة، فقد حسب الحق الذي فيه مُعلن بصمته ولا يحتاج إلى كلمات تشهد له. هذا ما يعلنه الإنجيلي في لقاء السيد المسيح مع هيرودس كما سنرى [9]. إنه جاء ليسحب قلوبنا بحبه لا ليدافع عن نفسه.

2. محاكمته أمام هيرودس

"وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جدًا،

لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة،

وترجّى أن يرى آية تصنع منه.

وسأله بكلامٍ كثيرٍ فلم يجبه بشيء.

ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتدادٍ.

فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به،

وألبسه لباسًا لامعًا، وردّه إلى بيلاطس.

فصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما في ذلك اليوم

لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما" [8-12].

يلاحظ في هذا اللقاء بين السيد المسيح وهيرودس الآتي:

أولاً: أراد هيرودس أن يتأكد مما سمعه عن السيد المسيح، لذا فرح جدًا أن يراه، لا ليتمتع به ويقتني الحق، وإنما ليشاهد آيات وعجائب، أما السيد فلم يأتِ لاستعراض آيات، وإنما لخلاص النفوس، لذا التزم بالصمت، ولم يجب حتى على اتهامات المشتكين، فاحتقره هيرودس ورجاله واستهزؤا به..

ثانيًا: في محاكمته سواء أمام رئيس الكهنة أو بيلاطس أو هيرودس اتجه إلى الصمت ليتم فيه القول: "لم يفتح فاه، كشاةٍ تُساق إلى الذبح" (إش 53: 7).

v شُبّه بالحمل حتى يُحسب في صمته بارًا غير مذنب.

القديس أغسطينوس

v إنه مثل رائع يدعو قلوب البشر أن تحتمل الإهانة بروح ثابتة. أُتهم الرب وصمت وكان في صمته محقًا لأنه لم يكن في حاجة أن يدافع عن نفسه.

القديس أمبروسيوس

ثالثًا: يعلق القديس أمبروسيوس على الثوب اللامع الذي ألبسه هيرودس إياه، قائلاً: [ألبسه هيرودس ثوبًا أبيض ليشير أن الآلام التي احتملها ليست عن لوم فيه، إذ هو حمل الله الذي بلا عيب، يحمل بمجدٍ خطايا العالم.]

رابعًا: يرى الأب ثيؤفلاكتيوس في الصداقة التي قامت بين بيلاطس وهيرودس من أجل قتل السيد المسيح بعد العداوة التي كانت بينهما توبيخًا لنا، فإن الشيطان وحّد بين المتخاصمين لتحقيق هدفه الشرير، أما نحن فننقسم على أنفسنا عوض الوحدة من أجل خلاص النفوس. أما القديس أمبروسيوس فيرى في هذه الصداقة بين العدوين إشارة إلى الوحدة التي صارت بين شعب إسرائيل والشعوب الأممية، خلال موت المسيح بقبول الكل كأعضاء في كنيسة العهد الجديد.

3. إصرار اليهود على صلبه

أولاً: لا نعجب إن كان السيد المسيح وهو مُتهم ظلمًا قد صمت بينما وقف الأعداء - منهم بيلاطس وهيرودس- يدافعون عنه. لقد شهد بيلاطس: "ها أنا قد فحصتُ قدامكم، ولم أجد في هذا الإنسان علّة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودس أيضًا" [14-15]. وعندما أصروا على قتله مرة ومرتين أكدّ لهم: "أي شر عمل هذا؟! إني لم أجد فيه علّة للموت" [22]، فكانوا يصرخون بإلحاح أن يُصلب!

v انتهرهم بيلاطس مقدمًا تبريرًا لنفسه، بالقول: "لم أجد في هذا الإنسان علّة..." هوذا الذين يعرفون الناموس الإلهي ولهم ملامح سامية، قائلين إنهم تلاميذ موسى يطلبون أن يحكموا عليه بالموت، هذا الذي هو بلا لوم بل بالحري رأس ومعلم كل تقوى، هذا الذي يهب مؤمنيه كل فضيلة بمهارة. لقد صاروا بالأكثر مستوجبين العقاب الشديد لأن (بيلاطس) الذي كان من عمله أن يحكم قد برأّه.

القديس كيرلس الكبير

ثانيًا: إذ كان الرب يبذل كل الجهد حتى حياته لأجل تقديم صداقته للبشرية، كانت خاصته ترفضه وتقدم باراباس عنه، إذ: "صرخوا بجملتهم قائلين: خذ هذا وأطلق لنا باراباس، وذاك كان قد طُرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل" [18-19]. أرادوا قتل البار وإطلاق مثير الفتنة القاتل. وكما يقول القديس أمبروسيوس أن كلمة "باراباس" تعني "ابن أب"، وكأن هؤلاء الذين قيل لهم: "أنتم من أب هو إبليس" (يو 8: 44)، قد مثلوا الآن ليفضلوا ابن أبيهم أي ضد المسيح عن ابن الله.

ثالثًا: للمرة الثالثة كانوا يصرخون بأصوات عظيمة ويتوسلون من بيلاطس أن يصلبه،

"فقويت أصواتهم وأصوات رؤساء الكهنة.

فحكم بيلاطس أن تكون طلبتهم.

فأطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة،

وقتل الذي طلبوه وأُسلم يسوع لمشيئتهم" [23-25].

v هذه الصرخات القاسية غير الشرعية قد وبخ بها الرب بإشعياء النبي القائل: "إن كرم رب الجنود، غرس جديد محبوب هو رجل يهوذا، انتظرت حقًا فإذا سفك دم، وعدلاً فإذا صراخ" (إش 5: 7 الترجمة السبعينية). وفي موضع آخر قال عنهم: "ويل لهم لأنهم هربوا عني، تبَّا لهم، لأنهم أذنبوا إليّ، أنا أفديهم، وهم تكلموا عليّ بكذبٍ" (هو 7: 13). وأيضا: "يسقط رؤساؤهم بالسيف من أجل سخط ألسنتهم" (هو 7: 16). لقد قيل أن بيلاطس أصدر الحكم بأن يحقق رغبتهم، فكان ذلك حسنًا في نظرهم، إذ انهزمت إرادة بيلاطس وصدر الحكم... لقد قاوموا وبعنف عارضوا وانتصروا... فأعدّ لهم ذلك فخًا، وكان علة هلاكهم، دفعهم إلى هلاك عنيف لا يتوقف.

القديس كيرلس الكبير

4. الصليب وسمعان القيرواني

"ولما مضوا به أمسكوا سمعان،

رجلاً قيروانيًا كان آتيًا من الحقل،

ووضعوا عليه الصليب ليحمله خلف يسوع" [26].

قلنا أن كلمة "سمعان" تعني "يسمع" أو "يطيع"، و"قيروان" تعني "ميراثًا"، وهي مدينة أممية في ليبيا، فإن سمعان القيرواني يشير إلى كنيسة العهد الجديد التي صارت وارثة خلال طاعة الإيمان، وقد جاءت من الأمم لكي تشارك مسيحها صليبه، وتنعم بهذا الشرف العظيم.

يذكر الإنجيلي يوحنا أن السيد المسيح حمل صليبه (يو 19: 17)، إذ هو علامة ملكه، كقول إشعياء النبي "وتكون الرئاسة على كتفيه" (إش 9: 6). وفي الطريق إذ أراد أن يجعل من كنيسته ملكة تشاركه أمجاده، سُمح لسمعان ممثل الكنيسة أن يحمله. يقول القديس أمبروسيوس: [آن الوقت لكي يرفع المنتصر لواءه، فوضع الصليب على كتفه... حمل الرب لواءه ثم سلمه للشهداء ليرفعوه هم أيضًا: "احمل صليبك واتبعني" (9: 23).]

ليتنا نخرج مع سمعان بالطاعة النابعة عن الإيمان، منطلقين من حقل هذا العالم، لنحمل صليب ربنا يسوع المسيح فنشاركه ميراثه وأمجاده!

5. الصلب والنائحات

"وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء

اللواتي كن يلطمن أيضًا وينحن عليه.

فالتفت إليهن يسوع وقال:

"يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ،

بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن.

لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها:

طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع.

حينئذ يبتدئون يقولون للجبال اسقطي علينا وللآكام غطينا.

لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟!" [27-31]

إذ كتب القديس لوقا البشير للأمم أراد إبراز مركز المرأة وتقديرها في عيني المسيحية، فإن كان الرجال قد ثاروا ضد الحق، وهاجت الجماهير تطلب صلب البار وإطلاق القاتل، فإن جمهور من النساء كن ينحن على ما حدث، يتبعن السيد في اللحظات المُرّة.

مسيحنا الصديق الحقيقي يلتفت إلى هؤلاء النسوة ليوجه دموعهن من الشفقة البشرية عليه إلى التوبة الصادقة وطلب خلاص نفوسهن ونفوس أولادهن، قائلاً: "لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن".

v الرب نفسه بكى على أورشليم، إذ لم ترد أن تبكي هي على نفسها... إنه يريدنا أن نبكي لنهرب (من الهلاك)...

من يبكي كثيرًا في هذا العالم يخلص في المستقبل، لأن "قلب الحكماء في بيت النوح، وقلب الجهال في بيت الفرح" (جا 7: 4). وقال الرب نفسه: "طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون" (6: 21). فلنبكِ إذن إلى زمان، فنفرح إلى الأبد. لنخفْ الرب وننتظره، معترفين بخطايانا، راجعين عن شرنا، حتى لا يُقال لنا "ويل لي... قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس" (مي 7: 1-2).

القديس أمبروسيوس

هذا ويرى كثير من الآباء أن الحديث هنا موجه إلى كل الأمة اليهودية، إذ دعاهم "يا بنات أورشليم"، معلنًا لليهود أنه يليق بهم أن ينوحوا بالأحرى على ما سيحل بأورشليم. فإن كان قد صدر الحكم الروماني بصلب "العود الرطب" أي السيد المسيح، فسيُسلم اليهود "العود اليابس" لسيوف الرومان، حيث يتم حصار أورشليم ويحطم الهيكل تمامًا.

v دعي نفسه "الشجرة الخضراء" (العود الرطب)، التي تحمل أوراقًا وثمارًا وزهورًا، أما ثماره فهي تعاليمه ونصائحه وإعلان قوة لاهوته في معجزاته الإلهية التي لا يُنطق بها... فقد أقام موتى إلى الحياة، وطهّر برّص، وشفى عميان، وغير ذلك من الأعمال التي مارسها تثير فينا الحمد الكلي الكمال. مع أن هذه هي أعماله فقد أدانه الرومان أو بالأحرى بيلاطس، الذي أصدر ضده حكمًا ظالمًا، وأنزل عليه استهزاءات قاسية. لهذا يقول إن كان القواد الرومان قد صبّوا علىّ مثل هذه الأمور مع أنهم رأوني مزينًا بمجدٍ عظيمٍ كهذا فماذا يفعلون بإسرائيل وقد أدركوا أنه جاف بلا ثمر؟! فإنهم لا يجدون في الإسرائيليين أمرًا عجيبًا يستحق الكرامة أو الرحمة، لذا سيحرقونهم بالنار دون رحمة، ويمارسون ضدهم قسوة عنيفة.

القديس كيرلس الكبير

v دعي نفسه الخشبة الخضراء، ونحن العود الجاف، لأنه هو نفسه فيه الحياة وقوة الطبيعة الإلهية أما نحن البشر فنُدعى العود الجاف.

البابا غريغوريوس الكبير

إن كان السيد المسيح "شجرة الحياة" لم يترك هذا العالم إلا بعد أن حمل آلامه من أجلنا وبسبب خطايانا، أفلا ننتظر نحن أن نتألم ونحن كالعود الجاف الذي بلا ثمر في ذواتنا؟! أما عن الأيام التي فيها تطوّب النساء العواقر فقد جاءت أيام حصار أورشليم، حيث أكلت الشريفات أطفالهن بسبب شدة الجوع، كما وصف يوسيفوس المؤرخ اليهودي.

6. صلبه بين لصين

قدم لنا الإنجيلي لوقا وصفًا لصلب السيد جاء فيه:

أولاً: إمعانا في السخرية به صلبوه بين لصين، واحد عن يمينه والآخر عن يساره، فتحقق فيه قول إشعياء النبي "أُحصيَ مع آثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين" (إش 53: 12). ويصف لنا الإنجيلي موقف اللصين، قائلاً:

"وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه،

قائلاً: إن كنت أنت المسيح، فخلّص نفسك وإيّانا.

فأجاب الآخر وانتهره، قائلاً: أوَلاَ أنت تخاف الله،

إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟!

أمّا نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا،

وأمّا هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله.

ثم قال ليسوع: اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك.

فقال له يسوع: الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس" [39-43].

v إن كنت قد صُلبت معه كلصٍ، اعرف الله بكونك لصًا تائبًا...

اسجُد لذاك الذي عُلق من أجلك، حتى وإن كنت أنت نفسك معلقًا. انتفع من شرك، واقتنِ خلاصك بموتك. ادخل مع يسوع الفردوس، لتتعلم من حيث سقطت (رؤ 2: 5) .

القديس غريغوريوس النزنيزي

v آمن اللص في الوقت الذي فيه فشل المعلمون أنفسهم تمامًا. فإنه لم يؤمن بكلماتهم، ومع هذا كان إيمانه هكذا أنه اعترف بذاك الذي رآه مسمرًا على الصليب ولم يره قائمًا أو ملكًا.

القديس أغسطينوس

v المسيح نفسه جلب اللص من الصليب إلى الفردوس، ليُظهر أن التوبة لن تتأخر في عملها. لقد حول موت القاتل إلى شهيدًا.

القديس جيروم

v لا نخجل من أن نأخذ هذا اللص معلمًا لنا، هذا الذي لم يخجل منه سيدنا بل أدخله الفردوس قبل الجميع.

v أنا لا أراه مستحقًا للإعجاب فقط بل أطوّبه، لأنه لم يلتفت إلى آلامه، بل أهمل نفسه واهتم برفيقه مجتهدًا أن ينقذه من الضلال، فصار بهذا معلمًا وهو على الصليب... تأمل كيف أنه تمم قانون الرسل. لم يهتم بنفسه فقط بل عمل كل الوسائط على قدر استطاعته كي ينقذ غيره من الضلال ويرشده إلى الحق.

v اللص اعترف فوجد أبواب الفردوس مفتوحة!

v اعترف فتجرأ أن يطلب الملكوت مع أنه لص!

v قل لي أيها اللص كيف تذكرت ملكوت السماوات؟ ماذا حدث الآن وأمام عينيك المسامير والصليب والتهمة والهزء والشتائم؟

فيقول: نعم أرى هذه كلها ولكن الصليب نفسه رمز الملكوت، فلذلك أدعو المصلوب عليه ملكًا، لأنه يجب على الملك أن يموت عن رعيته.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v الصليب نفسه إن تأملناه حسنًا هو كرسي للقضاء. فقد جلس الديان في الوسط: لص آمن فخلص، وآخر جدف فدين. بهذا عني أنه ديان الأحياء والأموات، نعم فالبعض عن يمينه والآخر عن يساره.

القديس أغسطينوس

v لقد علق على الصليب الثمين، وعلق معه لصان. ماذا عن هذا؟ بالنسبة لليهود كان هذا من قبيل السخرية حقًا، لكنه كان تذكارًا للنبوة، إذ كتب: "أُحصي مع آثمة" (إش 53: 12). من أجلنا صار لعنة، أي تحت اللعنة، إذ كُتب أيضًا أنه ملعون من عُلق على خشبة (تث 21: 23). لكن هذا العمل بالنسبة له نزع اللعنة عنا، فبه ومعه صرنا مباركين، وإذ عرف داود الطوباوي ذلك قال: "مباركون نحن من قبل الرب خالق السماء والأرض"، إذ حلّت بنا البركة بآلامه. لقد وفى الدين عنا، وحمل خطايانا (إش 53: 6)، ضُرب عوضًا عنا، إذ بحُبره شفينا (إش 53: 5).

v كما قلت عُلق لصان معًا للسخرية به حتى في آلامه التي جلبت خلاصًا للعالم كله، لكن واحدًا منهم بقي في شر اليهود مستمرًا، ناطقًا بكلمات التجديف مثلهم... والآخر أخذ اتجاهًا آخر يستحق بحق إعجابنا، إذ آمن به وهو يذوق أمر العذابات. لقد انتهر صرخات اليهود العنيفة وكلمات من صلب معه. اعترف بخطاياه لكي يتبرر... حمل شهادة للمسيح بلا لوم، ووبخ عجز اليهود عن حب الله، ودان حكم بيلاطس... صار معترفًا بمجد المخلص وديانًا لكبرياء صالبيه.

القديس كيرلس الكبير

v على الصليب سُمرت يدا (اللص) وقدماه ولم يبقَ فيه شيء حر سوى قلبه ولسانه. بوحي إلهي قدم اللص كل ما هو حرّ فيه، وكما هو مكتوب: "لأن القلب يؤمن به للبرّ، والفم يعترف به للخلاص" (رو 10: 10). لقد امتلأ اللص فجأة بالنعمة، وتقبل هذه الفضائل الثلاث التي نطق بها الرسول وتمسّك بها على الصليب، فكان له الإيمان إذ آمن بالله أنه يملك مع أنه رآه يموت مثله، وله الرجاء الذي به طلب الدخول إلى ملكوته، وحفظ المحبة أيضًا بغيرة عند موته، إذ انتهر أخاه اللص رفيقه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v غفر الرب له سريعًا، لأن اللص تاب سريعًا. النعمة أغنى من الطلبة. اللص طلب أن يذكره، أمّا الرب فأجابه (بفيض): "الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس". لأن الحياة هي أن تكون مع المسيح، وحيث يوجد المسيح يوجد ملكوته.

القديس أمبروسيوس

ثانيًا: ربط الإنجيلي لوقا بين اسم الموضع الذي صُلب فيه السيد وبين صلبه بين مذنبين، إذ قال: "ولما مضوا به إلى الموضع الذي يُدعي جمجمة، صلبوه هناك مع المذنبين، واحدًا عن يمينه، والآخر عن يساره" [33]. جاء في التقليد أن الموضع دُعي "جمجمة"، لأن فيه قد دُفن آدم رأس البشرية، وكأن الصليب قد رُفع على مقبرة آدم حيث تحولت جمجمته إلى التراب خلال فسادها، وقد صُلب بين مذنبين يمثلان الفساد الحاضر. بمعنى آخر ارتفع المخلص على الصليب لينقذنا من خطية آدم كما من الخطايا الفعلية.

v إذ فسدت البشرية أعلن المسيح جسده، حتى حيث يظهر الفساد يوجد عدم الفساد. لذلك صلب في موضع الجمجمة، الذي قال عنه معلمو اليهود أن فيه قد دُفن آدم.

البابا أثناسيوس الرسولي

v رُفع الصليب في الوسط، كما يُظن فوق قبر آدم.

القديس أمبروسيوس

يرى البعض أن كلمة "جمجمة" مترجمة عن الآرامية "جلجثة"، وقد سميت هكذا لأن شكلها المستدير يشبه جمجمة الإنسان، أو لأنها كانت موضع الصلب فكثرت فيها جماجم المصلوبين.

هذا ويرى أيضًا بعض الدارسين أن السيد المسيح قد صلب بين لصين عوض باراباس الذي كان يجب أن يُصلب كرئيس لهما ورفيقهما ومثيرهما للقتل، فاحتلّ السيد موضع هذا القاتل.

ثالثًا: سجلت لنا الأناجيل الأربعة سبع كلمات نطق بها السيد المسيح على الصليب، منها ثلاث كلمات وردت في إنجيل معلمنا لوقا. هذه الكلمات السبع هي:

أ. ثلاث كلمات قبل حدوث الظلمة:

"يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34).

"الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).

"يا امرأة هوذا ابنك... هوذا أمك" (يو 19: 26-27).

ب. كلمة أثناء الظلمة:

"إلهي إلهي لماذا تركتني؟!" (مت 27: 46؛ مر 15: 34).

ج. ثلاث كلمات بعد الظلمة:

"أنا عطشان" (يو 19: 28).

"قد أكمل" (يو 19: 30).

"يا أبتاه في يديك استودع روحي" (لو 23: 46).

هذه الكلمات السبع التي ذكر منها الإنجيلي لوقا الكلمات الأولى والثانية والسابعة، قُدمت جميعها من أجلنا لننعم بها خلال عمله الخلاصي على الصليب. الأولى موجهة لأجل أعدائه ليهبهم الصفح، إذ جاء لينزع العداوة ويهب مصالحة. والثانية قُدمت للص بصفة شخصية، ليؤكد علاقته الشخصية مع كل نفسٍ دون النظر إلى الماضي، والثالثة قُدمت لأمه ويوحنا الحبيب ليعلن رعايته لكل نفس] وعنايته بكل أمورنا. الرابعة حملت نوعًا من العتاب ليكون لنا ملء الجرأة في عتابنا مع الله، والخامسة كشفت عن عطشه نحونا وشوقه نحو الإنسان غير المنقطع. السادسة أعلن نصرة الخلاص، والسابعة قدم لنا تمام الطمأنينة.

رابعًا: فقال يسوع: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" [34].

v قال هذا ليس لأنه غير قادر على الغفران بنفسه، وإنما لكي يُعلمنا أن نصلي من أجل مضطهدينا، لا بالكلام فحسب وإنما بالعمل أيضًا. يقول: "اغفر لهم" إن كانوا يتوبون، فإنه رحوم بالنسبة للتائبين، إن كانوا يريدون أن يغسلوا بالإيمان خطاياهم الكثيرة التي ارتكبوها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v [كان غاية الصليب أن يخلص ويغفر، غير مبالٍ بما يحل به]

لم يتطلع أنه يموت بواسطتهم، إنما تطلع فقط أن يموت لأجلهم!

القديس أغسطينوس

v انظر كيف استمر في لطفه حتى في تعامله مع صالبيه!

القديس يوحنا الذهبي الفم

v اسمحوا لهم أن يتثقفوا بأعمالكم أن لم يكن هناك طريق آخر. قابلوا غضبهم بالوداعة، وعجرفتهم بالتواضع، وتجديفهم بصلواتكم... لنثبت باللطف الحقيقي إننا إخوتهم، ولنتمثل بالرب الذي احتمل الظلم فتتبارون في احتمال الظلم والإهانة والاحتقار حتى لا يكون للشيطان مكان في قلوبكم ينبت فيه عشبه.

القديس أغناطيوس النوراني

خامسًا: "وإذ اقتسموا ثيابه اقترعوا عليها" [34].

إن كان السيد المسيح قد حمل خطايانا، فقد رُفع على الصليب عاريًا ليفتدينا من عار الخطية. قلنا في تفسير مت 27: 35، أن الثياب المقتسمة أربعة أقسام تشير إلى الكنيسة الممتدة إلى أربع جهات المسكونة، أما القميص الذي كان منسوجًا من فوق (يو 19: 23) الذي اقترعوا عليه دون أن يُشق، فيشير إلى الكنيسة التي ينبغي أن تحمل سمة عريسها، فتوجد سماوية (منسوجة من فوق) وبلا انشقاق أو انقسام. هذا أيضًا ما أعلنه القديس كيرلس الكبير.

يرى القديس أمبروسيوس أن الأربعة جنود يشيرون إلى الأربعة إنجيليين، الذين سجلوا لنا ما نتمتع به، أما القميص الذي أُلقي عليه قرعه فيشير إلى أن الروح القدس لا يُوهب حسب استحقاق الإنسان ذاتيًا وإنما هو هبة إلهية مجانية.

سادسًا: إذ ارتفع السيد المسيح على الصليب صار موضع سخرية الجميع، الشعب مع الرؤساء، واليهود مع الجند الرومان، إذ قيل: "وكان الشعب واقفين ينظرون، والرؤساء أيضًا معهم يسخرون به، قائلين: خلص آخرين، فليخلص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله. والجند أيضًا استهزئوا به وهم يأتون ويقدمون له خلاَّ. قائلين: إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك" [35-37].

أراد الرؤساء أن يسخروا به فاعترفوا بألسنتهم "خلّص آخرين"، ويصير اعترافهم هذا شهادة ضدهم. حقًا لقد جاء لا ليخلص نفسه، إذ هو غير محتاج إلى خلاص، إنما كطبيب يتقدم ليشفي المرضى. وكما يقول القديس البابا أثناسيوس الرسولي: [بالحق أراد المخلص ربنا أن يُعرف مخلصًا لا بخلاص نفسه بل بخلاصه الآخرين. فالطبيب لا يُحسب كذلك بشفائه نفسه، بل بإبراز مهارته مع المرضى. هكذا الرب بكونه المخلص لا يحتاج إلى خلاص نفسه. فليس بنزوله من على الصليب يصير مخلصًا بل بموته. فإنه بالحق يتحقق خلاص عظيم للبشرية بموته أكثر من نزوله عن الصليب.]

لقد قبل أن يشرب الخل، كما يقول القديس أمبروسيوس، لأنه أخذ فسادنا ليسمره على الصليب. أمّا رفضه الخمر الممزوج بالمر، فذلك ليس امتناعًا عن المرّ لمرارته، وإنما لأن المرّ يعطي نوعًا من التخدير، فلا يشعر المصلوب بكل الآلام التي اجتازها. فقد أراد أن يحمل الألم حتى النهاية. أمّا من جهة المرارة فيقول القديس أمبروسيوس: [بالتأكيد أخذ مرارة حياتنا في جسم بشريته.]

سابعًا: "وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية: هذا هو ملك اليهود" [38]. صارت علته تاجًا له يمثل حقيقته الخفية كملكٍ، وكما جاء في سفر النشيد "اخرجن يا بنات صهيون، وانظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه في يوم عرسه، وفي يوم فرح قلبه" (نش 3: 11).

كُتب العنوان باللغات الرئيسية: اليونانية والرومانية والعبرية، ليعلن أنه بالحق ملك روحي على جميع الأمم، وليس خاصًا باليهود وحدهم كما ظنوا في المسيا المنتظر.

v لاحظ أن مكر الشيطان قد ارتد إليه. لقد كُتبت علّة يسوع بثلاث لغات مختلفة، حتى لا يفشل أحد من المارة به في معرفة أنه قد صلب لأنه أقام نفسه ملكًا. لقد كُتبت باليونانية واللاتينية والعبرية، هذه اللغات التي يعني بها أكثر الأمم قوة (الرومان) وحكمة (اليونان) وعبادة لله (اليهود)، جميعها تخضع لسلطان المسيح.

الأب ثيؤفلاكتيوس

7. تسليم الروح

إن كانت القوى البشرية قد تضافرت معًا لتسخر بالسيد المسيح المصلوب، فإن اللص اليمين استطاع أن يغتصب الملكوت أو ينعم بالصداقة الإلهية على مستوى أبدي. الآن وقبيل تسليم السيد المسيح روحه في يدي الآب تقوم الطبيعة الجامدة بدورها لتشهد لذاك الذي جحدته الخليقة الأرضية العاقلة، حتى آمن قائد المائة الروماني وشهد أيضًا له.

"وكان نحو الساعة السادسة،

فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة.

وأظلمت الشمس، وانشق حجاب الهيكل من وسطه.

ونادى يسوع بصوت عظيم، وقال:

يا أبتاه في يديك استودع روحي.

ولما قال هذا أسلم الروح.

فلما رأى قائد المائة ما كان مجّد الله، قائلاً:

بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا.

وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر

لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم.

وكان جميع معارفه ونساء كنّ قد تبعنه من الجليل،

واقفين من بعيد، ينظرون ذلك" [44-49].

يلاحظ في هذا النص الآتي:

أولاً: بالحساب اليهودي "كانت ظلمة على الأرض كلها من الساعة السادسة حتى التاسعة"، هل لأن الطبيعة قد أرادت أن تعبّر عن استنكارها لما فعله الإنسان بكلمة الله المتجسد؟ أم أرادت بهذه الظلمة أن تسدل ستارًا طبيعيًا على هذا المنظر المفجع؟ أم أرادت أن تعلن أن المصلوب هو خالقها؟! لقد سبق فشهد الأنبياء عن هذا الحدث، قائلين:

"ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور، الدراري تنقبض، ويكون يوم واحد معروف للرب؛ لا نهار ولا ليل بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور" (زك 14 :6-7).

"ويكون في ذلك اليوم يقول السيد الرب: إني أُغيِب الشمس في الظهر، وأُقتم الأرض في يوم نور، وأحول أعيادكم نوحًا، وجميع أغانيكم مراثي" (عا 8: 9-10).

"أُلبس السماوات ظلامًا، وأجعل المُسح غطاءها" (إش 50: 3).

v لقد انكسفت الشمس أمام انتهاك المقدسات، لتستر على هذا المنظر الشرير الذي ارتكبوه. عمت الظلمة لتغطي عيون الجاحدين، حتى يشرق نور الإيمان من جديد.

القديس أمبروسيوس

v نعم، انتحبت الطبيعة ذاتها وبها، إذ أظلمت الشمس، وتشققت الصخور، وبدا الهيكل كمن قد اكتسى بالحزن إذ انشق الحجاب من أعلى إلى أسفل.

القديس كيرلس الكبير

ثانيًا: انشق حجاب الهيكل من وسطه، إذ زالت العداوة التي بين الله والإنسان، فانفتح قدس الأقداس السماوي أمام جميع المؤمنين، أعضاء جسد المصلوب. وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [لم يعد قدس الأقداس بعد لا يمكن الاقتراب منه.]

يقول القديس أمبروسيوس إن الحجاب القديم قد انشق، لكي يستطيع اليهود بالإيمان أن يعاينوا السرّ المعلن لنا، فيقبلون الأمم معهم بلا انقسام إلى شعبين: يهودي وأممي، أي لتظهر كنيسة العهد الجديد.

[ راجع الإنجيل بحسب مرقس ص 293-294.]

ثالثًا: "نادى يسوع بصوت عظيم، وقال: يا أبتاه في يديك استودع روحي" [46].

v يستودع الابن روحه (البشرية) في يديّ الآب، إذ يستريح في أحشاء الآب.

يستودع روحه في يديّ الآب، لكنه وإن كان في الأعالي إلا أنه أضاء الجحيم ليخلص الذين فيه...

استودع الروح في يديّ الآب حتى تتحرر السماوات نفسها من قيود الظلمة، ويكون سلام في السماء وتستطيع الأرض أن تتبعها.

أسلم الروح بإرادته... لذا أضاف "بصوت عظيم".

القديس أمبروسيوس

v هذا الصوت يعلمنا أن نفوس القديسين لا تعود تنزل إلى الجحيم كما كان قبلاً بل تكون مع الله، لقد أحدث المسيح بداية هذا التغير.

القديس يوحنا الذهبي الفم

رابعًا: إذ رأى قائد المائة السيد المسيح يسلم روحه بقوة، وسمعه يستودعها بإرادته في يديّ الآب آمن، قائلاً: "بالحقيقة كان هذا الإنسان بارًا" [47]، كما قال: "حقًا كان هذا الإنسان ابن الله" (مت 27: 39). لقد شاهد قائد المائة كثير من المصلوبين يموتون، لكن موت هذا المصلوب كان فريدًا، هزّ أعماق قلبه ليسحبه للإيمان به، خاصة وأنه أبصر بعينيه شهادة الطبيعة له. لقد تحقق قول الرب: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (يو 12: 32). لقد ارتفع على الصليب فاجتذب اللص اليمين وقائد المائة وكثيرين ممن كانوا يشاهدونه واقفين من بعيد [49].

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عظيم هو سلطان المصلوب، فبعد سخريات كثيرة وهزء وتعييرات تحرك قائد المائة نحو الندامة، وأيضًا الجموع. يقول البعض أن قائد المائة استشهد إذ بلغ النضوج في الإيمان.]

8. دفنه

تجاسر يوسف الرامي، الذي "كان مشيرًا ورجلاً صالحًا بارًا" [50]، وطلب جسد السيد المسيح، وإذ كان "ينتظر ملكوت الله" [51]، وإذ سمح له بيلاطس "أنزله ولفه بكتان، ووضعه في قبر منحوت، حيث لم يكن أحد وضع قط. وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح. وتبعته نساء كن قد أتين معه من الجليل، ونظرن القبر وكيف وُضع جسده. فرجعن وأعددن حنوطًا وأطيابًا، وفي السبت استرحن حسب الوصية" [53-56].

كان يوسف تلميذًا خفيًا للسيد المسيح، يحبه ويشتاق إليه ويسمع له، لكن بسبب الخوف لم يكن يعلن تبعيته له، وإذ حّل وقت الصليب نُزع عنه الخوف ليطلب جسد الرب بشجاعة. كثيرون يحولهم الضيق من الخوف إلى الشجاعة، فيزكيهم لدى الله والناس، ويتأهلوا بنعمة الله أن يطيبوا جسد المسيح، أي الكنيسة، بأطياب محبتهم الثمينة التي تظهر بقوة وقت الألم!

v إن كنت يوسف الرامي فأطلب الجسد من ذاك الذي صلبه، اجعله مِلكًا لك، ذاك الذي يطهر العالم (1 يو 1: 7).

القديس غريغوريوس النزينزي

[راجع تعليق القديس أمبروسيوس في كتاب الإنجيل بحسب مرقس، ص 295-296.]

http://demiana2010.com

27تفسير انجيل لوقا‏ Empty تفسير الاصحاح رقم 24 السبت 2 يناير 2010 - 17:04

admin

admin
Admin
Admin

تفسير الاصحاح رقم 24

إن كان السيد المسيح قد تألم لأجلنا لكي يقيمنا أصدقاء له، فإنه إذ قام بقي بعد القيامة صديق البشرية، يشتاق أن يهبها حياته المقامة. نراه يقترب من تلميذي عمواس، ويمشي معهما، ويحاورهما بلطف، ويلهب قلبيهما بمحبته، ويفتح بصيرتهما للتعرف عليه. يعود فيظهر لبقية التلاميذ أيضًا ويسألهم أن يحسوه ويلمسوا حقيقة وجوده في وسطهم، بل ويأكل معهم حتى يثقوا في حقيقة معيته لهم، وأخيرًا يُخرجهم إلى بيت عنيا ليرفع يديه ويباركهم، ثم ينفرد عنهم، ويصعد إلى السماء ليعد لهم موضعًا، لذا رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ.

1. القبر الفارغ 1-212.

2. تلميذي عمواس 13-35.

3. ظهوره لتلاميذه 36-43.

4. إرساله التلاميذ 44-49.

5. صعوده إلى السماء 50-52.

6. ارتباطهم بالهيكل 53.

1. القبر الفارغ

"ثم في أول الأسبوع أول الفجر،

أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه، ومعهن أناس.

فوجدن الحجر مدحرجًا عن القبر.

فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع.

وفيما هن محتارات في ذلك، إذا رجلان وقفا بهن بثيابٍ برّاقةٍ.

وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض،

قالا لهن: لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟!

ليس هو ههنا لكنه قام.

اُذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل، قائلاً:

إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة،

ويصلب، وفي اليوم الثالث يقوم.

فتذكّرن كلامه" [1-8)].

استراح النسوة يوم السبت حسب الوصية (23: 56)، وكان الرب راقدًا في القبر، فكان هذا خاتمة "سبوت" العهد القديم لكي بنهايته يكمل القديم، ويبدأ العهد الجديد مع قيامة الرب في أول الأسبوع، أول الفجر! كان ذلك اليوم الذي فيه انطلق الرب من القبر بمثابة بداية جديدة للبشرية في علاقتها بالرب، إذ صار لها حق الحياة المقامة في الرب، لتعيش في سبتٍ جديدٍ فريدٍ هو "راحة الحياة الجديدة في الرب" أو "راحة الحياة المُقامة فيه" أو قل: "راحة الشركة مع المسيح المقام".

ترك القبر فارغًا والحجر مختومًا، كما وُلد من العذراء وبتوليتها لم تمس، وقد أرسل ملاكه يدحرج الحجر ليجد المؤمنين في القبر الفارغ رصيد القيامة الذي لا ينتهي، وينبوع الحياة الجديدة الغالبة للموت!

كان الله يرسل نارًا من السماء ليلتهم الذبيحة علامة قبوله لها ورفعها إلى سماواته، أما وقد قدم الابن حياته ذبيحة حب عنا، فقد صار القبر الفارغ علامة رضا الآب على الذبيحة وقبوله لها، فلم يعد لجسد الرب موضع في القبر لأنه قام... هذا هو إيمان الكنيسة الذي لخّصه الرسول بولس في عبارته الموجزة: "الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" (رو 4: 25). وكما يرى الدارسون أن هذه العبارة تمثل حجر الزاوية في قانون الإيمان الكنسي في عصر الرسول، نقله الرسول عن التقليد.

يحدثنا الإِنجيلي لوقا عن ذهاب النسوة في القبر ليجدنه فارغًا، ويلاحظ في حديثه هنا الآتي:

أولاً: يبدأ حديثه بالقول "ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر" [1]. في الأصحاح السابق ختم حديثه بأن النساء استرحن في السبت حسب الوصية، والآن إذ بدأ الأسبوع الجديد انطلقن بالحنوط والأطياب إلى قبر السيد، ومعهن أناس.

لم يكن ممكنًا في السبت - حسب التقليد اليهودي - أن يعِددن الحنوط ولا ينطلقن إلى القبر، فيبقين بلا عمل حتى جاء غروب السبت أو عشية الأحد ليعددن الحنوط وينطلقن مع بدء الفجر والظلام باقٍ نحو القبر. يمكننا أن نقول بأن هؤلاء النسوة يمثلن الكنيسة الواحدة الممتدة عبر العصور، عاصرت الرمز كما الحق، فبتوقفهن عن العمل يوم السبت أعلن قبولهن الرمز في العهد القديم، لكن في شوقٍ أن يكمل لينقلهن إلى فجر الأحد فيجدن الحق ذاته، بالتقائهن بالمسيح القائم من الأموات. هكذا لم تعد راحة الكنيسة في التوقف عن العمل في السبت الرمزي وإنما في الانطلاق نحو المسيح المقام حاملة أطياب مقدسة ورائحته الذكية معلنة في حياتها وكرازتها بالحق.

لقد انطلقن ومعهن أناس... فإن كانت النسوة تمثلن رجال العهد القديم الذين التهبت قلوبهم بالمسيا المنتظر، فإن الذين جاءوا معهن إلى القبر يمثلون الأمم الذين قبلوا الإيمان بالمسيح القائم من الأموات.

ثانيًا: "فوجدن الحجر مدحرجًا عن القبر، فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع" [2-3]. لقد قام الملاك بدحرجة الحجر (مت 28: 2)، وبحسب التقليد الكنسي، رئيس الملائكة ميخائيل هو الذي قام بالدحرجة.

جاءت الدحرجة بعد القيامة، إذ لم يكن الرب محتاجًا إلى دحرجة الحجر ليقوم، إنما قام والأختام قائمة، وقد رأى كثير من الآباء مثل القديسين أغسطينوس وجيروم أن هذا العمل كان نظيرًا لما تم في ميلاده من القديسة مريم الدائمة البتولية.

إذن دحرجة الحجر كانت من أجلنا لأجل التأكد من قيامة الرب، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [دُحرج الحجر بعد القيامة من أجل النساء ليؤمنوا أن الرب قام ناظرين الحق أن القبر بدون جسد.]

ثالثًا: "وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب برّاقة" [4]. قامت النساء بدور لم يقم به سائر الرسل أو التلاميذ، فقد انطلقن والظلام باقٍ، ولم يبالين بالعقبات التي كانت تنتظرهن كدحرجة الحجر، وعندما وجدن القبر مفتوحًا لم يترددن في الدخول إليه. لهذا استحققن أن يتأهلن لرؤية ملاكين بثيابٍ براقةٍ مبهجةٍ يكرزان لهما بالقيامة.

لم ينظرن الملاكين في لهيب نار، ولا حاملين سيوفًا نارية كما رأى غيرهن في العهد القديم، إنما رأين إياهما بلباس البهجة والفرح، وكأن السماء أرادت أن تشارك الكنيسة بهجتها بقيامة السيد المسيح. بالثياب البراقة أراد الملاكان أن يكرزا للكنيسة كلها بأن السمائيين يرتدون ثياب الملكوت، منتظرين مجيء العروس المقدسة التي تزف مع عريسها السماوي في ملكوته الأبدي.

رابعًا: "وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض، قالا لهن: لماذا تطلبن الحيّ بين الأموات؟‍! ليس هو ههنا لكنه قام. اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل. قائلاً إنه ينبغي أن يسلم ابن الإنسان في أيدي أناس خطاة ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم. فتذكرن كلامه" [5-8].

لقد ملأ الحزن قلبهن إذ رأين القبر فارغًا وكن خائفات، وفي مرارة كن منكسات وجوههن إلى الأرض، لذا عاتبهن الملاكان بلطفٍ كيف يتوقعن وجود الحيّ الغالب الموت في القبر؟!‍خاصة وأنه سبق فأعلن لهن مع التلاميذ عن قيامته!؟ عندئذ تذكرن كلمات المخلص!

يمكننا أن نقول بأن هذا العتاب الملائكي لازال قائمًا وموجههًا لكل مؤمن يريد أن يحصر المسيح في القبر، وكأنه غير قادر على القيامة من الأموات. بمعنى آخر حينما نظن أننا مؤمنون مسيحيون بينما لا نخرج خارج احتياجات الجسد وشهواته وارتباطات العالم وهمومه، إنما نكون كمن يطلب الحيّ بين الأموات، ونسمع الكلمات الملائكية "ليس هو هنا، لكنه قام".

من يذكر كلمات الرب عن قيامته، يجد نفسه مع مسيحه فوق حدود القبر، لا يخاف الموت ولا ينحني لعبودية شهوات الجسد، ولا يرتبك بأفكار العالم، إنما ينطلق بمسيحه الساكن فيه إلى حياة سماوية غالبة لحدود الزمان والمكان.

إن تطلعنا إلى سيّر الشهداء نجد سّر نصرتهم يكمن في اتحادهم بالرب القائم من الأموات، فلا ينحصروا في الجسد. لهذا حتى إن ضيق الأشرار على أجسادهم يرسل الرب ملائكته بل وأحيانًا يظهر بنفسه لا لينتقم لهم، وإنما ليرفعهم بقوة فوق حدود الألم، الأمر الذي جعل الولاة يتهمون المسيحيين بالسحر!

خامسًا: إذ سبقت النساء الرسل في الانطلاق إلى قبر السيد تمتعن بالكرازة للرسل عن قيامة الرب. إذ يقول الإنجيلي: "ورجعن من القبر، وأخبرن الأحد عشر، وجميع الباقين بهذا كله" [9]. يقول القديس كيرلس الكبير: [المرأة التي أعلنت مرة خدمة الموت، الآن هي أول من تقّبل سرّ القيامة المهوب وأخبرت به. بهذا حصل جنس المرأة على الخلاص من العار ومن اللعنة.]

سادسًا: إذ سمع التلاميذ الخبر، "قام بطرس وركض إلى القبر، فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها، فمضى متعجبًا في نفسه مما كان" [12].

لقد تراءى كلام النسوة للرسل كالهذيان ولم يصدقوهن [11]، لأن الموقف كان غير متوقع رغم تأكيدات الرب لهم قبل دخوله الآلام. هذا وتعبير"الهذيان" طبي كان يستخدم عمن أصيبوا بحمى ففقدوا اتزانهم... على أي الأحوال أسرع بطرس كعادته لينظر ما قد حدث إذ كان قلبه ملتهبًا بالغيرة. وكما يقول الأب ثيوفلاكتيوس: [حين سمع بطرس هذا لم يتأخر، بل جرى إلى القبر، فإن النار إذ تمسك بشيء لا تعرف التأخير.]

سابعًا: أحداث القيامة كما وردت في إنجيل معلمنا لوقا البشير تمس حياة كل مؤمن حقيقي يريد أن يلتقي مع الصديق السماوي. فالمريمات ومعهن أناس انطلقوا إلى القبر وسط الظلام، إنما يشيرون إلى الإنسان بكل طاقاته الروحية ومواهبه وإمكانياته ينطلق كما في أول الأسبوع، في أول الفجر، أي يبكر نحو الله ليكون هو الأول في كل حياته. ينطلق كما من ظلمة هذا العالم إلي قبر السيد المسيح، أي إلى المذبح الإلهي ليجد الجسد المُقام من الأموات سرّ حياته وقيامته المتجددة على الدوام. ينطلق حاملاً الأطياب، أي الصلوات والعبادات الملتحمة بالحياة الفاضلة في الرب كرائحة بخور ذكية يشتمها الآب رائحة رضا. هناك عند المذبح الإلهي تجتمع الكنيسة كلها لتشاهد حجر الحرف الناموسي قد دُحرج وأسرار القيامة أو معرفة الله قد انكشفت. ترى الملائكة بفرح ترتدي ثيابًا لامعة، تشارك المؤمنين فرحهم بالخلاص وبهجتهم بالملكوت، يسبحون معنا، فنسبح نحن أيضًا تسابيحهم ونحسب جميعنا - الخليقة الأرضية والسمائية - واحدًا في الملكوت.

ثامنًا: يعلق آباء الكنيسة على وجود الأكفان في القبر، إذ يقول الإنجيلي عن القديس بطرس أنه "نظر الأكفان موضوعة" [12]، كدليل على كذب اليهود الذين اتهموا التلاميذ أنهم سرقوا الجسد المقدس من القبر، فمن كلماتهم:

v لو كان التلاميذ قد سرقوه لما صنعوا هذا العمل، وهو أن يعروا جسده. وما احتملوا أن يأخذوا منديله ويلفونها ويضعونها في موضع واحد من القبر، لكنهم قد سلبوا الجسد بأوفر سرعة. لأنه لهذا المعنى سبق يوحنا فقال أنه حُنِّط بمر كثير ألصق أكفانه بجسده، حتى إذا ما سمعت أن المنديل في ناحية والأكفان في ناحية لا يحتمل هذا أنه سُرق.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v اعلم أنه لو سرقه سارق (غير التلاميذ) لكانت رغبته في هذه الثياب الثمينة والحنوط الكثيرة أكثر من أخذه وحده دون القماش... وأما التلاميذ فلا يصح لهم أخذه وهو عريان!! إذ كانوا لا يودون إهانته بل إكرامه.
الأنبا بطرس السدمنتي

v وأما كون الرب قد ألقى الثياب في المقبرة لما قام، فلكي يعلمنا أنه في القيامة الجامعة لا يحتاج أحد إلى لباس، ولا إلى شيءٍ مما يستعمل في الدهر، بل يكونون كملائكة الله الذين في السماء كما شهد الرب.
الأنبا بولس البوشي

2. تلميذا عمواس

يروي لنا القديس لوقا الإنجيلي لقاء السيد المسيح مع تلميذين للسيد وهما في طريقهما إلى عمواس، قرية تبعد حوالي 7.5 ميلاً شمال غربي أورشليم، يرجح أنها في موقع قرية "الخماسية" أو "القبيبة". هذان التلميذان أحدهما "كليوباس" [18] وهو اسم مختصر من "كليوباتروس" أو "المجد الكامل"، أما الثاني فيرى الدارسين أنه لوقا الإنجيلي نفسه، ويرى العلامة أوريجينوس والقديس كيرلس الكبير أن الشخص الثاني يدعى "سمعان" من السبعين رسولاً، خلاف سمعان بطرس وسمعان القانوي.

ويلاحظ في القصة كما رواها القديس لوقا الآتي:

أولاً: كان التلميذان - وهما من السبعين رسولاً - يسيران في طريق عمواس الذي يمتد سبعة أميال ونصف، فإن كان رقم 8 يشير للحياة الأبدية، لأن رقم 7 يشير إلى زماننا الحاضر، فإن هذين التلميذين قد عبرا الحياة الزمنية لكنهما لم يبلغا قوة القيامة وكمالها (رقم 8). بمعنى آخر سلوكهما في هذا الطريق يشير إلى الإنسان الذي يؤمن بالقيامة في فكره وتكون موضوع حديثه لكنه لا يتمتع بها ولا يمارسها.

كثيرون يؤمنون بالقيامة بل ويكرزون بها لكنهم لا يعيشونها. هؤلاء لا يزالوا في طريق عمواس يحتاجون إلى ظهور السيد لهم وحديثه معهم ليلهب قلوبهم في الحياة الداخلية بالحياة المقامة، فيعيشونها قبل رحيلهم من هذا العالم.

ثانيًا: يحدد الإنجيلي تاريخ هذا اللقاء، بقوله: "في ذلك اليوم" [13]، أي في يوم أحد القيامة، وكان ذلك نحو الغروب حيث قارب النهار أن يميل [21] وكأن التلميذين بقيا النهار كله تقريبًا في أورشليم يسمعان ويتحاوران مع بعضهما أو مع النسوة وبطرس ويوحنا الذين ذهبوا إلى القبر، كما كانا يسترجعان الذكريات عن أحاديث الرب بخصوص قيامته قبل آلامه، ومع هذا لم يحملا يقين الإيمان، إنما "كانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث" [14].

ثالثًا: "وفيما هم يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه، وكان يمشي معهما" [15]. حقًا لم يكونا على يقين الإيمان لكنهما كانا مشغولين بالسيد يتكلمان ويتحاوران، وفي ضعفهما لم يستطيعا إدراك الحق، فحّل الحق في وسطهما يعلن ذاته ويسندهما إذ سبق فأكد لنا: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" ( مت 18: 20).

رابعًا: "ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته" [16].

ربما عجزا عن معرفته، لأنه إذ قام حمل جسده نوعًا من المجد عن ذي قبل، لذا لم يستطيعا معرفته، كما حدث مع مريم المجدلية (يو 20: 14)، والتلاميذ على شاطئ البحيرة (يو 21: 4). وربما كان علة عجزهما عن معرفته ضعف إيمانهما وتباطؤهما في الفهم الروحي، أو بقصد إلهي حتى يكشف لهما السيد أسراره الإلهية وتحقيق النبوات فيه. "ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" [27].

v إذ صار له الجسد الروحي (ذات جسده المولود به من العذراء يحمل طبيعة جديدة تليق بالحياة السماوية) لا تمثل المسافات المكانية عائقًا لحلوله (بالجسد) أينما أراد، ولا يخضع جسده لنواميس الطبيعة بل للناموس الروحي والفائق للطبيعة. لذلك كما يقول مرقس أنه ظهر لهما "بهيئة أخرى" (مر 16: 12)، فلم يسمح لهما أن يعرفاه.

قيل: "أمسكت أعينهما عن معرفته"، حتى يعلنا حقًا مفاهيمهما المملوءة شكًا، فينكشف جرحهما ويتقبلا الشفاء، ولكي يعرفا أنه وإن كان ذات الجسد الذي تألم قام ثانية لكنه لم يعد منظورًا للكل، وإنما لمن يريدهم أن ينظروه. وأيضا لكي لا يتعجبا أنه لم يعد يسير وسط الناس (كما كان قبل القيامة)، مظهرًا أن تحوله لا يناسب البشرية بل ما هو إلهي، مقدمًا نفسه مثالاً للقيامة المقبلة حيث نصير سائرين كملائكة وأبناء الله.

الأب ثيؤفلاكتيوس

v بحق حجب إعلان نفسه عنهما بظهوره بهيئة لا يعرفونها؛ فعل هذا بخصوص الأعين الجسدية من أجل ما فعلاه هم بنفسيهما داخليًا بخصوص عين الذهن. فإنهما في الداخل وإن كانا قد أحبا لكنهما شكا. فإذ تحدثا عنه ظهر لهما، ولكنهما إذ شكا أخفى هيئته عنهما.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إن كانت أعينهما قد أمسكت عن معرفته، لكنه تقدم بنفسه إليهما ليبدأ الحديث معهما، إذ سألهما: "ما هذا الكلام الذي تتطارحان به، وأنتما ماشيان عابسين؟" [17]. فإن كان السيد قد تألم وصلب فالموت لم يفصله عن تلاميذه، وإن كان قد قام فقيامته لم تبعد به عنهم. من أجلنا قد صلب ومات وقام لكي يقترب إلينا ويبادرنا بالحب، مشتاقًا أن يدخل معنا في حوار، لكي يقدم ذاته لنا، فنفتح أعيننا لمعاينته وقلوبنا لسكناه فينا.

على أي الأحوال، إن قصة لقاء السيد المسيح بتلميذي عمواس اللذين أُمسكت أعينهما عن معرفته هي قصة كل إنسان روحي، يرافقه الرب كل الطريق، ويقوده بنفسه، ويلهب قلبه، ويكشف له أسرار إنجيله، ويعلن له قيامته، ويفتح بصيرته لكي يعاينه ويفرح به.

يقول القديس أغسطينوس: [ليس غياب الله غيابًا. آمن به فيكون معك حتى وإن كنت لا تراه. فعندما اقترب الرب من الرسولين لم يكن لهما الإيمان... لم يصدقا أنه قام، أو أنه يمكن لأحد أن يقوم... لقد فقدا الإِيمان ولم يعد لهما رجاء... كانا يمشيان معه في الطريق. موتى مع الحيّ، أمواتًا مع الحياة. كانت "الحياة" تمشى معهما، غير أن قلبيهما لم يكونا ينبضان بالحياة.]

خامسًا: "فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟!" [17].

إن كنا في هذا العالم نبكي على خطايانا ونحزن لكن خلال لقائنا مع المسيح المقام يلزمنا ألا نمشي عابسين بل نفرح بالرب، لأن ملكوت الله هو "برّ وسلام وفرح في الروح القدس" (رو 14: 17). جاء عن القديس أغسطينوس في اعترافاته أن الله كان يمزج عبادته بنشوة روحية تفوق كل ملذات العالم لكي يفطمنا عن لذة الخطية.

قيل عن القديس أبوللو الذي التقى به القديس جيروم في منطقة طيبة أنه كان دائم البشاشة، وقد اجتذب كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مفرحة في الداخل، ومشبعة للقلب بالرب نفسه. كثيرًا ما كان يردد القول: [لماذا نجاهد ووجوهنا عابسة؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية؟ اتركوا العبوس والوجوم للوثنيين، والعويل للخطاة، أما الأبرار والقديسون فحري بهم أن يمرحوا ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات.]

سادسًا: ما هو إيمان تلميذي عمواس؟

بلا شك لم يكونا بعد قد استطاعا أن يدركا لاهوته، ولا أن يقبلا سرّ الصليب، إنما كانا يتوقعان فيه محررًا لإِسرائيل أو فاديًا لليهود من الحكم الروماني. وقد حطم الصليب آمالهما، إذ قال كليوباس عن السيد المسيح:

"كان إنسانًا نبيًا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب.

كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه.

ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل،

ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك.

بل بعض النسوة منّا حيرننا، إذ كن باكرًا عند القبر.

ولما لم يجدن جسده أتين قائلات:

إنهن رأين منظر ملائكة قالوا أنه حيّ.

ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر،

فوجدوا هكذا كما قالت أيضًا النسوة،

وأما هو فلم يروه" [19-24].

ويعلل الإنجيلي يوحنا عدم إيمان التلاميذ بقوله: "لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات" (يو 20: 9). ويضيف القديس كيرلس الكبير لتلميذي عمواس عذرًا آخر... وهو أن الأخبار التي نقلتها النسوة لم تكن كافية أن يؤمنا بالقيامة، بل كانت موضوع دهشة وحيرة: "بعض النساء منا حيرننا..." لأنها تحمل أنباء القبر الفارغ وشهادة الملائكة. ولا حتى الأخبار التي نقلها بطرس لأنه لم يرَ سوى القبر الفارغ والأكفان، كما قال التلميذان: "وأما هو فلم يروه" [12].

سابعًا: إذ أعلن التلميذان ضعف إيمانهما أو خطأه، قدم لهما تأكيدات من الناموس والأنبياء، إذ قال لهما: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟! ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" [25-27].

يقول القديس كيرلس الكبير: [قدم الرب للتلميذين موسى والأنبياء، وكشف لهما ما غمض عليهما من معانيهما. فالناموس هو تمهيد للطريق، وخدمة الأنبياء هي إعداد الناس لقبول الإيمان. لأن الله لم يرسل شيئًا بلا فائدة، بل لكل شيء فائدته في وقته. فالأنبياء هم الخدام الذين أرسلهم السيد أمامه لتكون نبواتهم تمهيدًا لمجيئه. وكأن هذه النبوات كنز ملكي مختوم، ينبغي أن يفتح في الوقت المناسب ما فيه من رموز.]

ثامنًا: "ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها، وهو تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد" [28]. لم يقل لهما أنه منطلق إلى مكان أبعد، وإنما تظاهر هكذا، لكي لا يقحم نفسه بنفسه في موضعهما، إنما إذ يطلباه ويصرا في طلبه يستجيب. الله لا يقحم نفسه في حياتنا بغير إرادتنا، لكنه يطلب أن ندعوه، ونلح في الدعوة معلنًا كمال حرية الإنسان في قبوله أو رفضه. هذا من جانب ومن جانب آخر، كما قال البابا غريغوريوس (الكبير) إنهما إذ كانا لا يزالا غريبين في الإيمان "تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد".

تاسعًا: "فألزماه قائلين: امكث معنا، لأنه نحو المساء وقد مال النهار" [29]. النفس التي ذاقت ما ذاقه التلميذان لا تكف عن أن تقول مع عروس النشيد: "في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي... فأمسكته ولم أرخه، حتى أدخلته بيت آمي وحجرة من حبلت بي... شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني... تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي" (نش 3: 1، 4، 2: 3، 6).

يقول القديس أغسطينوس: [إن كنت تريد الحياة تشبه بالرسولين حتى تتعرف على الرب. لقد ألحا عليه بالدعوة، وتظاهر هو كأنه ينوي مواصلة الطريق... غير أنهما أمسكا به وقالا له: امكث معنا لأنه نحو المساء.] كما يقول: [امسك بالقريب إن أردت أن تتعرف على مخلصك، فقد أعادت الضيافة إلى التلميذين ما نزعه الشك وعدم الإيمان، وأعلن الرب ذاته عند كسر الخبز... فتعلم أين تطلب الرب فتحظى به على مائدة الطعام.]

عاشرًا: "فلما اتكأ معهما أخذا خبزًا وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه، ثم اختفى عنهما" [30-31].

يرى البعض أن ما فعله السيد المسيح هنا هو "سّر الإفخارستيا"، وأن الرب يعلن ذاته خلال هذا السرّ، يفتح أعين مؤمنيه الداخلية لمعاينته، وإن كان البعض الآخر يرى أنه لم يكن "سّر اإأفخارستيا"، إذ لا نسمع عنه أنه أخذ كأسًا أيضًا وناولهما، كما لم يذكر عند كسر الخبز أنه جسده المبذول عنهما، كما فعل في العشاء الأخير.

يقول القديس أغسطينوس: [متى أعلن الرب عن نفسه؟ عند كسر الخبز... لذلك عندما نكسر الخبز نتعرف على الرب، فهو لم يعلن نفسه إلا هنا على المائدة... لنا نحن الذين لم نستطع أن نراه في الجسد، ولكنه أعطانا جسده لنأكل. فإذا كنت تؤمن بهذا فتعال مهما كنت. وإذا كنت تثق فاطمئن عند كسر الخبز.]

يقول الأب ثيؤفلاكتيوس: [تُفتح أعين الذين يتقبلون الخبز المقدس لكي يعرفوا المسيح، لأن جسد الرب يحمل فيه قوته العظيمة غير المنطوق بها.]

يعلل القديس كيرلس الكبير اختفاء السيد المسيح عنهما بقوله: [لقد اختفى الرب عنهما، لأن علاقة الرب بتلاميذه بعد القيامة لم تعد كما كانت عليه من قبل. فهم في حاجه إلى تغيير، وإلى حياة جديدة في المسيح... حتى يلتصق الجديد بالجديد وغير الفاسد بالفاسد. وهذا هو السبب الذي جعل الرب لا يسمح لمريم المجدلية أن تلمسه ـ كما ذكر (يو 20: 17) - إلى أن يصعد ثم يعود مرة أخرى.]

أحد عشر: ختم القصة بقوله: "فقاما في تلك الساعة، ورجعا إلى أورشليم..." [33]. هذا هو غاية عمل الله فينا أن يهبنا قوة القيامة، إذ يقول: "قاما"، بهذه الحياة المقامة نرجع إلى أورشليم العليا التي تركناها، نرجع إلى مدينة الله الملك العظيم (مت 5: 35)، إلى "أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا" (غل 4: 26). بمعنى آخر يحوّل الله اتجاهنا، فبعد أن كنا متجهين إلى عمواس معطين ظهورنا لأورشليم، نعطي ظهورنا لعمواس متجهين بوجهنا وقلبنا وفكرنا نحو أورشليم.

3. ظهوره لتلاميذه

إذ قام السيد المسيح من الأموات لم يعد يمارس الحياة البشرية اليومية، ولا صار بين اليهود يكرز ويبشر ويصنع عجائب ومعجزات، فقد قام يحمل جسده بذاته، لكنه ممجد، بمعنى آخر صار وضعه الطبيعي الجديد أن يصعد إلى السماوات ينتظر عروسه المقدسة لترتفع معه. لكنه بقي أربعين يومًا من قيامته حتى صعوده، يظهر لأحبائه المشتاقين إليه ليسحب قلوبهم نحو السماء.

حقًا كان السيد المسيح ينتهز كل فرصة لكي يعلن قيامته ويؤكدها في حياة محبيه المؤمنين به. بشر النساء القادمات إلى القبر بحبٍ، يطلبن تقديم الحنوط للجسد المقدس، فأعلن لهن بملائكته عن قيامته، ومشى مع التلميذين اللذين كانا يتكلمان ويتحاوران في طريق عمواس عن أمر قيامته، والآن إذ رجع التلميذان إلى أورشليم ليخبرا التلاميذ بما حدث معهما وكيف عرفاه عند كسر الخبز.

"وفيما هم يتكلمون بهذا،

وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم: سلام لكم،

فجزعوا وخافوا، وظنوا إنهم نظروا روحًا،

فقال لهم: ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟

انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو.

جسّوني، وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي.

وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه،

وبينما هم غير مصدّقين من الفرح ومتعجّبون،

قال لهم: أعندكم ههنا طعام؟

فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل،

فأخذ وأكل قدامهم" [36-43].

يلاحظ في هذا اللقاء الآتي:

أولاً: إذ كانوا يتحدثون عن القيامة التهب الكل شوقًا نحو التمتع به كما تمتع بطرس الرسول وتلميذا عمواس وبعض النساء، فحقق لهم السيد شهوة قلوبهم إذ وقف بنفسه في وسطهم.

حقًا بحلوله في وسطهم تحولت العُليَّة إلى كنيسة مقدسة في بهاءٍ ومجد فائقين، أو قل صارت العُليَّة في هذه اللحظات تمثل نموذجًا حيًا لما ينبغي أن تكون عليه الكنيسة، ألا وهو التهاب أعضائها بالتمتع بالمسيّا المقام، وحلول المسيّا في وسطها كرأس حيّ يهب قوة القيامة لأعضاء جسده.

v جاء ذاك الذي كان مُشتهى جدًا، معلنًا ذاته لطالبيه ومنتظريه، لا بطريقة يمكن أن يُشك فيها، وإنما حّل بشهادة واضحة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

ثانيًا: في أول لقاء للسيد القائم من الأموات بتلاميذه المجتمعين، ممثلي كنيسته، قدم لهم "سلامه" الفائق، لا كعطية خارجية، إنما هبه تمس الأعماق في الداخل، إذ "قال لهم: سلام لكم" [36]ٍ. لقد حقق لهم ما وعدهم به في ليلة آلامه، قائلاً: "سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا" (يو 14: 27).

v لنكرم عطية السلام التي تركها المسيح لنا عند رحيله... فالسلام، على وجه الخصوص يخص الله الذي يوحّد كل الأشياء معًا في واحد، والذي إليه لا يُنسب شيء مثل وحدة الطبيعة والسلام الذي يحلّ به في الإنسان.

القديس غريغوريوس النزينزي

v لقد كشف لهم أيضًا آثار الجراحات بوضوح، وقد ثبت صوته في أذهانهم القلقة، إذ قيل: "فقال لهم يسوع أيضًا سلام لكم"، أي لا تضطربوا. وبقوله هذا ذكّرهم بكلماته التي نطق بها قبل الصلب: "سلامي أترك لكم" (يو 14: 37)، "ليكون لكم فيّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق" (يو 16: 33).

لقد "فرح التلاميذ إذ رأوا الرب" (يو20: 21). انظر كيف تحقق ذلك؟ ما قاله قبل صلبه: "ولكنني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 16: 22)، قد تمّ الآن في تلك اللحظة. كل هذا قد جلب فيهم إيمانًا أكيدًا ثابتًا...

هذه هي كلمات الرب الأولى التي حدثهم بها بعد قيامته... أما بالنسبة للنساء فأعطاهن الفرح (مت 28: 9)، لأن النسوة كن في حزن، لذلك وهبهن أولاً الفرح. بلياقة وهب السلام للرجال، ووهب النسوة الفرح بسبب حزنهن...

أنه يقدم ثمار الصليب أولاً، وهو :"السلام".

القديس يوحنا الذهبي الفم

v هذا هو السلام الحقيقي وتحية الخلاص، إذ تأخذ التحية اسمها من الخلاص.

القديس أغسطينوس

ثالثًا: يقول الإنجيلي: "فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحًا" [37]. لقد عاش التلاميذ مع السيد المسيح زمانًا وأدركوا أنه بالحقيقة تأنس، يحمل ناسوتًا حقيقيًا، والآن إذ سمعوا عن قيامته لم يكونوا يتوقعون أنه يحّل هكذا في وسطهم والأبواب مغلقة، لذا جزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحًا. وكان عمل السيد المسيح بعد أن وهبهم سلامه الحقيقي أن يؤكد لهم أنه ليس روحًا مجردًا بل بالحقيقة يحمل جسدًا، مبرهنًا على ذلك بأن يلمسوه ويتناول معهم.

v لا نستطيع أن نعتقد بأن بطرس ويوحنا قد شكا (بعد تأكدهما من قيامته بدخولهما القبر)، فلماذا يقول لوقا بأن التلاميذ خافوا؟

أولاً: بسبب إعلان الأغلبية (عن شكهم) الذي طغى على الأقلية.

ثانيًا: ولو أن بطرس آمن بالقيامة، لكنه دُهش إذ رأى يسوع حاضرًا فجأة بجسده، بينما الأبواب مغلقة.

القديس أمبروسيوس

رابعًا: لقد كشف لهم السيد المسيح عن شخصه أولاً بإعلانه لهم أنه عارف بما في أفكارهم وقلوبهم، إذ قال لهم: "ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ [38]، ثم عاد يؤكد لهم أنه المسيا المصلوب، قائلاً لهم: "انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو؛ جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي" [39].

يقول القديس أغسطينوس إن السيد المسيح ترك آثار جراحاته بعد القيامة ليشفي بها جراحات التلاميذ، إذ لم يصدقوا قيامته عندما أظهر ذاته لهم وظنوه روحًا. فأظهر لهم يديه ورجليه، إذ يقول: [مع أن جراحاته شُفيت، فإن آثارها قد بقيت! إذ حكم هو بأن هذا نافع للتلاميذ، أن يستبقي آثار جراحاته لكي يشفي جروح أرواحهم، جراحات عدم إيمانهم! فقد ظهر أمام عيونهم، وأظهر لهم جسده الحقيقي، ومع هذا ظنوه روحًا!... وماذا قال لهم الرب؟ "ما بالكم مضطربين؟ ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟" [38]، إن كانت هناك أفكار قد صعدت إلى قلوبكم فهي قادمة من الأرض. الأفضل للإنسان ألا تصعد الأفكار إلى قلبه، بل يرتفع قلبه إلى الأعالي، حيث يود الرسول من المؤمنين أن يضعوا قلوبهم هناك، إذ يقول: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق، لا بما على الأرض، لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 1-4)، أي مجد هذا؟ إنه مجد القيامة! أي مجد؟ اسمع ما يقوله الرسول عن هذا الجسد: "يزُرع في هوان، ويقوم في مجد" (1 كو 15: 43).]

يقول القديس أمبروسيوس :[ظن التلاميذ في اضطرابهم إنهم يروا روحًا، لهذا فلكي يُظهر لهم الرب حقيقة القيامة قال لهم: "جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي"... كيف يمكن أن يكون ليس في الجسد وقد ظهرت فيه علامات الجروح وآثار الطعنة التي أظهرها الرب؟!... لقد قبل الرب أن يرتفع إلى السماء بالجراحات التي تحمّلها لأجلنا، ولم يشأ أن يمحوها، حتى يظهر لله الآب ثمن تحريرنا. بهذا يجلس عن يمين الآب وهو حامل لواء خلاصنا.]

السبب الرئيسي لإبقاء آثار الجراحات كما يقول القديس كيرلس الكبير هو الشهادة لتلاميذه أن الجسد الذي قام هو بعينه الذي تألم. أما البابا غريغوريوس (الكبير)، فيقدم أربعة مبرّرات لهذه الجراحات، وهي:

أ. لكي يبني تلاميذه في الإيمان بقيامته.

ب. تبقى هذه الجراحات تعلن شفاعته الكفارية لدي الآب عنا.

ج. لكي يتذكر المؤمنين حبه لهم ورحمته تجاههم.

د. تبقى لإدانة الأشرار في يوم الرب العظيم.

خامسًا: "وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون،
قال لهم أعندكم ههنا طعام؟

فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل،

فأخذ و أكل قدامهم"[41-43].

من شدة الفرح لم يصدقوا أنفسهم إنهم يرون الرب، لهذا أراد أن يؤكد لهم أنه ليس خيالاً، بطلبه طعامًا يأخذه من أيديهم ويأكله قدامهم.

v لم يكن جائعًا لكنه طلب أن يأكل، فأكل بسلطانه لا عن الضرورة، حتى يدرك التلاميذ حقيقة جسده، ويتعرف العالم عليه خلال كرازتهم.

القديس أغسطينوس

v وإن كان بعد القيامة العامة للكل، لا يكون أكل ولا شرب، ولا إذا كان أحد به جرح يقوم به... إنما صنع الرب هذا ليحقق لنا أجمعين أن الجسد الذي تألم ومات هو الذي انبعث من بين الأموات.

الأنبا بولس البوشي

v بحسب أمر الناموس كان الفصح يؤكل حقًا مع أعشاب مُرّة لأن مرارة العبودية كانت لا تزال قائمة، أما بعد القيامة فالطعام حلو بعسل النحل.

القديس غريغوريوس النيسي

سادسًا: إذ حّل السيد المسيح القائم من الأموات في وسط تلاميذه، وقدم لهم نفسه خلال الحواس حتى يرفعهم بالإيمان إلى ما هو فوق الحواس، فتح أذهانهم ليدركوا ما كُتب عنه في الناموس والأنبياء، خاصة عن صلبه وقيامته.

"وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم،

أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير.

حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.

وقال لهم: هكذا هو مكتوب،

وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث" [44-46].

إن كان قد دخل إلى العُليَّة والأبواب مغلقة ليعلن قيامته لهم، فإنه جاء ليدخل أذهانهم ويعلن تجليه فيها فتتمتع ببهجة قيامته وقوتها، وتدرك مفاهيم إنجيله وتختبر ملكوته في داخلها.

4. إرساله التلاميذ

إن كان قد أعلن السيد قيامته لتلاميذه، إنما يعلن قيامة الرأس من أجل الجسد، قام ليقيمنا معه. بمعنى آخر إن كان قد قام، إنما ليرسل تلاميذه يقدمون قوة قيامته للبشرية، فيتمتعون بالعضوية الحقيقية في جسده القائم. لذا إن كان قد بدأ عطاياه هنا بمنحه سلامه، يختمها بدعوتهم للكرازة بقوة روحه القدوس ليضموا أعضاء جددًا في جسده المقدس القائم من الأموات.

جاءت وصيته لهم: "هكذا كان ينبغي...

أن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم،

مبتدأ من أورشليم،

وأنتم شهود لذلك.

وها أنا أرسل إليكم موعد أبي،

فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالي" [46-49].

إن كان قد قدم حياته المبذولة القائمة من الأموات، إنما لتكون وديعة ورصيدًا للكرازة بعدما تسلموا "الروح القدس" كسرّ قوتهم العلوية، في تأسيس الكنيسة جسد المسيح المقام.

يعلق القديس أغسطينوس على هذا الظهور الإلهي المختتم بإرسالية التلاميذ، قائلاً:

[أظهرَ ذاته للتلاميذ بكونه رأس كنيسته.

كانت الكنيسة منظورة فيه مقدمًا... إذ ظهر الرأس ووعد بالجسد... رأوا الرأس وآمنوا به، متلامسًا مع الجسد. أما نحن فنرى الجسد ونؤمن بالرأس... رؤيتهم للمسيح أعانتهم على الإيمان بكنيسة المستقبل، أما بالنسبة لنا فرؤيتنا للكنيسة تعيننا على الإيمان بالمسيح القائم. إيمانهم كمل، وأيضا إيماننا نحن قد كمل. إيمانهم كمل خلال رؤيتهم للرأس، ونحن إيماننا كمل برؤيتنا للجسد... هم رأوا الرأس وآمنوا بالجسد، أما نحن فرأينا الجسد وآمنا بالرأس. ليس أحد ينقصه المسيح، فهو كامل في الكل بالرغم من أن جسده لم يكمل بعد حتى اليوم.]

يقول أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن القائد لا يسمح لجنوده أن يواجهوا كثيرين ما لم يتسلحوا أولاً، هكذا لم يسمح الرب لتلاميذه أن ينزلوا للصراع ما لم يحل الروح أولاً.]

الآن إذ التقى السيد المسيح بتلاميذه أكثر من مرة وأكد لهم قيامته، ووعدهم بإرسال روحه القدوس عليهم انطلق إلى السماء لكي تنطلق معه قلوبهم وتحمل سمته السماوية.

5. صعوده إلى السماء

"وأخرجهم خارجًا إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم.

وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء.

فسجدوا له، ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم" [50-52].

قلنا أن "بيت عنيا" تعني "بيت العناء" أو"بيت الطاعة"، فإنه قد أراد أن يصعد إلى السماء عند بيت عنيا، عند جبل الزيتون، حتى كل من يود أن يرتفع قلبه إلى السماء يلزمه أن يحتمل معه "العناء" ويشاركه الألم، كما يحمل سمة الطاعة التي للابن نحو أبيه. يمكننا أن نقول بأنه من أجل عصياننا نزل من السماء، وبطاعته رفعنا إلى سماواته.

لقد رفع يديه الحاملتين لآثار الجراح ببركة صليبه، مقدّمًا دمه المبذول ثمنًا لرفعهم معه.

العجيب أن التلاميذ لم يحزنوا على صعود الرب ومفارقته لهم حسب الجسد، إنما رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ، إذ أدركوا أنه حيث يوجد الرأس تكون الأعضاء، وما تمتع به السيد المسيح إنما هو باسم الكنيسة كلها ولحسابها.

6. ارتباطهم بالهيكل

"وكانوا كل حين في الهيكل، يسبحون ويباركون الله، آمين" [53].

كانوا مرتبطين بالهيكل، لا يريدون أن يتركوه بل أن يسحبوا كل قلب لإدراك المفاهيم الروحية الإنجيلية للناموس. وكانت حياتهم تسبيحًا بلا انقطاع، حتى عندما طُردوا من الهيكل وذاقوا أمر الاضطهادات على أيدي اليهود ثم الرومان.

هذه هي نهاية السفر، فيه نجد الصديق السماوي قد ارتفع ليرفع أصدقاءه، واهبًا إياهم حياة التسبيح حتى يكملوا جهادهم بفرح داخلي ويلتصقوا به أبديًا.

http://demiana2010.com

الرجوع الى أعلى الصفحة  رسالة [صفحة 1 من اصل 1]

صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى